مشروعية الكَوْلَسة.. بين الطموح وطلب الرئاسة
أيمن إبراهيم
إنَّ الطموح والتطلّع للمعالي هو ذلك السرّ العميق وراء كل نجاح، وقد حثّ عليه القرآن الكريم، فقال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس
المتنافسون}، وهو مشروع حتّى في السؤال والدعاء، فقد ثبت في الصحيحين قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((إذا سألتم الله فأعظموا الرغبة واسألوا الفردوس الأعلى فإن الله لا يتعاظمه شيء)).
وميدان التنافس مفتوحٌ للجميع ومضمار السباق مشرَّع لمن أعدّ عدّته وشمّر على كاهل الجد والاجتهاد، وهو ليس حكراً على أحدٍ أو فئة دون أخرى. وهنا تبرز الطاقات والإبداعات من قبيل {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}، ومن زمرة {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}. وعندها ستضع المسؤولين عن المؤسسات التربوية والدعوية أمام مسؤولية وأمانة حسن توظيفها وإدارتها ورعايتها وتوجيهها، كلّ حسب إبداعاتها وتخصّصه وطموحه ضمن العمل المؤسسي ووفق سلّم التصعيد وترتيبات العمل داخل المؤسسة عبر آلية الشورى والانتخابات بطرقها المعروفة بما يضمن العدل والشفافية وتكافؤ الفرص بين الأفراد على اختلاف دوائرهم وتنوّع جهاتهم وتعدّد مواطنهم حتى لا تبرز الجهوية أو المناطقية وتظهر عصبيات الموطن أو الولاء للأشخاص على حساب المبادىء والقيم والولاء للفكرة.. وهذا هو الوضع الطبيعي لاحتضان طموح الأفراد وإبداعاتهم ضمن بوتقة واحدة تنصهر فيه تجارب وحكمة السابقين مع حماسة وفتوّة الشباب.
“ميدان التنافس مفتوحٌ للجميع لمن أعدّ عدّته وشمّر على كاهل الجد والاجتهاد، وهو ليس حكراً على أحدٍ أو فئة دون أخرى”
لكنَّ المتابع لما سبق في مؤسساتنا يلمح بعض الممارسات والسلوكيات تخرج عن الإطار الطبيعي إلى طرق قد تكون غير مشروعة في الحيازة على منصب أو مسؤولية داخل جسم المؤسسة، وغالباً ما تظهر هذه الوسائل غير المشروعة عندما تحين المحطات الانتخابية للمؤسسات ودوائرها أو المؤتمرات وعضويتها، وهو ما بات يُعرف بـ”الكولسة”، التي للأسف لم تنجُ منها مؤسساتنا الدعوية والتربوية، ولم تخلُ منها ممارسات أفرادها في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة.وممّا يعمّق من خطورة وسلبيات هذه الظاهرة أنَّها لم تحظ بالدراسة المستفيضة للبتّ في مشروعيتها.
وهل هي مثلاً من باب النجوى المنهي عنها في القرآن الكريم؟ فينبغي الفصل فيها شرعاً ببطلانها. وإذا كان غير ذلك، فما هي ضوابطها؟في هذا المقال محاولة لفهم هذه الظاهرة والتفريق بينها وبين مشروعية الطموح وطلب الرئاسة، وهي مجرّدُ عرضٍ رأيّ قابل للنقاش والرّد، ودعوة من خلال عرض أسئلة المشروعية لهذا الظاهرة الخطيرة على واقع مؤسساتنا ومستقبلها في خضم تسارع الأحداث وتتطوّرها، وكثرة السهام والتحالفات ضدّها.
ما الكولسة؟
يمكنني أن أختار تعريفاً للكولسة من تعاريف كثيرة مبثوثة هنا وهناك أو من خلال واقع وتجارب العمل داخل مؤسسات مختلفة، فأقول: “هو أسلوب يسلكه طرف أو أطراف من داخل المؤسسة، لتوجيه آفاق اللقاءات والتجمعات، والتحضير المسبق الخفي مع الأفراد المعنيين للتأثير على النتائج التي يمكن أن تؤول إليها القرارات سواء في المواقف من القضايا المستجدة أو المشاريع الإستراتيجية أو تشكيل الهيئات أو الترشيح لتولي المناصب والمسؤوليات..”.
“الصراع حول المناصب وتضييع الجهود والأوقات من أجلها من أخطر الأسباب في تفكيك جسم المؤسسة وتفتيت الروابط الأخوية بين الأفراد”
وقد تتضمّن ظاهرة الكولسة أنماطاً من الأساليب من بينها: الدعاية لشخص ما في الانتخابات الداخلية، والتأثير على الأفراد وتوجيههم للانحياز لطرف دون آخر، أوالتقليل من انجازات شخص أو هيئة بهدف التأثير على الأفراد لعدم انتخابه أو الطعن بسمعته، أو تجييش الأفراد من أجل أهداف معينة قد تكون على حساب المبدأ والفكرة.
نعم .. ولكن!
