حين ينقلب ابن التنظيم إلى خصم
أيمن المصري
كما في الأحزاب السياسية، تحدث في مسيرة الحركات الإسلامية حالات استقالة لأفراد منها أو استعفاء من الانضواء ضمن صفّها، حيث يجد الفرد أنه لا يطيق الالتزامات الفكرية أو السياسية المتبعة، أو أنه لا يتقبل تطبيق مفاهيم مثل الانضباط والسمع والطاعة والتجرد، فيأخذ قراراً جريئاً بالاستعفاء.. وهو في هذا القرار ليس مخطئاً، فلقد خلقنا الله عزّ وجل طبائع مختلفة، في التفكير والالتزام والقدرة على التحمّل. ومعلوم أن الانتماء لإطار إسلامي هو وسيلة في العمل الإسلامي وليس غاية بحدّ ذاتها.
لكننا نستغرب من أفراد كانوا فاعلين ضمن الصف الإسلامي، وفجأة ينحون باتجاه مغاير، فيتحول هذا الفرد من ناشط متفانٍ للدعوة، إلى خصم ينقد أداءها في العلن.. أو تراه يتخفف من التزامه الديني، فلا يكتفي بترك الجماعة، بل يتخلى عن سمته الإسلامي وسلوكه الملتزم.
“إذا كان من حق الفرد الطبيعي الاستعفاء من العمل، فإن الأصل أن يحفظ حق العشرة، ويكون “التفريق بإحسان”، فيبقى على علاقة طيبة مع إخوة شاركهم العمل الإسلامي، بحلوه ومرّه، على مدى سنوات”
لا شك أنه مخطئ في فعله هذا، فإذا كان من حقه الطبيعي الاستعفاء، فإن الأصل أن يحفظ حق العشرة، ويكون “التفريق بإحسان”، فيبقى على علاقة طيبة مع إخوة شاركهم العمل الإسلامي، بحلوه ومرّه، على مدى سنوات.
لكن دعونا نغوص قليلاً في خلفيات هذا الانقلاب الشخصي لأخينا، فلربما لم يكن هذا التوجه باختياره بل دفع إليه دفعاً، ولعلنا نفاجأ حين نكتشف أن القيادة تتحمل جزءاً من المسؤولية في ما صار إليه الأخ.
وكما نقول دائماً، أبناء الحركة الإسلامية، حتى وإن تصدّروا للعمل الإسلامي وتحملوا المشاق وارتضوا التضحية من أوقاتهم ومالهم وراحتهم. هم بشر من أحاسيس ومشاعر، وليسوا ملائكة وقوالب جامدة. فيهم القوي وفيهم الضعيف، فيهم صاحب النضج الفكري وفيهم طريّ العود، فيهم العنيد الذي يواجه نقداً علنياً ولا يهزّه بشيء، وفيهم الرقيق الذي ينهار عند أول محنة يمرّ بها.
سأعرض بعض الشواهد من واقع الحياة، التي تدلل على دور للقيادة في خصومة أحد أبنائها لها:
1- لظروف معينة، حياتية أو مهنية. يضطر الأخ للانسحاب من واجهة العمل والتخفف من الظهور في الأنشطة العامة، وفي المقابل نراه مشاركاً في مناسبات لجهات اجتماعية غير ملتزمة أو حزبية أخرى. فتبدأ ألسنة إخوانه من أبناء الصف – وليس القيادة – تلوكه وتتجرأ على اتهامه في أخلاقه أو دينه، وقد يصل الاتهام إلى حدّ الارتباط بجهات أمنيّة، وهذا ما يستفزّه استفزازاً كبيراً.
ليس كل الناس يتحمل هذا التجريح والتشهير، وليس كلهم يملك سعة الصدر. وهنا، إذا لم تضع القيادة حداً لهذه الاتهامات الباطلة فتعلن – داخلياً – علمها بظروفه وإجازتها له، فإن هذا الجوّ سيدفعه إلى الانسحاب من الصف، ولربما رغماً عنه إلى الانقلاب على هذا المحضن الدعوي الذي لم يحترم ظروفه الخاصة ولم يحسن الظن به.
