العوامل الأسرية للجريمة دراسة ميدانية

عبدالله مرقس رابي

مقدمة

تناولت عدة دراسات ظاهرة الإجرام من مختلف جوانبه، من حيث أسبابه وضبطه، وتمتد هذه الدراسات إلى ما يقارب قرناً من الزمن، منذ أن فتح العالم الإيطالي المعروف (لومبروزو) باب العلم لدراسة المجرم ودون الاقتصار على دراسة الجريمة فقط، فكثرت البحوث لتشخيص الأسباب المؤدية إلى الإجرام، ومنها ما يتعلق بالجوانب الاجتماعية التي تتضمن العوامل الأسرية، سواء للبالغين من المجرمين أو الأحداث الجانحين.

 

وفي قطرنا تركزت البحوث حول العوامل الأسرية لجنوح الأحداث فقط، وانعدمت في محافظة نينوى تقريباً بإستثناء دراسة (الدكتور فخري الدباغ) عن جنوح الأحداث بصورة عامة. فكان هذا الدافع الأساسي الذي جعل الباحث يقوم بإجراء البحث عن المجرمين البالغين. الذي تضمن محاولة لدراسة الحالة الأسرية الأصلية لهم، والحالة الأسرية للمتزوجين منهم، وذلك عن طريق التعرف على بعض المواقف الإجتماعية والنفسية التي تعرضوا لها منذ الطفولة في أسرهم، ويتألف البحث من ثلاثة مباحث الأول يتناول جانباً نظرياً، والثاني إجراءات البحث، وتضمن الثالث تحليل ومناقشة نتائج البحث.

 

المبحث الأول

الإطار النظري

أهمية البحث والهدف منه:

تبدو أهمية البحث واضحة في أنه يبحث أهم العوامل الاجتماعية التي تدفع الفرد لارتكاب الجريمة التي تتفاقم يوماً بعد آخر في مختلف المجتمعات، وهي العوامل الأسرية، وتأتي أهميته من جهة أخرى في أنه يبحث في هذه العوامل ضمن محافظة نينوى التي تفتقر إلى هذه الدراسات. وقد يخرج أيضاً ببعض المقترحات التي نستفيد منها للحد من إنتشار الجريمة.

 

أما الهدف من البحث فهو التعرف على العلاقة بين الحالة الأسرية وإرتكاب الأفراد للجريمة.

 

الأسرة وعلاقتها بالجريمة:

إن الاهتمام بالعوامل الأسرية وعلاقتها بالجريمة امتداد للأفكار التي نظرت إلى الجريمة كظاهرة اجتماعية، حيث يعد الوسط الاجتماعي الأسري من العوامل الاجتماعية المهمة التي تدفع الفرد لإرتكاب الجريمة، فليس هناك شك في أن وجود الأسرة في حد ذاته يعد عاملاً من العوامل المهمة للتنشئة الاجتماعية السوية. لأن وجود الأسرة هو الذي يسمح للفرد بالتدرب على الحياة الاجتماعية[1]. لأن ما يضعه المجتمع من معايير وقواعد أخلاقية يتم نقلها إلى الأفراد عن طريق التنشئة الاجتماعية، فهذه القواعد تضبط بشكل فاعل السلوك الفردي لصالح المجتمع[2]. إذ تبدأ علاقة الأسرة مع الأبناء منذ ميلادهم، حيث تؤكد الدراسات الاجتماعية والنفسية أن تجارب التعلم الأولى للأطفال في التنشئة المبكرة تؤسس أنماط سلوك وعادات وتصورات تتسم بالديمومة، والتأثير في استجابات الفرد عند النضج[3].

 

وبهذا تكون الأسرة الوحدة الاجتماعية الأولى التي تحدد وتصقل شخصية الفرد طالما أنها تلعب دوراً هاماً وبارزاً في تقرير النماذج السلوكية للفرد[4].

 

ولعل هذا هو السبب الرئيس في أن نسبة كبيرة من البحوث ومدارس الفكر في علم الإجرام خلال هذا القرن قد اهتمت بالعلاقة بين الحالة الأسرية والجريمة[5]. إذ أنها أحياناً لا تعدو أن تكون إحدى الجماعات العديدة التي قد ترتبط بالسلوك المنحرف، سواء كان هذا الارتباط في ضوء المعايير أو في ضوء العلاقات الاجتماعية[6]. ويتبين بوضوح دور الأسرة المؤثر والفعال بالجريمة في المجتمع المعاصر، إذ أن المتغيرات الجديدة كالتحضر، والتصنيع، والحراك الاجتماعي وشبكات الاتصال المعقدة، وانساق القيم المتغيرة، كان لها الشأن في الأثر على بناء الأسرة وأداء وظائفها، فحولت بعض الأسر إلى حالة التصدع.

