في مديح الخطأ
باستطاعتنا أن نميز بين منحيين في المعرفة وقيام الحقائق: المنحى الأول يصدر عن مفهوم معين عن الحقيقة، فيعتبر أن قيام الحقائق نمو وتراكم، وأن تاريخ الحقيقة عملية بناء تدريجي يسهم فيها رجال العلم والمعرفة، أما المنحى الثاني، فيصدر عن مفهوم مغاير، بل مفهوم مضاد، يعتبر قيام الحقائق قضاء على الأخطاء، وفضحا للأوهام، فينظر إلى تاريخ الحقيقة على أنه عمليات تقويض وتراجع، وحفر وتفكيك.
في الطريقة الأولى، التي يمكن أن ندعوها الطريقة الأفلاطونية، تكون المعرفة تذكراً، كما يكون تاريخها استرجاعا للكيفية التي انبنت عليها الحقائق، ورجوعا إلى المصدر الذي بزغت منه، لمتابعة الكيفية التي تم وفقها «نمو» «الحقيقة». هنا يمتزج الأصل بالبداية الزمنية. أما في الثانية، فإن التاريخ يصبح قلبا للأفلاطونية ورجوعا إلى الوراء على حد تعبير نيتشه، ومحاولة لإقامة ذاكرة مضادة. وهنا ينفصل الأصل عن البداية ويتميز عنها.
المنحى الأول يقوم على مفهومات الحقيقة والنمو والذاكرة والاتصال، أما الثاني فعلى مفهومات الخطأ والنسيان والانفصال. لا يعني هذا مطلقا أن لا وجود لهذه المفهومات في السياق الأول، كل ما في الأمر أنها لا تتمتع بـ «الجوهرية» نفسها التي تميّز نظيراتها. هذا شأن مفهوم الخطأ الذي يعنينا هنا. فإذا كان دعاة المنحى الأول يعطونه مكانة في عملية المعرفة، إلا أنهم سرعان ما يتحايلون لاستبعاده بهدف إقامة الحقيقة وبناء صرحها. نعلم، على سبيل المثال، أن أبا الفلسفة الحديثة قد افترض شيطانا ماكرا يخدع العقل ويغشه، بل إن ديكارت جعل في العقل نفسه فعاليات تعوقه عن المعرفة، مثل الذاكرة والخيال، وعلى الرغم من ذلك، فإن العقلانية التقليدية لم تكن لتجعل الخطأ يتمتع بقوة تمكنه من أن يصمد ويستمر في الوجود؛ فقد كانت هناك دوما لحظة يرتفع فيها الخطأ ويزول، ليدع المكان للمعارف الصائبة اليقينية. وما الدعوة التي تنشدها لإقامة منهج إلا بهدف «حسن قيادة العقل» وتجنيبه الوقوع ضحية الأخطاء.
هذا الوجود «العرضي» هو بالضبط ما يروم ما دعوناه المنحى الثاني أن يقوم ضده. هنا لن يعود الخطأ من قبيل الكائن العرضي الزائل الذي قد يعفينا منه قليل من الحذر وحسن النية وعدم التعجل والسبق إلى الحكم. وباستطاعتنا أن نذهب مع ج. كانغليم إلى الاعتقاد بأن الفضل كل الفضل يرجع إلى فيلسوف العلم الفرنسي غاستون باشلار، صاحب الابيستمولوجية اللاديكارتية، يرجع له الفضل في إعادة الاعتبار لمفهوم الخطأ؛ فهو الذي أوضح أن الفكر هو، أولا وقبل كل شيء، قدرة على الغلط، وأن للخطأ دورا إيجابيا في نشأة المعرفة العلمية. فالحقيقة تستمد معناها عند باشلار، من حيث إنها تقويم لأخطاء. فكأن «وجودها» مدين للخطأ، بل إن «صورة الفكر العلمي ذاته ليست إلا حقيقة منسوجة على أرضية من الخطأ». فـ «لا وجود لحقائق أولى ومعارف بدهية. إن الأخطاء هي الأولى». في البدء كان الخطأ. و«كل حقيقة جديدة تولد بالرغم من البداهة» و«كل تجربة موضوعية صحيحة يجب أن تحدد دوما كيفية تصحيح خطأ ذاتي».
فالخطأ والجهل ليسا، في نظر صاحب «فلسفة اللا» نقصا وعيبا ولا وجودا. ليس الجهل فراغا معرفيا. الجهل كثافة وامتلاء. والمعرفة «لا تصدر عن الجهالة مثلما ينبثق النور من الظلمة». الجهل بنية متماسكة: «إنه نسيج من الأخطاء الإيجابية الملحة والمتماسكة».
إن الفكر، وهو أمام المعرفة العلمية «لا يكون قط حديث النشأة، بل يكون شيخا مثقلا بالسن لأنه يحمل من ورائه عمرا طويلا، هو بالضبط عمر أخطائه». وعندما «يبلغ» الحقيقة فليس ذلك تطلعا إلى أمام، بل مراجعة ورجوعا إلى خلف. فكل حقيقة هي دوما ما كان ينبغي أن نعتقده، وليس ما ينبغي علينا اعتقاده. كل بلوغ لحقيقة لا بد وأن يصاحبه نوع من «الندم الفكري».
لن تعود مسألة المعرفة، والحالة هذه مسألة نمو وبناء، وإنما ستغدو تراجعا و«ندما على مافات» وما وقع الفكر ضحيته. هذا الإلتفاف إلى مافات، وهذا الرجوع قد يسمى جيينالوجيا الحقيقة، أو حفريات المعرفة أو التاريخ التكويني، إلا أنه يتبع الاستراتيجية ذاتها. لكن ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن هذه الاستراتيجية، بما هي استراتيجية مضادة، فإنها لا يمكن أن تقوم في انعزال عن مقابلتها، إنها تقوم أساسا ضدها ولتقويضها والحفر في مسبقاتها. فلا بناء من غير تقويض، ولا حقيقة من دون أخطاء.
المصدر: http://mominoun.com/articles/%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%AF%D9%8A%D8%AD-%D8%A...