2- يحدث خلاف بين فردين من أبناء التنظيم في شأن داخلي، ويتهم أحدهما – تجنياً – بأمانته أو أخلاقه، بعد سنين طويلة من العطاء في التنظيم. ويشيع أمر الاتهام. وهنا، إذا لم تتعاط القيادة بجدّية فتشكل لجنة تحقيق لجلاء الأمر، فإن بقاء التهمة على هذا الفرد سيؤذيه معنوياً، وسيدفعه للانسحاب وترك الصف. وكلما بُني على هذا الاتهام (حذر أو توجس منه لدى الآخرين)، زاد الأخ بعداً وخصومة مع الجماعة.
3- ناشط كان يقود قطاعاً معيناً في العمل الإسلامي (الطلاب أو الدعوة أو الرياضة…)، وكان متفانياً في عمله ويحمل عبئاً كبيراً في إدارته. لكن لخلاف وقع مع قطاع آخر في التنظيم أو قيادته، يستغنى عنه بشكل استخفافي يشعره أن كل عطائه وتضحياته ليست محل تقدير، وبلحظة ضعف بشري ينساق إلى الانسحاب من الصف نهائياً عن غير رغبة منه، وكلما كان نضج الأخ خفيفاً كلما زادت الخصومة بينه وبين التنظيم.
4- معلوم أن وصول الفرد إلى موقع مسؤولية في التنظيم يتطلب مروره بمراحل عديدة من التأهيل والممارسة لاكتساب الخبرة. لكن لظرف معين، تتسرع القيادة في تصدير أحد أبنائها لمسؤولية معينة متجاوزة السنّة الطبيعية بالتدرج. وبحسب ركن السمع والطاعة، يرضخ الأخ لقرار قيادته ويتحمل مسؤولية هذا العمل، فالثقة أحد أركان البيعة، لكنه في طريقه يواجه عقبات ليس أهلاً لمواجهتها والتعامل معها، فيفشل في مهمته، فيصاب بإحباط شديد، خصوصاً إذا لم يجد عوناً ممن حوله. وهذا ما يدفع البعض للانطواء ناقماً على القيادة.
“أبناء التنظيم بشر من لحم ودم وأحاسيس. وهذا ما يحمّل القيادة عبئاً إضافياً في حماية أبنائها من هذه المنزلقات”
5- يحكم الحركات الإسلامية نظام داخلي يحدد الواجبات والحقوق والصلاحيات. ومن حق القيادة أن تعفي (تفصل) أحد أبنائها إذا ارتكب مخالفات معينة، سلوكية أو نظامية بحسب النظام المعتمد. والأصل هنا أن تعقد جلسة مصارحة بين لجنة منتدبة وهذا الأخ، وتبلغه قرار الفصل، على أن تحفظ خصوصية الفرد في ستر مخالفته، لاسيما إذا كانت مسلكية. لكن تحدث أحياناً – عن قصد أو غير قصد – أن يشيع خبر معصية الأخ بين أبناء التنظيم، ما يتحول إلى تشهير وفضيحة. أو أنه يعرف بخبر فصله ممن حوله دون أن يبلّغ بشكل رسمي، ما يترك جرحاً عميقاً داخله، وأيضاً قد يحوّله إلى خصم.
هذه بعض الأمثلة العملية التي واجهت أفراداً في الدعوة، نقلتهم من العمل ضمن الصف إلى ناقمين، أو حتى إلى خصوم..
ودائماً نكرر: أبناء التنظيم بشر من لحم ودم وأحاسيس. وهذا ما يحمّل القيادة عبئاً إضافياً في حماية أبنائها من هذه المنزلقات.
ولا بدّ ختاماً من التنويه أن ما ورد ليس بهدف تقديم تبرير لأيّ فرد فارق الجماعة، وليس بقصد تحميل القيادة المسؤولية عن كل حالة خروج من الصف، إنما كان القصد الإشارة إلى دور ما قد تقع فيه القيادة عن غير قصد منها، يدفع الفرد منها إلى اتخاذ موقف سلبي، قد يتمثل بالانسحاب من العمل، أو من التنظيم نفسه، أو حتى بالانقلاب خصماً.
المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%AD%D9%8A%D9%86-%D9%8A%D9%86%D9%82%D9%84...