 

ففي دراسة لكل من (شلدون جلوك) و(اليانور جلوك) سنة 1939م – 1949م على (500) نزيل في إصلاحية (ماستثوسس) ظهران حوالي 60% من النزلاء جاءوا من أسر متصدعة[7]. وفي دراسة أخرى لكل من (شو) و(ماكاي) حول الوضع الأسري لمجموعة من المنحرفين وجد أن 42.5% منهم جاءوا من أسر متصدعة بالمقارنة مع مجموعة ضابطة حيث أن 36.1% كانوا من الأسر غير المتصدعة[8]. وفي ألمانيا توصل (بون هوبر) من دراسة (110) من المجرمين الخطيرين الذين حكم عليهم، أن 45% قد أحاطت بهم ظروف أسرية سيئة[9].

 

وما يتعلق بالتعامل بين الوالدين والأبناء، فقد وجد (هيلي وبرونر) في دراستهما على (4000) حالة أن 40% منهم قد جاءوا من أسر ينعدم فيها التقويم وتسود النشئة الخاطئة[10].

 

وبالنسبة إلى الحرمان العاطفي، فقد وجد (هير تزول وستوريا) بفحصهما عدداً من الدراسات حول الموضوع، بأن هناك علاقة بين الجريمة والحرمان العاطفي للأبناء بسبب فقدان أحد الوالدين[11].

 

أما ما يتعلق بالحالة الاقتصادية للأسرة، فيرى فريق من العلماء من أشهرهم العالم الهولندي (وليم بونجيه) و(كولاني) و(توراني) وجود علاقة بين سوء الأحوال الاقتصادية للأسرة وإرتكاب أفرادها للجريمة[12].

 

وتبين أن للظروف السكنية علاقة بدفع الفرد للجريمة[13]. وظهر كذلك وجود علاقة بين المستويات التعليمية لأفراد الأسرة وإرتكابهم للجريمة[14].

 

وللقيم الاجتماعية التي تعتقد بها الأسرة كأن تكون ريفية أو حضرية تأثير على الفرد وتدفع به إلى الجريمة. إذ تكبر جرائم القتل للثأر وغسل العار في الريف وتقل في الحضر، وعلى الأغلب تمتاز الجريمة في الريف بدافع الانتقام حتى لو كانت السرقة أحياناً[15].

 

المبحث الثاني

إجراءات البحث

أولاً: تحديد المفاهيم:

وردت مفاهيم أساسية في البحث وفيما يأتي المقصود بها لأغراض هذا البحث فقط:

 

1-     الجريمة: تعرف الجريمة قانوناً. هي كل فعل يقرر له النظام القانوني عقوبة جنائية. وتعرف اجتماعياً: تلك الأفعال التي تمثل خطراً على المجتمع أو تجعل من المستحيل تحقيق التعايش والتعاون بين الأفراد والذين يكونونه[16].

 

2-     المجرم: وهو الشخص الذي يرتكب الفعل الإجرامي متى أسند إليه ذلك بشكل جدي[17].

 

3-     الأسرة: تشير إلى مجموعة من المكانات والأدوار المكتسبة عن طريق الزواج والولادة، وتتكون من الأب والإبن والأم والأبناء وبعض الأقرباء[18].

 

4-     الحالة الأسرية: تشير إلى الظروف الاجتماعية – بما فيها نمط العلاقات الاجتماعية والعواطف والظروف الاقتصادية والثقافية – للأسرة.

 

5-     العلاقات الاجتماعية: هي أي اتصال أو تفاعل أو تجاوب يقوم بين شخصين أو أكثر لغرض إشباع الحاجات الأساسية والثانوية للأشخاص الذي يكونون العلاقة، ويدخلون ضمن حدودها[19].

 

6-     الحرمان العاطفي: يستعمل هذا المصطلح لتغطية عدد من حالات الاضطراب (رابطة التعلق) والتي تؤثر سلباً في الطفل عندما يفقد أحد الأبوين بسبب الوفاة أو الطلاق أو النزول في المستشفى[20].

 

7-     القيم: تمثل مبادئ تحتضنها أعداد كبيرة من أعضاء المجتمع وتتصف بكونها مرغوبة ومقبولة وأنها تتغلغل في كافة أقسام وعناصر حضارة المجتمع[21].

 

ثانياً: فرضيات البحث:

1-     كلما زادت العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة سوءاً، إزداد احتمال إرتكاب الفرد للجريمة.

