الاستدعاء التاريخي الخاطئ لبعض المظاهر والأحكام.. العبودية مثالاً
علاء العجاوي
من آفات هذا العصر إلصاق بعض المظاهر والأحداث التاريخية بصورة الإسلام؛ بسبب فهم مغلوط لبعض النصوص الشرعية، أو تفسير خاطئ لبعض الملابسات التاريخية، مما نتج عن هذا التصور أفعال أضرت بصورة الإسلام النقية، ومن أشهر الأمثلة التي تضرب في هذا السياق: إلصاق العبودية والرق بقيام دولة الإسلام والتمكين في الأرض، فمن المعلوم أن الرق والعبودية حُرِّم دولياً، وجُرِمَ مُرتكبه، واتفقت الأمم على ذلك، وجاء هذا التحريم متزامناً مع ضعف المسلمين وسقوط دولتهم.
فيتبادر لذهن كثير من المسلمين، أنّ عودة العبودية والرق مرتبطٌ بالنصر والتمكين! بل إنّ بعض الجماعات التي أعلنت قيام دولة إسلامية انتقلت من القول للفعل!! كأنّ الإسلام هو الذي جاء بالعبودية للبشرية، فلا تقوم أحكام الدين إلا به، ولا يصلح حال البشر إلا بتطبيقه.
وهذا الربط العجيب الغريب منافٍ لمقاصد الإسلام وحِكَمِه، والرد على هذا الإدعاء بالأمور التالية:
أولاً: لم يشرع الإسلام الرق والعبودية، ولا يوجد نص شرعي من كتاب أو سنة يأمر بالرق أو يحث عليه، فالعبودية كانت منتشرة قبل الإسلام بزمن طويل، وكان الرق أساساً تقوم عليه المجتمعات في ذلك الزمان، فتعامل الإسلام مع هذا الواقع بعقلانية وحكمة.
“يتبادر لذهن كثير من المسلمين، أنّ عودة العبودية والرق مرتبطٌ بالنصر والتمكين! بل إنّ بعض الجماعات التي أعلنت قيام دولة إسلامية انتقلت من القول للفعل!! كأنّ الإسلام هو الذي جاء بالعبودية للبشرية”
ثانياً: مع أنّ الإسلام دين الحرية إلا أنه لم يحرم العبودية، وإنّما عالجه بطريقة مرنة حتى لا يصدم النظام الاجتماعي، فالعبودية كانت متجذرة في المجتمعات، ويقوم عليها كثير من المصالح والأعمال، ولربما رفض الناس الخضوع للإسلام وأحكامه؛ لاستحالة التخلي عن الرق والعبودية، فالعبيد في بعض المجتمعات كانت أعدادهم أضعاف الأحرار.
ثالثاً: هذب الإسلام العبودية، وشرع لها حدوداً وأحكاماً، وأمر بإحسان معاملة الرقيق، وأشعرهم بإنسانيتهم بغض النظر عن لونهم أو جنسهم أو عرقهم، فنظرة الإسلام لهم: “على أنهم بشر”، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي” [رواه مسلم]،
ورعى الإسلام كرامتهم وحرمتهم الشرعية فعن سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: “مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ وَمَنْ جَدَعَهُ جَدَعْنَاهُ” [مسند أحمد].
رابعاً: كانت مداخل الرق واسعة، فهناك الرق بالبيع كأن يبيع الإنسان أحد أبنائه أو إخوانه، والمقامرة فيؤخذ الخاسر عبداً للفائز، والسطو على القوافل والضعفاء واسترقاقهم وبيعهم، ووفاء الدين كان يؤخذ المدين عبداً للدائن، والحروب كالأسرى، فلما جاء الإسلام ضيق مداخل الرق وحصرها في أسرى الحرب إذا اختار الحاكم المسلم استرقاقهم، قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4].
“لسنا كمسلمين حريصين على عودة العبودية؛ فالإسلام دين الحرية لا دين الرق والعبودية”
خامساً: جعل الإسلام للرق مخارج كثيرة، فشرع تحرير الرقاب ككفارة لبعض الذنوب التي يرتكبها المسلم، مثل كفارة الظهار، والإيلاء، ومن أفسد صيامه في نهار رمضان، والقتل الخطأ، وكفارة اليمين والنذر،قال تعالى: {مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [سورة النساء: 92]، وقال سبحانه {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [القصص: 3].
حتى كان تحرير الرقيق من أعظم القربات عند الله تعالى، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبــة} [البلد:11-13 ]، وقال صلى الله عليه وسلم: “أيما امرىء مسلم أعتق امرءاً مسلماً كان فكاكه من النار” [رواه الترمذي].
وشرع الإسلام للعبد المكاتبة مع سيده للخروج من العبودية.
سادساً: إنّ ما قامت به الدول والأمم في العصر الحديث ليس بدعاً من الأمر، فلقد حدثتنا الكتب التاريخية أنَّ محمد الفاتح سبقهم في منع العبودية والرق في عصره عندما اشترط ذلك على الأوروبيين عندما صالحهم فكانت أول معاهدة لمنع الرق والعبودية، ولا ضير أن نوافق المجتمعات والأمم في منع العبودية.
يقول العلامة يوسف القرضاوي: “وإذا كان رق الأفراد قد انتهى تقريبًا من العالم، فإنه يحق لنا بل يجب علينا أن نسجل هنا أن الإسلام هو أول نظام في الدنيا عمل بكل الوسائل على تصفية الرق، وإلغائه من دنيا الناس بالتدريج”.
وختاماً… إنّ ربط الإسلام بالعبودية لهو من المغالطات الكبيرة، فمن أعظم مبادئ الإسلام الحرية، ولم تشهد البشرية نظاماً أرقى من النظام الإسلامي في معاملته العبيد، فشعر الرقيق بإنسانيتهم وكرامتهم، بل وحُرر الكثير منهم، فبلال بن رباح أول مؤذن في الإسلام كان عبداً، وسالم مولى أبي حذيفة العالم القارئ كان قبل تحريره عبداً، فلسنا كمسلمين حريصين على عودة العبودية؛ فالإسلام دين الحرية لا دين الرق والعبودية.
المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AF%D8%B9%...