من خلال تعريف “الكولسة”، هل يمكن القول: إنّ هناك كولسة إيجابية ما دام أنَّ الهدف هو خدمة فكرة المؤسسة ومبادئها وأهدافها. وإنَّ هناك كولسة سلبية مادام أنَّ الهدف هو الولاء للأشخاص والجهوية على حساب الفكرة والمبدأ؟
لكنّنا في الحالتين: كيف يمكن أن نحافظ على تمسّك جسم المؤسسة وصلابة أفرادها وسيادة روح الاتفاق والتعاون والأخوة إذا سلّمنا لهذه الظاهرة بأن تأخذ طريقها بدلاً عن الترتيبات الإدارية المعهودة والأساليب المعروفة في تولّي المناصب والمسؤوليات في المؤسسة؟!
البعض يعتقد أن الكولسة في مختلف المؤسسات أصبحت اليوم لا تخدم الأفكار والمبادىء، بقدر ما تخدم المصالح الشخصية والأغراض الضيّقة التي ربّما تعصف بمبادىء وأفكار المؤسسة نفسها، وتجعلها وسيلة غير مشروعة للتصعيد وحرق المراحل والأشواط نحو حيازة الأفراد للامتيازات وتولّيهم للمناصب والمسؤوليات.
والبعض يعتقد أن من بدهيات العمل الجماعي والانتخابات والديمقراطية ما يعرف بالدعاية الانتخابية وتشكيل قائمة انتخابية متآلفة ومتكاملة تدعو الأفراد لانتخابها باعتبارها الأصلح والأقوى والأقدر على رعاية مصالحهم ومصالح المؤسسة والحفاظ على مبادئها وأهدافها وتحقيق غاياتها.
كما أنه من غير المفهوم ممارسة المؤسسة لهذه العملية خارج إطارها المؤسسي وتتعامل معها بكل حرفية ومهارة بينما تتوقف وتحجم وتحظر وتعاقب من يمارس هذه العملية عندما يتعلق الأمر بشأن داخلي هو الأهم في التأثير على مسار ومستقبل وأداء المؤسسة.
لذا فإنَّنا بلا شك وأمام هذا الموقف بحاجة ماسة إلى تدخل فاعل ومسؤول من قبل أهل الاختصاص للبتّ في مشروعة هذه الظاهرة التي قد يكون لها تأثيرات وتداعيات خطيرة على الأفراد والمؤسسة معاً.
خلاصة القول
1. إنَّ طريقة الوصول إلى مناصب المسؤولية لا يجوز أن يكون بالطموح إليها واستهدافها في ذاتها، وإنما يجب أن تأتي ضمن سياق طبيعي من خلال الكفاءة والمؤهلات والتضحيات التي يفرض صاحبها بها نفسه فيقدّمه من حوله.
2. ينبغي على مسؤولي المؤسسات إعلاء روح النقد الذاتي ووضع اليد على موطن الخلل وعلاجه بشجاعة وحزم، وتعزيز ثقافة التنافس بين الأفراد وتمرينهم على الابتعاد عن داء الشخصنة القاتل والجهوية المقيتة.
3. الصراع حول المناصب والمسؤوليات وتضييع الجهود والأوقات من أجلها من أخطر الأسباب في تفكيك جسم المؤسسة وتفتيت الروابط الأخوية بين الأفراد.
4. ضرورة التحقيق والتحقّق من ممارسات البعض داخل المؤسسة سواء كانوا أفراداً أو مسؤولين في مخالفة الترتيبات الإدارية المعمول بها، مع إنصاف حقوق من وقع عليهم الظلم نتيجة تلك الممارسات.
“في اتساع ظاهرة الكولسة، وعدم وضعها في إطارها الصحيح، تغييبٌ لمنطق الممارسة الشورية لدى الأفراد، وسماحٌ لتفشي الولاء للأشخاص لا للفكرة”
5. حبُّ الرئاسة وتولّي المناصب له آثار سلبية وتداعيات خطيرة ليس أقلّها النجوى بالإثم والعدوان وما يتبعها من غيبة ونميمة وخوض في الأعراض وما تنتجه من تصدّع أركان المؤسسة وتساقط أفرادها وانهدام ركن الأخوة.
6. إنَّ الوسيلة السليمة للوصول إلى المناصب وتولّي المسؤوليات لا تمكن في طلبها والسعي إليها، وإنّما تأتي عبر الهمم العالية والإبداع والتوكل على الله عملاً ودعاءً، ثم عبر الأطر المعروفة داخل المؤسسة، ثمَّ الأمر بيد الله من قبلُ ومن بعد.
7. إنَّ التنافس الشريف بين مختلف الأفراد داخل المؤسسة الواحدة ينبغي أن يوجّه إلى مناحي الإبداع وتسخير القدرات جميعها في خدمة المبدأ والفكرة، وتعزيز العمل الجماعي في الاستفادة من مقدرات المؤسسة، ثم يتمّ التحاكم بشفافية داخل أطر المؤسسة نفسها.
8. في اتساع ظاهرة الكولسة بمختلف صورها، وعدم وضعها في إطارها الصحيح، تغييبٌ لمنطق الممارسة الشورية لدى الأفراد، وسماحٌ لتفشي الولاء للأشخاص لا للفكرة، وترسيخٌ للمصالح الشخصية واستبعادٌ للكفاءات الخفيّة.
المصدر: http://www.basaer-online.com/%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9%D9%8A%D8%A9-...