 

2-     كلما زاد الحرمان العاطفي لأبناء الأسرة، إزداد احتمال إرتكاب الفرد للجريمة.

 

3-     كلما زادت الحالة الاقتصادية للأسرة سوءاً، إزداد احتمال إرتكاب الفرد للجريمة.

 

4-     كلما زاد تمسك الأسرة بالقيم الريفية، إزداد احتمال إرتكاب الفرد للجرائم الانتقامية.

 

5-     كلما ارتفع المستوى التعليمي قلت الجرائم المرتكبة بين أفراد الأسرة.

 

ثالثاً: عينة البحث:

شملت عينة البحث (150) نزيلاً من قسم الإصلاح الاجتماعي للكبار في نينوى، وقد تم اختيارهم عن طريق العينة العشوائية البسيطة.

 

رابعاً: أداة البحث:

وضع استبيان يتكون من مجموعة أسئلة تتعلق بالفرضيات، ولغرض تحقيق صدق الاستبيان الظاهري، فقد عرض على مجموعة من الخبراء*.

 

خامساً: مجالات البحث:

امتدت فترة إجراء البحث من 1/9/1987م لغاية 31/10/1987م وينحصر المجال البشري للبحث بنزلاء قسم الإصلاح الاجتماعي للكبار في نينوى، والذي يشكل المجال المكاني للبحث أيضاً.

 

سادساً: منهج البحث:

يعد البحث من البحوث الوصفية التحليلية، والمنهج المتبع هو المسح الاجتماعي عن طريق العينة واستخدم الباحث النسبة المئوية والوسيط كوسائل إحصائية لتحليل البيانات.

 

المبحث الثالث

تحليل النتائج ومناقشتها

لغرض مناقشة النتائج سندرجها وفقاً لفرضيات البحث وكما يأتي:

الفرضية الأولى: العلاقات الاجتماعية.

إن الأسرة هي المدخل الأساسي للتواصل مع المجتمع فإذا كانت علاقة الأفراد في الأسرة غير مرضية فيحدث رد فعل من بعضهم للظرف السائد من العلاقات، فقد يؤدي ذلك إلى الإنحراف السلوكي أحياناً[22].

 

ولغرض التعرف على نمط العلاقات الاجتماعية السائدة في أسر المبحوثين فقد تناول الباحث ما يأتي:

 

1 – العلاقة بين المبحوثين والوالدين:

 

العلاقة الاجتماعية بين الوالدين والأبناء من أهم العوامل التي تؤثر في نوع المعاملة التي يتلقاها الأبناء من آبائهم. كما أنها تؤثر تأثيراً كبيراً على البيئة السائدة في الأسرة، ومن ثم في بناء شخصية الأبناء، وقد تبين من نتائج البحث أن 50% من المبحوثين ذكروا بأن طبيعة معاملة الآباء لهم تقوم على الإهمال. و23.3% عوملوا بقسوة، في حين أن 26.7% فقط كانت طبيعة معاملة الآباء لهم تتسم بالحب والعطف، أما معاملة الأمهات فإختلفت عن معاملة الآباء، حيث ذكر 65.3% من المبحوثين أنهم تلقوا الحب والعطف من الأمهات و24.7% أهملتهم أمهاتهم، في حين أن 10% فقط كانت معاملة الأمهات لهم تتسم بالقسوة.

 

2 – العلاقة بين الوالدين:

 

إن نمط العلاقة الاجتماعية بين الوالدين هي الأخرى تؤثر في بناء شخصية الأبناء، حيث عندما تسود العلاقة السيئة تزيد من الاضطرابات، فينشغل الوالدان في مشاكلهم، مما يضطر الأبناء أحياناً إلى الهروب من هذا الواقع الأليم، ومن ملاحظة نتائج البحث تبين أن 40% من المبحوثين كانت علاقة والديهم ببعضهم اعتيادية. وإن 21.3% كانت علاقة والديهم ببعضهم سيئة، و38.7% أجابوا بأنها كانت جيدة.

 

وتبين أن 30.7% من المبحوثين أشاروا إلى وجود المشاجرات بين الوالدين، و20% أجابوا بأن المشاجرات تظهر أحياناً، في حين أشار 49.3% إلى قلة حدوثها.

 

3 – العلاقة بين المبحوثين وزوجاتهم:

 

وتبين من نتائج البحث أن 62.6% من المبحوثين متزوجون، لذا يتطلب التعرف على طبيعة العلاقة بين المبحوث وزوجته، إذ لها تأثير كبير في عملية التكيف للحياة الزوجية، ومن ثم الاستقرار الأسري أو عكسه. وقد تبين من الجدول (5) أن 45.9% منهم كانت علاقتهم اعتيادية، و14.39% منهم علاقاتهم مع زوجاتهم سيئة.

 

4 – تناول المسكرات:

 

لا شك أن الإدمان على المسكرات يعد أحد العوامل التي تؤكد صلته بالجريمة. وقد تبين من بعض الدراسات بأن 95% من الآباء الذين يعاملون أبناءهم معاملة سيئة من مدمني الخمر[23]. ومن جهة أخرى تعد عاملاً مهماً لاضطراب العلاقة بين الزوجين وبالتالي تسيء العلاقة بين أفراد الأسرة عموماً.

 

لقد تبين أن 21.3% من المبحوثين أشاروا إلى أن آباءهم كانوا يتناولون المسكرات، و12.7% منهم يتناولونها أحياناً، في حين أن 66% لم يذكر ذلك. وتبين أن 42% من المبحوثين يتناولون المسكرات، و27.3% يتناولونها أحياناً و30.7% لم يتناولوها إطلاقاً.

 

5 – تبين من نتائج البحث أن 56.7% من المبحوثين ذكروا وتعبيراً من وجهة نظرهم بأن سوء المعاملة الأسرية لهم كانت سبباً رئيساً دفعهم لإرتكاب الجريمة.

 

إذن في ضوء هذه النتائج نستطيع القول أن سوء العلاقات الأسرية باتجاهاتها المختلفة تساهم في دفع الفرد إلى إرتكاب الجريمة وبهذا نقف على صحة الفر  ضية الأولى.

 

الفرضية الثانية: الحرمان العاطفي.

قد تخفق بعض الأسر في تدريب الأبناء على التعامل مع أوضاع المجتمع بطريقة تحترم القانون، وقد يرجع ذلك إلى إهمال التهذيب بسبب غياب أحد الوالدين[24]. وهذه الحالة تسبب الحرمان العاطفي للأبناء، ويؤثر هذا الحرمان بأشكاله على تجارب الفرد السابقة واللاحقة، وقد توصل (برتون) و(وايتنك) إلى دليل مفاده إن الأبناء الذين يترعرعون في ثقافات حيث يكون الأب غائباً كثيراً ما يتعرضون إلى حالات إزدواجية وتناقض بخصوص دورهم الجنسي. ويظهرون أشكالاً مبالغاً بها من السلوك الذكري، وبهذا الخصوص توصل بعض الباحثين في دراساتهم إلى أن الإجرام يزداد بين أبناء الأسر الخالية من الآباء[25]. وذلك لطغيان الميول العدوانية عند هؤلاء وتستمر معهم أثناء البلوغ[26]. ولأجل التوقف على صحة هذه الفرضية فقد تناول الباحث ما يأتي:

 

1 – فقدان أحد الوالدين:

أ – الوفاة:

تبين من بيانات البحث أن 44% من آباء المبحوثين متوفون و32.7% أمهاتهم متوفيات. وللتعرف على مدى تأثير وفاة أحد الوالدين في الأبناء حاولنا معرفة فيما إذا كان المبحوث طفلاً أو بالغاً أثناء الوفاة. فقد تبين أن 31.3% من المبحوثين كانوا أطفالاً عند وفاة أحد الوالدين، و18.8% منهم كانوا في فترة المراهقة، أي أن نسبتهم بلغت قبل البلوغ 50.1% في الوقت الذي يضطلع الآباء بدور كبير في بناء شخصية الأبناء، وخصوصاً في فترة الطفولة والمراهقة. وقد بلغ متوسط أعمارهم (15.8) سنة.

 

ب – الطلاق:

تبين من نتائج البحث أن 14.7% من المبحوثين ذكروا وجود حالة الطلاق بين الوالدين، التي تؤدي إلى تعرض الأبناء لوضع غير طبيعي، فبعد أن كانوا يشعرون بالضمان والمحبة بين والديهم يجدون أنفسهم فجأة موزعين بين الولاء للأم أو للأب، وهذا يخلق عدم الضمان العاطفي والنفسي والخوف والضياع، فيتكون لديهم عقد نفسية أهمها الشعور بالنقص وقلة الضمان العاطفي، وقد يسبب ذلك فشلهم في الحياة الاجتماعية وبالتالي يتعرضون إلى نتائج وخيمة، وقد تصل إلى الإنحراف السلوكي[27].

 

2 – التنشئة الاجتماعية للأبناء:

تبين من بيانات البحث بأن 38.7% من المبحوثين ذكروا بأن التنشئة الاجتماعية في أسرهم كانت مقتصرة على الأم فقط، و33% اقتصرت على الأب، أي أن ثلثي أفراد العينة تعرضوا إلى تنشئة اجتماعية غير سليمة، وقد يرجع السبب إلى وفاة أحد الوالدين أو الطلاق، وأحياناً يكون السبب تعدد الزوجات، فيكون تركيز واهتمام الأب على أبناء زوجة معينة دون الأخريات حيث تبين بأن 34.7% من آباء المبحوثين متزوجون لأكثر من مرة واحدة.

 

3 – التمييز في المعاملة:

يميز بعض الآباء في تعاملهم مع أبنائهم، فقد يخلق ذلك التمييز آثاراً نفسية في حياتهم الاجتماعية تؤدي إلى الاضطراب السلوكي، وبهذا الصدد تبين من نتائج البحث بأن 37.3% من المبحوثين تعرضوا للتمييز في المعاملة من قبل الوالدين بينهم وبين إخوتهم، وأن 64.7% منهم لم يتعرضوا لذلك. ومن جهة أخرى تبين أن 41.3% من المبحوثين تعرضوا إلى المعاناة في طفولتهم وأن 58.7% منهم لم يتعرضوا.

 

نستنتج مما سبق بأن هذه الحالات جميعها وبتداخلها مؤشرات توضح بأن كثيراً من المبحوثين تعرضوا إلى حالة الحرمان العاطفي في طفولتهم فانعكست على حياتهم المستقبلية، وبهذا نستطيع الوقوف على صحة الفرضية.

 

الفرضية الثالثة: الحالة الاقتصادية.

إن الفقر والفاقة ونقص الموارد اللازمة لإشباع الإنسان من كل ما يعتقد أن له الحق فيه، عوامل من الممكن أن تصبح أسباباً للجريمة[28].

 

فقد توصلت الدراسات الاجتماعية في أميركا إلى أن الانتماء الطبقي للأسر له أثر كبير في اختلاف الجرائم التي يرتكبها الأفراد[29]. وللبحث في هذه العلاقة تناولنا ما يأتي:

 

1 – المهنة:

حاولنا التعرف على طبيعة مهن المبحوثين من جهة وعلى مهن الوالدين من جهة أخرى لتشكل مؤشراً للظروف الاقتصادية التي عاشها المبحوثين قديماً وحديثاً، حيث تبين من بيانات البحث أن 48.7% من المبحوثين عسكريون، و25.3% منهم عمال غير مهرة، وتأتي مهن أخرى متفرقة وبنسب متفاوتة.

 

أما آخر مهنة لآبائهم فكانت كما تبين في نتائج البحث أعمال غير مهرة، وبنسبة 44.7%، و21.3% فلاحون، و20% مهن فنية حرة، و9.3% موظفون وبهذا نستنتج أن أغلبية مهن الآباء كانت ذات مردودات مالية منخفضة، مما يشير إلى مستوى اقتصادي متدن لأسرهم. وكذلك الغالبية العظمى من أمهات المبحوثين هن ربات البيوت، وبنسبة 97.3%.

 

2 – المدخولات الشهرية لأسر المبحوثين:

من أهم المعايير التي بواسطتها نستطيع قياس المستوى الاقتصادي هو مجموع المدخولات الشهرية لأسر المبحوثين، فتبين من نتائج البحث أن 62.7% من أفراد العينة مدخولات أسرهم متدنية حيث تراوحت بين (50 – 100) دينار، و22.7% منهم تراوحت مدخولات أسرهم من (101 – 150) دينار، و14.6% فقط كانت مدخولات أسرهم أكثر من (151) ديناراً شهرياً. وبلغ متوسط دخل الأسرة (90.8) ديناراً شهرياً، وتبين من نتائج البحث إن أغلبية المبحوثين ليس لهم مورد من مصادر أخرى غير الراتب الشهري وبنسبة 90.7%.

 

3 – حجم أسر المبحوثين:

من الطبيعي أن المبحوثين عاشوا في أسر أصلية متباينة في حجمها، وقد توصل كل من (بوسارد واليانور) في دراستهما إلى أن الأسر الكبيرة في بعض الأحوال أكثر عرضة للتصدع والإنهيار لأن معظمها تمر بأزمات إقتصادية تؤدي إلى الحرمان الإقتصادي لأفرادها[30].

 

وقد تبين من بيانات البحث بأن 45.3% من المبحوثين عاشوا ضمن أسر يتراوح عدد أفرادها من (6 – 9). 41.4% بلغ عدد أفرادها أكثر من (10). في حين من كان عدد أفراد أسرهم أقل من (6) بلغت نسبتهم 13.3% فقط. وبهذا نستنتج أن أغلبية المبحوثين عاشوا ضمن أسر كبيرة الحجم. حيث بلغ متوسط عدد أفراد الأسرة الواحدة (3و9) أشخاص. الأمر الذي حرم كثيراً من هؤلاء في إشباع احتياجاتهم الضرورية قبل بلوغهم، حيث أجاب 41.3% منهم بأنهم قد حرموا من إشباع احتياجاتهم كثيراً، 32% منهم أحياناً.

 

وفيما يتعلق بالأسر التي كان المبحوثين مسؤولين عنها بعد الزواج يتبين أن 69.1% من المبحوثين المتزوجين عدد أفراد أسرهم أكثر من (6) أفراد، و34.1% منهم أكثر من (10) أفراد، وبلغ وسيط عدد أفراد الأسرة الواحدة (8.1) شخصاً.

 

4 – طبيعة المسكن والمحلة:

تشير الدراسات السابقة إلى أن المستوى الاقتصادي للأسرة يؤثر في إقبالها على الإقامة في مسكن حديث وصحي، أو في مسكن ضيق ورخيص غير صحي[31].

 

وللتعرف على طبيعة المسكن لأسر المبحوثين تناولنا ما يأتي:

 

أ – عائدية المسكن:

تبين من نتائج البحث بأن 53.3% من المبحوثين عائدية مسكنهم ملك صرف، و40.7% منهم إيجار، وأن 6% تعود مساكنهم للدولة.

 

ب – عدد غرف المسكن:

ظهر من نتائج البحث بأن 3.31% من أفراد العينة تعيش أسرهم في مساكن تتكون من غرفة أو غرفتين. و48.7% منهم تعيش أسرهم في مساكن تتكون من (3 – 4) غرف، وبلغ متوسط غرف المسكن الواحد (3.7) غرفة.

 

جـ – نوعية المسكن*:

تبين من بيانات البحث أن 50% منهم يعيشون في مساكن رديئة و30% في مساكن متوسطة الجودة، في حين أن 20% منهم فقط يعيشون في مسكن جيد.

 

د – طبيعة المحلة:

كشفت الدراسات السابقة عن وجود علاقة بين المناطق السكنية والسلوك الإجرامي، فتبين ارتفاع معدلات الجريمة في المناطق المتخلفة بالمدينة. تلك المناطق التي تحيط بالمناطق التجارية والصناعية، ووسط المدينة، وتكون مكتضة بالسكان، وأحياناً تعيش أسرة كاملة في غرفة واحدة[32].

 

وقد تبين أن 54% من المبحوثين تقع مساكنهم في محلات رديئة، و34.7% في محلات متوسطة الجودة، في حين 11.3% تقع مساكنهم في محلات جيدة.

 

وفي ضوء ما تقدم نستطيع الوقوف على صحة الفرضية.

 

الفرضية الرابعة: التمسك بالقيم الريفية.

تزداد معدلات الجريمة في المدينة وتتناسب مع سعتها وهي تضاهي الجريمة في الريف (5 – 10) مرات في نسبتها حيث تتعدد أنواع الجريمة في المدينة وتكون محدودة في الريف[33]. وهذا الإختلاف يرجع إلى جملة من العوامل أهمها: العلاقات الاجتماعية العميقة والمتبادلة بين سكان الريف، إذ تضطلع بدور مهم في حل خلافاتهم، فضلاً عن اختلاف طبيعة الريف والمهن السائدة فيه عما هو في المدينة[34]. وكذلك الإختلاف في المعتقدات السائدة في البيئة الاجتماعية المحيطة بالأسرة فتكون عاملاً مساعداً على إرتكاب الجريمة[35]. فغالباً ما تكون الجريمة بين أفراد الريف بدافع الانتقام لشرف الأسرة ورد اعتبارها وهيبتها بين الأسر الأخرى. وذلك لسبب حكم بنائها وتكوينها وخضوعها للقيم التقليدية[36] التي تكون الرغبات والأهداف المتفق عليها اجتماعياً والتي تدخل في عمليات التعلم والتنشئة الاجتماعية[37].

 

وعموماً فالجرائم الناجمة بدافع القيم الاجتماعية تشمل القتل أخذاً للثأر والتي تعد عملية انتقام يقوم بها فرد أو أكثر. ويعد الأخذ بالثأر نشاطاً عاطفياً تحكمه قواعد اجتماعية معينة تؤثر في الحالة الإدراكية للجاني مما يؤدي به إلى التفكير جدياً في الإعداد والترتيب للقتل[38] وللتعرف على دور القيم في دفع الفرد لإرتكاب الجريمة تناولنا ما يأتي:

 

1 – محل الولادة والإقامة الحالية:

 

نلاحظ من نتائج البحث أن 46.6% من المبحوثين ولادتهم في الريف وأن 22.7% منهم في مركز المحافظة. و20% في مركز قضاء، و10.7% في مركز الناحية. أما الإقامة الحالية للمبحوثين فقد تبين أن 57.3% منهم يسكنون المدينة، و21.3% في القرية، و16% في مركز القضاء و4.7% في مركز الناحية، ولهذا تبين من بيانات البحث أن 21.3% من المبحوثين أجابوا بأن القيم الأسرية دفعت بهم إلى إرتكاب جريمتهم مقابل 78.7% لم يذكر ذلك ومن ملاحظة بيانات البحث تبين بأن 23.3% أجابوا بأن أحد أفراد الأسرة دفع بهم إلى إرتكاب الجريمة مقابل 76.7% أجابوا بأن أحد أفراد الأسرة دفع بهم إلى ارتكاب الجريمة مقابل 76.7% لم يذكر ذلك.

 

2 – تبين بأن 56.3% من الجرائم التي ارتكبت تأثراً بالقيم الاجتماعية كانت في القرية، ويليها 21.9% في مركز الناحية، ومن ثم 15.6% في مركز القضاء، وفي مركز المحافظة 6.2%.

 

نستنتج من البيانات المذكورة بأنه كلما ابتعدنا عن المدينة إزدادت الجرائم المرتكبة تأثراً بالقيم الاجتماعية بسبب الزيادة في قوة تأثير هذه القيم على الفرد في الريف، وضعف تأثيرها على الأفراد في المدينة، ومن جهة أخرى أتضح من بيانات البحث أن 20% من المبحوثين أجابوا بأن الدفاع عن الشرف كان السبب الرئيس لإرتكابهم الجريمة.

 

وبهذا نستطيع أن نقف على صحة الفرضية.

 

الفرضية الخامسة: المستوى التعليمي.

تشير الدراسات السابقة إلى وجود تلازم بين الأمية والإجرام، إذ لوحظ أن الجرائم تكثر نسبتها عند الأميين، وأنهم أكثر عدداً في السجون من المتعلمين[39]، وللتعرف على المستوى التعليمي وعلاقته بإرتكاب الجريمة، تناولنا المستويات التعليمية للوالدين ومن ثم للمبحوثين.

 

 

1 – المستوى التعليمي للوالدين:

تبين من نتائج البحث إن أكثرية آباء المبحوثين أميون، وكذلك الحال بالنسبة للأمهات، وبنسبة 70%، 98.3% على التوالي، في حين بلغت نسبة من أنهى الإعدادية والجامعة 3.4% من الآباء وانعدمت عند الأمهات.

 

2 – المستوى التعليمي للمبحوثين:

تبين بأن 32% من المبحوثين أميون، في حين من أنهى التعليم الإعدادي بلغت نسبتهم 14.7%، ومن هنا نستنتج بأنه كلما ارتفع المستوى التعليمي قلت نسبة الجريمة، وبهذا نستطيع الوقوف على صحة الفرضية.

 

التوصيات

في ضوء النتائج يوصي الباحث بما يأتي:

 

1-     إلقاء المحاضرات وإجراء الندوات للآباء عن طريق مجالس الشعب ومجالس الآباء والأمهات في المدارس ويشخص فيها ما يأتي:

 

أ – أفضل الطرق للتعامل مع أبنائهم.

 

ب – مضار سوء العلاقات الاجتماعية بين الوالدين وتأثيرها على الأبناء.

 

ج – مضار تناول المسكرات وآثارها على البيئة الأسرية.

 

د – آثار الطلاق على الأبناء.

 

2-     تحديث المناطق القديمة في المدينة.

 

3-     مساهمة الدولة في توفير المساكن الصحية للمواطنين.

 

4-     تشديد الرقابة على المناطق القديمة في المدينة.

 

5-     تغير إتجاهات الأسر الريفية التي تؤمن بالقيم السلبية كظاهرة الثأر وغسل العار والتركيز على الشباب، وإبداء التوعية بأن القانون يأخذ حقوقهم.

 

6-     التوعية بأحكام القوانين لمختلف شرائح المجتمع، وبمختلف قنوات الإتصال ذات العلاقة المباشرة بالمواطنين.

 

7-     التوعية بمضار وآثار الجريمة على الأسرة والمجتمع.

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

[1] الدكتور محمد زكي أبو عامر، دراسة في علم الإجرام والعقاب، مصدر سابق، ص210.

[2] سونيا هانت وجينيفر هيلتز، نمو شخصية الفرد والخبرة الاجتماعية، ترجمة الدكتور قيس النوري. دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988م، ص166.

[3] نفس المصدر السابق، ص115.

[4] آدوين، هـ. سذرلاند، مبادئ علم الإجرام، مصدر سابق، ص227.

[5] نفس المصدر السابق، ص217.

[6] الدكتور محمد الجوهري وآخرون، ميادين علم الاجتماع، دار المعارف، القاهرة، 1984م، ص280.

[7] الدكتور سعد جلال، أسس علم النفس الجنائي، مصدر سابق ص236.

[8] الدكتور سعد المغربي، السيد أحمد الليثي، المجرمون، مصدر سابق، ص193.

[9] السيد رمضان، الجريمة والانحراف من المنظور الاجتماعي، المكتب الجامعي الحديث، الاسكندرية، 1985م، ص162.

[10] نفس المصدر السابق، ص163.

[11] نفس المصدر السابق، ص161.

[12] عبدالجبار عريم، نظريات علم الإجرام، مصدر سابق، ص88 – 89.

[13] الدكتور محمد زكي أبو عامر، دراسة في علم الإجرام والعقاب، مصدر سابق، ص213.

[14] المصدر السابق، ص212.

[15] السيد رمضان، الجريمة والانحراف، مصدر سابق، ص148.

[16] الدكتور محمد إبراهيم زيد، مقدمة في علم الإجرام والسلوك الاجتماعي، 1978م، ص38.

[17] الدكتور محمد زكي أبو عامر، دراسة علم الإجرام والعقاب، مصدر سابق، ص51.

[18] الدكتور محمد الجوهري وآخرون، ميادين علم الاجتماع، مصدر سابق، ص239.

[19] الدكتور محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979م، ص437.

[20] سونيا هانت وجنيفر هيلين، نمو شخصية الفرد والخبرة الاجتماعية، مصدر سابق، ص123.

[21] الدكتور قيس النوري، الحضارة والشخصية، مطبعة جامعة الوصل، ص1981م، ص41.

* عرض الاستبيان إلى السيد سعد الدين خضر معاون المدير العام لدائرة الإصلاح الإجتماعي للكبار والدكتور سطام محمد الجبوري.

[22] الدكتور السيد علي شتا، علم الاجتماع الجنائي، دار الاصطلاح، السعودية، الدمام، 1984م، ص92.

[23] الدكتور محمد زكي أبو عامر، دراسة في علم الإجرام والعقاب، مصدر سابق، ص199.

[24] آدوين هـ. سذرلاند، مبادئ علم الإجرام، مصدر سابق، ص238.

[25] سونيا هانت، نمو شخصية الفرد والخبرة الاجتماعية، مصدر سابق، ص129.

[26] صباح حنا هرمز، يوسف حنا إبراهيم، علم النفس التكويني، الطفولة والمراهقة مطبعة جامعة الموصل، 1988م، ص193.

[27] السيد محمد بدوي، مدخل إلى علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1984م، ص82.

[28] محمود التوني، علم الإجرام الحديث، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، 1960م، ص171.

[29] Donald Gilbert, Mckenley, Social and Family life, the Free press, New york, Second printing 1966, p.267.

[30] الدكتور سناء الخولي، الأسرة والحياة العائلية، مركز الكتب الثقافية، مصر، 1984م، ص230.

[31] السيد رمضان، الجريمة والإنحراف، مصدر سابق، ص143.

* تم التعرف على نوعية المسكن والمحلة حسب تقدير المبحوث نفسه.

[32] الدكتور محمد عاطف غيث، المشكلات الاجتماعية والانحراف السلوكي.

[33] Keith Davis and Robert L. Blomskrom, Busines and Socity Environment and Responssibility. Third Edition, Mc Graw, Hill Koga Kusha, I.T.D Tosho printing, Tokyo, Japan, p. 364.

[34] الدكتور محمد زكي أبو عامر، دراسة علم الاجتماع والعقاب، مصدر سابق، ص224.

[35] الدكتور رمسيس بهنام، علم الاجرام، مصدر سابق، ص140.

[36] السيد علي شتا، علم الاجتماع الجنائي، مصدر سابق، ص114.

[37] الدكتور غريب محمد سيد أحمد، علم الاجتماع الريفي، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1984م، ص271.

[38] الدكتور محمد إبراهيم زيد، مقدمة في علم الإجرام والسلوك الإجرامي، مصدر سابق، ص253.

[39] الدكتور رمسيس بهنام، علم الإجرام، مصدر سابق، ص150. لم تنشر جداول البحث لأغراض تتعلق بالطبع والنشر.

 

المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/65729

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك