الخطاب التربوي الإسلامي
سعيد إسماعيل علي
تقديم الشيخ عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين؛ فجعل الله سبحانه وتعالى بذلك البعثَ مهمةَ النبوة الأولى إخراجَ الأمة من الأمية.. وبيَّن أن هذا الإخـراج لا يتحقـق بالأمنيات والرغائب فقط، وإنما بالتربية والتعليم واكتساب الخبرة والمعرفة، هذه سنة جارية على تاريخ النبوة الطويل، يقول تعالى: (( لَّيْسَ بِأَمَـانِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الْكِتَـابِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ )) (النساء:123).
وحتى معرفة القراءة وحفظ الأحكام دون فقهها والعمل بها تعتبر من بعض الوجوه أماني، كما أكد ذلك قوله تعالى حكاية عن أهل الكتاب، ليكون ذلك عبرة لأهل الرسالة الخاتمة، فلا يقعون بعلل التدين، التي لحقت بالأمم السابقة: (( وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَـابَ إِلاَّ أَمَانِىَّ)) (البقرة:78).
ذلك أن عملية إخراج الأمة ونهوضها وبنائها الحضاري، ومن ثـمّ تحقيق شهودها الحضاري، استجابة لقوله تعالى: (( وَكَذالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ )) (البقرة:143)، التي هي مهمة النبوات الأولى والآخرة، تتطلب الكثير من الإدراك والفهم والوضوح والإفادة من التجارب، على مستوى الذات و(الآخر)، والقدرة على استلهام القيم ووضع الآليات والبرامج لكيفية تنـزيلها على واقع الناس.
فالسبيل الوحيد والأوحد لإخراج الأمة، أو لمعادوة نهوضها وإخراجها، هو الثقافة والتربية والتعليم، واكتساب المهارات المعرفية والسلوكية والنفسية، فالله تعالى يقول: ((... يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ.. )) (الجمعة:2).
فالتلاوة والخطاب العام والجماهيري، والنقل الثقافي، مهما طرح من الآيات والدلائل والبراهين، وحقق من القناعات، فلا يغني في الحقيقة، سواء بالنسبة لطبيعته أو بالنسبة لشرائح التلقي عن التربية للشخصية والنفسية، وبناء العقلية، وتنمية المشاعر، وصقل المواهب، وتزكية النفس، وتأصيل دوافع الخير، والحيلولة دون نوازع الشر، وإكساب المهارات، والتدريب على الوظائف التي تنمي العقل من التفكير والمقارنة والقياس والاستنتاج والاستقراء، والتدريب والتعليم على المعاني الخيرة لتصبح سجية وطبعاً، والارتقاء والنمو في ضوء منهج نضيج ومدروس ومتدرج، يأخذ في اعتباره العمر العقلي، والكوامن النفسية، والقدرة الذهنية، والمناخ الثقافي، والواقع الاجتماعي للمتلقي.
ويأتي في مقدمة ذلك جميعه امتلاك المفتاح، وهو هنا معرفة الكتابة والكتاب (القرآن)، الذي يشـكل المرجعية، واكـتساب الحكمة التي تعني - فيما تعني- التوازن وضبط النسب ووضع الأمور في مواضعها؛ لأن أي خلل في ضبط النسب أو عدم الإحاطة بالمتلقي وظروفه وحاجاته في كل مرحلة عمرية يفسح المجال لنوازع الشر أن تغتال الشخصية: (( يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ )).
إن هدف التعليم والتربية في نهاية المطاف: الإنقاذ من الضلال، وتنمية خصائص الإنسان، وإلحاق الرحمة به: (( وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ )) (الجمعة:2).
والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، الذي كان من دعائه المأثور: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا" (أخرجه مسلم)، الذي كانت الغاية من ابتعاثه الرحمة بالعالمين، قال تعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَـاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـالَمِينَ )) (الأنبياء:107)، القائل: "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلا مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا" (أخرجه مسلم).
فالعنت، والتعنت، والإرهاق، والشدة، والمشقة، والتنطع، والتشدد، والإكراه، والعجز عن تيسير المعلومة وإيصالها، وتقويمها، واختبار اكتسابها، وتحويلها إلى خبرة علمية ومهارة معرفية، تنمي العقل، وتذكي الطاقة، وترتقي بالخصائص، وتعود على التفكير بالنمو والكثير من الوسائل بالتطور والتطوير، تتحول إلى اندفاعات من الإخلاص والحماس ويجانبها الإدراك والاختصاص، وتنتهي إلى الإعاقة، وتكسب العجز، وتنمي التخلف، وتكرس الواقع الأليم: "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلا مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا" وفي رواية: "...إِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا" (أخرجه ابن ماجه) وكأنه لخص مهمة النبوة الأساس في حياة الإنسان.
وبعد؛
فهذا كتاب الأمة "المائة": "الخطاب التربوي الإسلامي" للأستاذ الدكتور سعيد إسماعيل علي، في سلسلة "كتاب الأمة" التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في محاولاته الثقافية والتربوية المستمرة لمعاودة إخراج الأمة، واستلهام القيم الضابطة للمسيرة، التي جاء بها الوحي، وتحريك الاجتهاد وإعمال العقل في وضع البرامج الملائمة والمدروسة لإعادة بناء النخبة، الطائفة القائمة على الحق التي لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك: "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ" (أخرجه مسلم)، التي تحقق خلود القيم الإسلامية والتدليل على قدرتها على الإنتاج في كل عصر وظرف وحال، التي تتمثل الإسلام في حياتها وعلاقاتها وتشكل خميرة النهوض والتجدد الفكري.
ذلك أن الأزمة - فيما نرى- إنما هي أزمة نخبة قادرة على القيادة وإثارة الاقتداء وامتلاك القدرة على الاجتهاد ووضع الأوعية الشرعية لحركة الأمة، بعيداً عن الحماس وسوء التقدير للاستطاعات والممكنات، الأمر الذي يؤدي إلى الكثير عن المعارك الغلط، وهدر الطاقات، وتقديم التضحيات في غير زمانها ومكانها، والعجز عن تحقيق الأهداف وقطف الثمرات.
نعود إلى القول: بأن الأزمة هي في حقيقتها أزمة نخبة وليست أزمة أمة، لأن الأمة في كل الظروف والأحوال والمتغيرات أثبتت انتماءها للإسلام، وولاءها لقيمه، وانحيازها لنصرته، وتقديم التضحيات الكبيرة التي قد ينتسب بعضها إلى عصور الإسلام الأولى، وهو المحرك الوحيد لاستجابتها والمكون الأساس لثقافتها، حتى أننا نستطيع القول: بأن الأمة لشدة حرصها وولائها قد تنحاز إلى من يرفع شعار الإسلام، حتى ولو لم يكن في مستواه.
ولعلنا نقول هنا: بأن الخلل إنما يكمن أساساً في تربية وبناء النخبة، وأن الكثير ممن ارتقى منابر النخبة في التوجيه والقيادة، بما يمتلك من الحنجرة السميكة، والصوت المرتفع، والقـدرة على إثارة الحماس، وإتقان الخطاب، أو الخطب القائمة على إثارة المشاعر والحماس، على حساب إذكاء التفكير، كان سبباً في الأزمات المتلاحقة وليس وسيلة للحلول الغائبة حتى ولو ادّعاها.
وقد تكون المشكلة اليوم: التوهم بأن النخبة، أو أهل الحل والعقد، هم أهل الأصوات والضجيج ومنابر الخطابة، وأن القدرة على إثارة الحماس وملء النفس بالانفعال هي مؤهلات النخبة والريادة، بعيداً عن أهل الخبرة والاختصاص في ما يتطلبه بناء الحياة بكل جوانبها، حتى ولو ادّعى الخطباء المعرفة بكل شيء، والإفتاء بكل شيء، وقد لا نغالي إذا قلنا: بأننا هُزمنا بذهنية بعض الخطباء، وانتصر أعداؤنا بالخبراء، ذلك أن بروز الخطباء، الذين لا خبرة لهم إلا بالأصوات، وغياب الفقهاء والخبراء وأهل الاختصاص هو الذي يمثل إشكالية النهوض.
ولا بد لنا أن نعترف هنا، ونحن على رأس العدد "المائة" من سلسلة "كتاب الامة" أن عملية التحويل الفكري والتشكيل الثقافي، التي اخترنا المرابطة على ثغرها، لإعادة بناء النخبة، ومعاودة إخراج الأمة من جديد، عملية شاقة وعسيرة، ومن الصناعات الثقيلة حقيقة.
فهي تتطلب تخصصات ومهارات في شعب العلوم الإنسانية جميعاً، إن لم نقل علم الإنسـان بشـكل عام، ولا يتسع لها عمر إنسان، ولا عقله، ولا علمه، وإنما هي بطبعها عمل مؤسسي متكامل مسبوق برؤية تتحقق بالمرجعية الشرعية، أو رؤية شرعية، إضافة إلى رؤية فقهيه فكرية ثقافية قادرة على اسـتلهام التجربة الإسلامية التاريخية، وقادرة أيضاً على تنـزيل القيم في الكتاب والسنة على واقع الناس، من خلال استطاعاتهم، ومدركة للمتغيرات والنوازل.
كما تتطلب التحقق بالمنهجية السننية لحركة الحياة والأحياء، من خلال تخصصات متنوعة مستوعبة لمرحلة القدوة، حقبة السيرة، وما تميزت به من تسديد وتصويب الوحي، ومرحلة الخلافة الراشدة، حيث انقطاع الوحي وبدء التعامل مع الأحكام باجتهادات البشر، وتحقيق خلود القيم، وتعدية الرؤية إلى النوازل الجديدة، واحتمالات الخطأ والصواب، بعيداً عن تأييد الوحي وتسديده وتصويبه.
كما تتطلب امتلاك القدرة على وضع الواقع بكل استطاعاته ومكوناته وحالاته في الموقع المناسب من مسيرة السيرة والخلافة الراشدة، ليشكل هذا الموقع مجال الاقتداء بعد التحقق بالرؤية الشاملة، ابتداءً من الخطوات الأولى للنبوة: (( اقْرَأْ ))، وانتهاءً بمرحلة الكمال والاكتمال: (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )) (المائدة:3)، ذلك أن الفوضى في التعامل مع الأحكام، والعبث بعملية الاقتداء، وسوء التقدير في اختيار موقع الاقتداء، مُوقع بمضاعفات خطيرة، وضلال في السعي، ونحن نحسب أننا نحسن صنعاً.
ونؤكد هنا أهمية التنبه إلى أن ما ورد في الكتاب والسنة، من معرفة الوحي، يشكل قيماً ومرجعية ومعياراً ومبادئ عامة، لضبط المسيرة البشرية وهدايتها، وتقويم فعلها في كل زمان ومكان؛ وأن وضع الخطط والبرامج والمناهج التربوية والدعوية، بحسب ظروف الزمان والمكان، في ضوء هداية القيم، منوط بالعقل والاجتهاد؛ وأن هذه البرامج والاجتهادات يجري عليها الصواب والخطأ، والمعرفة والإنكار، والقبول والرد، وأنها اجتهاد في تنـزيل قيم الإسلام على واقع الناس، في زمان معين ومشكلات معينة، وبالتالي فليسـت قيماً معصـومة مقدسـة خالدة محظور نقضها أو نقدها أو حتى تركها وتجاوزها.
فالمقياس هو قيم الكتاب والسنة، والإشكالية اليوم هي في الخلط بين فهم واجتهاد وكلام الشارح وبين قيم الشارع، والتباس الذات بالقيمة، وتحول العصمة من القيم والمبادئ إلى الأشخاص والاجتهادات، حيث يسود جو من الإرهاب الفكري، الإرهاب المقدس، الذي يحرِّم النقد والمراجعة والمقايسة والمقارنة والمناقضة.
إضافة إلى أن الجهود الفكرية والفقهية والاجتهادية والأكاديمية، في معظمها، انصرفت إلى إثبات صحة النص وتحقيق النص والبرهنة على عظمة النص... إلخ، ولم تبذل إلا الجهود القليلة القليلة في الاجتهاد في كيفية إعمال النص في واقع الناس، وما ترك هذا من مخاطر عزل القيم الإسلامية عن واقع الناس الحائر، وعلى أحسن الأحوال فإن الفقه والاجتهاد في معظمه اليوم تراجع إلى السير خلف المجتمعات والحكم على فعلها، وتنازل عن الريادة والسير أمام المجتمعات وبيان طريقها المستقيم، التي عليها أن تسـلكه حتى لا تضل ولا تشقى.
لقد تحول الفقه والاجتهاد من فقه مقاصد وغايات إلى فقه مخارج وكيفيات ومبررات، إن لم نقل فقه إيجاد المسوغات والحيل الشرعية لأفعال الناس المشتبهة.
وقد تكون إشكالية النهوض كامنة في كيفيات وأدوات النظر إلى قيم الكتاب والسنة، واستلهامها في التعامل مع الواقع ورؤية المستقبل، وكيفية استصحاب التجربة الحضارية التاريخية، التي جاءت استجابة عملية وسلوكة لهذه النصوص أو هذه القيم.
فالمشكلة فكرية ذهنية ثقافية تربوية، قبل أي شيء آخر، وما نراه في الواقع ما هو إلا انعكاس وتجل لهذه الذهنية، وما لم نحدد مواطن الخلل الكامن في الذهنية الإسلامية اليوم، والمنهج التربوي، وأدوات التشكيل الثقافي، وندرك أن المشكلة ليست مشكلة قيم ولا مشكلة غياب الأنموذج، الذي جسـد هذه القيم في حياة الناس، ولا مشـكلة منهج ومرجعـية، ولا مشكلة التبحر في الأحكام الفقهية التشريعية، إنما المشكلة هي في وسائل التعامل مع هذا المنهج.
فالقرآن هو القرآن، الذي أنـتج جـيلاً بل أجـيالاً؛ وهو محفوظ كما أُنزل، والجهود والعزمات التي بذلت في حفظه لا يطاولها شك، بل لعلنا نقول: إن معظم الجهود العقلية والفكرية والعملية والعلمية تمحورت تاريخياً حول حماية النص ونقله حتى وصلنا كما نزل.. فلماذا لا ينتج الآن؟ ولماذا لا يتم التحويل والتغيير، ومنهج ذلك - القرآن والبيان النبوي- موجود، ومع ذلك فحالة العقم، وحالة العجز والاستنقاع الحضاري، تحيط بنا من كل جانب؟
المشكلة إذن في أدوات التوصيل وكيفيات التعامل.. المشكلة في عدم تربية العقل، الذي نيط به الاجتهاد والتنـزيل على الواقع بحسب ظروف الزمان والمكان.. وكم نحن بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن نعترف بفشلنا، أو بفشل أدواتنا في التعامل مع قيمنا، في المجالات الفكرية والفقهية والتربوية والثقافية، والواقع شاهد إدانة، ونعيد النظر بهذه الأدوات، التي لا قدسية لها، ونفتح الباب على مصراعيه للاجتهاد الفكري والحوار والمناقشة؛ وأن ندرك ونعتقد، بحيث يصبح ذلك ثقافة واعتقاداً، بأن زمن الرجل الملحمة الذي يفتي في كل شيء انتهى، وأصبح الذي يدعي المعرفة في كل شيء هـو في الحقيقة لا يعرف شيئاً، حتى ولو حفظ الأحكام الشرعية أو حفظ النصوص الواردة في الكتاب والسنة.
فالمشكلة ليست مشكلة حفظ، ولا مشكلة فقر في القيم، ولا في غياب المنهج والأنموذج - كما أسلفنا- وإنما المشكلة في الاجتهاد وكيفيات التعامل والتنـزيل على الواقع، بحسب استطاعاته.. وهذه الآليات والكيفيات لا تأتي بالادعاء والأمنيات، كما هو حالنا، وإنما تأتي بالتخصص في شعب المعرفة، وتقسيم العمل، والإحاطة بعلم الأشياء، حتى لا ننتهي إلى الكذب الفكري والثقافي على أنفسنا وعلى المسلمين، الذين نوهمهم بأننا نمتلك مفاتيح الأشياء جميعاً، وأن المشكلة كامنة في (الآخر)، في خارجنا، وبذلك يصدق فينا قوله تعالى: (( بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ )) (يونس:39)، والإحاطة بالعلم تعني التخصص في شعبه: (( وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ )) (فاطر:14)، والخبرة فكر وتجربة، أو فكر وفعل وتمرس.
حتى في مجالات الاجتهاد، التي نتعامل فيها مع القرآن، نجد أن رؤيتنا حسيرة وناقصة ومختزلة وجزئية وما إلى ذلك، حيث اقتصر اجتهادنا غالباً، في إطار القيم، على استنباط الحكم التشريعي، واقتصرنا في النظر والاجتهاد على آيات الأحكام الشرعية وأحاديث الأحكام، ومساحتها لا تتجاوز خمسمائة آية، على أحسن الأحوال، وقد أعمل بعضهم فقهه وعقله في النسخ حتى المسخ، وتركنا ما رواء ذلك من القرآن للتلاوة والتبرك، فخرجنا من المجتمع بكل فضاءاته وآفاقه إلى بعض زواياه، وخرجنا من الحياة بمعظم جوانبها، وانحسرنا عن مجالاتها والانفعال بالرؤية القرآنية في التعامل معها.. هذا عدا عن التكرار والنقل عن الأقدميين، وعدم القدرة على تجاوز المثال وتعدية الرؤية إلى مثال آخر، حتى في المجال الفقهي التشريعي، وكأن الآية الخالدة إنما جاءت لمعالجة حالة واحدة متفردة لا تتكرر، والأفقه عندنا هو الأكثر حفظاً للأحكام والأقدر على نقلها، فنحن اليوم حملة فقه في الغالب، ولسنا فقهاء؛ فالذاكرة هي المعيار، والذكاء والتفكر والاجتهاد والاستنتاج لمشكلات الحياة قد يكون غائباً تماماً، والرسول e يقول: "… رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ " (أخرجه الترمذي).
ونحن هنا لا نبخس الاجتهاد في مجال الحكم الشرعي قيمته ودوره، لكن المشكلة في عدم تجاوزه إلى فقه الحياة، الفقه الحضاري، فقه السنن لحركة المجتمعات، فقه السقوط والنهوض للحضارات، الفقه السياسي، الفقه التربوي، الفقه الاجتماعي، فقه الحركة التاريخية، الفقه التنموي، الفقه البيئي، فقه العلاقات الدولية، الفقه الإداري، فقه التعامل مع الأزمات الإنسانية، الفقه الإعلامي، فقه العواقب والتداعيات من خلال إبصار المقدمات، فقه الواقع، فقه الاستطاعات...
وقد يكون الخلل في عدم الإدراك الكامل للمعادلة الثقافية للموضوع، ذلك أنه من المعروف أن الإنسان هو محل الحكم، وأن استطاعته هي التي تقتضي التكليف، وأنه لا قيمة للحكم إذا افتقدنا المحل (الإنسان) أو افتقدنا الاستطاعة مناط التكليف، فالتبحر والامتداد بتوليد الأحكام التشريعية وعدم التوزاي أو السبق في بناء الإنسان، محل الحكم، وبناء استطاعته مناط التكليف، يفقد العمل والاجتهاد قيمته وجدواه، ويصبح عملاً في فراغ.
لذلك نقول: إن فقه بناء الإنسان، أو تنشئة الإنسان السوي، محل الحكم والخطاب، أو الفقه التربوي، هو أولاً وثانياً وثالثاً.
فلقد بقي الخطاب القرآني والفعل التربوي النبوي ثلاثة عشر عاماً في مكة يتمحور حول بناء الإنسان، ولم تكن مساحة الأحكام في مكة تكاد تذكر، فلما توفر الإنسان جاءت الحاجة إلى وضع الأوعية الشرعية لحركته، فكان الخطاب المدني خطاب الأحكام، إضافة إلى استمرار البناء التربوي.
والتربية والتنشئة والتزكية وبناء الإنسان هي مهمة الرسل، قبل تقرير الأحكام، ذلك أن الأحكام في مجملها إنما شرعت لحماية الإنسان، وحماية المجتمع، وليس لإقامته وبنائه، على ما فيها من آثار تربوية وثقافية، لذلك نقول: لعل من الملفت حقاً أن يبدأ الوحي بالتعليم والتربية والتزكية، حيث أعطاها ما تستحق، واختبر نتائجها قبل البدء في تقرير الأحكام.
ذلك أن تلقي الوحي، وكيفية التعامل مع معطياته، والالتزام بأحكامه، يتطلب مؤهلات وخصائص وصفات وأدوات لا يمكن الوصول إليها والحصول عليها إلا من خلال التعليم والتربية، انطلاقاً من رصيد الفطرة وتطوير القابليات المركوزة في الإنسان، ولا يمكن بحال من الأحوال تجاوز التعليم والتربية في عملية التأهيل.. ولا شك أن القيم الإسلامية في الكتاب والسنة تشكل منطلقات ومرجعيات وضوابط لمسيرة التعليم والتربية، فبالقيم الإسلامية نؤهل الإنسان، وبالقيم الإسلامية يتأهل الإنسان لكيفية التعامل معها، والالتزام بأحكامها، وبدون تأهيل محل تنـزيل الأحكام (الإنسان)، بالتعليم والتربية، فسوف يحصل الكثير من المجازفات والعبث بالأحكام الشرعية، وتنـزيلها على غير محالها، والخلط في آليات وكيفيات تطبيق الشريعة، أو تنـزيل الإسلام على واقع الناس وحسن التعامل معهم، من حيث هم.
ذلك أن القيم الإسلامية تبدأ مع الناس من الحالة التي هم عليها، وترتقي بهم من خلال تطوير استطاعاتهم، بوضع البرامج والخطط الملائمة لكل مرحلة من مراحل الترقي، وما يناسبها من الوسـائل والأحكام، وهذا لا يعني الانتقاء من الأحكام أو القيم الشرعية، ولا تقطيع الصورة وإنما يعني حسن التقدير للاستطاعات وما يناط بها من تكاليف، وما تتطلب من أحكام في كل حالة ومرحلة.
ذلك أنه إذا فُقدت الاستطاعة لا يرد التكليف أصلاً، وقد أشرنا في كتاباتنا السابقة إلى قضية على قدر كبير من الأهمية في التعامل مع الأحكام والقيم الإسلامية، وهي أن المسلم، فرداً وجماعة، دولة وأمة، إذا بذل اسـتطاعته في تنفيذ الأحكام الموازية لهذه الاستطاعة والمنوطة بها، حيث إنه لا تكليف بدون استطاعة، مع إيمانه بالقيم الإسلامية من قوله تعالى: ((اقْرَأْ)) إلى قوله تعالى: (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )) فقد طبق الإسلام الكامل بالنسبة لاستطاعته، وخرج من عهدة التكليف، ولو لم يستكمل جميع فروع الإسلام وأحكامه، إضافة إلى أن هذه الأحكام تتطور صعوداً وشمولاً كلما ارتقت الاستطاعة وتعاظمت، وتنحسر وتتناقص كلما تدنت الاستطاعة وهبطت، وفي كلتا الحالتين فإن المسلم طبق الإسلام المطلوب إليه والمخاطب به في حـالته الاستطاعية، التي هو عليها، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، مع العلم أن الإسلام بكل تشريعاته ومطالبه لا يخرج عن استطاعة الإنسان، ولذلك فيمكن للإنسان أن يطور استطاعته، ويترقى ليصبح بإمكانه الوصول إلى حالة الكمال والاستكمال.
ولا بد أن نذكر هنا أيضاً، بأن الأحكام الشرعية المتنوعة في مجملها ومجموعها، إنما نزلت أو شرعت، لمعالجة قضايا وحالات الإنسان المتنوعة، وأن لكل حالة حكمها، ولا يمكن أن يدعي أحد على عقل أو على فقه أن كل حكم يصلح لكل حالة ولكل استطاعة، وأن التنفيذ للأحكام، مهما كانت، منوط بكل إنسان، فرداً أو سلطة، فالأحكام من جانب كالأدوية، كلها أدوية، لكن لكل دواء داؤه، وبالتالي فلا يصلح كل دواء لكل داء، ذلك أن الخطأ في تنـزيل الدواء على داء قتلٌ للمريض، ولو كان ما يتناوله يوسم بالدواء، وهكذا الأحكام الشرعية..
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن بعض الأحكام، بأصل وضعها، أو تنـزيلها، منوطة بالسلطة المسلمة، أو بالدولة؛ لأنها تمتلك من السلطات والاستطاعات ما يمكنها من إنفاذ ذلك، كتطبيق الحدود وتنفيذ العقوبات، وإبرام المعاهدات، وإعلان الحرب والصلح والهدنة والجهاد.. وأن نصيب الفرد أو تكليفه من ذلك يتحدد بالعمل على الوصول إلى بناء سلطة مؤمنة بهذه الأحكام، تعمل على إنفاذها، وليس من مسؤوليته أو تكليفه، وهو فاقد للاستطاعة، مناط الحكم، أن يقيم نفسه مقام الدولة أو السلطة لإنفاذ الأحكام وإيقاع العقوبات والحدود والتعزيرات على الناس، حتى ولو كانت معطلة؛ لأن ما يترتب على تنفيذها ممن ليس أهلاً لها من الفوضى أكبر من تعطيلها، وبذلك تعم الفوضى والاضطراب، ويشيع العبث، وتتحول القيم والأحكام الإسلامية على يد هذه العقول القليلة والأنظار الكليلة إلى صناعة المشكلات، بدل أن تحقق للناس الحل والأمن الاجتماعي.
ولا يقل عن ذلك خطورة في التعامل مع الأحكام الشرعية عدم استيعاب مواصفات الخطاب القرآني والخطاب النبوي، والتعامل معه في ضوء الحالات المطلوب التعامل معها.
ذلك أن من المعـروف أن للحرب والمعركة والجهاد خطابـها، بكل ما يتطلبه من التعبئة النفسية، وشحذ الهمم، والإغراء بالمواجهة، والتحريض عليها، والثواب الكبير لمن يقضي في سبيل ذلك، من مثل قوله تعالى: ((قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً)) (التوبة:123)، وقولـه تعالى: (( حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ.. )) (الأنفال:65)، وقولـه تعالى: (( فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَـاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ )) (الأنفال:12)، وقوله تعالى: (( انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً )) (التوبة:41)، وقوله تعالى: (( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء ... )) (آل عمران:169)... إلخ.
أما الخطاب في حالة الدعوة والحوار فمختلف تماماً، له أدواته ومواصفاته، من مثل: (( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ )) (النحل:125)، ومثل: (( وَلاَ تُجَـادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَـابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ)) (العنكبوت:46)، ومثل: (( ياأَهْلَ الْكِتَـابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء.. )) (آل عمران:64) وهكذا.. والذي لا يدرك ذلك يظنه تناقضاً، أو يُعمل فيه النسخ، فتنسخ آية السيف معظم آيات القرآن(!).
كما أن خطاب العقيدة له مواصفاته أيضاً: (( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَـالِثُ ثَلَـاثَةٍ... )) (المائدة:73) إلخ.
وخطاب العهد له مواصفاته، من مثل: (( لاَّ يَنْهَـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ )) (الممتحنة:3).
والخطاب التربوي له مواصفاته... وهكذا.
فالخلط في مواصفات الخطاب وحالات تنـزيله، والعبث بالأحكام، دون تقدير الحالات والاستطاعات والمخاطَبين، يورث المسلمين الكثير من الفتن والبلاءات، والتناقضات، والأضرار، ويفقدهم الحكمة، ويصدق فيهم قول الشاعر:
ووضع الندا في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
لذلك نعتقد أن عمليات التلاوة: (( يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـاتِهِ ))، وكيفياتها، وتجويدها؛ وعمليات التزكية والتطهير والتربية والتنشئة السليمه: ((وَيُزَكّيهِمْ)) بمناهجها، وكيفياتها، وتطوير خطابها، بحسب العمر العقلي والنفسي والمعرفي للإنسان؛ وعمليات التعليم والتخصص واكتساب المعلومة والمعرفة، التي تزكي العقل وتمنح الخبرة والإحاطة بالأمور: (( وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ )) والقدرة على وضع الأمور بمواضعها، وقياسها بمقاييسها، هذه مسؤولية العمل التربوي، ومسؤولية الخطاب التربوي، لأنه هو الذي يؤهل ويحضِّر للتعامل مع الحياة والأحياء، من خلال القيم الإسلامية.
والخطاب التربوي، أو المنهج التربوي، بحسب ظروف الزمان والمكان، هو من اجتهاد وعمل عقل الإنسان المتخصص في التربية، القادر على استلهام القيم الأساسية في الكتاب والسنة، فالقيم من عطاء الوحي، والمناهج والبرامج من عمل العقل، كما أسلفنا.
لذلك بدأ الوحي في الرسالة الخاتمة بكلمة ((اقْرَأْ)) مفتاح الحضارة والتأهيل للنهوض وإخراج الأمة، فكانت الخطوات الأولى للوحي في التأهيل والتحضير وبناء الإيمان تربوية تعليمية تأهيلية؛ وبعد صناعة الإنسان المطلوب جاءت الأحكام والالتزامات والمهام والتكاليف ثمرة لهذه الجهود وهذا التأهيل: (( ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ... )) افعلوا كذا وكذا.
نعود إلى القول: إن الخطاب التربوي التعليمي هو المسؤول الأول والأخير عن فشلنا وعدم قدرتنا على حسن التعامل مع قيم الكتاب والسنة، التي أخرجت خير أمة أخرجت للناس، فالقرآن هو القرآن كما نزل، والسنة هي كما وردت، والإنسان هو الإنسان، لكن أين الخلل المفقود، الذي يحول دون التفاعل لمعاودة الإخراج للأمة من جديد؟
هذه مسؤولية الخطاب التربوي، الذي لا ينفع معه الضجيج والخطابة، وإنما ينفع له الاختصاص والخبرة والمعرفة المتراكمة، وحسن الملاحظة، والحكمة، والتدريب، والتقويم، والمراجعة، والإفادة من الحكمة حيثما كانت، لأنها ضالة المؤمن التي تحميه من الضلال: ((هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ )) (الجمعة:2).
وفي نهاية المطاف قد يكون من الأهمية بمكان، ونحن نحاول معاودة إخراج الأمة، أن نؤكد أن الأمة المسلمة دون سائر الأمم والحضارات، السائد منها والبائد، تشكلت من خلال كتاب، من خلال الخطاب التربوي، وإذا كان نهوض أي أمة مرهون بتوفير ظروف وشروط ميلادها الأول، فإنه لا مخرج لنا إلا بالعودة إلى إعادة صياغة خطابنا التربوي وفق معطيات الكتاب والسنة، وتطورها، حسب المتغيرات الاجتماعية والإنسانية، لعل ذلك يشكل سبيل الخروج.
والكتاب الذي نقدمه، يعتبر إلى حدٍ بعيد مساهمة نقدية للواقع التربوي، الذي تعيشه جامعاتنا، ومؤسساتنا، ومدارسنا، ومعاهدنا التعليمية، من أستاذ أكاديمي وباحث مخضرم، أحزنه الواقع التربوي، بحيث امتد به النقد للأطروحات والرسائل العلمية في مجال العطاء الأكاديمي، والخلل الذي تعاني منه، على مستوى الفلسفة، والمنهج، والإشراف، والأداء، والجدوى، وعدم الخبرة، والتخصص، ذلك أن عدم وضوح الفلسفة التربوية، وغياب المنهج الصارم، والإشراف المتخصص، والموضوع المدروس المجدي، يؤدي إلى الكثير من التعميم، والخبط الأعشى، واختلاط الرؤية، ودخول الشأن التربوي، على خطورته ودقته، من يحسن ومن لا يحسن، حتى تحول الكثير من النشاط التربوي إلى بورصة ألقاب وعناوين لا قيمة لها؛ لأنها لم تصرف شيئاً، ولم تحرك ساكناً، ولم تسهم بارتقاءٍ أو تطور مقدور.
والخطورة، كل الخطورة، عندما يتحول من يتصدرون للحل إلى مشكلات في طريق الأمة، ويتحولون إلى طبقة كهان، يطلبون من الأمة الاعتراف بقدسـية أفكارهم، ويشـيعون جواً من الإرهاب الفكري، حتى لا ينكشف عوارها لأنها لا تحسن إلاّ الاستهلاك لطاقات الأمة وتبديدها.
ولا بد أن نعترف بأن التربية، بكل أبعادها ومجالاتها، هي أشبه بالوسيط الكيميائي، الذي يحدث التفاعل المطلوب، ويعيد صياغة الأمة، ويؤهلها لكيفية التعامل مع قيمها وتوظيف إمكانها الحضاري؛ وأنها المسؤول الأول عما صرنا إليه؛ وأن الكثير من الفشل والتخلف، الذي نعاني منه لمشاريعنا وأفكارنا، يتطلب عمليات نقدية شديدة، وأحياناً قاسية، لعلها تحرك الرواكد، وتصوب الخطوة، وتبني ثقافة المراجعة والمقارنة والمقايسة والحوار، ذلك أن النقد هو الروح المحركة والمصدر للحركة، وأن الناقد هو الناصح - و"الدِّينُ النَّصِيحَةُ"- وأنه الشريك الأساس في عملية النهوض والبناء السليم.
"الخطاب التربوي الإسلامي" لا يعني بحال من الأحوال الإسلام، بقيمه المعصومة في الكتاب والسنة، وإنما يعني الاجتهادات البشرية العقلية لوضع البرامج والمناهج والخطط، وتقويمها ومراجعتها، في ضوء القيم الإسلامية، وانطلاقاً منها، لذلك فهو اجتهاد بشري، يجري عليه الصواب والخطأ.. وكونه اجتـهاداً بشـرياً لا يعـني أن يمارسـه من هبّ ودبّ، وإنما يمارسه المتخصصون والمؤهلون.. وهو دائماً قابل للنقض والنقد والإلغاء والتعديل والتطوير، ولعله أكثر المجالات حاجة إلى النقد، ونقد النقد؛ لأن المنهج الراكد في العالم المتغير مشكلاته وأفكاره وإبداعاته ورؤاه، يكرس التخلف، ويسهم بتراجع الأمة وعدم إعداد أبنائها لعصرهم.
إن "الخطاب التربوي الإسلامي"، بكلمة مختصرة: منهج صناعة الإنسان - إن صح التعبير- المتغير المتطور والمتنامي، الذي يجب أن يعيش عصره المتغير بسرعة، ويتأهل لفهمه وكيفية التعامل معه.
فكيف لا يكون المنهج التربوي أو الخطاب التربوي مستجيباً لحاجات الأمة، مؤهلاً لها لدخول العصر والتعامل معه، أخذاً وعطاءً؟
ولعل هذا الكتاب، الكتاب "المائة" في السلسلة، يعتبر لبنة في هذا الطريق، والمأمول أن يفتح الأبصار على الكثير من المسؤوليات ومواطن الخلل.
ولعل من الأقدار الملفتة أن تبدأ سلسلة "كتاب الأمة" بكتاب ناقد للواقع الدعوي: "مشكلات في طريق الحياة الإسلامية" للشيخ محمد الغزالي، يرحمه الله، ويكون على رأس المائة منها كتاب ناقد للواقع التربوي، بعنوان: "الخطاب التربوي الإسلامي".
ولله الأمر من قبل ومن بعد، وعند ذلك يفرح المؤمنون بنصر الله.
المقدمة
"الخطاب" لغة على وزن فعال من خاطب، ومصدره خطاب، ومُخاطبة، على وزن مفاعلة ومعناه الكلام والمحادثة، ومراجعة الكلام والمشاورة فيه، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطاباً، وهما يتخاطبان.
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: ((وَفَصْلَ الْخِطَابِ)) أن يحكم بالبينة أو اليميـن، وقـيل معناه أن يفصل بين الحق والباطل، ويميز بين الحكم وضده.
و"الخطاب" رسالة ذات هدف ودلالة، وهو كلام، منطوقاً أو مكتوباً، يمثل وجهة نظر محددة من الجهة التي توجه "الخطاب"، ويفترض فيه التأثير في السامع أو القارئ، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف والملابسات التي صيغ فيها "الخطاب" بدلالة الزمان والمكان.
ويستعمل لفظ "الخطاب" اصطلاحاً بمعان شتى، تختلف تبعاً لطبيعة الموضوع الذي ينصب عليه "الخطاب"، وتبعاً للأغراض التي يتوخى تحقيقها منه، ففي التشريع والقضاء تعني " بلاغة الخطاب" أن يؤسس على البرهان الاستدلالى، على النحو الذي يحدده المنطق، وفلسفة التشريع، والأيديولوجية المتبناة في صياغة التشريعات، وفي أحكام القضاء. ومعنى هذا أن "الخطاب" يتجاوز الشكلية اللغوية، ويمتد إلى وسائل الإقناع ونوعية البرهان وأدوات الأسلوب البياني.
وليس بالضرورة أن يكون "الخطاب" الإسلامي هو نصوص الوحي من القرآن والسنة، وإنما هو "خطاب" الإسلاميين، في ضوء الثوابت في التعبير عن الرسـالة التي يوجهونـها إلى الآخرين في شـأن من الشـؤون أو مجموعة من القضايا العامة، في زمن معين. وهو "خطاب" للجميع يأخذ بعين الاعتبار كل فئات المجتمع واهتماماته، فيخاطب كل فئة بما يمكنها من فهم "الخطاب" والاستفادة منه.
و"الخطاب التربوي" هو اللغة المعبرة عن جملة التصورات والمفهومات والاقتراحات حول الواقع التربوي، وصفاً، وتحليلاً، ونقداً، واستشرافاً لمستقبله، أو حول علاقة الوجود بين التربية ومجتمعها، وهو بذلك تعبير عن أيديولوجية منتج "الخطاب" في لحظته التاريخية.
و"الخطاب التربوي"، ضمن من ينتجه، قد يعبر عن الرؤية الرسمية الحاكمة في المجتمع حيال تخطيط وتشريع النظام التعليمى الذي يضمن الإبقاء والمحافظة على النظام الاجتماعى القائم، ومن ناحية أخرى فقد يأتي "الخطاب التربوي" معبراً عن التصورات الفكرية المتحررة من قيود المؤسسية، من قبل مفكرين وعلماء وجمعيات ومؤتمرات علمية.
أما "الخطاب التربوي الإسلامي" فتتحدد دائرته من ناحيتين:
أولاهما: موضوعه الذي يدور حول القضايا التربوية التي تهم الأمة الإسلامية وتستند إلى ثوابتها من القرآن الكريم والسنة النبوية،
وثانيتهما: الجمهور المستهدف الذي يشكل العاملون في مختلف المؤسسات التربوية ركيزته الأساسية، وإن كان يمكن أن تفيد منه فئات أخرى يقرب عملها من العمل التربوي، مثل من يعملون في مجالي الدعوة والإعلام، فضلاً عن مختلف الآباء والأمهات.
و"الخطاب الإسلامي" هو الذي يقدمه العلماء والمفكرون في كل زمان ومكان، وفي كل مرحلة، وفقاً لتلك المرحلة ولظروفها، وهذا "الخطاب الإسلامي الصحيح" هو خطاب معاصر دائماً، من زمن الرسول e حتى زماننا هذا، فالمعاصرة يجب أن ترتبط بالسلامة والدقة، ولو ادعى أحد أنه يقدم خطاباً إسلامياً معاصراً ولكن هذا "الخطاب" لم يكن مؤصلاً تأصيلاً سليماً، ولا يستند إلى القرآن والسنة استناداً حقيقياً، فلا يمكن اعتباره معاصراً، "فالخطاب" المعاصر هو الذي تمتد جذوره عميقاً في التأصيل، ثم ينظر إلى هذا العالم نظرة عميقة لفهم الظروف والقوانين التي تحكمه، والحاجات الحقيقية التي يجب أن تعالج في هذا العصر.
وتنبثق أهمية "الخطاب الإسلامي" في أي عصر، من المكانة العالمية للرسالة الإسلامية، وأنها ليست مقصورة على العرب، مع أن جزءاً من "الخطاب الإسلامي" لابد أن يكون داخلياً لأبناء الأمة الواحدة في القضايا العامة، إلا أن جزءاً مهماً منه كذلك لابد أن يكون خارجياً، موجهاً إلى سائر شعوب الأرض وأقطارها، ليعكس صورة الحضارة الإسلامية وقيمها الأساسية، ونظرتها إلى المشكلات العالمية وإلى العالم أجمع.
ولا شك أن التربويين الإسلاميين فئة أساسية من فئات الأمة الإسلامية، تنفعل بهمومها التي ترزح تحت وطئتها، وتتشوف لمستقبل يضعها في مكانها الذي يليق بمن كلفوا بحمل الرسالة الإلهية، رسالة الإسلام، ومن ثم كان من الطبيعي أن تحتل قضية "الخطاب التربوي" مكانة عالية على سلم الأولويات البحثية التي يجب أن يطرقها العاملون في الحقل العلمي التربوي، خاصة ونحن نعيش فترة صعبة من فترات التاريخ، جعلتنا - على غير طبيعة رسالتنا الإسلامية - نقف موقف المتهم الذي يحتاج إلى الدفاع عن نفسه، كل من خلال موقعه. ولما كان معروفاً كذلك أن مجال التربية هو ما يمكن تشبيهه بعملية "صناعة شخصية الإنسان"، وكان الإنسان هو مدار كل عمل ونظام، تصبح من مسؤولية المربين أن يتناولوا قضية "الخطاب التربوي الإسلامي"، ودراسة أبعاده وجوانبه المختلفة سعياً لمزيد من الوضوح الفكري الذي هو شرط مهم لاستقامة الطريق.
لماذا الآن ؟
وقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن "الخطاب الديني"، وعندما نقول "الخطاب الديني" فلابد - قراءة للواقع - أن يكون المقصود هو الخطاب الديني الإسلامي، فعلى الرغم من وجود ديانتين اثنتين أخريين، وهما اليهودية والنصرانية، إلا أنهما بعيدتان عن هذه القضية التي بدت ملحة إلحاحاً لم تشهده من قبل، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أنه بات مطلوباً من المسلمين عامة، والمثقفين منهم خاصة أن يصدروا خطاباً دينياً يرضى عنه المنتمون للديانتين الأخريين.
كذلك فإن تخصيص المسلمين بهذا الأمر يحمل اتهاماً لم يعد مستتراً بأن خطابهم يضر (بالآخر).
إن المسـألة ليست قائمة في مضمون "الخطاب الديني الإسلامي"، وإنما هي في ضعف المسلمين وتخلفهم أمام غيرهم، ومن ثم تتجه المطالبة من القوي، المتقدم، وتتوجه إلى الضعيف المتخلف.
إنك لو فتشت في أي كتاب من الكتب الدينية اليهودية، على سبيل المثال، التي تدرس لألوف من طلاب المدارس الإسرائيلية، بل وتلك التي تدرس في المدارس اليهودية القائمة في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، فسوف تجد دعوات واضحة صريحة للكراهية والتعصب والعنف، بل والكذب والتشويه والتزييف لوقائع معاصرة، ولوقائع مضت، لكن لا أحد يلتفت إلى هذا، وإنما الذعر كله يتبدى من كتب التلاميذ المسلمين الدينية، حيث تُتهم زوراً وبهتاناً بتحريضها على العنف والقتل والإرهاب، لأنها تردد الدعوة إلى الجهاد بضوابطه الشرعية، كما أمر بها المولى عز وجل ورسوله e.
هو منطق التاريخ كله، بل ومـنطق الأحـياء على وجـه العموم. ألا نتذكر تلك القصة البسيطة عن الحمل الذي كان واقفاً يشرب عند منحدر نهير، بينما هناك ذئب يقف على أعلاه، فإذا بالذئب يتهم الحمل بأنه يعكر صفو الماء، ومن ثم فلابد من معاقبته بالتهامه، مع أن الواقف عند المنحدر لا يمكن عقلاً أن يفعل ذلك بالنسبة لمن يقف عند الموقع الأعلى ؟ هي إذا كانت قصة خيالية، لكن من أبدعها كان يعبر تعبيراً صادقاً عن "منطق الأقوياء"، فإذا كنا نؤمن بمبدأ "قوة الحق"، فإن الأقوياء يرون المبدأ بصورة أخرى ألا وهي "حق القوة".
انظر إلى ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة الأقوى، في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م. لقد أصبح علامة فارقة في تاريخ العالم كله، فما من موضوع يطرح، في أي مجال من المجالات إلا وتجد أن تناوله يقوم على أساس هذه التفرقـة: "ما قبل 11سـبتمبر" و"ما بعد 11 سبتمبر"! إن ما حدث في هذا اليوم على فظاعته حدث ما هو أبشع منه، وما يزال، في بلدان كثيرة، فقد التهمت أرض شعب تم تشريد الأغلبية الساحقة من أبنائه في فلسطين، وفي كل يوم ترتكب مجازر وتجريفات وهدم وسحق، لكن لا أحد يجروء، حتى من بيـن العرب والمسلمين أنفسهم، أن يؤرخ بما قبل 1948م، وما بعده، باعتباره علامة فارقة على طريق النكبات والهزائم.
والأمر نفسه بالنسبة لتاريخ الهزيـمة الكبرى في الخامس من يونيو 1967م.. لماذا ؟ لأننا الأضعف، فما يحدث لنا لا يحرك تاريخ العالم، وقد لا يهز فيه شعرة.
فها هنا أيضاً نجد صورة من صور "العولمة" ألا وهي "عولمة التاريخ"، بحيث لم تعد قاصرة على ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والحرب.
وأرجع بالذاكرة إلى تلك اللحظة التاريخية الخالدة، عندما نزل الوحي على رسول الله محمد e يبشره برسالة الإسلام، ويأمره بأن يدعو "العالمين" كافة إلى الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، تجد تلك اللحظة كانت كذلك لحظـة فارقة في تاريخ العالـم كله، لأن الذين تلقوها في ذلك الوقت كانوا هم الذين يقفون موقف القوة، لكن وفق منطق آخر هو "قوة الحق".
كان هذا المبدأ فعـالاً هذه المرة لأنه لـم يكتف بهذا، بل حصـنه بما لا حصر له من مظاهر القوة الأخرى التي تتلخص في أركان النهوض العام الأربع ألا وهي: "العقيدة" و "الحضارة العلمية" و"القوة العسكرية" و"القيادة والتنظيم".
وهكذا، إذا رجعنا مرة أخرى إلى عصرنا الراهن، وجدنا أن أصحاب القوة والهيمنة لابد أن يحصنوا أنفسهم من احتمالات أخطار قد تأتيهم من جانبنا، حيث رأوا أن المسؤولين عما حدث في الحادي عشر من سبتمبر مظهر من مظاهر "إرهاب ديني" يقتضي بالضـرورة إعادة النظر في "الخطاب الديني".
ألا إنه لأمر خطير حقاً أن تجئ الدعوة إلى "التطوير" من جانب (الآخر)، حتى ولو كان ظاهرها حلو المذاق، لامعاً براقاً، عذب الصوت... إن الدعوة عندما تصدر من موقعنا نحن، تغير الموقف كلية:
فهذا يعني أننا الذين نختار الزمان.. ونختار نحن الهدف.. ونختار نحن مواضع التطوير... ونختار نحن سبل التغيير والتحديث...
وهذا كله يعني أنه يصب في مصلحة الأمة، حيث إنه يبث دماءً قوة في عروق أبنائها، أفراداً وجماعات، ونظمها، وبنيتها الكلية.
والعكس صحيح عندما تصدر الدعوة من (الآخر).
وإذا كنا قد أشرنا إلى أن الحديث كثر عن "الخطاب الديني" في "السنوات الأخيرة"، فإن الأمر قد يتطلب توضيحاً لابد منه، وهو أن المقصود بهذا هو مصطلح "الخطاب" نفسه، ذلك أن استقراء تطورنا الحضـاري في القرنين الماضيـين سوف يجد أن الكلمة وإن لم تستخدم، لكن مضمونها كان مستخدماً، وهو ما نراه في دعوات العديد من المجددين الإسلاميين: منذ أن بدأ الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر في فترة من فترات القرن التاسـع عشر ينادي بأن طريقة حياتنا لابد أن تتغير فنعلم في بلادنا من العلوم ما ليس فيها.. وما شهـدته مواقـع أخرى وفترات متعددة، مثل:
دعوة الإمام الشوكاني إلى نبذ التقليد؛ ودعوة محمد بن عبد الوهاب إلى الرجوع إلى صفاء التوحيد؛ ودعوة الشيخ جمال الدين الأفغاني إلى تحديث الدولة العثمانية ومقاومة الاستبداد؛ ودعوة الشيخ محمد عبده إلى تجديد التعليم الديني؛ ودعوة عبد الحميد بن باديس في الجزائر؛ والسنوسي الكبير في ليبيا؛ والحركة المهدية في السودان.. وغيرهم.
كانت الميزة الكبرى في مثل هذه الدعوات أنها صدرت من علماء مسلمين على الأرض الإسلامية، منطلقة من موروث الأمة الحضاري، ومستندة إلى متغيراتها ومشكلاتها وقضاياها في الحاضر، وشاخصة البصر على مستقبل مأمول، فكان لها دورها المشهود في بعض بلداننا من حيث بث بذور اليقظة، وإن لم تؤت جميعها الأكل المنشود لأسباب متعددة ليس هنا مجال الإشارة إليها، فضلاً عن كثرة ما كتب في ذلك.
لماذا إسلامية "الخطاب التربوي"؟
ولعلها الضرورة التي تفرض أن نطرح هذا التساؤل في بدايات الدراسة، مع أن أسلافنا من علماء الأمة لم يجدوا أبداً ضرورة لمثل هذا التساؤل الذي يفرض إضافة صفة "الإسلامية" إلى عناوين ما يكتبونه من أوراق وكتب ورسائل، وهكذا لا نجد الإمام أبو حامد الغزالي يسمى كتابه المسوعى الشهير (إحياء علوم الدين) بـ "الإسلامي"، كما لم يجد أي من المربين، عندما يتحدث عن "آداب المعلمين" مثل القابسي، أو "آداب المتعلمين" عند آخرين، إلى إضافة "الإسلاميين" أو "عند المسلمين"، ذلك لأن التوجه العام للثقافة والحضارة في تلك الأزمنة كان هو العقيدة الإسلامية، وكانت الأمة هي الأمة الإسلامية.
لكن الوضع الآن اختلف، فعلى الرغم من أننا نعيش مجتمعات إسـلامية، لكن الذي يكتب في المجال الإسلامي أو من منظور إسلامي يجد نفسه مضطراً إلى أن يعلن ذلك على رأس خطابه، حيث لم تصبح العقيدة عند بعض المسلمين وبعض البلدان الإسلامية اتجاهاً "أيديولوجياً"، وهو الأمر الذي قد يفسر الفرق في الاستخدام المصور للواقع بين "مسلم" و"إسلامي"، على اعتبار أن المصطلح الأول يشير إلى مجرد انتماء الإنسان إلى العقـيدة الإسلامية، أما الثاني فيشير إلى اعتبار الإسلام "نهجاً مجتمعياً"، أو وفقاً للمصطلح المعاصر "أيديولوجياً".
بل إن المسألة تزداد إلحاحاً في الحقل التربوي، حيث إن "الخطاب التربوي" على وجه الخصوص يعاني من إنكار وجود "الإسلامية" بين كثرة لا ينبغي أن تنكر من العاملين في المجال التربوي، وبالتالي، فكيف يمكن لنا أن نُضمن هذه الدراسة جزءاً خاصاً بكيفية التعامل مع (الآخر) مثلاً، خاصة وأن القطاع الإسلامي في هذا (الآخر) لا يعترف أصلاً بوجود خطاب تربوي إسلامي؟
إن نقطة البدء هنا هو الانطلاق من مسلمة يسلم بها العاملون في العلوم التربوية، ألا وهي أن العملية التربوية هي مجموعة من الإجراءات التنفيذية التي تستهدف بناء إنسان بمواصفات معينة، وهي بهذا المعنى لابد أن ترتكز إلى تصور كلي يحدد هذه المواصفات، وقبل ذلك يحدد الهدف من بناء هذا الإنسان، ثم يوجه النظر إلى كيفية نقل هذه المواصفات من مستوى التصور النظري والأمل المُحلق إلى مستوى الفعل والتنفيذ.
ولقد كانت عناية فلاسفة التربية على مر العصور هي تحديد مثل هذا التصور الكلي العام، منذ أن بدأ فيلسوف الإغريق الشهير "أفلاطون" ذلك في كتابه (الجمهورية)، كى يتوالى بعده المفكرون والفلاسفة، مثل "أرسطو" في (السياسة) و"جان جاك روسو" في (إميل)، وغير هذا وذاك مما يصعب حصره في هذه الدراسة المحدودة.
وعندما نجد في الكتابات التي ترصد اتجاهات الفكر التربوي، منذ القدم، حتى الآن، وصفاً لاتجاه بأنه مثالي أو واقعي، أو طبيعي، أو تجريبـي، أو مسيحي، أو يهودي، أو براجماتي، أو ماركسي، أو وجودي، أو تحليلي، أو نفسي... إلخ، فإنما يعني هذا استناد التربية إلى إطار فكري عام.. ولنسمه ما شئنا: فلسفة، مذهب، عقيدة، أيديولوجيا، فالفكرة واحدة، ألا وهي الانطلاق من تصور فكري كلي شامل يرسم الخطوط العريضة لبناء شخصية الإنسان كما ينبغي أن يكون.
فما الغريب، اتساقاً مع هذا، أن ينطلق بعضنا من عقيدته الإسلامية ليستنبط تربية إسلامية تسعى إلى صياغة الشخصية الإنسانية بما يتفق والتصور الإسلامي، على أساس الإيمان بأن خالق الإنسان هو الأدرى والأعلم بكيفية بناء شخصيته؟
هناك الدعوة الشهيرة، بأن وصف هذه التربية بأنها "إسلامية" يحمل اتهاماً للتصورات التربوية الأخرى بأنها غير إسلامية، وهذا مردود عليه، فوصف حزب مثلاً بأنه "وطني" لا يعني اتهام الأحزاب الأخرى بأنها غير وطنية، ووصف حزب آخر بأنه "تقدمي" لا يعني اتهام الأحزاب الأخرى بأنها متخلفة، بل إن وصفنا لشخص بأنه على خلق كريم، لا ينبغي أن يُحمل على أنه اتهام لغيره بأنه على خلق غير كريم.
وهناك من بلدان العالم العربي والإسلامي من يدرِّس لأبنائه مقرراً باسم "التربية الوطنية"، ولا يقع في وهم أحد أن وجود هذا المقرر يعني أن غيره من المقررات مثل اللغات والعلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية غير وطنية !!
أما القول: بأن العلم لا جنسية له، فهذا صحيح فيما يتصل بالعلوم التي تقع خارج نطاق العلوم الإنسانية والاجتماعية بصفة عامة، والتربية بصفة خاصة. إن الفيزياء في روسيا لن تختلف عن الفيزياء في مصر أو في الولايات المتحدة الأمريكية إلا من حيث "الموضوعات" و "درجة التقدم"، وهكذا الأمر بالنسبة للرياضيات والكيمياء وما شابه هذه العلوم.
لكن الأمر لابد أن يختلف عندما نكون بصدد تربية الإنسان، فلا يمكن لإنسان أن يقوم بالعمل التربوي من أجل تشكيل جانب من جوانب شخصية فرد آخر إلا إذا كان يعمل وفق "نموذج فكري" أو "تصور نظري"، فإذا أردنا أن نصمم منهجاً دراسياً على سبيل المثال، فإن مثل هذا العمل لا يتم إلا في ضوء خريطة عامة تجيب عن السؤال الشهير: ماذا نعلِّم؟ لكننا إزاء هذا السؤال نتردد في الإجابة قبل أن نجيب عن سؤال يسبقه هو: لماذا نعلِّم ؟ وإذا تساءلنا: لماذا نعلِّم، نجد أنفسنا أمام قضية "الهوية" و"النموذج الفكري" الذي يرشدنا إلى ما نعلِّمه.
وهناك من يرددون القول: بأن الاستناد إلى منطلق ديني يجعل النقد والمناقشة محفوفة بالمخاطر، إذ قد يتعرض الناقد إلى الاتهام بالكفر، وخاصة إذا اتصلت التربية بمصدري الإسلام الأساسين: القرآن الكريم والسنة النبوية، وهذا أيضاً مردود عليه بالإشارة إلى الاختلافات الشهيرة بين المذاهب الفقهية الكبرى، إذ انطلق كل فقيه، بخالص عقله، وإخلاص قلبه، يقرأ النص الديني، يفهمه بما قدره الله له من الاستعدادات الإدراكية، وظهر كثيرون يعارضونه، دون أن يتهم أحد (الآخر) بالكفر.
وإذا كان هذا في مجال القضايا الفقهية، التي يتصل معظمها بالحلال والحرام، فما بالنا بالقضايا التربوية، وكثرتها من الشؤون المعاشية التي تخضع كثيراً لمتغيرات الزمان والمكان، بحيث لا تقع هذه الكثرة تحت طائلة التحريم أو التحليل؟! فأن يرى مفكر أن طريقة كذا هي الأنسب في التعليم، بينما يرى آخر أن طريقة غيرها هي الأنسب، لا يحملنا بأي حال من الأحوال على أن نتهم أيهما بالكفر لأنه خالف (الآخر)! وأن يرى مفكر أن علم كذا من الأفضل أن يتم تدريسه في المرحلة الابتدائية بدلاً من الثانوية أو العكس، لا يتيح لأحدهما أن يتهم مخالفه بأنه قد انحرف عن صحيح الدين !!
صحيح أننا لا نستطيع أن ننكر أن هناك من يمكن أن ينهضوا بمثل هذا الموقف المضاد للتفكير، لكنهم عادة ما يشكلون "نتوءات" تخرج عن حد الاعتدال والوسطية التي عرف بها الإسلام، وهو الأمر الذي لم يخل منه مجتمع على مر التاريخ.
ولعل مربط الفرس في كثير من المجادلات التي تسير على هذا الطريق، سواء في مجال التربية أو في غيرها، هو نظرة هذا الطرف وذاك إلى الإسلام، ذلك أننا نجد الموقف نفسه على وجه التقريب عندما يكون موضوع الحديث في السياسة أو في الاقتصاد أو في الفن أو في الأدب.. إلخ، فالناظر إلى الإسلام باعتباره علاقة خاصة بين الفرد وربه تتمثل في أداء العبادات، يرى بناء على ذلك أن المعاملات الدنيوية إنما هي شأن بشري صرف للإنسان أن يصرفه وفقاً لرؤاه وخبراته ومصالحه، متغير من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان.
وما هكذا تكون نظرتنا - مع ملايين من المسلمين - إلى الإسلام، تلك التي تقوم على اعتبار أنه "منهج حياة" إذ يتجاوز حدود الزمان والمكان في ثوابته المتفق عليها، يترك مساحات واسعة لإعمال الرأي والعقل وفقاً لمتغيرات الزمان والمكان بحيث لا تتعارض مع الأصول والثوابت.
من النشأة السوية إلى السكتة الفكرية
منذ أن نزل الوحي على الرسول e، مثل القرآن الكريم للخطاب التربوي الإسلامي ينبوعاً صافياً لا ينضب، ارتوى منه سنوات وعقود، بل وقرون، فاكتسب بذلك قوة نهوض تربوي شارك في النهوض الحضاري العام، ذلك أن القرآن الكريم نفسه، باعتباره كلام الله سبحانه وتعالى الذي نزل على رسوله محمد e كان كتاب هداية وإرشاد، تميز بمعمار لغوي فريد ينفذ إلى القلب، ويحشد الانفعالات والعواطف في الاتجاه الذي يريد، واختص بأسلوب معجز يستثير العقل، وينشط وظائفه لتنهض بالتفكير والتأمل والتحليل والاستنباط، فيجوب العقل آفاق الكون باحثاً مفكراً، وتضمن من الأفكار والقيم والتوجهات ما يشكل أعمدة بناء راسخات للشخصية المسلمة والمجتمع المسلم.
وانطلق رسول الله e يؤسس لخطابٍ تربوي يقوم على رحابة الأفق وسعة الصدر، يبث رحمة ورفقاً، يؤلف ويوحد ويربط، يوقظ ويحرك وينشط. كان يخاطب الناس على قدر عقولهم، ويتحسس الاهتمامات والاحتياجات، ويتجه إلى المصالح والضرورات، فإذا بهؤلاء الذين يبني شخصياتهم وقد أصبحوا نوعية جديدة من البشر تستعذب الشهادة في سبيل الله، لا تعرف قعوداً ولا خمولاً، تمضي على طريق الجهاد بكل المجالات: جهاد النفس، وجهاد الأعداء، وجهاد العمل والإعمال، وجهاد التمكين لدين الله على الأرض، وفي القلوب والعقول.
إن النجاح الذي حققه النبي e وتلامذته الكرام تبدى في تمكنهم بنصف قرن من الزمان أن يحرروا، ليس فقط أمتهم وعروبتهم، بل أن يحرروا نصف شعوب العالم، لا من الاستعمار العسكري فحسب، بل من الاستعمار والتخلف الحضاري والاقتصادي، ومن الخرافة والجهل، ومن أمية العلم والأخلاق وأمية الإنسانية، واستطاعوا بحقيقة الإسلام وبجوهره أن يتوصلوا إلى كل هذا. ولئن كان بعض القادة والملوك والرؤساء قد فتحوا، لكن فتوحاتهم كانت فتوحات اسـتعمار وتسلط وسلب ونهب وعدوان، ولم يفتحوا كما فتح المسلمون والعرب الأُول، فآخى خطابهم بين بني الإنسان من قلب الصين إلى المحيط الأطلسي.
وكان من الملاحظ على "الخطاب الإسلامي" في العهد الأول أنه يقوم على تفهم متعمق لحقيقة الإسلام الذي هو فقه القرآن وحكمته: ((يس A وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ)) (يس:1-2)، ((كِتَابٌ أُحْكِمَتْ)) (هود:1)، والحكمة هي الصواب في القـول والعمـل، إذا قال فإنه يقـول صواباً، وإذا عمل فإنه يعمل صواباً، والإنسان الذي يتأسى بخطوات النبي e في ميدان التعليم بهذه الثقافة السماوية التي صـدرت عمن فطر السموات والأرض وما فيها من نظام على أدق كمـال، لا يمكن أن يخفق، ولا يمكن أن ينهزم.
استمر هذا الأمر، بسرعات متفاوتة، وبخطوات متباينة عبر قرون عدة، رأينا فيها علماء يعرضون لقضايا ومسائل تربوية تسهم في البناء الحضاري، لكن ما كان يوجه من خطاب تربوى، اختلف من مدرسة إلى أخرى وفقاً لاتجاهات الفكر التربوي الإسلامي المعروفة، ألا وهي: الاتجاه الفقهي، والاتجاه الكلامي، والاتجاه الفلسفي، والاتجاه الصوفي، والاتجاه العلمي، والاتجاه الأدبي.
فقد كان "الخطاب الفقهي" يصدر من خلال مشكلات وتساؤلات يطرحها الناس، وبخاصة الذين كانوا يتلقون التعليم، وكان الفقهاء يسيرون في خطابهم كما يسيرون في المسائل الفقهية وفقاً لمنهج القياس، فيستندون بذلك إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، ويلتزمون، ويلزمون الناس بما يؤدي إليه القياس من نتائج ترتبت بالضرورة على المقدمات القائمة. ومن ثم فقد خضع "الخطاب التربوي الفقهي" لما تقلب فيه الفقه على وجه العموم من أحوال، بحيث ازدهر هذا "الخطاب" وقت ظهور المذاهب الفقهية الكبرى، وازدهار حركة الاجتهاد والتفكير، لكنه بدأ يشهد ضعفاً وتكراراً ونقلاً، عندما أصيبت الحركة الفقهية بعوامل الضعف المجتمعية العامة في عصور التدهور والاضمحلال الحضاري.
أما خطاب علماء الكلام، فعلى الرغم من أنه شارك الخطاب الفقهي في حمله بصمات البيئة الإسلامية، إلا أنه حصر نفسه في دائرة القائمين به، فأصبح خطاب صفوة مفكرة، تشغل نفسها بقضايا ومسائل تداعت إليها مناقشات وحوارات وجدال ابتعد عن هموم عموم المسلمين، ومن ثم لم يكن له أثر واضح على حركة التعليم الإسلامي. حتى مسألة مثل حرية الإرادة والجبر والاختيار التي تمس حياة الناس، فقد تعاملوا معها بالأسلوب الفلسفي الذي يستخدم من الكلمات والمصطلحات ما يرتفع على الفهم العام. بل إن اقتحامهم مناطق في "الخطاب" تعد محظورة، مثل الكلام في ذات الله، جر عليهم اتهامات مؤسفة، أبعدت عنهم جماهير غفيرة من المسلمين، وبالتالي حرمت بعض الناس من أن يبصر بعض النظرات التي توصلوا إليها، تعد من موقظات العقل.
ويزداد الابتعاد بالنسبة "للخطاب التربوي الفلسفي"، على الرغم من أن الذين قدموه ممن يوصفون بأنهم "أعلام الفكر الإسلامي"، مثل ابن سينا، والكندي، والفارابى، وإخوان الصفاء، وابن رشد، وغيرهم، ذلك أنهم تأثروا إلى حد بعيد بالفكر اليوناني وخاصة لدى كل من "أفلاطون" و"أرسطو"، فإذا بهذا "الخطاب" ينشغل بمصطلحات ومفاهيم من مثل العقل الفعال والعقل المنفعل، والنفس الناطقة والنفس النباتية.. إلى غير هذا وذاك من مسائل وقضايا، وهي جميعها لا تتصل اتصالاً مباشراً بحياة الناس وهمومهم اليومية، مثلما كان الأمر بالنسبة للخطاب الفقهي، فضلاً عن تعقيد في الأسلوب يرتفع بالخطاب فوق عقول حتى الكثرة الكبرى من المتعلمين. وزاد الطين بلة ما كان يجره التأثر بالفكر اليوناني الذي انطلق من منطلقات غير دينية، في شُبه مكنت الفقهاء من اتهام بعضهم بالخروج عن الدين، ولعل المعركة التي أشعـلها الإمـام الغزالي بكتابه (تهافت الفلاسفة) أشهر العلامات على ذلك، ورد ابن رشد عليه بكتابه (تهافت التهافت).
أما "الخطاب الصوفي"، فقد كان بحكم منطقه عصياً على التداول، إذ لم يكن مجرد خطاب للقراءة، بل دعوة إلى الانخراط في سلك الممارسات الصوفية، والتي هي بدورها عصية على الكثرة الغالبة من الناس، سواء في صورتها السوية من تقشف وزهد، أو في صورتها المرضية المتمثلة في "الطرق" المنحرفة. وكان من العسـير لأحد مناقشة هذا "الخطاب" لأنه لا يقوم على قضايا منطقية عقلية، يمكن أن يشترك في رؤيتها عدة أشخاص، بل على "أذواق" خاصـة، تقتصر دائرتهـا على من يمر بخبرتها وحده، وفقاً للمنطـق الذي يحمـله القائل: إنه لا يدرك الشـوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها (والقياس مع الفارق). أما الغمـوض، فحدث ولا حرج. وزد على هذا وذاك ما سار إليه بعضهم، مثل الحلاج وابن عربي من خطوات باعـدت بينهم وبيـن صحيح الدين كما فهمه السلف وتفهمه الكثرة الغالبة من المسلميـن، ومن قضايا ومسائل بعيدة تماماً عن حياة المسلمين.
ولا نستطيع الزعم بأن كلاً من الاتجاهين، العلمي والأدبي، كان لهما "خطاب تربوي"، بحكم أن لهما مجالات أخرى غير المجال التربوي، لكننا يمكن أن نرجح أنهما أمدا "الخطاب التربوي الإسلامي" ببعض الدعائم المهمة من مجالين احتاج "الخطاب التربوي الإسلامي" إليهما:
فمن ناحـية، كنا نلمـس أن "الخطاب التربوي" غالب عليه - عند عدد غير قليل - طابع الوعظ والإرشاد، حتى أنه تحول عندهم إلى قوائم من النصائح، دون أن يستند ذلك إلى أسـانيد منطقية وبراهين عقلية، فضلاً عما تتطلبه النصائح من قصر، فإذا بالموضوع لا يستوفي حقه من التحليل والنظر والتأمل، فإذا بالاتجاه العلمي، كما تبدى عند الكثرة الغالبة ممن اشتغلوا بالطب والفلك والرياضيات والجغرافيا والكيمياء والفيزياء، يؤكد على مسائل على درجة عالية من الأهمية مثل: الملاحظة الحسية، والمشاهدة التجريبية، وكذلك على ضرورة النقد والفحص، وأهمية عدم التسليم بما قد نجده مكتوباً من كتب السابقين مهما علا قدرهم واتسع نطاق شهرتهم. وما لا يقل عن ذلك أهمية، التركيز على وظيفية المعرفة في الحياة العملية.
ومن جهة أخرى، قد تبدو، مقابلة للاتجاه العلمي، ما كان للاتجاه الأدبي من أثر، فمن المعلوم أن العرب بصفة عامة أهل أشعار ونثر أدبي عالي المستوى، تهزهم العبارات ذات الرنين اللفظي الحسن، والتشبيهات والتورية والمجاز، ومن هنا فإن من يستقرئ الأشعار العربية، والأمثال، والحكم، لابد أنه يجد نظرات تربوية، تنفذ مباشرة إلى عقل وقلب السامع أو القارئ بحكم شكلها وصياغتها، حتى أصبح تقليداً التعقيب على كثير من المواقف التي تتضمن تربية، بقول شاعر أو بحكمة أو بمثل.
لكن الخط البياني الهابط للحضارة الإسلامية منذ أواخر العصر الممـلوكي، والذي انتهى بالفتح العثمانـي، أصـاب "الخطاب التربوي" بما يمكن وصفه "بالسكتة الفكرية" قياساً على هذا الذي يوصف "بالسكتة الدماغية" أو "السكتة القلبية"، فقد توقف الاجتهاد التربوي في الغالب والأعم، وتحولت معظم الخطابات إلى إعادة وتكرار لما سبق، وشروح وتعليقات، دون أن يخطو الخطاب إلى أمام، أو يقف مما يشرح ويلخص موقف نقد ومقارعة.
وإذا كان التدهـور الذي أصـاب الدولة المملـوكية يمكن أن يفسر ما أصاب "الخطاب التربوي الإسلامي"، حيث من العسير أن يكون هناك نـهوض تربوي، في بنية مجتمعية أصيبت بالتخـلف والجمود، إلا أن المرء ربما يعجب متسائلاً: وكيف اسـتمر الخطاب التربوي - على وجه التقريب- في جموده وتخلفه، إذا كانت دولة جديدة قد نهضت واشتد ساعدها، واستطاعت أن تمتد بالإسلام إلى أراض جديدة على الأرض الأوربية وأبرزها فتح القسطنطينية ؟
الحق أن هذا ربما يجرنا إلى حديث طويل بعض الشيء عن الدولة العثمانية، تلك الدولة التي تختلف حولها الآراء، لكن هذا يمكن أن يخرجنا عن مجالنا، وغاية ما يمكن الإشارة إليه أمران:
أولهما: أن الدولة العثمانية ربما هي الدولة الكبرى الوحيدة من بين كل الدول الإسلامية السابقة لم يتعرب لسانها، والعربية هي وعاء الثقافة الإسلامية، والحبل السّرى الذي يربط بين المتعلم وبين أصول هذه الثقافة، والوعي بهذا هو المقدمة الأولى بطبيعة الحال لمن أراد الكتابة والتأليف. صحيح أن البلدان التي تعربت، وفي مقدمتها البلدان العربية ظلت عـلى عربيتها، لكن الكثرة الغـالبة عادة ما تنظر إلى ما تكون عليه طبيعة سلطة الحكم وتوجهها، مما يؤدي إلى إضعاف الجهد الفكري على طريق العربية.
من جانب آخر، فإن الطابع الذي غلب على هذه الدولة هو السياسة والحرب، خاصة وأنها قد جاورت وتداخلت في العمق الأوربي الذي ما كان له أن ينسى أبداً هزيمته من الدولة العثمانية، وعشرات السنين من الحروب المسماة بالحروب الصليبية، فمثل هذا الموقع وذاك الموقف كان قميناً بأن يجعل العثمانيين في حالة تأهب واستنفار، سياسياً وعسكرياً.
وربما تشابهت الدولة العثمانية في ذلك مع الدولة الرومانية من قبل، حيث كان لها تفوقها البارز على الساحتين: السياسة والحرب، بينما ظلت معتمدة على الثقافة الإغريقية السابقة عليها.
ومنذ ما يقرب من ثلاثة قرون من الزمان أخذت كثرة من البلدان الإسلامية تسقط واحدة تلو الأخرى تحت براثن قوى هيمنة وتسلط واستغلال جاءت من الغرب، حيث وجدت الطريق أمامها يكاد أن يكون ممهداً بفعل ما كانت عليه البلاد الإسلامية من تخلف حضاري، وكأن السنة الإلهية المعروفة في حركة الرياح هي نفسها السنة الإلهية في حركة الحضارات، فكما أن الرياح تهب من مناطق الضغط الجوي المرتفع إلى مناطق الضغط الجوي المنخفض، كذلك فإن الحضارة تهب من البلدان المتقدمة على البلدان المتخلفة.
لكن الأمر لم يقف عند هذا الحـد، وإلا اعتبـرناه حركة محمودة، وإنما صاحبه وواكبه حركة احتلال عسكري، واستغلال اقتصادي، وقهر سياسي، وعدوان وعنف وسعي حثيث نحو التفتيت والبطش والاسـتبداد، مما ترتب عـليه أن طال أمد التخلف واستفحل أمره حتى تجذر، وخُيِّل إلى بعضهم وكأنه أصبح أمراً ملازماً لطبيعة شعوب المنطقة.
وإذا كان التخلف يقاس بمظاهر ومعايير كثيرة أهمها ضعف مستوى الإنتاج وأدواته ومعدلات نموه، وغلبة الاقتصاد التقليدي، وضآلة قطاع الصناعة، ومعيشة الأغلبية العظمى من الناس على الزراعة وما يتصل بها من رعي وصيد، وانخفاض الدخل، وتواضع الخدمات والرعاية الاجتماعية، وعقم النظم الإدارية وما يتصل بها من قوانين ولوائح، وهزال هياكل الإنتاج وبناه التحتية من وسائل نقل ومواصلات وقوى محركة، وتسلط العادات والتقاليد البالية والأفكار العتيقة... إذا كان التخلف يقاس بهذا كله وغير هذا كله، فإنه في الأول والآخر - بل قبل هذا وبعد هذا - هو تربية المجتمع وتربية الفرد الذي يقصر علمه وخلقه وإيمانه وعمله وعلاقاته عن مواجهة تحديات الحياة، وعن استثمار إمكانات عقيدته وطاقات بلاده وقدراته الشخصية لمصلحة الأمة إلى أقصى حد ممكن.
التحديث بالانقطاع والسقوط في جُبّ التبعية
لكن القرن الثامن عشر إذ آذن بالمغيب، على ما كان فيه من استمرار حالة التخلف والجمود، كان من الضروري "للخطاب التربوي" أن يمر بمرحلة مخاض جديد، خاصة وأن "الخطاب الديني" كان أكثر أشكال "الخطاب" إحساساً بما تردت إليه أحوال الأمة، وبالتالي بداية تحرك نحو صـورة من صور اليقظة، وشكلاً من أشكال النهوض.
لقد شاع في كثير من الكتابات العربية أن مجئ الحملة الفرنسية على العالم العربي عام 1799م كان إيذاناً بحركة نهوض وتحديث، لكن هذه المقولة تحمل بعض الحق لا الحق كله، ذلك أن عالمنا العربي والإسلامي قد شهد بدايات دعوات من نفر من المصلحين والمجددين عبروا عن وعيهم بأن ما وصلت إليه الأمة من تخلف، لن نستطيع التخلص منه إلا بتجديد فكرنا الديني ونفض ما علق به من بعض أوهام وخرافات، ولعل أبرز ما يمكن الإشارة إليه هنا هو دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في شبه الجزيرة العربية، حيث عرفت طريقها قبل أن تطـأ الحملة الفرنسية أي أرض عربية أو إسلامية.
ولسنا في حاجة إلى بيان تلك العروة الوثقى بين "حال" الخطاب التربوي، و"حال" الأمة، حتى ليمكننا أن نسجل معترفين بأن الثاني هو المتغيـر المستقل، والأول هو المتغيـر التابع، إذا أردنا التشـبيه بلغة التجريب العلمي.
ومن ثم فإن ما شهدته المنطقة العربية من بدايات نهوض فكري وخطوات تطوير في بعض جوانب المجتمع في أوائل القرن التاسع عشر، كان لابد أن ينعكس بدوره على "الخطاب التربوي"، من حيث ما وضعه من بذور إحياء لهذا "الخطاب".
لكن المشكلة الكبرى التي برزت حقيقة وأثرت تأثيراً خطيراً على مسيرته، أن الحملة الفرنسية العسكرية، وما سار مسارها على أنحاء أخرى من العالم الإسلامي وضع الأستار والحواجز أمام دعوات النهوض والإصلاح التي كانت قد بدأت في الظهور من قبل، وإذا بالقادة في مناطق مهمة يعتمدون اعتماداً رئيساً على المصادر الأوربية في التطوير، على أساس ما تم ترويجه من أن النهوض لن يكون إلا بأن نكون مثل الأوربيين.
وشهدت كل من مصر وسوريا ولبنان بصفة خاصة في النصف الأول من القرن الثامن عشر ظهور نظام تعليمي على النمط الأوربي الحديث، أملاً في اللحاق بالأمم المتقدمة في أوربا، بينما ظلت المعاهد الدينية على حالها من الجمود والتخلف.
وتبع ذلك أن بدأ "الخطاب التربوي" يتغـذى من مصادر أوربية، كما رأينا في كتابات رفاعة الطهطاوي، خاصة وأن أول معهد متخصص لإعداد المعلم في العالم العربي أنشئ عام 1880م في القاهرة، على يد مرب سويسري، بل لقد كان التعليم لمن يعدون لمهنة التدريس يقدم باللغة الفرنسية، ثم غلبت عليها اللغة الإنجليزية بعد ذلك بحكم ما آلت إليه مصر من وقوع تحت براثن الاحتلال البريطاني بدءاً من عام 1882م.
وهكذا غلب التوجه الأوربي على "الخطاب التربوي" في هذه البلدان التي شهـدت حركة نهوض وتحديث، وهي بالأخص مصـر، والشـام، بما فيها من بلدان: سوريا، ولبنان، وفلسطين، وإذا قلنا التوجه الأوربي فإن هذا كان يعني ما ينتمي إلى الثقافتـين الفرنسـية والإنجلـيزية، على اعتبار أن كلاً من فرنسا وبريطانيا هما اللتان كانتا مهيمنتين على هـذه البلدان العربية الإسلامية.
ولم يحاول أحد، مع الأسف الشديد، أن يمد يده إلى الموروث الحضاري الإسلامي بحثاً عن الينابيع الإسلامية للتربية، على الرغم من استمرار وجود مؤسسة راسخة مثل الأزهر في مصر، وغيره من مؤسسات التعليم الديني في البلدان الإسلامية الأخرى، نظراً لسيادة اعتقاد استمر طويلاً، وهو أن من يُعد كي يمارس مهنة التدريس، يكفيه أن يتقن المادة العلمية التي سوف يدرسها، ولم يكن الوعي قد توافر بعد داخل مؤسسات التعليم الديني الإسلامي بالتأهيل المهني، بالوقوف نظرياً وعملياً على "كيفية" تعليم هذه المادة العلمية المتخصصة من خلال دراسة لعلوم التربية وعلم النفس.
وهكذا تبع "الخطاب التربوي" لدى الكثرة الغالبة من المربين في البلدان العربية خاصة، ما تصير عليه الحالة السياسية لكل دولة، فلما كانت الكثرة الغالبة من الدول العربية قد وقعت تحت نير الاستعمار الأوربي كان "الخطاب التربوي" العربي إما إنجليزياً أو فرنسياً فيما يستخدمه من مصطلحات، وما يستخدمه من طرق وأساليب، وما يسير عليه من توجهات. وأما البدان التي لم تقع في براثن الاحتلال الأوربي، فإما أن "الخطاب التربوي" فيها لم يكن بشكل يحمل أبسط مقومات "الخطاب"، أو أنها، بعد فترة، عندما بدأت في النهوض، وجدت نفسها تقلد من سبقوها، فتقع هي أيضاً في نفس الإشكالية التي تجعل منها مرددة لما يقال في مكان آخر مغاير، بغير نقد وابتكار.
والأمر المثير للدهشة حقيقة، هو أن معاهد التعليم الديني الإسلامي إذا كانت قد غفـلت عن الجهـود التربوية الإسـلامية كما تبدت لـدى الأسـلاف من علمـاء الأمـة، إلا أن كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله e ظلا في أيدى المتعلمين من المسلمين الذين يمارسون مهنة التدريس، وما فكر أحد في أن يستنبط من هذين النبعين الرئيسين مقومات أساسية يمكن أن يقوم عليها "الخطاب التربوي" في بلداننا.
ومن الملاحظ أنه مع انتصار حركات التحرير على مدى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وانحسار الاستعمار بشكله العسكري السياسي المباشر، ومع ظهور دول الاستقلال الوطني وأنظمته وحكوماته، ومع فرحة النصر والسيطرة على الذات والشعور بامتلاك المستقبل، ومع كل ذلك، بدا لنا، أن مرحلة من تاريخ البشر قد زالت وانتهت، وأن مهمتنا الجديدة في المرحلة التالية، نحن دول الاستقلال الوطني هي "اللحاق بالركب" وبناء مجتمعاتنا على أفضل صورة يعرفها عالم اليوم من الرخاء والتقدم، ووضعنا حاضر دول الغرب صورة لمستقبلنا ومعياراً لتقدمنا.
هنا بدأ المعيار التاريخي ومعيار التقويم الحضاري يتوحد مع وعي الثقافة السائدة، وقبلت نظم الاستقلال الوطني وحركاته في تلك الفترة، وبغير تحفظ كبير، أن يتحول وعينا من موقف المواجهة في التعامل مع مستعمرينا السابقين، إلى موقف التتالي والتعاقب معهم، وساد منظور للعالم بحسبان أن مجتمعاته جميعها تقف على سلم صعود واحد، وأنها لا تختلف إلا في درجة الارتقاء على هذا السلم، وظهر مصطلح الدول المتقدمة والدول المتخلفة، ثم خفف هذا اللفظ الأخير فصار "الدول النامية" أو التي في طريق النمو.
بهذا المنظور تعدل في وعينا التصنيف الذي كان قائماً عندما تعلق بغازٍ ومغزوٍ، أو بمستعمِر ومستعمَر، فصار يتعلق بمعاصر ومتخلف. كان التصنيف الأول يفيد تبادلاً في السببية، فكان سبب التبعية هو المتبوعية، وسبب ضعف أحد الطرفين هو غلبة (الآخر) له، أما في المنظور الجديد، فقد افتقد هذا التبادل السببـي، وارتدت السببية إلى الذات، وقامت العلاقة بين النامي والمتخلف، لا على أساس تبادل السببية الذي يقتضي الابتعاد عن الطرف (الآخر)، وفك الاشتباك، ولكن على أساس تقويض ما في الذات من عناصر تعوق سعينا في التشبه بالدول المتقدمة، ولذلك تحولنا من موقف "فعل الضد" الذي يقتضيه الصراع، إلى موقف "فعل المثل" الذي يوجبه تحقيق المثال، ومن السعي للمخالفة إلى السعي للمشابهة، ومن التبعية إلى الاتباع، وصار بأسنا بيننا بعد أن كان بأسنا على غيرنا.
وبعد أن سار كل من النقل والعقل في تكامل أنتج حضارة إسلامية زاهية، إذا بعصور الضعف والتخلف تكشف عن جمود العقل المفكر والفعال، وسيادة النقل الآلي في مجتمع خامل، وكان نقلاً سلبياً لا يميز بين صحيح وفاسد، بين مقبول ومردود.
وكان طبيعياً أن يؤدي الفكر النقلي الخامل إلى الانشداد إلى "الماضي"، فيعيـش العقل المسلم حالة اجترار فكري لمنقولات أثرية تقادم بها العهد، ولم تعد في عدد من عناصرها صالحة في أزمان تغيرت في كل شيء (باستثناء جوهر العقيدة وأصول الشريعة).
ونظراً لتغيب العقـل الفعال المستنير عن الحياة الفكرية، وشيوع النقل والتسـليم بالمنقول أيَّا كان بغير تحليل وبرهان، تسربت إلى الفكر خرافات وتقاليد أحلتها أجيال محل الحقائق، وتناقلتها خالفاً عن سالف.
لكن الله عز وجل وفَّق بعضاً من أبناء الأمة، أن يتنبهوا، وينبهوا "الغير"، إلى أن "الخطاب التربوي" الذي ينتجه مربو هذه الأمة ويتلقاه أبناؤها لابد أن يحمل بصمة العقيدة الإسلامية، فبدأت جهود على هذا الطريق، وإن جاءت بطيئة وعلى استحياء، يفصل بين الخطاب منها والآخر فترة زمنية غير قصيرة، كما رأينا في رسالة أحمد فؤاد الأهواني عن التعليم في رأي القابسي، وأحمد شلبي عن تاريخ التربية الإسلامية، وغيرهما.
ويمكن أن نعد السـبعينيات من القرن الماضـي هـي فترة الانطلاق حقاً لهذا "الخطاب التربوي الإسلامي"، خاصة وأن هذا جاء مصاحباً لحركة صـحوة عامة تنامت بسرعة ملحوظة في مختلف الأقطار.
ورغم مثل هذه الجهود، وغيرها، مما بذل في السنوات الأخيرة، على مستوى الفكر والواقع سعياً نحو النهوض، ظلت البلاد الإسلامية مستهدفة بالتعويق تارة، وبالحصار تارة أخرى، وبمعاودة العدوان المسلح تارة ثالثة، ورغم أن المسلمين كانوا ضحايا الظلم والعدوان من كل ناحية، إلا أنهم كانوا أيضاً عرضة لتشويه سمعتهم وتلويث سيرتهم أمام الأمم.
لقد أصبح خطابهم هو أسوأ الصفحات في عالم اليوم، وشخصية المسلم، التي هي نتاج "الخطاب التربوي"، على مستوى النظر والفعل، تصوره وسائل الإعلام في أيامنا هذه دائماً وبشكل مستمر على أنه عدواني، مخرب، مخادع، مستغل، قاس، متوحش، متمرد، إرهابي، همجي، متعصب، متحجر الفكر، متخلف، سقيم الرأي. كما أن العالم الإسلامي في نظرهم ليس إلا مكاناً للصراع الداخلي والانقسامات والاضطرابات والتناقضات، وهو عندهم مصدر تهديد للسلام العالمي ومكاناً يجمع بين الثراء الفاحش والفقر المدقع، وبين المجاعات والأوبئة.
نقد الخطاب الإسلامي التربوي المعاصر
وقبل أن نبحث عن الدور الذي ينبغي أن يقوم به "الخطاب الإسلامي التربوي"، من الضروري أن نقوم بعملية فحص واختبار لهذا "الخطاب" لنكشف عن مـدى قدرته على الفعل وأهليته للقيام بما هو مأمـول منه، وهنا يمكن أن نجد عـدداً من السـلبيات التي لا ينبغي أن نغض الطرف عنها، من خلال عملية نقد للذات التربوية، فالتشخيص هو الخطوة الأساسية لسلامة العلاج.
- فإذا كانت السبعينيات قد مثلت حركة نهضة ملموسة في البحث التربوي الإسلامي، بعد أن كانت الأعمال التربوية الإسلامية تعد على أصابع اليدين طوال الحقب السابقة، وإذا كنا قد رأينا هذه الحركة تتنامى عاماً بعد عام، بل وشهراً بعد شهر، لكن هذا النهوض التربوي بدأنا نلمس تراجعاً واضحاً له منذ أواسط الثمانينيات على وجه التقريب، مما يشير بأصبع اتهام إلى جهود عدد غير قليل بأنها ارتبطت بالحقبة النفطية أكثر من ارتباطها بحماس قلبي واقتناع عقلي "بالخطاب الإسلامي التربوي"، خاصة وأن كثرة من الأعمال التربوية الإسلامية قام بها باحثون كانوا يعملون في دول نفطية عربية، يغلب على توجه الثقافة فيها التوجه الثقافي الإسلامي. وربما يضاف إلى بطء، وربما تراجع "الخطاب التربوي الإسلامي" بعد الثمانينيات ما تعمد إليه بعض النظم من تقليص لمساحات العمل الديني تحت وهم أن ذلك من شأنه أن يجفف ينابيع الإرهاب !!
- وكشف استقراء كثير من الأعمال العلمية في هذا المجال عن نقص واضح في الأهلية العلمية للمجاهدة البحثية، فلم يكن بالجمهرة الكبرى من كليات التربية في العالم الإسلامي أي برنامج لإعداد الباحث العلمي في التربية الإسلامية، ومن ثم فقد امتلأ سوق الكتابة بإنتاج فئتين : فئة تملك الكثير من العلم التربوي والنفسي، لكنها تفتقد الكثير من العلم الشرعي، مما جعل خطابها وكأنه يقف عند حد إنزال القبعة من على رأس "خواجة" ليضع عليها عمامة إسلامية. والفئة الأخرى، امتلكت الكثير من العلم الشرعي، لكنها افتقدت الكثير أيضاً من العلم التربوي والنفسي، مما جعل خطابها يميل إلى الصيغة الوعظية الخطابية، مختلطاً بمهمة الدعاة الدينيين. ومن المؤسف حقاً أن الكثرة الغالبة من الكتابات التربوية الإسلامية هي من هذين المصدرين.
- وافتقدت نماذج متعددة للخطاب التربوي المنهجية البحثية العلمية التي تمكنها من الإضافة الفكرية والعلمية وتكشف عن المجهول، وتحيي الموروث التربوي، وتخضعه لمحك النقد، وتسلط الأضواء على العلل المفسرة والقوى المحركة، وتقتحم المشكلات، وتتطلع إلى المستقبل. وعزز من هذا المقولة المسيطرة بأن المنهجية البحثية أداة محـايدة، فالمنهج التجريبـي، مثلاً، والمنهج التاريخي، هما في مختلف الحضارات لهما نفس المدلول، ويقومان بنفس الوظيفة المنوطة بكل منهما، دون أن ينتبه كثير من التربويين إلى المنهج الأصولي الذي مكن علماء الفقه والشريعة من أن ينتجوا بناءً فكرياً علمياً هو الذي يعد بالفعل أروع ما أنتجه العقل الإسلامي في عصور الازدهار الحضـاري، والذي يشـكل الإبداع الحقـيقي للعـقل الإسلامي، وقد استخدمه بالفعل مربون مسلمون، مثل (القابسي) و(ابن سحنون) و(ابن جماعة) و(الزرنوجي) وغيرهم، وأتاح لهم إنتاجاً فكرياً تربوياً إسلامياً أصيلاً. وإن كان هذا لا يحجب عن أذهاننا بداية جهود لبعض الباحثين في مواطن متفرقة من العالم الإسلامي في عصرنا الحاضر على طريق هذا المنهج.
- وانطلق كثيرون إلى "الماضي الإسلامي" متصورين أن جهدهم العلمي يكون بالكشف عن إنجازاته الحضارية، مؤكدين أن صلاح التربية والتعليم إنما يكون بالعودة إلى مثل هذا الماضي. والحق أن الاهتمام بالموروث الحضاري على وجه العموم فريضة أساسية، وخاصة في بدايات النهوض الحضاري، حيث يتجه الجهد الفكري إلى استيعاب خبرة الماضي منطلقاً بذلك إلى هدفين: أولهما أن يكتسب ثقة في الذات تؤهله أن ينهض ويتابع السير، والآخر أن يكتسب خبرة من هذا الماضي يمكن أن يبني عليها في الحاضر والمسـتقبل. فإذا أضفنا إلى هذا وذاك، ما تعرض له العالم الإسلامي - ولا يزال - من حرب ضروس تستهدف كيانه الذاتي، تبين لنا لماذا هذا الحرص على استيعاب الماضي وكأنه سفينة نجاة وسط بحر متلاطم الأمواج. ومع الوعي بهذه الحقيقة، لكن هناك ضوابط متعددة سوف نأتي لذكرها في جزء تال، لكن ما نود أن نشير إليه هنا هو ما شـاب كثيراً من هذه الجهود من ميل واضح للانسحاب إلىلماضي، لا الاستدعاء له، والفرق بين الحالتين، أن الباحث في الحالة الأولى يجعل من الماضي حكماً على الحاضر، وفي الحالة الثانية يجعل الحاضر حكماً على الماضي، مع الأخذ بعين الاعتبار ما سوف نوضحه فيما بعد من التفرقة بين ثوابت "الخطاب الإسلامي التربوي" ومتغيراته.
- واتسمت المعالجات التاريخية الماضوية للموروث التربوي الإسلامي بانطلاقها من عين الرضا التي هي عن كل عيب كليلة، عاكسة بذلك تصوراً يصعب تقبله، وهو أن هذا الموروث كان مبرأً تماماً من أية سلبيات، فإذا بالأعمال العلمية تبرز الصفحات البيضاء، متغافلة عن أن القمر إذا كان له وجهه المنير، فله أيضاً وجه مظلم، والاعتراف الذاتي بالعيوب وصور الخلل والسلبيات هو صورة من صور الثقة بالنفس، والصدق مع الذات ومع الآخرين، وخطوة مهمة على طريق التصويب والإصلاح، وأن يأتي النقد وكشف السلبيات على أيدينا أفضل مائة مرة عن أن يأتينا على يد الأغيار. كذلك فإن شيوع هذه النـزعة في التعامل مع الماضي يمكن أن ترسخ في العقل التربوي المسلم النـزعة الأحادية في التفكير، تلك النـزعة التي تغفل أن لكل موضوع جوانب متعددة، وأن الآراء والمواقف إزاءه يمكن أن تتعدد وتختلف، وأن الحوار بينها هو الطريق الأصوب للوصول إلى أقرب نقطة ممكنة من الحقيقة.
- وأعجب ما رأيناه حقاً هو هذا الغرام الواضح لدى بعضهم في تضمين خطاباتهم مقارنات لا تتفق ومنطق "الخطاب العلمي" في عمومه، مثل مقارنة ما قال به هذا الفيلسوف أو ذاك من فلاسفة التربية الغربيين بآخر من مفكري التربية الإسلامية، ووجه الخلل هنا أن المنطلق مختلف تماماً بين الاثنين، فواحد ينطلق من عقيدة دينية وآخر من منطلق وضعي خاص به هو، والبيئة متباينة تبايناً تاماً، بل وهـناك أيضاً تباين واضـح في الأزمنة، ونجد أنفسـنا على علم مسبقاً بالنتيجـة، وليس هـذا مما يتفق مع المنهجية العلمية التي تكشف عما لم نكن نعرفه. وفضلاً عن ذلك فإن هذا يحمل في طياته أننا نزن (الآخر) بمعاييرنا نحن، وإذا كان هذا جائزاً بالنسبة لنا، فلابد أن نجوزه أيضاً بالنسبة (للآخر)، أي أن يحكم علينا وفقاً لمعـاييره هو، مما يجعل إمكانات التوافق والحوار شبه مستحيلة، وهو ما يطلق عليه حقاً "حوار الطرشان" !!
- وحرص كثيرون فيما يسوقونه من أفـكار تربوية على المقارنة بين ما جاء في المصادر الإسلامية وما جاء في المصادر الغربية، مؤكدين بطبيعة الحال على تفوق الأولى على الثانية وأسبقيتها. ووجه الخطأ هنا، أن القائلين بهذا، وبحسن نية، يجعلون من العمل التربوي الغربي جواز المرور للعمل التربوي الإسلامي، وهو الأمر الذي يقف على طرف نقيض من النـزعة التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، ومن ثم يقع العقل المسلم في تناقض مع الذات، فإذا وجدوا، على سبيل المثال أن "إخوان الصفا" قد قالوا بأن الإنسان يولد وعقله صفحة بيضاء، سارعوا إلى القول بأنهم بهذا قد سبقوا الفيلسوف الإنجليزي "جون لوك". ودون أن ندخل في النوايا، فهم قد عرفوا ما كتبه "لوك" أولاً، ثم راحوا يبحثون في التراث التربوي الإسلامي، حتى إذا وجدوا له مثيلاً سارعوا بقول ما يقولون!
- ومن سلبيات الاقتصار، في الغالب والأعم، على الاهتمام بالموروث التربوي، الانسحاب من الاشتباك مع هموم المسلم المعاصر، فكأن الجسم موجود في القرن الحادي والعشرين، أو القرن الخامس عشر للهجرة، والعقل سابح في قرون سابقة خلت، لكن: ماذا يفعل الشباب إزاء ما يصيب بنية القيم من خلل نتيجة هذا الاكتساح المحيط بنا من كل جانب من مؤثرات الثقافة الغربية ؟ وما الواجب عمله إزاء ما فرضته ظروف كثيرين من غياب للأب والأم عن المنـزل، وما تركه هـذا من آثار على بنـية الشخصـية للأبناء؟ وما العمل في ارتفاع كلفة التعليم على الفرد وعلى الدولة؟.. إلى غير هذا وذاك من قضايا ومشكلات تؤرق مضاجع المسلمين في كل مكان في عصرنا الحاضر، وللأسف الشديد، قلما يتصدى "الخطاب التربوي الإسلامي" لها.
- ويرتبط بهذا، الغياب الواضح للأفق المستقبلي عن "الخطاب التربوي" وكأن هناك خصومة بين التفكير من منطلق إسلامي وبين الاستشراف المستقبلي. ولقد عزز من هذا بعض المقولات الخاطئة التي فسرت ضرورة التوكل على الله، وعلى مبدأ الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، بأنه من العبث التفكير في المستقبل على أساس أن "المستقبل بيد الله"، وتلك حقيقة، لكن المقولة الشعبية تنطق بقدر غير قليل من الوعي عندما تقول "الرب في التدبير والعبد في التفكير"، فمسؤولية العباد في التحسب والتفكير لا تناقض أبداً الإيمان بالقضاء والقدر؛ والدعوة للمسلم بأن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غداً، هي تأكيد على التحسب في العمل المستقبلي وعدّ العدة له.
- و"الخطاب التربوي الإسلامي" أحياناً ما يقع في جب النبرة الانفعالية والأساليب اللغوية التي تميل إلى المحسنات البديعية والتراكيب اللفظية ذات الرنين العالي، وكثرة استخدام أفعل التفضيل والتعميمات الكاسحة، فهذا رأي - مثلاً - أعظم ما كتب في الموضوع، وتلك الفكرة لم يسبق لأحد أن قال بمثلها أبداً، وذلك عمل هو أروع من أن يتصـوره أحد.. وما سار على هذا المنوال، أما تلك الكلمات والعبارات التي تميل إلى استخدام : "ومن المرجح أن.."، و"ربما يكون هذا.."، و "هناك احتمال بأن..."، وندرة استخدام كلمة "قد" التي لا تقطع تماماً، كل هذا قلما يرد على ألسنة من يصدرون "الخطاب التربوي الإسلامي".
- و(الآخر) التربوي غير مقروء كما تشير بعض الخطابات، فهذا يتحدث عن نقد لمقولة ماركسية، فلا يرجع إلى مصادرها على أساس أنها تنطق بكفر، ويعتمد على مصدر إسلامي، وعندما أسأله، أن هذا المصـدر غير محايد في معرفة ما قاله الماركسيون، يصر على ما يفعل، فكأنه يخشى الإطـلاع على (الآخر) حتى لا ينبهر به ويتأثر، وهذه صورة من صور ضعف الثقة بالذات. وهذا لا يرى فيما يقولـه (الآخر)، أياً كان، أي خير، ما دام غير مسلم، أو ما دام مسلماً علمانياً !! والحق نقول: إن كثرة من "الآخرين" يقعون هم كذلك في نفس الخطأ، لكننا نشدد على المسلم بصفة خاصة؛ لأن واجبه أثقل ومهمته أعظـم، مما يفرض عـليه أن يكون قـدوة ومثلاً ونموذجاً.
- وهناك من يشعرك خطابه بأنه يكاد يلوي ذراع النصوص حتى تتفق مع ما يريد أن يؤكده من العصرية والمناسبة في النص الإسلامي للعمل به في حاضرنا، وكذلك هناك من يضع عبارات حديثة لم تظهر إلا منذ سنوات قليلة ليوحي أن الوعي بها كان متوافراً، فهذا يكتب عن "التخطيط التربوي في عهد الرسول e"، علماً بأن التخطيط التربوي له مفاهيمه وقواعده وأساليبه المتفق عليها بين العلماء المتخصصين، ولا يشين عصر الرسول e بأي حال من الأحوال ألا يكون فيه تخطيط تربوي بهذا المعنى المعاصر، لكن هذا النفر "يُقول" الأحداث بغير ما قالت. وآخر ينبهر بالمنجزات التكنولوجية المعاصرة، ويتصور أن عظمة الحضارة الإسلامية تربوياً لابد بناء على ذلك أن يكون لها باع في مجاله فيجـهد نفسه في تحميل الوقائع أيضاً ما لا تحتمل ليؤكد أن قد هناك في هـذا الفترة أو تلك تكنولوجيا تعليمية، أو أن هذا النص يشيـر إليها، وهو إنما يريد الإشـارة إلى "وسائل تعليمية" أو "وسائل إيضاح"، وفرق كبير بين الأمرين، فالوسائل موجودة منذ أن وجد الإنسان على سطح هذه الأرض.
- ويفتقر "الخطاب التربوي الإسلامي المعاصر" من خاصية مهمـة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنـزعة العلمية ألا وهي "الجماعية" أو "عمل الفريق". وإذا كان من المشهور في دائرة العلوم الإنسانية أنها في جانب منها تعبر عن الذات، والأسلوب الخاص، والفلسفة المتبناة من قبل الكاتب، إلا أن المجال التربوي بصفة خاصة يحتاج إلى مثل هذه النظرة الجماعية، بمعنى "جمع من العلماء"، دون أن نقصد "الإجماع"، فهذا يكاد أن يكون من المستحيل. ولا شك في أن العمل الذي يقـوم به فريق يحمل من الحق والصـدق ما أهو أكثر مما يحمله عمل الفرد الواحد، من حيث تعدد زوايا الرؤية، والتنوع الفكري، وكثرة الطاقات وفاعليتها، دون أن نقلل هنا من قيمة بعض الأعمال الفردية التي تصدر عن علماء ومفكرين يتسمون بالتميز بحيث يمكن أن تحظى آراؤهم بقدر كبير من القبول من الجماهير ذات الاهتمام بقضايا التربية.
- وهناك الخلل في ترتيب الأولويات، ومن أمثلة ذلك أن يسوي الداعية في الإلحاح والتشديد بين أمور تتفاوت أهميتها وخطورتها في نظر الشارع ونظر الناس على حد سواء: أليس غريباً، على سبيل المثال، أن يطيل بعض الدعاة الحـديث عن النهي عن قضـايا جزئية خلافية، وألا نرى منهم نفس الاهتمام والحماس حين يتصـل الأمر بقضايا الحرية أو الشورى أو العدل أو توزيع الثروات وتحديد أجور العاملين؟! نقول هذا دون أن نقصد بأي حال من الأحوال سخرية وتقليلاً من هذا وذاك، لكننا نقصد ترتيب أولويات تحكمه عوامل متعددة.
- ويخضع "الخطاب التربوي" كذلك، شأنه في هذا شأن "الخطاب الديني الإسلامي" على وجه العموم، إلى الكثير من الضغوط الخارجية، وهو ما سبق لنا أن أشرنا إلى شيء منه في مواضع سابقة. وعلى سبيل المثال يضغطون لتقليل الساعات المخصصة لتعليم الدين في مدارسنا. ويضغطون لتجاهل الحديث عن فريضة الجهاد. ويضغطون للتغافل عن الآيات القرآنية التي تـندد بممارسات اليهـود وتبـرز أفعـالهم الدنيئة. بل ويسعون إلى فرض قضايا بعينها علينا ينبغي أن ننشغل بها وترك أخرى لا ينبغي أن نلتفت إليها، ويصل الأمر إلى ما يشبه التحايل على الناس بتقرير مقرر عن "الأخلاق" مستقل، مع أن لحمة التربية الدينية الإسلامية وسداها هو الأخلاق.
ولم تكن مثل هذه الصور السلبية في "الخطاب التربوي" نتوءاً منفرداً في جسم الأمة، فقد رافقتها مع الأسف الشديد ظاهرة أخرى كان لها خطابها الخاص، الذي لا يقوم على الجدال بالتي هي أحسن، وإنما على البارود والنار...
فقد شهدنا جماعات عدة، خاصة بين الشباب، تجنح إلى مسالك تصوروها تقربهم من النهوض بالأمة، فإذا بهذه المسالك تنتج العكس:
- دخلوا في صراع مع السلطة بتصورهم أن نجاحهم لا يحمل إلا معنى واحداً هو امتلاك السلطة، وإذا كان من حق كل مواطن أن يحلم بامتلاك السلطة إلا أن هذا النفر سعى إلى العنف والترهيب، فإذا بالخسائر المترتبة على هذا الصراع المتكرر في كثير من أرجاء العالم الإسلامي لا يقل خطورة عن خسائر البلدان الإسلامية المتحاربة في آسيا وإفريقيا، فالأطراف كلها مسلمة، والرابح الوحيد هو العدو المتربص في كلتا الحالتين.
وارتبط بهذا شيوع صـور من التطرف والغلو تقوم على مقولة ترى: "إما الإسـلام كله، وإما تركه كله"، ولو قصد بهذا الإيمان الـكامل بكل ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة، فهذا حق، لأننا مكلفون بالإيمان بالكتاب كله، ولعل الخلط بين هذه القضية وبين تطبيق الإسلام - وفق الاستطاعة - هو علة الغلو والفهم الخاطئ.
ولم يكن الضعف البادي في "الخطاب التربوي الإسـلامي" إلا أحد مظاهر ضعف عام في التعـليم القائم في كثير من البلـدان العربية والإسلامية، مثل:
- افتقاد الفلسفة التربوية العامة، فمن المعروف أن فلسفة التربية هي التي ترسم الإطار العام الذي يوجه العمل التعليمي، ومن المفروض أن تبنى فلسفة التربية في العالم الإسلامي على العقيدة الإسلامية، لكن الواقع ينبئنا بأن الإطار الفلسفي التربوي العام شبه مفتقد، لا من وجهة النظر الإسلامية فقط، بل من وجهة نظر الفلسفات التربوية الكبيرة المعروفة، ويتحول الوضع إلى ما يشبه "الموزايك" الفلسفي، فهذا يمكن إرجاعه إلى العقيدة الإسلامية، وذاك إلى الفلسفة البراجماتية، وهذا إلى الاشتراكية، وذاك إلى غير هذا وذاك من فلسفات.
- جمودها وعجزها عن مسايرة التطورات الاجتماعية المتسارعة، فالوظيفة الاجتماعية للتربية معقدة أشد ما يكون التعقيد، وذلك لأن التربية من جهة خاضعة للمجتمع بتقاليده وقيوده وقيمه وإمكانياته، وإن لم يكن ذلك منطلقاً من منطلق إنساني نبيل كان أثره بليغاً على العملية التربوية. ومن جهة أخرى، فإن التربية من أهم العناصر الفعالة في تطوير المجتمع، وهي في الوقت نفسه أهم أداة للمحافظة على القيم السائدة فيه، وعلى توازن القوى العاملة فيه. ولا شك أن افتقاد الفلسفة التربوية الموجهة يؤدي في غالب الأحوال إلى إضعاف القدرة لدى النظام التربوي أن يوازن بين ما هو مطلوب، في كل اتجاه من هذه الاتجاهات بالنسبة لوظيفته الاجتماعية.
- الفصل بين التعليم العام والتعليم التقني، إذ تقوم النظم التعليمية المعاصرة في معظم دول العالم الإسلامي على الفصل بين التعليمين، ويعتقد أن ذلك كان من آثار العصور القديمة، وتعززت في العصور الوسطى الأوربية، حيث كان التعليم العام للسادة الكبار أصحاب السلطة والمال، والتعليم التقني لعامة الناس من الفقراء، وقد أدى هذا الفصل إلى التمييز بين الناس بغير حق، وضاعف من حدة التباينات الطبقية في المجتمع الواحد، وزاد من أحقادها، كما أنه حرم بعض الأفراد من متابعة الدراسة حسب ميولهم واستعداداتهم ودفع بعضهم (الآخر) إلى مجالات لا رغبة لهم فيها، مما أدى إلى زيادة نسبة الفاشـلين، وحرمان المجـتمع من مهارات كان من الممكن أن تنبغ لو وجهت التوجيه الصحيح.
فإذا جئنا إلى أحد المنظومات الفرعية في نظام التعليم، فإننا يمكن أن نشير إلى عدد من المظاهر السلبية التي تضعف من "الخطاب التربوي" هذه المنظومـة الفرعية هي منظومـة المناهـج وطرق التدريس، منها:
* تكرار المعلومات وازدواجيتها من مقرر إلى مقرر في الفرقة الدراسية نفسها.
* خلو الكثرة الغالبة من المناهج من محفزات العمل اِلإنتاجي.
* غياب ملحوظ لما يشير إلى مواكبة المتغيرات العصرية، وكيفية مواجهة تحديات العصر.
* ضعف الارتباط بالواقع والحياة العملية.
* الاعتماد على النقل والترجمة، مع قدم المعلومات أحياناً.
* إغفال المشكلات الاجتماعية في الدراسات الاجتماعية والإنسانية.
* قلة الاهتمام بالفروق الفردية وعلاج المتخلف والضعيف، ورعاية الموهوب وتنمية قدراته.
* ضعف تعليم اللغة الأجنبية الرئيسة مع الحاجة إليها.
* محدودية التقويم بحيث يقتصر على الامتحان القائم على المعرفة.
* اعتماد طرق التدريس على التلقين ونقل المعلومات والتركيز على التحصيل المعرفي في مستوياته الدنيا.
* غياب التوجيه الدراسي والمهني للطلاب، وتعثر الدراسة وضعف المستوى تبعاً لذلك.
* غلبة النـزعة السلطوية في العلاقة مع الطالب، وحجب سبل المبادرة والمشاركة والإبداع من قبل الطالب.
* التساهل في المستوى للقبول وللتخرج حتى التعليم العالي المتخصص.
وإذا كان هذا وذاك مما يمكن اعتباره ضمن الكفاية الداخلية للتعليم، فإن هناك عدداً آخر من المظاهر التي تشير إلى بعض خلل في كفايته الخارجية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- افتقاد وجود علاقات وقنوات تصل مؤسسات التربية والتعليم في مراحلها بالمجتمع وتطوراته ومتغيراته وحاجاته، مما أدى بها إلى قدر ملحوظ من العجز عن الأخذ بأسباب التجديد والقيام بدورها في المجتمع في آن واحد.
- الانحصار في نطاق مفاهيم ضيقة للتنمية، وحصـر علاقة التعليم بها على المستوى الثانوي، وخاصة على المستوى الجامعي والعالي بصـورة على قـدر من الغموض، وغلبة الصورة الكمية، مما عزل التعليم في بعض البلدان عن أن يكون طاقة تحريك لعجلة التنمية الشاملة.
- ضعف العلاقة بين التربية المدرسية والتربية اللامدرسية والموازية، وعلى سبيل المثال فإن المؤسسات الاقتصادية الكبرى، وخاصة في مجال الصناعة، قد راكمت العديد من الخبرات والمهارات، لكنها افتقدت بدورها الأسس المعرفية، والقواعد النظرية العلمية التي يتم تعلمها داخل مؤسسات التعليم النظامي، والذي افتقد هو بدوره فرص الالتحام بحركة العمل التطبيقي والممارسة في مواقع العمل.
- كما لوحظ على كثير من الأنظمة التربوية تقولبها في أشكال وصور متكررة في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي..
نماذج من الخطاب
نعرض في الجزء الحالي عدداً من نماذج مختلفة من أشكال "الخطاب التربوي الإسلامي"، وهي:
- كتب مدرسية.
- أطروحات علمية لنيل درجة الماجستير.
- حلقة مناقشة بين خبراء في التربية الإسلامية.
ونبدأ بالفئة الأولى...
هنا نجد بين أيدينا كتباً مدرسية في التربية الإسلامية لمرحلة التعليم الأساسي في دولتين من الدول العربية الإسلامية نشير إليها باعتبارها "أمثلة" لنوع واحد من "الخطاب التربوي الإسلامي":
ففي كتاب الصف السادس (الأردن)، نجد من دروس الفقه المقدمة موضوعاً عن (ثبوت شهر رمضان)، حيث يجئ بالكتاب ما هو معتاد في مثل هذا الشأن من أنه "تثبت رؤية هلال شهر رمضان بشهادة مسلم واحد في الأقل ممن يوثق بدينه".
ولا نريد أن نقف موقف فقيه يفتي، فلسنا من أهل الاختصاص في هذا الشأن، ولكننا نتساءل عن إغفال هذا "الخطاب" للطرق العلمية الحديثة في رؤية هلال شهر رمضان؟ لا نقصد بطبيعة الحال تفصيلاً لما يقوم به علماء الفلك، ولكننا نقصد الإشارة العامة، بحيث يتعلم التلميذ أن العلم قد استطاع أن يصل إلى تحديد دقيق في هذا الشأن، وأن المسلمين لا يخاصمون العلم، فالعلم إنما يرصد سنن الله في خلقه، وكلما كشف الإنسان عن سنة من هذه السنن زاد إيمانه عمقاً ورسوخاً، وهذا ما تدعو إليه آيات قرآنية عديدة عندما يدعو الله سبحانه وتعالى مخلوقه الإنسان أن ينظر ويتأمل ويتفكر في مظاهر الكون المختلفة، على أساس أن مثل هذا التأمل والنظر والتفكر يوقفه على عظمة الخالق بناء على أن التيقن من روعة المخلوق تؤدي بالضرورة إلى التسليم بعظمة الخالق.
وفي الكتاب نفسه نجد وحدة دراسية كاملة عن بعض القيم والفضائل الأخلاقية، وهذا أمر جيد في حد ذاته، لكننا نجد الحديث عنها وكأن هذه القيم مصابيح معلقة في الفضاء، لا يبين "الخطاب" علاقات التفاعل بينها وبين المتغيرات المجتمعية. وعلى سبيل المثال، جميل أن يتناول الكتاب قيمة مثل قيمة (الرحمة) وبيان أهميتها وآثارها ومشروعيتها، وأن يسوق أمثلة من السلوك القائم عليها من حياة سلفنا الصالح، لكن: ماذا عن الوضع في أيامنا هذه ؟ ألسنا نلمس تراجعاً مخيفاً للرحـمة كقـيمة أخـلاقية عليا؟ ترى ما المتغيرات المجتمعية: سياسياً واقتصادياً وثقافياً التي أدت إلى ذلك؟ هنا سوف نجد أهمية التطرق إلى ما يغلب على مجتمعاتنا من نزعات استهلاكية وخاصة في غير الضروريات، مما يشكل ضغطاً مستمراً على كثيرين في أهمية الكسب المادي حتى يمكن أن يلاحق ما أصبح يشبه "السّعار" الاستهلاكي، ويترتب على ذلك ارتفاع مستمر في القيم المادية، وبالتالي تراجع في القيم غير المادية، وتسير جماعات بسرعة مؤسفة نحو "الأثرة" بدلاً من الإيثار... وهكذا.
وفي كتاب التربية الإسـلامية للصف السـابع (الأردن) يقدم، ضمن ما يقدم درساً عن (أساليب الرسول e في مواجهة قريش)، ويستنتج من هذه الأساليب دروساً منها:
1- تقديم الأدلة والبراهين المادية والعقلية في الدعوة إلى الله.
2- الصبر والثبات في تحمل الصعوبات التي تواجه الداعية.
3- رفض كل المغريات المادية التي تصرف الداعية عما يدعو.
وجميل جداً أن يدير نص "الخطاب" درسـاً حول هذه المبادئ، لكننا ما دمنا في نطاق كتاب مدرسي، وليس كتاباً عاماً، يكون من الأجمل حقاً تضمين الدرس ما يوثق العلاقة بين ما يحمله موروثنا الإسلامي في هذا الشأن، من خلال طرف من سيرة الرسول e، وحياة التلاميذ المعاصرة، خاصة وأن الاتهامات تتكاثر على المسلمين في أيامنا هذه بأن هناك مفارقة بين الدين الإسلامي وممارسات المسلمين، وبين التفكير القائم على الأدلة المنطقية والبراهين العقلية. وكذلك فإن ما يواجهه المسلمون في عصرنا الحالي من صور متعددة للهجوم والاعتداء وتشويه الحقائق لا ينبغي أن يبث في قلوبنا رعباً ويأساً خوفاً من ألا نستطيع مواجهة هذه القوة العاتية الباغية التي استكبرت في الأرض تريد أن تسيرنا على حيث تريد.
كذلك يقدم الكتاب درساً عن (الوقت في الحياة الإسلامية)، وهو من الموضوعات التي ُوفِّق في إيرادها إلى حد كبير نظراً لما أصبح مسلماً به من أن الوقت شكل من أشكال "الثروة"، وأنه ينفرد عن كافة أشكال الموارد بأن كلاً منها يمكن تعويضه، أما هو فهذا مستحيل.
لكن الكتاب اكتفى - كالعادة - ببيان بعض جـوانب القـضية، كما تبدت في سنوات الإسلام الأولى، دون أن ينتهزها فرصة ليعرج على حياتنا المعاصرة، كاشفاً للتلاميذ صوراً لتبديد الوقت عند كثير من أبناء أمتنا.
كذلك فإن تناول الوقت من المفروض أن يتصل اتصالاً وثيقاً بجملة المتغيرات المجتمعية، حيث فرض المجتمع الزراعي مضموناً وتعاملاً ما مع الوقت، وهو الأمر الذي يختلف إلى حد كبير عنه في المجتمع الصناعي.
وعند تناول الكتاب لموضوع (صلاة الكسوف والخسوف) وُفِّق في إيراد حديث رسول الله e عندما كسفت الشمس في اليوم الذي توفي فيه ابنه (إبراهيم) وظن الناس أن هناك علاقة سببية بين الأمرين، فقال النبي e: "الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ..."، فالكتاب يورد هذا الحديث لبيان أنه يؤكد ضرورة الصلاة وقتها، لكنه لا ينتهز هذه الفرصة ليؤكد على جانب آخر بالحديث ألا وهو هذه النـزعة العلمية الواضحة التي تحرص على الابتعاد عن النـزعات الخرافية التي تربط بين ظاهرتين ليس بينهما ارتباط سببـي، إذ أن مثل هذا النظر العلمي، نحن أشد ما نكون حاجة إليه، فضلاً عن إذاعته بين الآخرين للتأكيد على "علمية" الإسلام، وهذا بعد مهم من الأبعاد التربوية التي لابد من التأكيد عليها.
وفي كتاب التربية الدينية الإسلامية للصف الثاني الإعدادي بمصر (الفصل الدراسي الأول) نجد أنه، بينما ينص في مقدمة الوحدة الأولى الخاصة بالقرآن الكريم على أهمية أن يتدبر الطالب معانيه، إلا أنه عندما يورد نصاً لسورة الفرقان، نجده يحفل بتوضيح بعض الكلمات، لكنه يترك الكثير بدون توضيح لمعناها، مثل كلمات: ، ، ... ومن شأن هذا أن تغمض معاني الآيات المتضمنة مثل هذه الكلمات على الطالب.
وقد كان من الممكن أن يترك مثل هذه الكلمات بغير شرح منه، لكن، في الوقت نفسه يوجه التلاميذ إلى أن يبحثوا بأنفسهم عن معناها في مصادر يرشدهم إليها، وهذا هو الأسلم، لأنه بذلك يدربهم على "التعلم الذاتي"، ومهارة من مهارات البحث العلمي.
والشيء نفسه يتكرر بالنسبة للمستشهد به من سورة الأنعام.
والكتاب يحسن بالفعل تضمينه موضوعاً يبين أن الإسلام هو منهج الله للعالمين، خاصة وأنه يحرص على إبراز عدد من المعاني الأساسية التي يتعلمها الطالب من مثل هذا الدرس، مثل: محاربة التطرف - حقوق الإنسان - الموارد وحسن استخدامها.
لكن الغريب أنه بقراءة النص المكتوب، لا نلمس إشارات صريحة إلى مثل هذه القضايا، بل إن الآيات القرآنية المستشهد بها لا تتضمنها، وهو الأمر الذي تكرر في مواضع عدة، فهل مثل هذه القضايا التي يعلن الكتاب أنها متضمنة في الدرس، يتركها للمعلم كي يوجه إليها المناقشة مع الطلاب؟
والأمر الذي يثير الدهشة أكثر هو ما أعلنه الكتاب في الدرس الخاص بـ (يُسر الإسلام في الصلاة) من قضايا مثل: السياحة وتنمية الوعي السياحى - احترام العمل وجودة الإنتاج - الصحة الوقائية والعلاجية - البيئة والمحافظة عليها، إذ لا نجد في محتويات الدرس شيئاً من هذا، إلا إذا كانت وظيفة هذا الإعلان مجرد المسايرة لأفكار ترددها أجهزة الدولة وأجهزة الإعلام، وهو أمر لا غبار عليه في حد ذاته، شريطة ألا يكون هناك ( ليّ ) لذراع النصوص.
وكتاب الصف الثالث الإعدادي (الفصل الدراسي الثاني) في مصر أيضاً، يتضمن نصاً مطولاً من سورة الحج للتلاوة والاستماع، وفي موضع آخر خاص بالعبادات يفصل القول في الحج وحكمته وأركانه وأحكامه، وقد يكون السبب في هذا أن يكون هناك ارتباط بين الجزئين، لكن الحقيقة أنه بذلك يقع في سلبية التكرار، مما كان يُفضل معه أن يكون نص التلاوة والاستماع من سورة أخرى فتزداد المعرفة الدينية لدى الطالب، خاصة وأن حجم الكتاب صغير للغاية، لا يتجاوز الستين صفحة، "ببنط" كبير نسبياً، فضلاً عن الصور والرسوم.
وننتقل بعد ذلك إلى الفئة الثانية...
وبالنسبة للأطروحات العلمية فسوف نعرض فيما يلي لثلاث أطروحات في التربية الإسلامية كان لي حظ مناقشتها، في كلية الشريعة بجامعة اليرموك بالأردن. وبداية فهذا أمر محمود بالفعل أن تلتفت كلية متخصصة في علوم الدين بأن يكون من برامجها برنامج في التربية الإسلامية، لكن المشكلة هنا أن شكوى علماء الدين من أن باب "الفتوى الدينية" في السنوات الأخيرة قد جرؤ عليه من لم يتخصصوا في علوم الدين، تبرز لنا القضية نفسها بوجه آخر وهو أن بعض الإخوة الأعزاء من علماء الدين، حتى يبيحوا لأنفسهم أهلية تناول قضايا التربية ومشكلاتها، قد نظروا إلى التربية من منظور تصل به درجة الاتساع الحد الذي يجعلها تشمل كل شيء في الحياة، ناسين أن الأصل كان هكذا في بداية الأمر، لكن التخصص المعرفي قد تناول الكثير من المجالات بحيث وجب أن تختص التربية بمجال بعينه، فها قد أصبحت هناك علوم للإعلام، التي تقوم بدور تربوي ملحوظ، وأصبحت هناك دراسات متخصصة في الدعوة، التي تشارك أيضاً بمهام تربوية، وهناك علوم، وليس علم واحد، تتناول الأسرة من جوانبها المختلفة، والأسرة كما نعلم هي الوسيط التربوي الأكثر أهمية... وهكذا.
من هنا فقد أصبح لزاماً على المتحدث في التربية أن يركز على المشكلات والقضايا المتصلة بالنظام التربوي، وخاصة في مؤسسات التعليم، دون أن يعني هذا تصور وجود حواجز بين النظام التربوي وغيره من النظم المجتمعية الأخرى، ذلك لأن من الضـروري الوعي بأن فهم النظام التربوي لا يستقيم إلا في ظل فهم هذه النظم المجتمعية الأخرى، ولكن هذا الوعي بالعلاقة التفاعلية بين النظام التربوي والنظم المجتمعية الأخرى يحتاج إلى دربة ومهارة وتعمق.
وعلى سبيل المثال فالأطروحة التي بين أيدينا هي عن "المحبة وآثارها التربوية في الإسلام"، نوقشت في أواخر عام 2003م. هنا ندرك أن "المحبة" ليست مجرد سلسلة من العواطف والانفعالات والتعبيرات الوجدانية التي تنتظمها المحبة، فهي، شأن أي شكل من السلوك البشري مرتبطة بالضرورة بالسياقات المجتمعية القائمة، ومن هنا نجد أن الأطروحة، كشكل من أشكال "الخطاب التربوي الإسلامي" تغفل هذا تماماً.
وما يوضح هذه القضية، الوعي بأن المناخ المجتمعي الذي يقوم على القهر والاستبداد، يفرز العديد من "الفيروسات" التي تصيب قيم المحبة بالمرض، فتتمحور حول الذات، وتتحول معاييرها إلى معايير مادية فحسب، وتنشر الذعر والخوف والجبن والأنانية، فإلى أي حد أدت مسيرة المجتمعات الإسلامية في العصر الحديث في مثل هذا المناخ إلى "تلويث" المحبة وتحويلها عن مسارها المفروض أن تكون بالله ومع الله ولله ؟!
إن عدم وضوح "المفهوم" الخاص بالتربية يؤدي بالتالي إلى اختلاط "المجال" بمجالات أخرى، فتتميع القضية، ويتحول الحديث في التربية إلى جملة من المواعظ وعمليات التحليق في سموات علا لا يُطار لها على جناح ولا يُسعى على قدم! وهكذا نجد من بين موضوعات الأطروحة موضوعات مثل: مقومات المحبة بين الجيران - غياب المحبة وضعفها بين الجيران - غياب المحبة بين الموظفين - طرق تنمية المحبة بين الموظفين... إلخ
ونحن لا نقلل من هذه الموضوعات، لكن هناك علوماً أخرى تتولى أمرها، فمثلاً، يختص علماء الاجتماع بدراسات لا حصر لها عن (العلاقات الاجتماعية) و(التفاعل الاجتماعي)، فيما يتصل بالجيران، وهناك كذلك علم النفس الاجتماعي. أما ما يتصل بالموظفين، فهناك علوم الإدارة التي تختص بذلك.
أما التناول "العلم تربوي" لمثل هذه الزوايا، فهو يحصرها في أفراد المجتمع التعليمي، من معلمين، ورجال إدارة تربوية، وعمال، وطلاب، وآباء الطلاب وأمهاتهم.
إن غفلة "الخطاب التربوي الإسلامي" عن مثل هذا التناول، تجعله يحرث في أرض لا يملك مقومات حراثتها فيجئ زرعه غير مثمر.
ثم إن مثل هذه الدراسة - مثل كثير من هذا النوع - يغلب عليها الانحصار في دائرة "ما ينبغي أن يكون"، وآية ذلك أن العنوان إذ يشير إلى "آثار"، فهذا يعني البحث في ما هو "كائن"، لكن هذا التعامل مع الواقع وما هو كائن يُهمل إهمالاً تاماً، وبهذا يفقد "الخطاب التربوي الإسلامي" فرص التفاعل مع حياة الناس ومعيشتهم، فيفقد القدرة على التأثير، وينعزل في قوقعة "الينبغيات"، فينصرف عنه كثيرون على اعتبار أنه "مغترب" عن حياة الناس.
وكان موضوع الرسالة الثانية هو "مدى سلطة الآباء على الأبناء في ميزان التربية الإسلامية والتربية الوضعية"، ونوقشت أوائل عام 2002م، فماذا نجد؟
أرجو أن يطمـئن القارئ أنني لن أخوض به في غمار تفاصيل فنية مما يجري في مناقشات رسائل الماجستير والدكتوراه، وإنما أتوقف بصفة خاصة عند عدد من العموميات والقضايا الكلية.
فأحد مظاهر "العلمية" في الأنساق المعرفية، أن تكون هناك "حدود آمنة ومعترف بها"، إذا صح هذا التعبير السياسي، بين هذا النسـق وذاك، فلا يتم خلط مثلاً بين (الجغرافيا) و(التاريخ)، على الرغم من التسليم بوجود أوجه اتصال بينهما، وهكذا الأمر في سائر الأنساق.
لكن كثرة من الباحثين - صغاراً كانوا أو كباراً - ما زالوا مع الأسف الشديد يخلطون بين المعرفة التربوية وبين غيرها من المعارف الأخرى، خاصة في تلك المجالات التي نسميها بالمعارف البينية.
فعلى سبيل المثال، فإن "فلسفة التربية" تقيم جسراً بين "الفلسفة" وبين "التربية".
والشيء نفسه بالنسبة لـ(التربية الإسلامية)، فهي تسعى إلى أن تقيم جسراً بين العلوم الشرعية الإسلامية وبين العلوم التربوية، وتأتي المهارة بالقدر الذي يتوافر فيه الوعي بحدود كل من المجالين.
وفي الرسالة المشار إليها نجد أن صياغة العنوان قد جاءت بصورة تجعل معالجة الموضوع معالجة أقرب إلى أن تكون "فقهية" في الغالب والأعم، لأن الباحثين في العلوم التربوية وعلماءها لا يتعاملون مع الآباء باعتبارهم أصحاب (سلطة)، ولكن على اعتبار أنهم أصحاب (واجبات) و(مسؤوليات) تجاه أبنائهم، وشتان بين المنظورين.
المنظور الأول (السلطة): ينطلق من منطلق (حقوق) للآباء على أبنائهم، ويتوقع ( عقوبات ) على من لا ينفذ (أوامر) من أصحاب السلطة.
والمنظور الثانى (المسؤوليات والواجبات): يتجه أكثر إلى الأبناء من حيث احتياجاتهم وقدراتهم واستعداداتهم وميولهم ومستقبلهم، وتغلب عليه نظرة (الترغيب) لا (الترهيب).
ثم تبرز لنا النـزعة (الرجولية) التي تسيئ فهم قوامة الرجل على المرأة، ولا تكاد ترى المرأة على الخريطة التربوية في تربية الأبناء، مع أن هذا الشأن بالذات هو بالقطع (شركة) بين كل من الأب والأم. ذلك أن مفهوم (الآباء) قد ضُيق في الدراسة كلها بحيث اقتصر على الذكور وحدهم، وهذا أمر لا يتسق مع المفهوم القرآني واستخداماته، فباستقراء آيات القرآن الكريم نجد أن المصطلح (الآباء):
- عندما يجئ بصيغة المفرد، كما في قوله عز وجل: ((ياأُخْتَ هَـارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً)) (مريم:28)، فإنه ينصرف إلى الذكر.
- وعندما يجئ بصيغة المثنى، كما في قوله تعالى: ((فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ)) (النساء:11)، فإنه ينصرف إلى الذكر والأنثى.
- أما إذا جاء بصيغة الجمع، كما في قوله سبحانه: ((فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)) (البقرة:200)، فإنه يشمل الذكور والإناث، سواء الأب والأم المباشرين، أو الجدود.
وهكذا تغيب (الأم) عن العمل التربوي، على الرغم مما هو معروف لدى الكثيرين أن الأم تكاد أن تكون صاحبة التأثير الأكبر على الطفل في سنواته الأولى، قبل الالتحاق بالمدرسة. بل إن هموم الأسرة المعاصرة أجبرت الكثير من الآباء على أن يتغيبوا معظم ساعات اليوم عن أبنائهم بحيث أصبح الأبناء وكأنهم مسؤولية الأمهات وحدهن. لكن، ما دام المنظور الذي تم التعامل به مع تربية الأبناء هو (السلطة)، فإن الأمر يكون للأب.
وقد أصبح من المسلم به في الفكر التربوي، في العالم كله، ضرورة أن تكون التربية في السنوات الأولى للطفل في يد الأم، ومن هنا نفهم ذلك الحرص على أن تكون دور الحضانة ورياض الأطفال قائمة على مربيات إناث، حيث يكون الطفل في هذه المرحلة ما زال ملتصقاً بأمه، بل إن سنوات التعليم الابتدائي الأولى هناك توسع واضح في "تأنيثها".
صحيح أن الباحث يبرز الرأي الفقهي الإسلامي بضرورة أن تكون الحضانة في سنوات العمر الأولى للأم، لكنه يقف عن حد إبراز الجوانب الفقهية والقانونية، بينما مسألة مثل هذه تحتاج إلى مزيد من الإيضاح والتعزيز لبيان الحكمة التشريعية في أن يوكل الأمر للأم، وهناك مئات الدراسات النفسية والاجتماعية والتربوية التي يمكن أن تبرز ذلك، وبهذا نفيد مجالين في وقت واحد، أولهما المجال الفقهي التشريعي الإسلامي، ببيان أنه يتسق تماماً مع ما تقرره العلوم التربوية والنفسية والاجتماعية، وثانيهما، المجال التربوي نفسه، ببيان أن الحكمة الإلهية تعززه وتؤكده.
ومن عنوان الرسالة يفهم القارئ أنها ليست عن التربية الإسلامية فقط وإنما كذلك عن (التربية الوضعية)، ورغم تحفظنا على مثل هذه المقارنة، لكن القارئ لا يجد إلا النـزر اليسير عن هذه التربية الوضعية، لا عن طريق قراءة مظانها لدى مفكريها وفلاسفتها، وإنما من خلال كتاب عرب مسلمين، فكأن الباحث هنا مثله مثل قاض يكتفي بسماع أقوال شهود الإثبات، ولا يتيح لنفسه فرصة ولو واحدة ليسمع أحداً من شهود النفي!!
إن الأمر القرآني واضح لا لبس فيه: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ))، وهو أمر عام يحتم على المسلم ألا يخوض في مسألة إلا إذا كان على دراية كافية بجوانبها المختلفة حتى يقترب الرأي والحكم إزاءها من العدل الذي هو فريضة إسلامية، لا مع المسلمين من أبناء أمتنا فقط وإنما كذلك مع الآخرين.
فمن أدرانا أن هذا الشاهد العربي المسلم الذي يكتب عن التربية الغربية قد فهم بالفعل ما أراد هذا المفكر الغربي قوله ؟ ومن أدرانا أنه لم يقتطع جزءاً من منظومة فكرية متكاملة ليعطينا انطباعاً سلبياً معيناً؟ ومن أدرانا.. ومن أدرانا..؟ نحن نعيب على الساسة الغربيين وعلى الشعوب الغربية أنهم يتلقون معلوماتهم عنا من خلال أجهزة إعلامهم المتحيزة التي تتجاهل الكثير من الحقائق الخاصة بنا، وتزيف بعضها الآخر، وتعرض بعضاً ثالثاً بصورة تكاد توحي بقيم يراد لها أن تتغلغل في القلوب، ومفاهيم يراد لها أن تقتحم العقول، فهل نفعل مثلهم، وخاصة في مجال البحث العلمي، فلا نسمع ونقرأ لهم ونكتفي بشهادة بعض كتابنا عليهم لنصدر أحكامنا على تربيتهم ؟!!
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن مفهوم (التربية الوضعية) نفسه يحتاج إلى إيضاح، فالباحث هنا - مثله مثل كثيرين - يتعاملون مع صفة (الوضعية) على أساس أنها (الغربية)، وهذا غير صحيح، فالوضعية المقصودة تشير إلى فلسفة أنتجها بشر، ومن هنا فهذا وصف ينطبق - مثلاً - على التربية البوذية في الهند، وعلى التربية في الصين المعتمدة على (كونفوشيوس)، وغيرهما، وهما ليستا من الغرب!!
وفي البلدان العربية صور من التربية التي لا تعتمد على مصدر ديني، وفي بلدان غربية تربيات تعتمد على مصدر ديني... وهكذا.
ويشوب "الخطاب" لدى عدد غير قليل الاعتماد على "تعميمات" جازمة، كاسحة، تتسم بالغلو، ومثال ذلك ما نراه لدى باحثنا هنا من أحكام يصف بها المجتمعات الغربية بـ "الانحلال الأخلاقي المريع"، و"تهتك لأواصر الأسرة" و"فساد في صفوف أجيال أبناء الغرب" و"انتشار مخيف للجريمة"، علماً بأن مثل هذه الأحكام القاطعة الكاسحة لا تستند إلى دليل علمي وبرهان منطقي، ولا تقوم على إحصاءات وتقارير، وهذا ظلم صارخ، فمهما اختلفنا عقائدياً مع الغرب، فإن ديننا يأمرنا بالصدق في القول، بالعدل في الحكم، ولو صدقت هذه الأحكام بهذه الدرجة المقدمة، والصورة القاطعة لانهار الغرب تواً، ولما أنجز هذه المنجزات التكنولوجية والمعرفية المذهلة التي نعتمد عليها حتى أصبحنا "عيالاً" عليه!!
ثم نجد كيف تؤدي غلبة النظرة القانونية الفقهية في تناول مسألة تربوية بالدرجة الأولى إلى إقحام مسائل غريبة تماماً على العقل التربوي، مما يظهر التربية الإسلامية بمظهر غريب قد لا يتسق تماماً مع المعالجة العلمية التربوية والنفسية، مثال ذلك:
- سلطة الآباء في اختيار التنوع الغذائي، فالأمر هنا هو أمر توجيه وإرشاد وليس قهراً وقسراً، واسألوا الأطباء - وهم أصحاب الاختصاص في هذا الجانب - عن هذا !
- سلطة الآباء في اختيار اللعب المناسب للأبناء. وهذا أمر مؤسف حقاً، فالمسألة مرة أخرى لابد أن ترجع إلى "قدرات" لهذا أو ذاك لدى الطفل، وليس علينا إلا الإرشاد والتوجيه و"توفير الفرص" لا الجبر والقهر!!...
وهكذا، في أمور كثيرة، أبرزها:
- سلطة الآباء في التعليم، إذ قد يكون هذا مفهوماً في المرحلة الأولى، أما أن يمتد الباحث بالأمر إلى ما بعد البلوغ والمراهقة، فهذا تنكره مختلف البحوث التربوية والنفسية، وما تعرفه كل الدنيا في هذا الشأن هو ما اصطلح عليه باسم (التوجيه التربوي)، و(الإرشاد الطلابي).
- ويحار المرء حقيقة في هذه النـزعة لدى بعض الباحثين في التركيز على "الوجه العقابى"، وخاصة في المجال التربوي، وهذا هو الفارق الأساس بين المعالجة القانونية والمعالجة التربوية، إن المعالجة القانونية تأتي في كثير من الأحيان للتدخل (بعد) حدوث الخطأ، ومن ثم يكون الأمر أمر (عقاب)، أما المعالجة التربوية فهي تتجه إلى المرحلة السابقة على الفعل... إنها تحرص على بث قيم من شأنها أن تميل بالإنسان إلى (السوية) في السلوك، ومن هنا قيل بحق إن التربية هي بطبيعتها (وقائية)، مما يجعلها تلح على الأبعاد الخلقية والدينية والإنسانية، وتتوسل بالترغيب والحوافز ولين الجانب في غير تسيب أو ضعف.
- والأدهى والأمر حقاً أن يركز الباحث ويتوسع في أحاديث نبوية تعزز توجهه "العقابي"، وُصفت من بعض المحققيـن بأن في بعض رواتها ضعفاً وتساهلاً في الإسناد، مثل حديث: "علق سوطك حيث يراه أهلك، ولا تضربهم به، واضربهم بنعلك ضرباً غير مبرح ولا شائن للوجه"!!!
ولو شئنا أن نشير إلى أحاديث نبوية في العطف والرحمة والرفق والحب والمودة للصغار لاحتجنا إلى كتاب كامل، ويكفينا أن رسول الله e هو الذي وصفه المولى عز وجل قائلاً: ((وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ... )) (آل عمران:159) الآية، فلماذا هذا الحرص الغريب على إبراز الوجه العقابي والتغافل عن الوجه الآخر؟
هل نريد أن نقدم الدليل الشرعي لغير المسلمين على أن ديننا إذ يعاملنا بالعصا والعنف والضرب بالنعال يغرس فينا بذور التطرف والإرهاب ؟
إن كل الروايات لا تذكر أبداً أن رسول الله e قد ضرب أحداً ممن هم في دائرة بيته وأسرته.
وفي الأحاديث الصحيحة، عن أنس رضي الله عنه قال: "خدمت رسول الله e عشر سنين، بأبي وأمي هو، ما رأيت معلماً مثله. والله ما زجرني ولا كهرني، ولا قال لي لشيء فعلته لم فعلت كذا أو لو كان كذا ؟.".
هذه عظمة رسول الله e... هذا هو المربي الأول للبشرية..
أليست أفعال رسول الله e جزءاً أساساً من السنة ؟
ورحم الله ابن خلدون الذي عقد فصلاً بعنوان: ( في أن الشدة بالمتعلمين مضرة بهم)، أشار فيه إلى كم كبير من الأخطار النفسية والتربوية لاستخدام العنف مع الأطفال مما أيدته بعد ذلك مئات البحوث والدراسات التربوية والنفسية.
وموضوع الرسالة الثالثة هو "مشكلات طلبة كليات الشريعة في الجامعات... وعلاجها من منظور إسلامي"، نوقشت أوائل عام 2002م، فماذا نجد؟
أول ما استوقفنا هو العنوان، فهو يشير إلى حالة من "اللاتعيين" و"اللاتحديد" التي يصاب بها بعض الباحثين، مما يحيل حديثهم إلى تحركات في هواء تتسم بالعشوائية، وبالتالي فإن جهد الباحث في مثل هذه الدائرة لابد أن ينتهي به إلى الدوران حول النفس، والعجز عن تقديم نظرات مجدية للفكر التربوي الإسلامي، فضلاً عن الإفلاس الذي يصيب به حركة الواقع التي تتطلب إشارة إلى جزئيات بعينها وقضايا محددة، فمثل هذا يتيح الفرصة للإمساك بحركة الواقع وتوجيهها.
فمشكلات الطلاب متعددة ومختلفة، فمنها ما يتصل بالتحصيل الدراسي، أو بالعلاقة بالأساتذة، أو بالأمور الإدارية، أو الجوانب الصحية، أو ما يتصل بالمناخ المجتمعي العام، أو بالثقافة العامة، أو بالثقافة التخصصية، أو بالعلاقة بين الزملاء من الطلاب، أو بالجوانب الاقتصادية، أو بالمهارات القرائية، أو بالمهارات البحثية... وهكذا.
وأن يزعم باحث، أنه، من خلال رسالة ماجستير، يمكن أن يتصدى لكل هذه المشكلات مجتمعة، فهذا جموح غير محسوب، ونقش على الماء، حتى أن جمهرة العامة تردد أن الذي يزعم التصدي لكل شيء لن يستطيع التصدي لشيء، على اختلاف الصيغ اللفظية المعبرة عن هذا المعنى، فضلاً عما يصير إليه الحديث من تسطيح لا يسمن ولا يغني من جوع !
كذلك فأن ينص باحث، بعد عدم تحديد "المشكلات" التي سيتناولها، على "... وعلاجها" فهذا يشير إلى عدم وعي بوظيفة البحث العلمي، فالعادة أن الباحـث، بعد أن يشـرح ويحلل ويرصد ويشخص، (يقترح) ما يتصوره مؤدياً إلى "علاج" المشكلة أو المشكلات، إذا تم الأخذ به، فهو إذاً لا "يعالج" بالفعل؛ لأن العلاج هو من شأن أصحاب السلطة والتنفيذ، ويرتبط بتشريعات وقرارات وأموال وتجهيزات... وهكذا.. بل إن جهات التنفيذ يمكن أن تقتنع بالمقترحات وتشرع في تنفيذها ثم لا يتم العلاج والحل!
ثم هذا أيضاً الذي نص عليه العنوان: "... من منظور إسلامي"، فالبحث كان يجرى في كلية شريعة، فماذا يكون منظور أي دراسـة فيها؟ إن ما يدخل في باب "المسلمات" و"المنطلقات" لا يجب أن يجئ في العنوان، لأن هذا معناه أنه بحاجة إلى بحث وبرهان، وليس هذا هو منطق التعامل مع "المسلمات" و"المنطلقات".
ثم إن الأمر ما دام تناولاً لمشكلات طلابية، فهناك كثير من المشكلات التي لا أعرف حقاً كيف تتم معالجتها من منظور إسلامي، وعلى سبيل المثال: تكثير عدد قاعات الدراسة (!) أو: تخفيض المصروفات (!) أو إفساح المجال لممارسة الأنشطة (!) أو تكثير عدد أعضاء هيئة التدريس (!)... وهكذا، فهي حلول يمكن أن يفكر فيها جميع أبناء الوطن، حتى هؤلاء الذين ليسوا من كليات الشريعة، ولنتذكر القاعدة التي تقول: إن ما لا يتعارض مع مقاصد الشريعة، يمكن أن يدخل تحت مظلة الإسلام.
إن هذا إنما يشير إلى ما حدث من توسع غير محمود العواقب لصفة "الإسلامي"، أثار سخرية كثيرين، وأفقد الكلمة الكثير مما يجب لها من تقدير.
وعندما نجيئ إلى مرحلة الحل والعلاج نلمس المفارقة الشديدة بين التصورات والتخيلات وبين حركة الواقع وإمكاناته، ولو سقنا مثالاً على ذلك، اقتراحاً يطالب بعدم إلزام الطالب بكتاب مقرر واحد، وإنما إحالته إلى مراجع مختلفة، وهو "مثال" و"حلم" تربوي حقاً، نراه متحققاً في كثير من البلدان المتقدمة، لكن الوضعية القائمة في كثير من بلداننا تجعل منه أمنية عصية على التنفيذ، وجاء هذا من أن الباحث لم يسأل نفسه: هل توجد بالمكتبة أماكن تتسع كي تضم من بعض الكتب العديد من النسخ؟ وهل تتوافر طاولات ومقاعد لاستقبال معظم الطلاب، حيث سيكون هناك استنفار منهم ما دام نظام الدراسة سيقوم على الاعتماد على عدة مراجع في كل مقرر، وهل يراعى في تنظيم الجدول الدراسي وجود أوقات تسمح بالاختلاف إلى المكتبة؟. 00وهل؟ وهل؟
لقـد قالوا في أمثالنا الشعبية: "اطبخي يا جارية، قالت الجارية: كلف يا سيدي !!"
إن من يقترح.. لابد ألا يغفل عن الظروف القائمة والإمكانات المتاحة، وإلا تحول الحديث عن العلاج إلى حديث عبثي، أشبه بمن يرى ضرورة أن تتوافر لكل مواطن سيارة خاصة، وكوب لبن يومياً، "وفيلا" للسكن.. وما سار على هذا النهج !!
وإذا كان المثالان السابقان يتصلان بباحثين ما زالا على الطريق، بمعنى أنهما يصنفا عادة في فئة "صغار الباحثين"، أو المبتدئين، فإن الأزمة تحتد عندما نجئ إلى مستويات عليا، علمياً وعملياً، ومن هنا...
نجيئ إلى الفئة الثالثة...
والموقف موضوع الحديث، هو أن جهتين مهمتين على قدر عال من الناحيتين العلمية والتنفيذية كلفتا باحثاً كبيراً بوضع كتاب في (أصول التربية الإسلامية) يكون مرجعاً لطلاب ومعلمي كليات التربية في العالم العربي. ونرجو أن يتذكر القارئ أن المؤلف ما شرع في وضع الكتاب إلا بعد وضع "خطة"، وأن المؤلف لم يشرع في التأليف إلا بناء على الموافقة على "مخطط" اقترحه لفصول الكتاب وموضوعاته، حيث إن هذه الحقيقة ذات أهمية في ملاحظة سوف نشير إليها فيما بعد عدة مرات.
وكان من الإجراءات التي اتفق عليها أن تعقد ندوة في إحدى البلدان العربية لمناقشة الكتاب.
تصور صاحبنا (المؤلف) أن مرجعاً جامعياً إذ يخضع لمناقشة، فمعنى هذا:
أن يكون المدعوون إلى مناقشة الكتاب المرجع من أهل الاختصاص في فرعين اثنين هما عمادا الكتاب، أولهما (أصول التربية) كما هو متعارف عليها في كليات التربية في الوطن العربي، وثانيهما (التربية الإسلامية)، ولا بأس من أن يزيد على هاتين الفئتين من هو متخصص في علوم الشريعة الإسلامية.
ويترتب على ما سبق أن يكون العدد محدوداً قد لا يزيد عن عشرة أفراد، حيث هناك فرق كبير بين "مناقشة مرجع جامعي" وبين اجتماع لندوة عامة أو مؤتمر لمناقشة قضية عامة؛ وأن تتاح فرصة لا تقل عن شهر لمن يدعون إلى هذا الاجتماع حتى تتاح لهم الفرصة للقراءة المتأنية الناقدة للكتاب.
لكن ماذا حدث بالفعل ؟
تبين أن ليست هناك فكرة واضحة ودقيقة للفرق بين نسقين معرفيين، أحدهما خاص بكليات التربية، والآخر خاص بمدارس وزارات التربية والتعليم، ذلك أن اسمهما - بكل أسف - يكون واحداً في معظم البلدان العربية...
فالجمهرة الكبرى من طلاب المدارس العربية يدرسون مقرراً "يسمى التربية الإسلامية"، والذي يسمى في بعض البلدان أحياناً "التربية الدينية الإسلامية". فإذا ما عرفنا أن مثل هذا المقرر يتصل بالتثقيف الديني، لتعليم الأبناء آيات من القرآن الكريم وأحاديث نبوية، والسيرة النبوية، والعبادات، وسير بعض الصحابة والغزوات العسكرية، لأدركنا أن هذا المضمون يختلف كثيراً عن مضمون "التربية الإسلامية" الذي تعرفه كليات التربية، فهي هنا ببساطة شديدة تعني بيان - عن طريق البحث والدراسة- وجهة النظر الإسلامية في القضايا والمشكلات والمفاهيم التي يحفل بها عالم التربية والتعليم.
الأولى، كما تعرفها مدارس وزارة التربية، أشبه بأن تكون تربية إسلامية تطبيقية، والثانية أشبه بأن تكون تربية إسلامية نظرية.
الأولى تسعى إلى تعليم الأبناء ممارسة عبادات مثل الصلاة والصوم، مثلاً، والثانية تحلل وتشرح الحكمة من كل منهما، وأثرهما على السلوك.
فإذا عرفنا أن كثيرين ممن تمت دعوتهم لمناقشة الكتاب كانوا من مسؤولي تعليم التربية الدينية الإسلامية في وزارات التربية العربية، وهم لهم كل التقدير والاحترام والاعتزاز، لكنهم من الناحية المعرفية ليسوا أهل الاختصاص المطلوب، وهم (موظفون) في وزارات التربية وليسوا أساتذة جامعيين أو باحثين في العلوم التربوية، وقد نجد من بينهم من لم تسبق له دراسة علوم تربوية متخصصة.
وأمر مثل هذا لا يقتصر خطره على توجيه مجرى المناقشة إلى غير المطلوب، بل إنهم قد يشيعون مفاهيم وأحكاماً تجانب الصواب.
ومن ناحية أخرى فإن عدداً آخر من أعضاء هيئات التدريس ببعض الجامعات والكليات لم يكونوا أيضاً من أهل الاختصاص في (أصول التربية).
إن رد الأمور إلى أهل الكفايات مبدأ على درجة كبيرة من الأهمية، حيث هو ضمان للإثراء المعرفي وتصويب المسيرة الأكاديمية، لكن عندما تتحول المسألة إلى "خواطر" و"مجاملات"، بغض النظر عن الأهلية العلمية والكفاية المهنية، فإن هذا لابد أن يؤدي بدوره إلى "إفقار" المجال المعرفي من مصادر تغذية أساسية له، بل ويدخله في متاهات يكتنفها الضباب والغموض وقلة البضاعة العلمية، وتكون المحصلة النهائية أن يتحول هذا الجهد إلى عملية عشوائية لا تسمن ولا تغني من جوع.
ثم نأتي للمسألة الثانية، ألا وهي المتصلة بالناحية العددية، إذ فوجئ صاحبنا بعدد ربما قد لا يقل عن الخمسين شخصاً، بحيث أصبحت المناقشة أيضاً غير مثمرة، فمع هذا العدد الكبير بالنسبة للموضوع، يمكن أن تجد تناقضات واضحة، فهذا يريد دفع الموضوع إلى يمين، وذاك يرى أن هذا خطأ ولابد أن يتجه إلى يسـار، والقياس مع الفـارق. إن هذا الاختلاف لا يجئ من باب "التنوع" و"التعددية"، وإنما يقترب إلى حد كبير من "التشتيت"؛ لأن القضـية المطروحـة لم تكن قضية عامة، كلما كثرت فيها الآراء وتعددت الرؤى وتنوعت كلما اكتسبت القضية وضوحاً وثراء.. إنه - مرة أخرى - كتاب أكاديمي مرجـعي جامـعي تم تأليفه بالفعل، وما يحتاجه هو بعض التصويبات أو الإضافات أو الحذف.
ولعل هذا ينقلنا إلى مسألة أخرى نبهنا إليها القارئ فيما سبق، فما دام الكتاب المرجعي قد تم بناء على مخطط شبه تفصيلى اتفق عليه، يصبح من ترف التفكير، بل ومن عبثيته أن يقترح هذا أو ذاك منظورات مختلفة تماماً عما أسس عليه الكتاب.
إن الأمر هنا أمر بناء سكني، ما تم إنشاؤه بناءً على "مخطط" وضعه مهندسو "تصميم"، واتُفق عليه، فعندئذ لا يجوز لأحد أن يعيب - مثلاً - احتواء المبني على أربع طوابق، ويرى أن يكون خمسة، وآخر يرى ألا يزيد عن ثلاثة، ويجيئ آخر ليـرى أن الشقـة كان ينبغي أن تضـم أربع غرف لا ثلاث... وهكذا...
إن المسألة ليست مسألة إجراءات وتفصيلات جزئية، وإنما هي مظاهر خلل في منهجية التفكير تجعل الكثير مما نفعل لا نتيجة له ولا ثمر.
ويأتي بعضهم للمناقشة وقد "برمج" عقله على أفكار بعينها وتوجهات بذاتها، بحيث إذا رأى وسمع - قبل أن يتكلم - ما قد يبدد فهماً لديه، فإنه لا يدخل ذلك في الاعتبار، ويصر على قول ما يريد قوله، بحجة أنه لم يقتنع بما سمع. إن الأمر ليس هنا أمر اقتناع، وإنما أمر تصريح صرح به مؤلف الكتاب بأنه يعني بكذا.. كذا، ومع ذلك يصر هؤلاء على أن هذا غير صحيح. إن هذا يجوز عندما نكون بصدد تعريف قاموسي متفق عليه، لكن عندما يصر كاتب بأنه يقصد - مثلاً - بمصطلح ( المدرسة ) لا ذلك البناء المعروف في عالم التعليم وإنما تجمعاً فكرياً أو علمياً ينهج نهجاً مشتركاً، فيجئ واحد ليقول ويلح على أن المدرسة هي بناء يضم عدداً من الفصول بها تلاميذ... وهكذا ؟ إنه عناد ومكابرة وتعصب.
وأعجب كل عجب أن تسعى هيئتان علميتان كبيرتان - على المستوى الإسلامي العام - لمحاولة ربط الفكر التربوي في كليات التربية بالوطن العربي بأصوله الإسلامية، وتدعو أستاذاً من إحدى الجامعات الإسلامية للمشاركة في جهد التأصيل الإسلامي، فإذا به يعلن استنكاره لأن يسمى الكتاب المطروح للمناقشة "أصول التربية الإسلامية"، وأن الواجب كان يقتضي أن يسمى "بأصول التربية" فقط! مؤكداً أن "أصول التربية" واحدة عند كل الأمم من حيث التصنيف لا من حيث المضمون الذي يختلف من مجتمع ومن ثقافة إلى أخرى، ثم يسـوق ما تصوره برهاناً على رأيه بأن الدول الغربية لا تسمي مثل هذا النسق المعرفي بأصول التربية الغربية أو المسيحية!!
ولن أتوقف طويلاً أمام ما اعترف به الأستاذ الناقد في كلمته من أنه (غير متخصص) في أصـول التربية، إذ يكفي إعـلانه هذا ليسقط القيمة العلمية لما قال، وإنما في هذه الدعوى الخطيرة، فعلى الرغم من أن المؤلف قد كتب جزءاً في كتابه بعنوان "لماذا الإسـلامية؟"، جـاء فيه ما خـلاصته أن التربية باعتبارها عملية تنفـيذية، لابد أن تجـرى بناء عـلى "تصور" أو "مخطط" أو "تصميم" أو "فلسفة" أو أيديولوجية.. إلى غير هذا وذاك من تسميات، وأن التصور أو الفلسفة التي يجب أن تقوم عليها عملية بناء الإنسان، لابد أن تكون هي نفسـها التي وضعـها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وسنة نبيه e على اعـتبار أن خـالق الموضوع هو الأدرى والأعـلم بطبيعـته وما يناسبه.
كذلك فإن ما غاب عن الزميل أن الغربيين لا يصفون التربية التي يقدمونها بالغربية، لأنهم يقدمونها على أساس أنها النموذج الوحيد الصحيح الذي ينبغي أن يسود العقل التربوي في كل أنحاء العالم، وهم في موقع قوة يمكنهم من أن يفرضوا نموذجهم على العالم، إن لم يكن عن طواعية واختيار فعن طريق وسائل كثيرة غير مباشرة.
إن الشيء نفسه لاحظناه في عصـور الحضـارة الإسـلامية الزاهرة، كما أسلفنا، فالكتابات التربوية - مثل غيرها- لم تلصق بها صفة "الإسلامية" في أغلب الأحوال.. لماذا؟ للسبب نفسه، سيادة الاعتقاد واليقين بأن النموذج المقدم هو النموذج الذي يحمل أقصى درجة من الصحة والسلامة؛ لأنه منطلق من قواعد الإسلام وتصوره، وهذا النموذج ينبغي أن يسود العالم.
لكن العرب والمسلمين يقفون الآن موقف المستضعفين.. يهددهم طوفان النموذج الحضاري الغربي، ومن هنا يسعون إلى الحفاظ على ثوابت الثقافة الإسلامية، ومن هنا يجيئ هذا الحرص على هذه التسميات: التربية الإسلامية، الاقتصاد الإسلامي، الفلسفة الإسلامية، الأخلاق الإسلامية، الإعلام الإسلامي... وهكذا.
والذي يدعو إلى الدهشة حقاً أن المؤلف عقد عدة صفحات أوضح فيها أن الشائع في الكتابات التربوية في العالم العربي هو التعامل مع معنى "أصول التربية" على أنها "أسس التربية"، وعلى هذا فهناك أسس فلسفية، وأسس اجتماعية، وأسس اقتصادية... وهكذا، أما هو فهو ينهج نهج فقهاء المسلمين، فيتعامل مع كلمة "الأصول" بمعنى "المصادر"، ومن ثم عالج الموضوع على اعتبار أن القرآن الكريم هو الأصل الأول، وأن السنة النبوية هي الأصل الثاني... وهكذا.
ومع ذلك يصدر هذا الرأي الذي أشرنا إليه، وكذلك يقف آخر ليعلن أنه كان يتمنى لو أن المؤلف تناول الموضوع من خلال "الأسس" بالمعنى المشار إليه آنفاً!!
كذلك فإن صاحبنا - مؤلف الكتاب - كان قد عقد فصلاً في بداية الكتاب أسماه "البنية المفاهيمية"، وصارح قارئه بأنه يقصد بهذا.. شرح وتوضيح وبيان بعض المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها الكتاب كله، مثل هذا الذي أشرنا إليه، من حيث معنى الأصول، والتربية، والإسلامية.. إلخ، لكن واحداً من المناقشين يقف ليؤكد أن المفروض أن يتناول المؤلف تحت هذا الاسـم: "البنية المفاهيمية" مفاهيم مثل كذا وكذا، وراح يعدد كماً كبيراً مما تصوره مفاهيم، بينما هي " مبادئ" و"خصائص" و"اتجاهات" وليست "مفاهيم".
وعلى سبيل المثال، القـول: بأن التربية الإسـلامية تربية متكامـلة، أو شاملة، فهذا مما يدخل في هذا وذاك، لكنه ليس "مفهوماً"، ومثل هذه الخصائص أو المبادئ هي بالضرورة، تجيئ في سياق الحديث عما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية من أفكار وآراء تربوية. وليست هذه هي وظيفة فصل أول، لأنه يكون بمثابة "عقد اتفاق" بين المؤلف والقارئ، يشرح فيه المؤلف توجهه ومنهجه والمعاني التي يقدم بها هذا الموضوع وذاك، فهذا صورة من صور الأمانة والموضوعية، عندما يصارح الكاتب قارئه منذ الصفحة الأولى بالعُملة الفكرية التي يتعامل بها معه.
وكما أشرنا أكثر من مرة، فإن الكتاب المرجع موجه إلى طلاب كليات التربية وباحثيها، ومن المعروف أن مناهج التعليم في هذه الكليات تخلو من الثقافة الدينية، فإذا كُتب كتاب في التربية الإسلامية، ونهج نهج الفقهاء في تناول الأصول الإسلامية، يصبح من الضرورة أن يتوافر قدر كاف من المعلومات الأساسية الخاصة بكل من القرآن الكريم والسنة النبوية خاصة. والذي يطلع عليها من أهل التربية يشعر بأن الكثير منها جديد بالنسبة له فيؤسس لمعرفته التربوية الإسلامية، لكن لو اطلع عليها أستاذ متخصص في العلوم الشرعية، فإن مثل هذه المعلومات بالنسبة له تعتبر مكررة وعامة. ومنهج التفكير السوى الذي يحكم على مـدى ضرورة هذا الموضوع أو ذاك هو مدى حاجة "الزبون"، مع الاعتذار عن سوق هذا التعبير التجاري، وطالب التربية هو "زبوننا" وليس طالب كليات الشريعة، ومن ثم فهذه المعلومات تمثل احتياجاً أساسياً له، لكن، ماذا نقول والقائم بالفتوى في مسألة تربوية ليس من أهل العلم التربوي وإن كان من أهل العلم الشرعي ؟
وماذا إذا رأى القارئ كاتباً يتناول بالبحث والتحليل قضية تعليم المرأة، وهو بصدد بيان جوانب تربوية في السنة النبوية ؟!
هنا يبرز ناقد يقف ليقول: إن هذا الجزء ينبغي أن يتناول تعليم الرجال مع النساء؛ لأن النساء - كما هو معروف في النهج النبوي الشريف - هن "شَقَائِقُ الرِّجَالِ" (أخرجه الترمذي).
إن هذا حق لا شبهة فيه، لكن الناقد ينسى أن الكتاب كله - حيث يتجاوز ثلاثمائة وخمسين صفحة - موجه إلى كل من النساء والرجال، ولأن المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية - كما يجب أن نعترف - قد تخلفت قروناً طويلة، وجب أن تحظى بمزيد من العناية بالنسبة لهذه القضية بالذات، تماماً كما نرى اثنين يسيران على الطريق، ثم يتخلف أحدهما لظروف ما، فتبعد الشقة بينه وبين صاحبه، فنطلب منه وممن له صلة أن يضاعف من خطوات السير حتى يلحق بصاحبه.
إنها قضية اهتم بها كثيرون، وما زالوا، نظراً لاستمرار سيل الاتهامات الموجهة إلى وضعية المرأة في الإسلام، وعندما يستمر الاتهام قائماً ومتكرراً، فلابد ألا نكل من تكرار البيان والتوضيح والشرح.
ومن المفروض في علماء الشريعة بصفة خاصة أن يحرصوا على قرن أحكامهم بالدليل بحكم تمرسهم بالفتوى والأحكام الدينية على وجه العموم، لكن ماذا تقول عندما تسـمع واحداً من هؤلاء يطلق أحكاماً بغير برهان أو دليل، ولا يسوق أمثلة، ويقدم البديل، كأن يقول، مثلاً: إن أسلوب الكتاب ينهج نهج (المقامات)، فماذا يفعل المؤلف إذا أراد أن يرضى صاحبنا؟ أليس من المفترض في مثل هذا الموقف أن يقدم لنا المعايير والشروط والمواصفات التي تجعل من طريقة الكتابة تنتمي إلى أسلوب المقامة، ثم يسوق أمثلة متعددة من صفحات الكتاب ليطبق عليها هذه المعايير ليؤكد أنها بالفعل صيغت بأسلوب المقامة، حتى يتيح للكاتب الفرصة أن يعيد صياغتها؟
ودون أن نقصد بأي حال من الأحوال أن ننتقص من قدر زملائنا علماء العلوم الشرعية، فإن المشهور أن يتهمهم آخرون بالميل إلى أسلوب الوعظ والإرشاد في خطابـهم العام، ويـبدو أنه مـن كثرة تكرار هذا الاتهام الذي لا يصدق إلا على بعضهم فقط، فإن واحداً أراد أن يقوم بالفعل نفسه، فيتهم الكتاب، موضوع حديثنا، بأنه يمتلئ بالوعظ والإرشاد، دون أن يقدم أمثلة من صفحات الكتاب على ذلك، ثم ينبه المؤلف إلى أن الأسلوب العلمي المنهجي يقتضي أن تكون مثل كذا وكذا، أما أن يساق هذا الحكم مرسلاً هكذا، فعلام يدل إلا على ارتداد السهم على مطلقه، لأن التهم المرسلة، هي من نفس قبيلة الكلام الذي نتهمه بأنه مجرد وعظ وإرشاد ليس إلا!
وماذا عن حكمه أيضاً باتهام الكتاب بانعدام التطابق بين الشكل والمضمون؟ هل حدد لنا ماذا يدخل في نطاق الشكل وماذا يدخل في نطاق المضمون، ثم أشار لنا إلى مواضع بعينها لا يكون فيها تطابق بين الشكل والمضمون؟ كلاً، إنه يكتفي بإصدار هذا الحكم: لا تطابق في الكتاب بين الشكل والمضمون!!
وقدم الكتاب صفحات مطولة عن التوظيف التربوي للقصة القرآنية، ثم يقف نفس العالم المشار إليه في الفقرات السابقة ليقول: إن القارئ لا يفيد منها!! ولا أدري حقاً على أي أساس يطلق هذا الحكم؟ هل قام باستطلاع رأي قراء كثيرين وسألهم عما استفادوه من هذا الجزء، فأفادوه بالنفي، فأصدر حكمه هذا، علماً بأن الكتاب لم يطرح على القراء بعد؟ أم أنه وحده لم يشعر بالاستفادة فتصور أنه ممثل لكل من يقرأ وأصدر حكمه القاطع بألا فائدة من هذا الجزء؟!!
ثم نجيئ لأستاذ آخر يعلن عن اكتشاف يوحي بأنه قد انفرد به، فيؤكد أن الكتاب هو سلسلة محاضرات ألقاها المؤلف على طلبته بإحدى كليات التربية العربية في أواسط السبعينيات !
إن المأساة هنا تكمن في أمرين، أولاهما: أن المؤلف نفسه في كلمته المطولة التي طولب فيها بتلخيص الكتاب أعلن أن بدايات تفكيره في الموضوع ترجع إلى أول السبعينيات في صورة بحث محدود الصفحات، غير متعمق القضية، وأنه لما كلف أثناء قيامه بمهمة التدريس في بلد عربي عام 75 قام بتأليف أول كتاب صدر في العالم العربي بعنوان "أصول التربية الإسلامية" عام 76، وأنه ظل منذ ذلك الحين يطور ويغير في كتابه هذا فصار كذا وكذا إلى درجة أن تولدت منه عدة كتب، كل منها كان يختص بنقطة واحدة أو فصل واحد من الكتاب الأول، فكيف بالله يزعم الأستاذ الباحث هذا الذي قال، بعد هذا الذي تم التصريح به سلفاً ؟!
ثانيهما، أن الأستاذ لو كان قد قرأ الكتاب بالفعل، ووضعه بجوار الكتاب الأول الذي تم تأليفه منذ 27 عاماً لعرف بكل يسر وسهولة أن الكتابين مختلفان بنسبة كبيرة قد لا تقل عن التسعين بالمائة.
إن هذا لم يكن نقداً بأي صورة من الصور ولكنه افتئات فاضح على الحقيقة، ويتم هذا في محفل علمي إسلامي، تحت مظلة التربية الإسلامية !
ومن الأمثلة الأخرى المنبئة بخلل واضح في منهج التفكير، مسألة تتصل بالتصنيف، فللتصنيف عند أهل المنطق أسس وقواعد، لابد من مراعاتها حتى لا يحدث تتداخل في فئات التصنيف، فإذا تحدثت عن طلاب الجامعات من حيث هم بنين وبنات، فلا يصح أن أطالب بالحديث - مثلاً - عن طلبة الطب، لأن هذه الفئة تتداخل مع الفئتين المشار إليهما.
وفي الكتاب المذكور، صنف المؤلف مفكري التربية الإسلامية، وفقاً لمنهج البحث لدى كل فئة، ومن هنا تناول: المدرسة الفقهية، المدرسة الصوفية، المدرسة الكلامية، المدرسة الفلسفية، المدرسة العلمية ( العلوم الطبيعية والرياضية ).
لكننا نجد الأستاذ المذكور يطالب بأن يتناول المؤلف المربين الإباضيين، والمربين الفاطميين !
فالأساس هنا مختلف، لأن هاتين الفرقتين تتداخلان مع المدرسة الفقهية، وكذلك الكلامية، وأيضاً الفلسفية.
والأكثر مدعاة للحزن حقاً أن يقف آخر ليقول بأعلى صوته: إن مؤلف الكتاب بدأ من حيث بدأ غيره، ولم يبن عليها، وإن هذا لا يؤدي إلى تراكم معرفي، الذي هو طريق الإثراء والتجديد.
والنصف الثاني من الكلام - الذي هو من صياغتنا - لا خلاف عليه، بل هو مطلب وضرورة لابد من الإلحاح عليها، لكن هل النصف الأول من الكلام حقيقي ؟
إن صاحبنا المؤلف قد بدأ العمل العلمي في التربية الإسلامية منذ أول السبعينيات، ولم يكن ما هو موجود في الساحة العربية كلها إلا كتابات قد لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة، ومنذ ذلك الوقت، وهو يكتب البحوث والدراسات ويضع الكتب، ويحاضر في الملتقيات والندوات والمؤتمرات، حتى لقد تجاوز رصيده من البحوث المائة، وتجاوزت كتبه العشرة، مما لم يتحقق لأحد في طول الوطن العربي وعرضه، فضلاً عن عشرات رسائل الماجستير والدكتوراه التي أشرف عليها، وكذلك عشرات ناقشها، فهل يتصور بعد هذا، أن يطاوع لسان واحد أن ينطق بهذا الذي نطق به؟
الحق أنه لا تفسير لما قال إلا أحد أمرين، إما أنه لا يتابع ويقرأ ما كتبه صاحبنا المؤلف، ومن ثم كان عليه ألا يصدر هذا الحكم الجائر الذي أصدره، وإما أنه يعلم، لكنه أصر على الحديث بعكس ما يعلم، وكل من الفرضين يبعث على المرارة حقاً.
وإننا هنا لنتذكر بالمناسبة هذه الموجة من الكتابات والأحاديث التي ترى ضرورة الحوار مع (الآخر)، ألسنا بحاجة حقاً قبل هذا أن نحسن التحاور الصادق مع بعضنا بعضاً؟!
وأخيراً أبى باحث آخر إلا أن يفجر قنبلة تنسف المشروع كله رأساً على عقب عندما اتهم الكتاب بأنه يقوم على نظرة سماها "باللاهوتية"، وعندما فسر عبارته هذه نعى على الكتاب أنه مبني على مقولة تذهب إلى أن الدين، ممثلاً في القرآن والسنة، هو المحرك الأساس للتاريخ !
إن وجه العجب حقاً هو أن المشروع كله مبني على أساس السعي "للتوجيه الإسلامي" للعلوم التربوية، حتى لقد همس المؤلف لما جاوره في المحفل تعقيباً (هذا شرف لا أدعيه وتهمة لا أنكرها)!!
إن هذا الذي عرضنا له، قد يبدو أمراً يتصل بمواقف جزئية، لكننا سقنا الحديث عنها باعتبارها مظاهر لنهج تفـكيري غير سوي يبدد ويهدر أكثر مما يبني وينشئ، يفرق ويجزئ أكثر مما يصل ويربط، والخاسر هنا ليس فرداً أو أكثر من فرد، ليس رسالة أو كتاباً وإلا لهان الأمر، ولكن الخاسر هو مجمل العقل الإسلامي، ومن ثم الأمة.
كيف نتعامل مع الموروث التربوي؟
ربما لا نبالغ في قليل أو كثير إذا قلنا: إنه ما من "خطاب تربوي إسلامي" إلا ويتجه إلى الموروث التربوي الإسـلامي مسـتمداً منه الكثير مما يعينه في بناء "الخطاب"، بل إننا أشرنا من قبل إلى أن الكثرة الغالبة من "الخطابات التربوية الإسلامية" تجنح بكليتها إلى الموروث التربوي مغفلة الانشغال بهموم الحاضر وطموحات المستقبل، ومن هنا نجد أن من المهم حقاً التوقف بعض الشيء أمام كيفية التعامل المنهجي مع الموروث التربوي، بحيث تتحول عملية استقرائه ومحاولة الإفادة منه إلى قوة تطوير وطاقة تجديد، لا إلى قيود تعوق حركة الفكر التربوي عن أن يقوم بدوره المأمول من حيث المساهمة في بناء شخصية المواطن بالصورة والدرجة التي تُفعِّل قدراته في عمليات البناء المجتمعي. ونسوق فيما يلي بعض المؤشرات التي يمكن اقتراحها لتحقيق هذا المطلب:
1- لعل الخطوة الأولى التي تفرض نفسها هنا هي وضع (اقتراح) المنهجية العلمية في التعامل البحثي مع التراث، ولسنا هنا في مجال يسمح لنا بتفصيل مثل هذه المنهجية، فأصولها وقواعدها وأسسها مبثوثة في العديد من المراجع المتخصصة، وغاية ما نود أن نؤكد عليه في النقطة الحالية هو أن الأمر لم يعـد يحتمل السـير العشـوائي، وإلا ظللنا ندور في طريق دائري لا يخطو بنا إلى أمام، وهو الأمر الذي غلب على الكثير من خطواتنا السابقة، وأساء إلى المورورث التربوي نفسه، إذ ترك الأمر للنـزعات الشخصية، والخطوات غير المحسوبة، فغلبت اللفظية، وتحكم أسلوب الوعظ والإرشاد الذي يصبح عديم الجدوى ما دام في غير موضعه، وترسخت نزعات غرور كاذب اعتماداً على ماض مجيد، بينما نعيش ومعطيات انهزام محيط في واقع أليم !
2- الوعي بأن "الخطاب" يخضع في ظهوره وفي تطوره إلى السنة الإلهية نفسها، التي تحكم ظهور ونمو مختلف الكائنات الحية، لأنه هو نفسه (أي الخطاب) نتاج أشرف وأعقد وأعظـم الكائنات الحية: الإنسـان. ولو نظرنا إلى أبسـط الكائنات الحية، إلى النبات مـثلاً، فسـوف نجد أنه لا يظهر إلا في ضوء معطيات البذور التي أنبتته بخصائصها المعروفة، ويتحدد بنوع التربة التي ينبت فيها، ولا يستمر إلا في مناخ بعينه، فضلاً عن نوعية الغذاء الذي يتغذى به.
كذلك "الخطاب"، هو نبت بيئة ثقافية لها خصائصها ومحدداتها وعوامل انحدارها، حتى وهو ينسب عادة إلى هذا الفرد أو ذاك من المفكرين والباحثين، يحمل خصائصه التي ينفرد بها عن غيره، إلا أنه يظل منتمياً إلى سياق حضاري يمده بمقومات الوجود، ويغذيه بعوامل النمو، قوة أو ضعفاً، وهو ما نعبر عنه بأن لكل "خطاب" أبعاده الزمانية والمكانية. ومن ثم فإننا عندما نتوقف أمام فكرة تربوية ما مما هو موروث، يجب أن نضعها في سياقها المجتمعي الحضاري، ذلك أن مثل هذا، فضلاً عن أنه يتيح فرصة أكبر للفهم والتفسير، فهو يعتبر أمراً ذا قوة حاسمة فيما نأخذ وفيما نترك من الموروث، فقد يكون "الخطاب" نتاج فترة ضعف وتخلف، مما انعكس على نوعيته وتوجهاته، فيصبح من المؤكد أنه غير مرغوب فيه في حاضرنا، فضلاً عن مستقبلنا.
ومن الملفت حقاً للنظر تلك العبارات التي تشير إلى عبقرية "ابن خلدون"، فهو يعبر عن هذا الذي نقول في مقدمته (طبعة دار الشعب بالقاهرة، ص 570) بعبارات دالة:
"حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال".
فكأن "ابن خلدون" قد سمع تلك الصيحات التي تعالت منذ عقود عدة ناقدة هؤلاء الذين يتصورون أن حركة التاريخ مجرد تسلسل في الحوادث يمكن رصدها وتسجيلها بغير البصر بعلاقتها بما سماه (الاجتماع الإنساني)، وهو "العمران"، هو التعبير الخلدوني لما نعبر عنه بالسياق الحضاري.
3- ولعل من أبرز الأخطاء التي تشيع في التعامل مع الموروث هو اعتباره من الناحية الزمنية كتلة واحدة، وهو خطأ يترتب على ما يكون من قصور في النظر إلى السياق المجتمعي لحركة "الخطاب التربوي"، فما توافر لدينا من موروث تربوي هو نتاج قرون عدة قد لا تقل عن سبعة قرون، وعلى مساحة تمتد من بلاد المغرب والأندلس على شاطئ الأطلنطي إلى تخوم الهند والصين، وشمالاً من وسط أوربا وجمهوريات آسيا الوسطى، إلى وسط إفريقية، ووفقاً لسنن التطور، يستحيل افتراض التماثل التام بين مكونات هذا الكم الكبير من الإنتاج الفكري التربوي.
صحيح أن الجميع على وجه التقريب قد سعى إلى أن يستقي ما يكتب وما يقول من مصدري الإسلام الأساسين : القرآن الكريم والسنة النبوية، وصحيح أن الحدود بين البلدان العربية والإسلامية لم تكن قائمة، وهذا وذاك مما يوفر فرص التماثل وغيره، لكن الأمر يظل قائماً، وهو الاختلاف بين منطقة وأخرى، وبين زمن وغيره، حتى لقد أثر عن "القرافي" تأكيده على كل من يفتي ألا يفتي من يسأله الفتوى إلا وفق العرف السائد، بعد استقراء القرآن والسنة.
إن التعامل مع الموروث التربوي في جملة قرون الحضارة الإسلامية، وجملة البلدان الإسلامية يبعدنا عن النهج العلمي، إذ يوقع الباحث في تعميمات خاطئة، فقد تكون العينة التي يفحصها لمفكر أو عالم من منطقة تزدهر بأسباب الحضارة والنمو، فيؤكد على ما يترتب على هذا من أحكام، مستنتجاً بأن الحضارة الإسلامية قد وعت كذا وكذا من الاتجاهات التربوية الجيدة، بينما تكون هناك مناطق أخرى، وربما تكون هي الأكثر مساحة جغرافية، والأطول مساحة زمنية، على غير ذلك. وقد يحدث العكس، أي أن تكون العينة من مناطق متخلفة، جامدة، فيكون الحكم على الموروث التربوي ظالماً، وهذا ما يحدث بالفعل بين الخصوم والأنصار للاستعانة بالموروث، فالخصوم بالفعل يجدون أمثلة وشواهد تؤكد رأيهم، والأنصار يجدون كذلك أمثلة وشواهد في صالحهم.
4- كذلك من أهم القواعد التي ينبغي الالتزام بها في التعامل مع الموروث، أن يتحلى الباحث بروح النقد، فلا تقديس إلا لكلام الله المتضمن في القرآن الكريـم، والأحاديث النبوية الشريفة نفسها كثيراً ما خضعت للنقد من حيث التأكد من صدق صدورها عن الرسول e، ومن هنا كان قيام علوم الحديث، والتى عرف منها علم الجرح والتعديل الذي قوامه النـزعة النقدية.
وما يجعل هذه الخطوة على درجة كبيرة من الأهمية أننا ورثة تقاليد ذات حساسيات شديدة لأية مراجعات لآراء أو مذاهب تكلمت بها شخصيات كُرست مشروعيتها ومكانتها التاريخية في العقول والقلوب والنفوس، وذلك لخطأ سابق تكرس - أيضاً - يخلط بين الرأي وقائله، حتى كاد بعضهم ينظر إلى الرأي وكأنه ذات صاحبه، فأي نقد يوجه لرأي قال به أو تبناه أحد قيادات الرأي أو المذاهب، يُعد بمثابة نقد لصـاحب الرأي أو المذهب، فإذا كان "النقد" عندنا قد أخذ معنى السب والهجو، والآراء قد تشخصت لعوامل تاريخية ومعاصرة، فإن ذلك يعيننا على فهم كثير من الأسباب التي تحول بين بعض من لديهم ما يقولون والإمساك عن الإفصاح عنه والتصريح به.
ويفسر علماء النفس جمود كثيرين على التقليد والتمسك بالتقاليد أنه آلية دفاعية ضد قلق المسؤولية الذاتية، فهي "التقاليد" بما يسبغ عليها من صفات القانون الطبيعي، تتضمن تبريراً للعجز الذاتي عن الإنسان المقهور، فإذا كان راضخاً أو فاشلاً أو بائساً، وإذا كان عاجزاً عن تحمل تبعة مصيره والنهوض للتحديات التي تطرحها عليه علاقة القهر وضرورة التحرر منها، فليس الذنب ذنبه، بل هو نظام الحياة الذي قسم له دوره وحدد له مكانته، فكأن التمسك بالتقاليد يحمي الإنسان المقهور من مشاعر الخزي الذاتي، المرتبطة بالمهانة التي تتصف بها مكانته الاجتماعية. وفضلاً عن ذلك، فإن التمسك بالتقاليد يحمي الإنسان المقهور من مجابهة ذاته، تلك المجابهة التي تقلقه كثيراً، فيتجه إلى الهروب نحو الخارج، أي الذوبان التقليدي والشائع، وانضواء تحت المألوف.
إن عمل الباحث في الموروث التربوي يجب أن يكون أشبه بعمل المستنطق في الدوائر القضائية الذي يأتي بالشهود والرواة فيستنطقهم ويدقق في شهاداتهم، ويحقق في إفاداتهم، ويقدم نتيجة تدقيقاته وتحقيقاته ليستند إليها في الحكم في ما جرى. ولكن الباحث التربوي لا يقف عند عمل المستنطق، بل يتجاوزه إلى عمل المدعي العام، وإلى عمل المحامي - متخذاً وجهة الادعاء تارة ووجهة الدفاع أخرى - ثم يصل أخيراً إلى عمل القاضي الذي يثبت واقع الحادث قبل أن يقدم على الحكم فيه.
حقاً إن اكتساب هذا "الحس النقدي" وضبط قواعده وتطبيقها بروية واتزان لمن أهم ثمار الثقافة ومن أبرز مميزات الحضارة الناهضة النامية، ولكنها ثمرة لا تحصل إلا بفعل جهود وافرة شاقة تبذل في اقتلاع الأشواك ونسف الصخور وتمهيد الأرض وحرثها ورعايتها رعاية مستمرة، فإذا قل تقدير مجتمع من المجتمعات لهذه الثمرة أو ضعف اهتمامه بها أو تراخى سعيه في سبيلها، جفت أسرع جفاف وسقطت وضاعت وضاع معها الكثير من نتاج الحضارة ومفاخر المدنية. هذا ما نراه في سير الأمم المتعاقبة، وفي أدوار الرقي والانحطاط في سيرة الأمة الواحدة، فعندما يكون حس الأمة النقدي نافذاً جريئاً، ويكون في الوقت نفسه عارفاً حدوده، ضابطاً ذاته كما يضبط سواه، تتقدم الأمة في مجالات النهوض وتحقق خيرات ثقافية ومآثر حضارية، ويصبح لها فعلها الإيجابي وذكرها الباقي.
5- ولقد سبق للفيلسوف الإنجليزى الشهير "فرنسيس بيكون" أن حذر الباحثين من الوقوع في براثن مصدرين من مصادر الأوهام التي تميل بالباحث بعيداً عن جادة الحقيقة والحق، أحدهما ما سماه بأوهام الكهف، والثاني أوهام القبيلة، ذلك أن في الإنسـان مـيلاً فطرياً لأن يتأثر لا إرادياً بما يكون عليه من تربية وشخصية وميول واتجاهات، وكذلك أن يتحيز إلى الجماعة أو المذهب الذي ينتمي إليه، فكأنه يضع على عينيه نظارة ملونة ترى الأمور بلونها.
إن هذا هو ما يسمى "بالتعصب" و"التحيز"، وهو أخطر ما يكون على عملية البحث العلمي، وخاصة بالنسبة للموروث، وذلك لارتباط الموروث بالتاريخ القومي والوطني، وبالعقيدة الدينية والنـزعة المذهبية، سواء بالسلب أو الإيجاب. ونحن هنا لا نتصور إمكان أن "ينخلع" الباحث من مثل هذه المؤثرات، ولكننا ننشد الوعي بتأثيرها، سواء من الباحث نفسه، أو من السامع، أو من القارئ، ومن هنا فإن هناك من يرى أن الموضـوعية هنا إذا كانت مستحيلة، لكن أضعف الإيمان أن يعلن الكاتب أو المتحـدث عن هويته الفـكرية حـتى يكون القـارئ على بينة من توجهات ما يقرأ.
لقد خسر التاريخ الفكري العربي والإسلامي الكثير نتيجة خضوع بعض الباحثين لهوى النـزعات العرقية والمذهبية والسياسية، حتى لقد أدى هذا ببعضهم إلى الكذب على رسول الله e فعرفنا ما سمي "بالوضع" في الأحاديث، أي اختلاق أحاديث نبوية لتأييد هذا أو ذاك أو الهجوم على هذا وتجريحه أو ذاك، فما بالنا بما كتب في التربية والتعليم ؟!
6- وإذا كان التجرد من النـزعات التعصبية يصور الجانب السلبي، فإن هناك جانباً إيجابياً نتطلبه من الباحث في الموروث التربوي، ويتمثل ذلك في محاولة النفاذ إلى أعماق الأفراد والجماعات في الماضي فيحس أحاسيسهم، ويتلمس أهواءهم، ويختبر ميولهم ورغباتهم وآمالهم وأمانيهم، والظروف التي كانت تحيط بهم، وتأثرهم بهذه الظروف وتأثيرهم فيها، وبذلك يصبح وكأنه واحـداً منهم، ينطق بلغـتهم، بل بلغاتهم جميعاً، لا يلتزم أي فرد منهم أو أية شيعة أو أمة دون سواها، فالماضي حصيلة ميول وإرادات، ومطامـع ومعتقدات وتفاعلات حية دائماً بين الفرد والجماعة وبين المجتمعات المختلفة.
وإذا كان الباحث في المـوروث سوف يجد غالباً ما يحب وما يكره، ما يقر وما ينكر، فإن من المهم للغاية أن يثبت هذا وذاك كما تجليا له بالضبط دون أن يجعل لحبه أو كرهه أثراً في هذا الإثبات، أي أن يعيش الماضي ويختبره بنفسه وينطق بروحه دون أن يذوب فيه!
7- ولسنا في حاجة إلى التأكيد على ما أحرزه البحث العلمي في مجالات التربية وعلم النفس من صور من التقدم إلى درجة تحطم معها عديد من الأفكار التي سبق أن تصور بعضهم قديماً ضرورتها التربوية، ومن ثم فعندما ننتقي ونختار من موروثنا التربوي يجب أن نراعي عدم تعارضه وتناقضه مع ما كشف عنه العلم الحديث.
وعلى سبيل المثال فكم من كتابات أنفق فيها علماؤنا وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً، اهتماماً منهم "بالحفظ"، بحكم العديد من العوامل التي كانت قائمة قبل اختراع الطباعة وانتشار المطبوعات، بينما لا نجد في عصرنا الحاضر ضرورة في الاستعانة كثيراً بمثل هذه الجهود إلا في بعض المجالات التي ما تزال بحاجة إلى الحفظ. بل إن الأجهزة "التكنولوجية" المعاصرة أصبحت تحمل عن الإنسان مؤونة الحفظ وتقوم بتخزين أضعاف ما يستطيع الإنسان أن يختزنه في ذاكرته.
وعلى الرغم من التقدير النظري الذي حظي به جسم المتعلم من بعض العلماء والمفكرين، إلا أن الممارسات التعليمية في معاهد التعليم الإسلامي قلما ضمت في مناهجها أوقاتاً مخصصة للأنشطة العملية المصاحبة للدروس المختلفة، وقلما حرصت على ممارسة التربية الرياضية... وهكذا، بينما كشفت لنا الدراسات التربوية والنفسية الحديثة عن خطر إهمال هذا الجانب.
وهناك مظاهر متعددة نجدها في موروثنا التربوي تركز على النظرة المثالية تأثراً بما كان عليه الفكر التربوي لدى الإغريق، بينما أثبتت الدراسات المعاصرة أن المسألة ليست انحيازاً إما إلى النظرية المثالية وإما إلى النظريات الواقعية، فالمتعلم وحدة مـتكاملة لها جوانبها الروحية والعقلية، كما أن لها جوانبها المادية الجسمية. وعندما نفتش في موروثنا التربوي فسوف نجد بعضاً يؤكد على هذا الجانب وبعضاً يؤكد على الآخر، وبعضاً ثالثاً يبصر ضرورة النظرة التكاملية، وبالتالي، فعندما ننتقي ونختار، نسعى إلى إبراز هذا الذي لا يتناقض مع ما كشفت عنه الدراسات العلمية الحديثة.
8- وهناك من وجَّه سهام نقد إلى موروثنا الحضاري على أساس أنه كان مستسلماً لعقلية غيبية؛ والعقلية الغيبية لا تعتمد المنهج النقدي التحليلي في معالجة الأمور، وهي عقلية إيمانية تمرست على الإيمان بما خفي عن الحس وعزّت معرفته على العقل، ولهذا أيضاً لا تعرف الشك الذي هو أساس التحليل النقدي في حوار العقل والطبيعة، ويترسخ لديها الاستسلام دون إيمان بالفعالية الذاتية، ولهذا نجد في الموقف مع المشكلات الطارئة اعتماداً على الغيب واستعانة بالسحر والرقي والتعاويذ، واعتماداً على رفض أو قبول مطلق للحدث دون وعي نقدي.
والحق أن هذا النقد ناتج مما حدث من خلط بين عالم الغيب وعالم الخرافة، فالقرآن الكريم، وفي الآية الثالثة من سورة البقرة نص على أن من أهم سمات وخصائص المؤمنين "الذين يؤمنون بالغيب"، على أساس أن الغيب هو ما يتصل بالله وملائكته والروح والبعث والعالم الآخر، وهناك نصوص متعددة تنهي الإنسان عن البحث في مثل هذه الأمور، على أساس أن الإنسان غير مزود بوسائل الإدراك التي تمكنه من ذلك، وضرورة الالتزام بحصر دائرة التفكير في هذا العالم الذي نعيشه ونحياه.
وفي هذا العالم الذي نحياه سنن وقوانين تحكم ظواهره المختلفة، والإنسان مـلزم بأن يأخـذها دائماً في اعتباره، ويرتب حياته على أساس ما يحكم الظـواهر الكونية من سنن، ونحن نعرف من سيرة رسول الله e ما سبق أن أشرنا إليه من تصادف أن كسفت الشمس وقت أن مات ابنه إبراهيم، الذي حزن عليه حزناً شديداً، فظن المسلمون أن ما حدث في الظاهرة الطبيعية إنما لموت إبراهيم، فإذا برسول الله ينكر ذلك، ويؤكد أن مثل هذه الظواهر من سنن الله لا تقع لموت أحد!!
كيفية التعامل مع الآخر التربوي
وقد تنادت أصوات عدة قبل التسعينيات من القرن الماضي إلى أن عصر الأيديولوجيات الكبرى قد انتهى، وكانت تلك الأصوات تُواجه بهجوم مضاد وخاصة من المعسكر الاشتراكي يؤكد أصحابه أن الصراع الأيديولوجي ما زال وسوف يظل قائماً، حتى إذا شهدنا انهيار منظومة الدول الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي، إذا بصوت المعارضة يخفت، بل لقد شهدنا - وخاصة في الدول النامية - تحولاً ملحوظاً لمثقفين، كثيراً ما حملوا لواء الاشتراكية وما كان يفرضه هذا من تحالفات "مع" و"ضد"، وأفكاراً وعُملة لفظية ولغة فكرية يتعاملون بها، إلى مواقف فكرية مغايرة إلى حد كبير، معللة ذلك بأن الدنيا تتغير والظروف تتبدل، ولابد للفكر أن ينفعل بهذا وذاك، وأن الجمود على ما يزعم أنه ثوابت إنما هو "تخلف" وعجز عن مواكبة العصر، وبالتالي فقد سادت المقولة التي تشير إلى انتهاء الصراع الأيديولوجي ما دام الخصم الكبير والقطب الثاني الذي كان حاملاً راية الأيديولوجيا قد رفع الراية البيضاء معلنا الهزيمة والاستسلام.
وفي رأينا أن هزيمة أيديولوجية بعينها مهما كان انتشارها وأيًّا كانت سطوتها، لا يعني بالضرورة انتهاء عصر الأيديولوجيات، ذلك أن هزيمة القطب الثاني قد واكبها إعلان القطب الأول أن ذلك انتصار لفلسفته هو ورؤيته العامة وهي "الرأسمالية" التي هي من غيـر شـك "أيديولوجيا"، لها منطلقاتها الفلسفية ومسلماتها وآلياتها وتفسيراتها لعديد من القضايا والمشكلات. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فلقد تجمعت مؤشرات متعددة لتعلن أن المواجهة التي قامت بين "الاشتراكية" و"الرأسمالية" قد تحولت الآن إلى شكل آخر من أشكال الصراع، بحيث يكون صراعاً بين "النموذج الحضاري الغربي" و"النموذج الإسلامي".
ولأن الغرب الحضاري لا يواجه منظومة سياسية تجمع عدة دول، فإنه اتخذ سبلاً جديدة للمواجهة مختلفة تماماً عن تلك التي واجه بها منظومة الدول الاشتراكية، فلم يعد من الحصافة وحسن السياسة وإدارة المعركة الاعتماد فقط على "حلف عسكري"، أو بوارج وغواصات وطائرات وصواريخ، لأن المستهدف في الوضع الجديد "عقول" و"فكر" و"اتجاهات" و"ميول" و"معارف" وهو ما يسميه بعضهم: "البعد الرابع"، على أساس أن الأبعاد الثلاث السابقة، وهي: العسكري، والسياسي، والاقتصادي، يجب أن تفسح مجالاً لبعد أصبح هو الأهم ألا وهو البعد الثقافي، مما يجعلنا نؤكد - بغير تعصب مهني وتحيز معرفي - أن المواجهة سلاحها الأساس هو "التربية"، بمعناها الواسع الذي يجعل منها تلك العملية المتكاملة الشاملة التي نسعى من خلالها إلى تنمية شخصية الإنسان.
وهنا نجد أن إحدى وسائل المواجهة أن يكون "الخطاب التربوي الإسلامي" على وعي بما يجب أن يكون عليه الأمر في التعامل مع (الآخر). والحق أننا لا نستطيع أن نزعم انفراداً "للخطاب التربوي" بكيفية بعينها في التعامل مع (الآخر) الحضاري، فهي قضية عامة، ما يصدق فيها على "الخطاب التربوي" يصدق على غيره، لكن ربما تكمن الخصوصية هنا في أننا إزاء بنية بشرية والعناصر التي تُكونها والأسلوب الذي تتكون به، والمقاصد التي تسعى عملية البناء البشري إلى الوصول إليها.
1- لعل أول قاعدة ينبغي إبرازها هنا هي ضرورة الانطلاق من مسلمة "حق الاختلاف"، واستقراء بعض آيات القرآن الكريم، يؤكد لنا هذا ويعززه، فمن ذلك: ((وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً)) (المائدة:48)، ((وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ)) (يونس:19)، ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)) (هود:118)، فكون الناس لم يعودوا أمة واحدة، فهذا يعني التباين والاختلاف والتعدد، الذي يؤدي إلى التعدد في تبادل المنافع وإلى الإثراء، ومن هنا يجيئ الاختلاف والتباين والتعدد في مظاهر الكون المختلفة، الحي منها وغير الحي، آية كبرى لعظمة الخالق، يقول عز من قال: (( وَمِنْ ءايَـاتِهِ خَلْقُ السَّمَـاواتِ وَالاْرْضِ وَاخْتِلَـافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ)) (الروم:22)، ويقول: (( إِنَّ فِى اخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَـاواتِ وَالاْرْضِ لآيَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ )) (يونس:6). ومما يشـير إلى مغزى التباين والاخـتلاف قـوله سبحانه وتعالى: ((وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـارَفُواْ)) (الحجرات:13)، فالاختلاف في صورة شعوب متعددة وقبائل متنوعة لا ينبغي أن يؤدي بالضرورة إلى صراع وتقـاتل، وإنمـا إلى تبادل المنافع والخيـرات، والرأي والفكر في قلب هذه الخيرات.
لقد اقتضت حكمة المولى عز وجل أن تكون لكل إنسان بصمة في أصابعه هي فيصل بين حق وباطل، ولقد أكدت الدراسات العلمية الأخيرة أن البصمة الخاصة بالإنسان ليست فقط في أصابعه وإنما هي أيضاً في صوته، وفي دمه، بل وفي خطوه، أفليس أقرب إلى الصواب أن نعترف أيضاً بأن لكل إنسان بصمة عقـلية تجعل من التعـدد والتباين بين نتاجها الفـكري ما يُقعّد لمشروعيتها وجوداً وفعلا ً؟ ومن هنا يجئ صوت الحق تبارك وتعالى: (( أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ )) (يونس:99)، ويحدد مهمة النبي الأمين e: (( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ )) (الرعد:7)، وأنه ((مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَـاغُ )) (المائدة:99)، و(( فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَـاغُ )) (الشورى:48).
2- ويرتبط بهذا أيضاً ضرورة الوعي بالتباين المعروف في الأبعاد الزمانية والمكانية، وما يؤدي إليه هذا من اختلاف وتباين في المشارب والأهواء والميول والنـزعات، والأفكار. إننا نعلم من غير شك أن هناك بيئة بعينها تصلح، بحكم ما فيها من عناصر ومكونات لزراعة القطن، على سبيل المثال، ولو أبدى إنسان يزور منطقة في دولة من دول الشمال سخرية من عدم زراعة سكانها للقطن، لاستحق منا سخرية أكثر، بل وإحساساً بأنه غير مستقيم التفكير، لأن مثل هذه المناطق لا تحمل من الظروف ما يمكنها من زرع القطن، فما بالنا بالنسبة للمنتج البشري من قيم ومشاعر وأفكار واتجاهات وخطاب ؟
إن الإنسان من خلال تلك العملية المستمرة في نمو الشخصية، منذ الميلاد، بل وأثناء تكونه في رحم الأم، وأكثر من هذا، بل وعند اختيار الزوجين، أحدهما للآخر، إلى ما شاء الله، إنما هو حصيلة عمليات تراكم وتفاعل في كل ما يمر به من متغيرات، مما تكون نتيجته الاختلاف والتباين مع (الآخر)، حتى بالنسبة - كما نرى في تجربتنا اليومية - لأخوين، من أب واحد وأم واحدة، تحت سقف واحد، فكيف أتصور أن يفكر "جون ديوي" - مثلاً - بالطريقة نفسها التي فكر بـها الشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية وشيخ الأزهـر الأسبق؟ وكيف ألوم "جان جاك روسو" على ما فكر فيه، بينما لم يفكر المؤرخ الكبير "المقريزي" بالطريقة نفسها ؟
إن هذا لا يعني أننا نبرر ونسوغ، وإنما كي "يفهم" القائمون "بالخطاب التربوي الإسلامي" (الآخر) حق الفهم، ومن ثم يستطيعون التحاور معه حق التحاور.
3- ويؤدي بنا هذا إلى التأكيد على ضرورة دراسة (الآخر) التربوي قبل التعامل معه. إن أسوأ ما نراه شائعاً مع الأسف الشديد بين من ينتجون "الخطاب التربوي" وغيره، هو أن كلاً منهم حريص على أن يقرأ لمن يتفق معه في الرأي، ويتغذى بصفة مستمرة على عيون ومصادر الفكر الإسلامي، وهذا ضروري لا جدال فيه، لكن مما لا ينبغي المجادلة فيه أيضاً ضرورة أن يستقرئ المربون ما أنتجه العقل الغربي من أفكار وآراء وفلسفات تربوية.
وإذا كان هذا الأمر متوافراً في كليات التربية إلى الدرجة التي تجعلنا نشكو من أن الدارسين لا يكادون يدرسون إلا هذا النتاج الفكري التربوي الغربي، بحيث يتحولون في النهاية إلى نسخ متكررة منه، إلا أننا نشير هنا إلى هؤلاء النفر المعنيين بالتربية الإسلامية، في بعض البلدان الإسلامية.
كانت باحثة تدرس معي لرسالتها للدكتوراه، ووضح من معرفتي الشخصية بها، بل ومما صرحت به في الرسالة أن مرجعيتها الفكرية هي المرجعية الإسلامية، ولم يكن موضوع الرسالة في التربية الإسلامية، وبطبيعة الحال فليس ضرورياً أن ينص في العنوان على أن الموضوع من موضوعات التربية الإسلامية، لكنها يمكن أن تعد كذلك مادامت المرجعية الفكرية هي العقيدة الإسلامية.
وتطلب أحد جوانب الدراسة أن تتناول بالنقد وجهة نظر ماركسية، فلما وجدت أن المرجع الذي استندت إليه هو لعالم من علماء المسلمين المعاصرين، أكن له احتراماً كبيراً، قلت لها: إن المفروض أن تقرأ أيضاً لأحد الماركسيين الذين تناولوا الموضوع، فأجابت بأن العالم المسلم موثوق في شهادته العلمية، فقلت: إنني لا أشكك أبداً في ذلك، ولكن منهجية البحث العلمي تقتضي، عندما نتناول موضوعاً، أن نقرأ لأصحابه، فمثلنا مثل القاضي لابد أن يسمع لشهود الإثبات، كما يسمع لشهود النفي، وله بعد ذلك أن يحكم بما يمليه عليه عقله وقلبه وإيمانه.
4- وإذا كانت دراسة (الآخر) وفهمه خطوة أساسية، فقبل ذلك لابد أن نكون دارسين لأنفسنا حق الدراسة، وذلك من خلال ما قدمناه عن كيفية التعامل مع الموروث الثقافى، إذ لا يستقيم مع المنطق بأي حال من الأحوال أن يقف الإنسان في حالة حوار وجدل مع (الآخر)، وهو على غير بينة بما يريد أن يدافع عنه ويوضحه وينشره، ويقنع به (الآخر)، وفقاً للقاعدة الشهيرة: فاقد الشيء لا يعطيه !
ومع الأسف الشديد فإن برامج إعداد الباحثين التربويين في كثير من الدول الإسلامية تكاد تهمل هذا البعد إهمالاً مخجلاً، ونشير هنا بصفة خاصة، ومن باب الصدق مع الذات، إلى برامج كليات التربية في مصر لطول خبرتنا بها، وإن كان هذا لا يعني انفرادها بذلك! ودراسـة الذات، لا تتم فقط بدراسة الموروث التربوي، فقبل ذلك لابد من الدراسة الجيدة لثوابت الإسلام المتمثلة في كل من القرآن الكريم والسنة النبوية.
لقد حدث مرة أن قدمت مقترحاً بإنشاء برنامج للدراسات العليا يُعنى بدراسة التربية الإسلامية، فإذا بوجهة نظر تقليدية تقف عقبة أمام تنفيذ هذا، بأننا لو نفذنا هذا لتقدم آخرون باقتراح أن يكون هناك برنامج آخر للتربية القبطية ! وعلى الرغم من أننا بصفة شخصية لا نرى مانعاً ولا خطورة من ذلك، لكننا نلفت الانتباه إلى كلية الحقوق - مثلاً - فهي توجب على من يتخرج منها دراسة الشريعة الإسلامية؛ لأن الكثير من القوانين في مصر مستنبطة منها، وكذلك يدرس طلاب الفلسفة في كليات الآداب الفلسفة الإسلامية، وطلاب التاريخ - مسلمين ومسيحيين - في كليات الآداب وفي كليات التربية يدرسون التاريخ الإسلامي، فلم لا يدرس طلاب التربية تلك التربية المستنبطة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ونحن نعد المعلم ليعلم أبناءنا الذين يعيشون ثقافةً، الكثير من عناصرها يستند إلى الحضارة الإسلامية، بثوابتها ومتغيراتها ؟
5- إن ما نود التأكيد عليه هنا هو أن التربية الإسلامية إزاء هذا الموج الزاخر المتلاطم من اتجاهات الفكر، والذي يتزايد كلما صعدنا في مدارج التقدم والرقي، يستحيل أن تربي أبناءها على مخاصمة (الآخر) باعتبارها وحدها هي التي تمثل الحق، ومن ثم فلابد أن يكون هذا (الآخر) مجانباً للحق، ذلك أن هذا (الآخر) يعتقد الشيء نفسه، أنه على حق، ومن ثم نكون نحن الذين قد انحرفنا عن هذا الحق، ومع ذلك فإن هذا لا يوجب إقامة الأسوار بين عقول أبنائنا وعقول الآخرين.
إن أهمية الحوار مع (الآخر) هنا ضرورة من وجهين: الأول، أن الحوار معه يتيح لنا أن نعرِّفه بما نملك من فكر واتجاهات، ومن ثـم، فمن يدري؟ ألا يُحْتمَل أن يقتنع بما نقول فنكسب واحداً، ويخسر (الآخر) هذا الواحد؟
والوجه الثاني: أن الحوار مع (الآخر) ينبهنا في كثير من الأحيان إلى جوانب ربما لم نتنبه إليها، وتاريخ الفكر الإسلامي زاخر بالأمثلة على هذا، وكيف أدى الحوار مع (الآخر) إلى أن يستعين فلاسفة المسلمين بالزاد الفلسفي الذي وجدوه في تراث اليونان ليطرقوا مجالات لم تكن مطروقة، ويصطنعوا أساليب لم تكن معروفة.
إن بعضنا يتخوف ويقول: إننا إذا أتحنا هذا لأبنائنا فلربما أغواهم هذا (الآخر) فتتزعزع معتقداتهم، وقد يصل الأمر بهم إلى أن يخرجوا عن الملة ويرتموا كلية في أحضان (الآخر).
والرد على ذلك أننا نكون عادة في موقف يماثل المواقف الحربية، لابد من خسائر، لكن الانتصار عادة ما يعوض المنتصر بالكثير. هذا جانب، ومن جانب آخر فإن هذا التخوف من شأنه أن يدفعنا إلى المزيد من حسن وعمق التعلم الإسلامي، فهذا هو سبيل أساس لرفع القدرات الفكرية على المنازلة العقلية لنخرج منها كاسبين لا خاسرين.
والحوار مع (الآخر) يقتضي الاستناد إلى الأدلة العقلية والبراهين المنطقية، وما نص عليه القرآن الكريم من "الجدال بالتي هي أحسن"، فالجدال الحسن هو ذلك الجدال الذي لا ينتج انفعالاً وعصبية، وهو الذي يعف في استخدام ألفاظ التخاطب، وهو الذي يعي أن استخدام الأدلة النقلية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، إن كان ضرورياً في مخاطبة من يقفون معنا على الأرضية العقيدية نفسها، إلا أنها قد لا تكون مناسبة ونحن نخاطب من لا يتفقون معنا على هذه الأرضية، إلا إذا كان هذا من أجل بيان ما تتضمنه من اتساق وعقلانية ومنطقية.
ومما يدخل في الجدال بالتي هي أحسن أيضاً الوعي بالحدود الواجبة بين (الذات) و(الموضوع)، فهناك عدد غير قليل يترك الجوانب الأساسية في القضية موضوع "الخطاب" أو الحوار والنقاش، لينحرف إلى التجريح الشخصي، بذكر بعض الأحداث الشخصية (للآخر) أو العيوب.
6- كذلك، فإننا إذا كنا قد ألححنا على ضرورة النظر النقدي في التعامل مع الموروث التربوي، فنحن هنا نلح على هذا النظر النقدي أكثر، ذلك أننا من غير شك نقر بأن المنجزات الحضارية للعقل الغربي مذهلة، وبعضها تجاوز الأحلام والتوقعات، وهذا في حد ذاته من شأنه أن يملأ الكثيرين بمشاعر انبهار وإعجاب يفقدها الثقة بالنفس، وضعف الإيمان بإمكان أن يتمكن العقل المسلم من المشاركة في الإنتاج الحضاري المعاصر، وربما يقع عدد غير قليل في حالة من الانهزام النفسي، والذي يؤدي بالضرورة إلى حالة اتباع وانسياق وراء كل ما هو غربي من غير إخضاعه لمحك الفحص والاختبار.
والنظر النقدي هنا لا يلزم فقط هؤلاء المنبهرين بما ينتجه العقل الغربي، بل هو يلزم كذلك هؤلاء الرافضين له، وهم كُثر بين ظهرانينا، ويخلطون بين حالة الاستياء والكراهية التي تبذرها بعض سياسات القوى المهيمنة، في حربها وإضرارها بالمصالح الإسلامية بحجج وذرائع متهافتة.. إن الرفض لا ينبغي أن يتأتى إلا بعد عمليات دراسة، وبحث، وتأمل، وفحص واختبار ونقد.
7- ومخاطبة (الآخر) تقتضي أن يكون المرء على قدر من المرونة بحيث يصبح مستعداً للاعتراف بأن رأياً له كان قد اعتقد في صحته، خطأ بناء على الأدلة والبراهين التي سمعها في حواره مع (الآخر) فيتنازل عنه، أو يعدل فيه، أو يضيف إليه. وأمر مثل هذا له محاذيره بطبيعة الحال، فالمرونة لا تعني بأي حال من الأحوال عدم التحدد وسرعة الميل والاتجاه عند أول معارضة، وإنما تعني دقة الحساب، وشدة اليقظة، وقدراً غير قليل من سعة الصدر والتفتح العقلي، والقدرة النافذة إلى ما وراء "الخطاب".
والوجه الآخر لما قد يكون من " ميوعة" وعدم تحدد، وسرعة الانقياد والاعتراف بالهزيمة، هو ما يكون عليه بعضهم من "تصلب" يختلط عند أصحابه بما يسمى الثبات على المبدأ، والثقة بالذات.
ويحضرنا بهذه المناسبة ما نقل عن أبي حنيفة، رحمه الله، من قوله: علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب. ويرد عندما يسأله أحد تلاميذه: أهذا الذي تعني به هو الحق الذي لا شك فيه؟ بقوله: الله أدرى، فقد يكون الباطل الذي لا شك فيه!
ويرتفع صوت علم آخر من علماء الأمة الفقهاء ليقول: رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب.
8 - ويترتب على هذا ألا نغلق أعيننا ونصم آذاننا عن كل ما ينتجه (الآخر) التربوي، من منطلق اعتقاد بأنه ما دام غير مسلم، فما رآه ووصل إليه لابد وأن يكون مغايراً ومناقضاً لما جاء به الإسلام ومفكرو التربية المسلمون، ومن يفعل هذا ينسى كيف أن رسول الله e، في خطوات الدعوة الإسلامية الأولى، وفي غزوة بدر قد أتاح الفرصة لأن يتعلم بعض المسلمين القراءة والكتابة على أيدي أسرى من كفار قريش! والحكمة الإسلامية التي عبر عنها رسول الله eأصبحت مشهورة وتجري مجرى المثل العام، حيث تقضي بأن " الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا " (أخرجه ابن ماجه)!
ومن هنا فلا جناح على أحد أن يقرأ ويفيد مما كتبه فلاسفة تربية غربيون، أثروا الفكر التربوي بالفعل بالكثير من الثمرات المتميزة، على مر التطور الحضاري عبر العصور.
9- وهناك مقولة مشهورة تجري على ألسنة كثير من الناس، لابد أن تكون جوهر قاعدة مهمة في التعامل مع (الآخر) ألا وهي: "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية"، والامتثال لهذه المقولة لا يتأتى إلا بالقدر الذي يملك فيه الإيمان بكثير من النقاط السابقة قلب المحاور أو صاحب "الخطاب"، وعقله ووجدانه، فإذا سلمنا بأن الاختلاف في الرأي سنة إلهية في طبيعة الإنسان، أيًّا كان الزمان وأيًّا كان المكان، وأن اختلاف أبعاد الزمان والمكان من شأنها أن تنعكس في اختلافٍ في المواقف والاتجاهات، وما دام المرء على وعي كاف بذاته، وبما عليه (الآخر) من مقومات وعناصر وتكوين، تكون النتيجة الطبيعية عند انتهاء المواقف الحوارية والخطابية باستمرار مساحة غير قليلة من الاختلاف، ألا يؤدي هذا إلى المخاصمة والمقاطعة، والتي قد تدفع إلى اسـتخدام العنف، الذي هـو إشـهار إفلاس فكري في مثل هذه المواقف، وصدق سبحانه وتعالى في قوله مخاطباً رسول الله e: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ)) (آل عمران:159).
ولابد من الاعتراف بأن كثيراً من هذه القـواعد والأصـول والمبادئ لا نحتاج إليها في التعامل مع ( الآخر) فقط، بل إن الخطوة المهمة حقاً أن يتعامل بعضنا مع بعض، أبناء الإسلام بها، ذلك أن تأملها جيداً يشير علينا إلى أننا نفتقدها في هذا المجال، ولو أننا نمارسها حق الممارسة لانعكس هذا غالباً على التعامل مع (الآخر).
نحو تجديد الخطاب التربوي
التجديد: ضرورة.. ومفهوماً.. وقواعد:
إننا نقرأ في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى: (( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً)) (المائدة:3)، ونجد في السنة النبوية الشريفة قول رسولنا الكريم e: " إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا" (أخرجه أبو داود في الملاحم)، فيشير لنا المنهج الإسلامي ووسطيته أن ليس هناك تناقض بين اكتمال الدين بتمام الوحي وختم النبوة والرسالة، وبين التجديد الدائم أبداً لهذا الدين، الذي اكتمل بختم الوحي وتمام القرآن الكريم، ذلك أن الإسلام عقيدة وشريعة، وأركان العقيدة فيه: الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر، أما الشريعة فهي تتناول ما ينهجه المسلم ويسلكه ويقيمه من عبادات، وقيم، ومعاملات، كي يعتقد هذه العقيدة ويتدين بها.
ولكل من العقيدة والشريعة أصول وقواعد وأركان، اكتملت بتمام الوحي الذي اكتمل به الدين، لكن الإنسان المسلم، بحكم استخلاف الله سبحانه وتعالى له، في عمارة الأرض، وسياسة المجتمع، وتنمية العمران، لابد، وهو يقوم بمسؤوليات هذه الخلافة، من إقامة أبنية أخرى، فكرية وحضارية، يبدعها هو فوق هذه الأصول والقواعد والأركان.
وعملية النهوض الحضاري وقودها الرئيس الذي لا يختلف عليه اثنان هو: المعرفة المتجددة المتطورة، لأن كل ما نفعله يستند إلى هذا النوع من المعرفة، فلكي نعيش، يتعين علينا بكل بساطة أن نحول الموارد المتاحة لنا إلى الأشياء التي نحتاج إليها، وهو ما يتطلب تجديداً في المعرفة. وإذا أردنا أن نعيش في الغد أفضل مما نعيش اليوم، وإذا أردنا أن نرفع مستوى حياتنا كأسرة أو كبلد، وأن نحسن صناعة ونعلم أولادنا أفضل تعليم، وأن نحافظ على بيئتنا المشتركة، فعلينا أن نقوم بما هو أكثر من تحويل المزيد من الموارد، لأن الموارد شحيحة، وعلينا أن نستخدم هذه الموارد بالطرق الكفيلة بتوليد عائد متزايد بما نبذله من جهود ونقوم به من استثمارات، وهذا أيضاً يتطلب معرفة تتحسن وتتطور وتتجدد يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة.
ويعتبر تجديد التعليم للأفراد والبلدان مفتاح تطوير المعرفة وتطويعها ونشرها، فالتجديد والتطوير في التعليم الأساسي يزيد من قدرة الناس على التعليم وتفسير المعلومات، ولكن تلك هي البداية فقط، لأن هناك حاجة كذلك تطويراً وتجديداً للتعليم العالي والتدريب الفني من أجل بناء قوة عمل قادرة على مسايرة التيار المتدفق في التدفق التكنولوجي، ذلك التيار الذي يضغط الأدوات ويزيد من سرعة انخفاض رأس المال البشري.
وفي خارج غرف الدراسة، تشكل بيئات عمل الناس ومعيشتهم مجالاً لمزيد من تجديد التعلم، فيما وراء المراحل العمرية المرتبطة بالتعليم الرسمي، وذلك بالإضافة إلى أن نطاق منافع التعليم المتطور يمكن أن تمتد إلى ما هو أبعد من دائرة المتعلمين، فتعليم الأم ما يستجد من المعرفة ينعكس في شكل رعاية صحية أفضل، وتغذية أفضل لأبنائها، كما أن المزارعين المتابعين للتطوير المعرفي يميلون إلى الأخذ بالتكنولوجيات الجديدة قبل غيرهم، وهم بذلك يوفرون لمن يتبعونهم معلومات قيمة ومجانية عن أفضل الطرق لاستعمال الأساليب الجديدة.
ولكي يقوم "خطاب التربية الإسلامية" بما هو مأمول له في عصرنا الحاضر، وفي المستقبل، فلابد من أن يرتكز تجديده إلى ثلاث ركائز: العقل، والنص، والأدوات:
فأما العقل فأول شروطه، ليكون في ذلك التجديد مساهماً، "الحرية"، ونعني بها انطلاقة ذاتية غير متأثرة بمنفعة شخصية، أو هوى متبع، أو فكرة سابقة مسيطرة.
وأما النص، فشرطه: المناسبة والمواءمة للإنسان كله، داخله وخارجه، ظاهره وباطنه، وكلنا يدرك أن الإنسان، والقياس مع الفارق، كالآلة التي تحتاج إلى دليل يبين تركيبها وطريقة عملها وتشغيلها، وهذا الدليل من فعل صانع الآلة، وكذلك الإنسان، ومن باب أولى، لابد له - كما أسلفنا - من دليل يجد فيه تركيبته ووصفه ووظيفته، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان من صانعه، فلنبحث عن صانعنا، وقد بحثنا، فكان الله عز وجل، ودليله إلينا كتابه القرآن الكريم، فإن كان هناك شك في الصانع، أو في الدليل، من حيث الثبوت والنقل، فليقدم كلٌ ما عنده، وبيننا وبينه الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن.
وأما الأدوات، فيجب استنفار كل ما كان، وما صار في خدمة النص، تستخدمها الحركة العقلية. والاقتصار على أدوات ما ضية يفقد التجديد بعض مصداقيته، كما أن اعتماد الأدوات المستجدة فقط يجعل التجديد قطيعة مع النص، لأننا لم نعتبره من خلال السابقين فقط، ومثالنا على ذلك أن أسلافنا قد اعتمدوا أدوات منها المنطق واللغة والبلاغة، واليوم يطلع علينا عالَم الاستنباط بأدواتٍ جديدة منها: اللسانيات، والإنسانيات، والتحريات الأثرية، والاجتماعيات، والنفسيات.. إلخ، فلم لا تُتقن من قِبَلنا وسائلُ نتفاعل بها مع النص الإلهي لخدمة التربية؟
ولابد أن يكون من الواضح لنا أن التجديد هنا يطال "الخطاب"، وليس الدين نفسه، لأن الدين كما هو مرتكز في أذهاننا جميعاً ثابت في عناصره الأساسـية والجوهرية، وفي نصوصـه الثابتة، وبالتالي فإن التجديد لا يمكن أن يطال القيم الأساسية والمبدئية للدين، وإنما يطال الجوانب القابلة للتغيير والتطور، وأبرز ما يمكن أن يكون ميداناً للتجديد هو قراءة النصوص الإسلامية وقراءة المفاهيم الإسلامية، التي تتغير من مرحلة إلى مرحلة، ومن عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى مجتمع، على نحو يكون التجديد فيه هو القراءة التي تحاول أن تستلهم النص الديني في ثوابته الأساسية، ولكن في الوقت نفسه أن تضفي على هذه القراءة روح العصر التي تتم فيه هذه القراءة، وبالتالي يصـبح لكل عصر، ولكل مرحلة سماتها المميزة لقراءة النص الإسلامي.
ومن هنا كان من المهم للغاية الالتزام بعدد من القواعد المنهجية في هذا التجديد، هي:
أولاً: إن التجديد الذي يريد "الخطاب التربوي الإسلامي" هو الذي لا ينقطع ولا ينفصل عن التأصيل، وإن ما نريده هو التجديد وليس الإحياء، فالتجديد هو أعمق من الإحياء، ذلك أن الإحياء بعث للروح، والتجديد بناء وتطوير، والتكامل بينهما. والإحياء قد يسبق التجديد، ويكون مقدمة له. والتجديد لا يعني مجرد المعاصرة، كما لا يعني مجرد التجديد، بمعنى التغير التلقائي الذي لا يخضع لتخطيط .
ثانياً: إن التجديد الذي نريده في "الخطاب التربوي الإسلامي" ليس دينياً منقطعاً عن الجانب المدني، ولا مدنياً مفصولاً عن الجانب الديني.
ثالثاً: إن التجديد في "الخطاب التربوي الإسلامي" إنما يكون بعودة الفروع إلى الأصول، وانطباق الأصول على الفروع.
وإذا كان "الخطاب التربوي" القديم قد اشتغل على الصعيد الداخلي بالأبعاد التربوية للإشكاليات الناتجة عن الفهم البشري للإسلام ولعقائده وتصوراته، مثل القضايا الكلامية والعقائد وشروحها، والعمق فيها والتفلسف فيها، فقد اشتغل على الصعيد الخارجي بالجولات والحوارات مع الأفكار التي احتك بها مع الجماعات التي اعتنقت الإسلام، وانتقلت أفكارها إلى المجتمع الإسلامي، كالفلسفة اليونانية والديانات القديمة الموجود كاليهودية والنصرانية والزرادشـتية والبراهـمية، وهذه كلها ديانات كان لها وجود وحضور وممثلون، ولها مؤلفات وأفكار رائجة في البلدان التي انتشر فيها الإسلام، وقد اشتغل "الخطاب التربوي الإسلامي" بهذه القضايا، وكان لزاماً عليه أن يشتغل بها.
و"الخطاب التربوي الإسلامي المعاصر" له قضاياه التي يعيشها اليوم، مثل العدل التربوي، وتمويل التعليم، والتعليم المستمر، والتعليم المفتوح.
فهذا اختلاف بين القديم والحديث من حيث مادة العمل والمعارك، وهو اختلاف طبيعي، يبقى القاسم المشترك للقديم والحديث والمعاصر معاً هو المرجعية الإسلامية، والفضاء الإسلامي الذي يتحرك ويتنفس فيه هذا "الخطاب".
ويمكن الحديث عن "خطاب إسلامي تربوي تقليدي" ولو كان معاصراً، و"خطاب إسلامي تربوي معاصر"، ولو كان تقليدياً، وهذه هي مسألة التقليد والتجديد في الفكر و"الخطاب الإسلامي".
"فالخطاب الإسلامي التجديدي" هو: "الخطاب" الذي يعتمد البحث والنظر والدليل والحجـة، ويبدع ويبـتكر ويتعامل مع النصوص مباشرة، كما يتعامل مع واقعه فيفهمه ويستوعبه ويستخرج له الحلول من هدي الإسلام ومقاصده، دون أن يلتزم بالتقليد أو يتقيد بما اشتغل به السابقون من حيث إنهم أغلقوا أبوابهم على علومهم فقط، واشتغلوا بما أعطاه سـابقوهم فقط، حتى ولو كان معاصراً، فلدينا اليوم تقليديون معاصرون كُثر منكمشون في البحث بين سطور القديم، باحثون عما قاله فلان، ومحققون لما رواه أو كتبه فلان!!
مهام ومجالات التجديد
ومن هنا، فإن من مهام ومجالات التجديد:
أولاً: إن أولى مهام "الخطاب التربوي" الكفيل حقاً بالمساهمة في النهوض الحضاري للأمة لابد أن يكون نابعاً بالدرجة الأولى من الإسلام عقيدة وشريعة، ذلك أن الخروج من أزمة التخلف الذي تعيشه التربية الإسلامية المعاصرة لا يمكن أن يتحقق بأدوات حضارية مقطوعة الصلة بالإسلام وحضارته وثقافته ونظامه القيمي. ومهما بدا لبعض المحللين والمؤرخين والمصلحين من وجود "أدوات للنهضة" مستقلة تماماً عن روح الحضارات المتميزة فإن الحقيقة التاريخية تؤكد أن التفاعل مع هذه الأدوات والاستجابة لتأثيرها لا يكتملان أبداً في إطار الشعور "بالغربة عنها"، وهو شعور يضيع الثقة بالنفس، ويزرع الاعتقاد بالعجز.
إن الدعوة إلى الأخذ من ثقافة الآخرين، مهما بدت مبررة ومقنعة، فإنها تظل محملة بخطرين كبيرين:
أولهما، أن تتحول الاستجابة لها إلى استجابة مطلقة، تأخذ مع "الأدوات الحضارية"، "قيماً حضارية"، ومع الأساليب التقنية أساليب حياة ومعيشة، ونظماً للعلاقات الإنسانية، أي تحمل مع "أدوات النهضة" أدوات "للانتكاس" في ميادين أخرى، وتنتقل إلى البيئة المحلية مع أسباب التقدم، أمراضُ التقدم وأعراض الأزمة المصاحبة له.
أما الخطر الآخر، فهو خطر الاستجابة الناقصة، نتيجة المقاومة الداخلية والباطنية الناشئة من الإحساس بالخطر، والشعور بالغربة إزاء "أدوات التقدم" المستعارة. إن الشعوب في مراحل ضعفها، وإحساسها بأخطار الغزو الثقافي والسياسي تميل - بتلقائية فطرية - إلى الانغلاق على نفسها، وإغلاق النوافذ في وجه التيارات الوافدة، وتثبيت أقدامها في أرضها المحلية خوفاً من أن تقتلعها العواصف القادمة.
لهذا فإن استخراج أدوات النهضة، وشروط التقدم، يغدو المسلك الأمثل، إن لم يـكن الطريق الوحـيد الفعال، لمتابعة مسـيرة التقدم متابعة لا يتهددها خطر الاندفاع الذي ينخلع أصحابه من ذاتهم، ولا خطر الرفض والتحفظ ومقاومة "الأدوات الجديدة" لأنها وافدة وغريبة، وتحمل في طياتها مداخل متعددة للتبعية، وفقدان الاستقلال وضياع الهوية.
ومؤدى هذا أن يضع "الخطاب التربوي الإسلامي" نصب عينيه أن لكل حضـارة ما أصبح يعرف "بالنموذج المعرفي" أو "النظام المعرفي"، فكل إنسان، شاء أم أبى، يستخدم نماذج معرفية تحوي مسلمات كافية ونهائية، وذلك في أبسط عمليات الإدراك، بوعي أو بدون وعي منه، وقد شبه استخدام النماذج باستخدام قواعد النحو أو قواعد الهندسة، فحينما يتحدث الإنسان لغته، وحينما يبني بيتاً (وبخاصة في المجتمعات التقليدية) فإنه يستخدم قواعد النحو أو الهندسة دون معرفة سابقة أو واعية بهما.
وإذا كان هذا صحيحاً - وهو بالفعل صحيح - في كل عصر، فإنه يزداد أهمية بالنسبة للمسلمين في عصرنا الراهن، ذلك لأن النموذج الفقهي (الإسلامي التقليدي) كان يعيش داخل الحضارة الإسلامية، يعيش مفرداتها، ونحوها الإسلامي، ولذا كان الفقيه القديم يواجه تحديات، ويحاول الإجابة على أسئلة تطرح عليه داخل الحضارة الإسلامية لا من خارجها، ولكن اختلفت الآية الآن، فنحن نتحرك داخل حيز غير إسلامي، وداخل تشكيلات حضارية غير إسلامية، وواقعنا ليس من صنعنا، ومن ثم تطرح علينا قضايا وأسئلة غير إسلامية.
ومن هنا فإن المطلوب من "الخطاب التربوي" هو أن يتبنى مبدأ أن يكون الإسلام هو منطلق العلوم التي يتم تعليمها في معاهد التعليم ومنهاجها في العمل، وهي في ذلك بحاجة إلى أن تعتمد على فهم أصيل للإسلام، ومعاصر في الوقت نفسه.. أصيل، بمعنى أن أصوله تستمد من القرآن والسنة الصحيحة وتلتزم بهما وحدهما، مستأنسة بما عداهما.. ومعاصر، من حيث استشرافه تطبيقات معاصرة لتلك الأصول تلبي الحاجات الحقيقية للأجيال المعاصرة، ولا تنكفئ عقلياً ونفسياً على مشكلات وحاجات أمم قد خلت (( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم )).
كذلك فإن عملية التأصيل العام "للخطاب التربوي الإسلامي" لابد أن تقوم على أساس الوعي بالتمييز بين جانبين:
أولهما، هو الإطار الفلسفي العام الحاكم للنظر العلمي، فما من حركة نهضة، وما من حركة علم إلا - كما نؤكد مراراً وتكراراً - وهي محكومة بمنطق معرفي فلسفي عام، هو الذي يعطي الحضارة تميزها الخاص، ويجعلنا نقول: بأن هذه حضارة هندية مثلاً، وتلك حضارة إسلامية، وهذه حضارة يونانية، وتلك حضارة صينية... وهكذا.
ثاني الأمرين، هو المحتوى المعرفي للأنساق المعرفية المختلفة: فيزياء، كيمياء، طب، اقتصاد... وهكذا، في مثل هذا الجانب لا نجد اختلافات بين الأمم والشعوب، إلا بمقدار درجة التقدم العلمي بحكم التطور التاريخي.
ويمكن إيجاز المعالم الأساسية للإطار الفكري الفلسفي الذي يبرز عملية التوجيه الإسلامي في الخطوط العريضة التالية:
- خلق الله كل شيء بقدر، لذلك لا يجوز وصف أي من الموجودات الكونية بالعبثية.
- يحكم الكون نظام دقيق يتأسس على مجموعة من القوانين المطردة القابلة للاكتشاف بواسطة العقل البشري، لذلك لا يصـح إضفاء الصدفة أو العشوائية على ظواهر الوجود.
- يضفي النظام الكوني وحدة وتكاملاً على الخليقة من خلال ربط مكونات الوجود بنوعين من العلاقات: علاقات عِلِّـيَّة تربط العلل بمعلولاتها، وعلاقات غائية تربط الغايات بالوسائل المؤدية إليها.
- المعتقدات الإسلامية التي تشكل القاعدة القَبْلية للتفكير لا يمكن أن تتناقض مع مبادئ العقل من خلال الخبرة الإنسانية.
- إن تسخير الكون للإنسان يجعله خاضعاً لقدرات الإنسان، وقابلاً للتكيف والتشكل وفق إرادته والاستجابة لحاجاته ومقاصده.
- لا يمكن اعتبار أي بحث في طبيعة الخلق نهائياً أو ختامياً، نظراً لاستحالة حصر أنساق الخلق والإبداع الإلهي، ولذلك فإن إبداع العقل المسلم على الأدلة المتجددة والنظر في المعطيات المستجدة ضرورة عقلية وإيمانية.
- ترتكز معاني التنـزيل على ركنين أساسيين: القواعد البيانية والبلاغية للغة العربية، والواقع الإنسانى المعيش.
- يتميز السلوك الطبيعي عن الفعل الإنساني في خضوع الأول إلى قوانين ضرورية لازمة، واعتماد الثاني على قواعد مختارة، تبناها الإنسان بمحض إرادته الـحرة، وتبرز مصداقيتها عبر الوساطة الإنسانية بمختلف تجلياتها التاريخية.
ثانياً: ومطلوب من "الخطاب التربوي" أن يعطي اهتماماً بالغاً لقضية "التنمية العقلية"، دون أن يعني هذا أن هناك قوة معينة اسمها العقل كامنة داخل الدماغ، ذلك أن المفهوم الذي ساد طويلاً عن العقل باعتباره قوة قائمة بذاتها، دفع مفكري التربية إلى التأكيد على أهمية حشوه بالمعارف والمعلومات، على أساس أن هذا من شأنه أن "يقويه"، تماماً مثل القول: بأن تناول الجسم كماً معيناً من الغذاء من شأنه أن يقويه. إننا نشير إليه هنا باعتبار أنه "فعل"، ونمط معين من السلوك يتسم بالمنطقية والرشد.
ولعل هذا يفسر لماذا لم يرد اسم "العقل" بالقرآن، وإنما جاءت الإشارة إلى عملياته مثل التدبر والتفكر والتبصر... وهكذا.
وأهمية هذه النظرة تربوياً تكمن في أننا لا نسعى إلى أن "نخزن" معارف ومعلومات داخل عقل، خاصة وأننا في عصر عرف بأنه يمثل عصر المعلوماتية بما يتسم به من سيولة لا مثيل لها في تدفق المعلومات، بحيث أصبح من المستحيل أن يستهدف التعليم تزويد المتعلمين بمثل هذا الكم الرهيب، ومن ثم فالحل يكمن في تنمية التفكير، وفي التنمية العقلية، بحيث يمتلك المتعلم قدرة ومهارة على أن يبحث عن المعرفة بنفسه، ليظل دائماً أبداً متعلماً، وبحيث يملك القدرة والمهارة على الفحص النقدي لما يرد إليه من معلومات، وبحيث يملك القدرة والمهارة على توظيف مثل هذه المعلومات فيما هو نافع له ولأمته، وبحيث يملك القدرة والمهارة على حسن الاختيار والانتقاء من هذه المعلومات. وفضلاً عن ذلك، فإن أجهزة الحاسب الآلي أصبحت تقوم عن الإنسان بعمليات خزن المعرفة واستدعائها بدرجات ومستويات تفوق قدرة الإنسان الفرد بمراحل، وبالتالي يكون على التعليم أن يستغل هذه الفرصة فيوجه اهتمامه وتركيزه على العمليات العقلية نفسها.
ومن أولى خطوات التنمية العقلية، تحرير العقل المسلم من الجمود والتقليد الأعمى، وتحريره من الغرور، وتحريره من الهوى.. تحريره من الجمود والتقليد الأعمى للسلف، سـواء أكان هذا السلف هو سلفنا نحن، أم سلف الحضارة الغربية، فالجمود النصوصي آفة، سواء أكانت هذه النصوص من موروثنا نحن أم مستوردة عن (الآخر) الحضاري.. والغرور العقلاني الذي يزعم أهله قدرة العقل على الاستقلال بإدراك أي شيء، إلى الحد الذي يحكمون فيه "بالاستحالة" على كل ما لا تدركه عقولهم، هو موقف أشبه بعبث الطفولة، مع افتقاره إلى براءة الأطفال.
ويبدو أن تقاليد "احترام" الأكبر في السن أو المقام تقاليد متأصلة في ثقافتنا، صاحبها نوع من الانحراف بمفهوم "الاحترام" ليضم إلى معانيه قبول الرأي من الأكبر وعدم إظهار المخالفة إلا في أضيق الحدود. رجعت امرأة عمر زوجها في شيء فغضب فقالت: ولِمَ تغضب من مراجعتي وابنتك حفصة تراجع رسول الله e والوحى ينـزل عليه؟ فقال: أو تفعل ذلك؟ فقالت: نعم، فذهب عمر إلى حفصة مغضباً فأخبرته بصحة ذلك، وبأن ذلك من خـلق رسول الله، فظن أن ابنته متأثرة بما تفعل عائشة لصغر سنها، وقربها من رسول الله، فأكدت حفصة أن الأمر أمر سلوك يريده رسول الله e ويشجع عليه كل من حوله، وليس أمر خصوصية لأحد.
وشبيه بهذا أن نطالب المعلمين ألا يرددوا ما كلفوا بتدريسه ترديداً أعمى، بل لابد أن ينقدوه، فيتصورون هذا مستحيلاً، على أساس أن الكتب المقررة قد كتبها - غالباً - أساتذة جامعيون كبار، وكأن هؤلاء محصنون ضد النقد، والشيء نفسه بالنسبة للطلاب، حيث يتصورون أن المعلمين دائماً فوق مستوى الشبهات، ومعصومون من الخطأ.
وإذا كان السبيل الأساس لتنمية العقل هو إتاحة فرصة حرية التفكير أمامه، فإن بعضهم يضع محاذير خاصة بكتابات قد تكون ضالة تنشر الضلالات بين الناس، لكن التجربة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن فساد الرأي لا يستقيم بحجبه ومصادرته، وإنما الوسيلة الأوفق هي إفساح المجال أمامه كي يظهر ويعلن عن نفسه، مسفراً عن وجهه وحقيقته وحجته، حتى يتعامل معه المصلحون على مرأى ومسمع من الجميع، وليس هذا هو منطق العقل وحـده، وإنما هو منطق الشرع أيضاً، الذي نستدل عليه من مطالعة كتاب الله، الذي أثبت بين دفتيه جميع المقولات التي ترددت في نقض الرسالة والنبوة، بل وفكرة الألوهية والتوحيد ذاتها، سواء صدرت تلك الدعاوى عن الكارهين، من أتباع الديانات السماوية، أو صدرت عن المنافقين أو المشركين.
ومن سبل تنمية العقل، الإيمان الذي لا يتزعزع بالتكامل بين الوحي والعقل، فإذا كان العقل هو وسيلة الإنسان للإدراك وطلب الأسباب وحمل المسؤولية، فإن الوحي المنـزل إلى الإنسان من لدن الخالق العظيم مقصود به هداية الإنسان وتكميل إدراكاته بتحديد غايات الحياة الرشيدة للإنسان وتحديد مسؤولياته في هذه الحياة وترشيد توجهاته فيها ووصل إدراكه الجزئي بالمدركات الكلية فيما وراء الحياة وعلاقات الكون، وكليات المركبات والعلاقات والمفاهيم الإنسانية والاجتماعية اللازمة لتمكين العقل الإنساني والإرادة الإنسانية من حمل مسؤوليتها وترشيد جهودها وتصرفاتها وفق الغايات المحددة لها في هذه الحياة، ولذلك فالوحي والعقل كلاهما ضروري للإنسان، وهما متكاملان لتحقيق الحياة الإنسانية الصحيحة في هذه الأرض.
كذلك يجب على "الخطاب التربوي" أن يوجه الانتباه إلى أهمية تدريب المتعلم على النقد الذاتي بدلاً من التفكير التبريري.. والنقد الذاتي هو ذلك الأسلوب من التفكير الذي يحمل صاحبه المسؤولية في جميع ما يصيبه من مشكلات ونوازل، أو ما ينتهي إليه من فشل.. والمقصود بالتفكير التبريري ذلك التفكير الذي يفترض الكمال بصاحبه، وإذا أخطا برأه من المسؤولية وراح يبحث عن مبررات خارجية وينسب أسـباب الأخـطاء أو القصور والفشـل إلى الآخرين، ومن هـنا يجيئ قـول المولى عز وجل: ((وَمَا أَصَـابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)) (الشورى:30).
والواقع أن التحليل الدقيق للأخطاء التي تقع يوضح أن هذه الأخطاء والمصائب هي مسؤولية من تنـزل به؛ لأن المصيبة هي وليد يولدٌ من تزاوج قوة بقوة، يقول عز وجل: (( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّـاهُمُ الْمَلَـئِكَةُ ظَـالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَـاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً)) (النساء:97).
ومما يندرج في هذا الإطار كذلك الإقلاع عن ذهنية القطع بالصحة والصواب فيما كان رأياً أو اجتهاداً، ذلك أن من مقومات تكوين النظرة الصحيحة نحو المسلم المختلف، التعامل معه من منطلق الشعور بقصور الذات واتهام الرأي الشخصي والإقرار بمحدودية القرارات الخاصة، كيلا يقع المرء -وهو يختلف ويحاور - بوهم العُجب فينساق إلى الادعاء بأنه قد قبض على الحقيقة كاملة، وأن الحق معه غير منقوص، وما كان عند الآخرين ليس باطلاً أو سراباً.
ثالثاً: وإذا كنا قد أشرنا في جزء سابق إلى أن من أهم سلبيات "الخطاب التربوي الإسلامي"، ندرة الاهتمام بقضايا ومشكلات الواقع التربوي، فإن هذا يستدعي بالضرورة الإلحاح على حتمية التخلص من هذه السلبية، فبقدر حرص "الخطاب التربوي" على الاهتمام بالهموم التربوية المعاصرة والمستقبلة، بالقدر الذي يقـدم فيه أوراق اعتماده لدى الجمهور - إذا صح هذا التعبير الدبلوماسي المعروف - كي يكون مقبولاً معترفاً به، فالحديث عن الماضي وحده لا يكفي، ذلك أن الناس تكاد تغرق في كم من المشكلات التي تحاصرهم ليل نهار، يتوقون إلى من يقدم لها حلولاً شافية.
ولو شئنا أن نسوق مثالاً لذلك، فهناك في الوقت الحالي مشكلة معقدة تتعلق بتمويل التعليم، فقد عاش بعض من البلدان العربية، وبلدان إسلامية أخرى، تحت مظلة توجه سياسي وفكري يرى أن تقوم الدولة عن الأفراد بعبء تكلفة التعليم. فلما هبت أعاصير أخرى مغايرة، إذا بتوجه مختلف ينادي بضرورة أن يتحمل الأفراد هذه التكلفة، خاصة وأن الدولة قد ناءت بأعباء كثيرة أصبحت معها قدرتها على استمرار التمويل الكامل مستحيلة. وتم بالفعل فتح الباب لمشاركة الجهود الخاصة في هذا الشأن، لكن النتيجة الحاصلة حتى الآن قد لا تبشر بخير، ذلك أن رأس المال الخاص قد توحش، فإذا به يسعى إلى افتراس الناس امتصاصاً لما في جيوبهم!
- فما الحل؟
يحتاج الأمر من نفر من علماء التربية، ورجال الجهاز التنفيذي للتعليم، وعلماء شريعة وقانون واقتصاد كي يتدارسوا كيفية الاستفادة من خبرة الحضارة الإسلامية بالنسبة للوقف الخيري، الذي كان يقوم بتمويل مؤسسات التعليم طوال العصور الإسلامية إلى الدرجة التي كفل عندها رفع عبء المصروفات عن كاهل الطلاب، بل والقيام بكفالة ملبسهم وإقامتهم وتغذيتهم، والقيام على كافة الخدمات المطلوبة للمؤسسة التعليمية، فضلاً بطبيعة الحال عن دفع رواتب المعلمين، والإداريين، والعمال اللازمين للمؤسسة.
كذلك شهدنا، منذ أواسط السبعينيات، في بعض البلدان العربية والإسلامية، اندفاعاً كبيراً إلى افتتاح مدارس تعلم باللغة الأجنبية، وخاصة الإنجليزية، استناداً إلى دعوى بأن الإنتاج الحضاري كله على وجه التقريب، هو باللغات الأجنبية عامة والإنجليزية خاصة، ولابد من إتقانها حتى يمكن استيعاب مثل هذا الإنتاج الحضاري، ونسي هؤلاء أن اليابانيين، والصينيين، مثلاً، هم ممن أصبحـوا في مقدمة ركب التقدم الحضـاري، ولا يعلمون إلا بلغتهم القومية.
وترتب على هذا انحسار تدريجي للغة العربية، الذي لابد أن يترتب عليه انقطاع تدريجي بين ملايين من أبنائنا من الأجيال القادمة وبين الأداة الرئيسة للتواصل مع منابع الثقافة الإسلامية، حتى المدارس التي رفعت شعار الإسلامية في اسمها، وجدت نفسها بكل الأسى وبكل أسف وقد انجرفت كارهة، إلى المنـزلق نفسه.
مثل هذه القضية الخطيرة، تحتاج من علماء التربية والدين واللغة، عربية وأجنبية، إلى تدارسها، بحيث يظل أبناؤنا متواصلين مع عيون ذاتهم الحضارية الإسلامية، قادرين على التواصل كذلك مع الإنتاج الحضاري الغربي.
وما زالت الإحصاءات تشير إلى أن ما قد يصل إلى عشرات الملايين من أبناء الأمة العربية والإسلامية على حال من الأمية الأبجدية، في الوقت الذي تجاوزت فيه دول كثيرة في العالم مثل هذه الأمية وبدأوا يتناولون أنواعاً أخرى مثل الأبجدية "الكومبيوترية"، وغيرها من الأنواع التي تؤكد رغبة عارمة في اللحاق بركب الإنتاج الحضاري.
مثل هذه القضية، لابد أن تكون من هموم "الخطاب الإسلامي التربوي"، خاصـة وأن الأمة الإسلامية في حال استضعاف لن تتخلص منه - بعد حسن الوعي والاستيعاب والعمل بدينها - إلا بأن تعب إلى أقصى درجة ممكنة من العلم الحديث والتكنولوجيا، ولها في القرآن الكريم والسنة النبوية زاد لا ينضب من الدعوة الملحة على طلب العلم والتعليم، مما تناولته كتب متعددة، ويكفي هنا أن نكرر الإشارة إلى النموذج العملي التطبيقي الشهير الذي سبق أن أشرنا إليه إبان غزوة بدر، حيث كان فداء الأسير من كفار قريش أن يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.
وفي أيامنا الحالية تجيء إلينا الأنباء مفزعة، ذلك أن القوى المهيمنة، بعد أن مكناها نحن المسلمين، أو الأحرى بعض منا، من أن تغتال بلداناً إسلامية، بدأت تخطط لوأد التعليم الديني الإسلامي، وعلى أقل تقدير، لتحجيمه والإقلال منه بزعم أنه يشكل بؤراً لما يسمونه بالإرهاب (!)
وهاتان خطوتان على جانب كبير من الخطورة، ولسنا في معرض التأكيد على جوهرية هذا التعليم للأمة جميعاً، بإعادة تشكيل أبنائها ليكونوا ذوي شخصيات إسلامية وفقاً للهدى القرآني والنبوي، مما يفرض على القائمين "بالخطاب الإسلامي التربوي" أن يهرعوا إلى كشف أوجه الزيف في هذه الخطوات، مستخدمين الإحصاء الذي يؤكد أن الكثرة الغالبة من الذين ارتكبوا أعمال عنف تحت المظلة الدينية لم يكونوا نتاج تعليم إسلامي، بل نتاج تعليم مدني، دون أن يعني هذا الدعوة إلى التقليل من التعليم المدني، وضرورة التساؤل عن الموقف من معاهد التعليم غير الإسلامية، وخاصة اليهودية التي تعلن صراحة نهج البغض والتحريض ضد غير اليهود ؟!
ولابد أن نعترف أن هناك عدداً من المشكلات التعليمية تتصل اتصالاً وثيقاً بصور خلل هيكلي في البنية المجتمعية، ولا يعني هذا أنها تصبح خارج مسؤولية "الخطاب التربوي الإسلامي"، كلا، فدوره هنا أن يقتحمها تحليلاً وشرحاً وتفسيراً وتصوراً لما يمكن أن يقدم حلاً لها.
وعلى سبيل المثال، فإن مشكلتي (الدروس الخصوصية)، و(الغش الدراسي)، إذا كانت لهما أسبابهما القائمة في جسم التعليم، فإن الجزء الأكبر من هذه الأسباب إنما يكمن في مستوى الأداء الاقتصادي القائم، وشروخ واضحة في بنية النظام الاقتصادي. كذلك فإن ( الغش ) ليس غشاً فقط في الامتحانات، وإنما تفسره نظرية الأواني المستطرقة المعروفة، فهناك غش تجاري، والصحف لا تكاد تخلو في الفترة الأخيرة من أخبار صور تزوير، أي غش من أجل الحصول على قروض ضخمة من البنوك بغير وجه حق، وغش إداري، وغش سياسي، وغش إعلامي... وهكذا، ومن الظلم حقاً "للخطاب التربوي" أن نطلب منه أن يواجه مثل هذه القضايا بمعزل عن بقية القطاعات الأخرى.
رابعاً: مطلوب من "الخطاب التربوي الإسلامي" أن يجعل من قضية (العدل التربوي) قضية مركزية، فمثلما هي القاعدة الإسلامية في العدل على وجه العموم أنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، فهكذا قاعدة العدل التربوي: أن يحصل كل إنسان، وخصوصاً هؤلاء الذين في سن التعليم التي تقابل بداية مرحلة التعليم الإبتدائي، إلى نهاية التعليم العالي، على حقه في التعليم وفي التربية، بغض النظر عن أية عوائق ليست من كسب يده هو، مثل الفقر، والطبقة، والمذهب، والبيئة، واللون، والنوع، والعرق، والجنسية، بحيث يكون فيصل التفرقة هو القدرة على التعلم. بل إن الباحثين والمفكرين قد كشفوا من خلال العديد من البحوث والدراسات أن المسألة ربما تكون أبعد من ذلك على أساس أن جملة الظروف المجتمعية التي يعيشها طالب التعلم غالباً ما تؤثر على كم ونوع الكسب التربوي، وبالتالي فمن الضروري أن يمتد البصر بحقيقة العدل التربوي إلى ما يتصل بالعدل الاجتماعي، وهو ما يحتم علينا ألا نعزل بين الأمرين.
ويؤكد هذا ما نجده من إلحاح "الخطاب القرآني" على أن يكون المؤمنون "قوامين بالعدل"، أي كثيري القيام بالعدل في نظم حياتهم وإدارتهم وممارساتهم وقيمهم وعاداتهم، إلى الدرجة التي يصبح العدل هو السمة المميزة لمجتمعهم وحضارتهم، وأن لا يحول دون تجسيد هذه الصفة في واقعهم صلة رحم أو حمية قرابة أو شنآن كراهية:
- ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ)) (النحل:90).
- ((وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَـابٍ وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ)) (الشورى:15).
- ((يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ...)) (النساء:135).
وإذا كانت الكثرة الغالبة من الدول الإسلامية قد أصدرت العديد من التشريعات التي من شأنها أن تكفل العدل بين أفراد الأمة في سعيهم للتعلم، وفي مقدمة هذه التشريعات: التشريعات الخاصة بمجانية التعليم، وخاصة في مرحلة التعليم الأساسي، والمساواة بين الذكور والإناث، فضلاً عن أن قوانين التعليم المختلفة ولوائحه الخاصة بتنظيم العمل التعليمي مفروض أن تطبق على الجميع دون تمييز، إلا أن المشكلة الكبري حقاً تنبع من منابع عدة تنقص من العدل التربوي:
فالمنشأ الاجتماعي للطلاب له دوره المؤثر على تعلمهم. إن قوانين التعليم ولوائحه إذ تحرص على مراعاة العدل، فهي أشبه بمن يحرص على اصطفاف المتسابقين - مثلاً - في العدو على خط واحد، بحيث يسفر الجهد المبذول من كل فرد عن مدى استحقاقه للفوز، لكن "المنبت الاجتماعي" يمكن أن يسـتنفد الكثـير من طاقة كل منهم، فيصل بعضهم وهو مريض أو متعب أو مجهد أو جائع أو غير هذا وذاك من متغيرات، فإذا به يعجز عن بذل ما هو مفروض من جهد في عملية التسابق.
ومن ناحية أخرى، فإن كثيراً من المجتمعات تضم بين صفوفها قوى وشـرائح اجتماعية يكون لها من النفوذ والمواقع الإدارية والسياسية ما يتيح لها فرصة تكييف النظام التربوي بحيث يكون ملائماً لثقافتها وليس لثقافة الجمهرة الكبرى من أبناء الأمة، فإذا بالتعليم يجنح إلى محاباة أبناء هؤلاء القادرين المهيمنين على حساب الضعفاء.
ومن ناحية ثالثة فهناك ما هو معروف "بالمنهج المستتر" والذي يتمثل في ما يشيع في المناخ المدرسي من قيم وأساليب تعامل ومفاهيم وصور تحيز، يفوق في تأثيره المنهج العلني المعروف الذي يتم تعليمه ويُمتحن الطلاب فيه، وهذا المنهج المستتر يعمل لصالح أبناء الفئات والشرائح ذات النفوذ السياسي والإداري والعسكري والاقتصادي.
ويوجب العدل التربوي من "الخطاب الإسلامي" مزيداً من الاهتمام بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، فإذا كانت الأسرة هي المدرسة الأولى، لكن، عندما يكون الوسط الأسري غائباً أو مُغيّباً، يتعين على المدرسة أن تأخذ على عاتقها تعهد قدرات التعلم لدى الطفل بالرعاية وتنشيطها، بل وربما استحداثها.
كذلك من المهم إيلاء عناية خاصة لجميع أشكال التربية الموجهة للأطفال المنتمين إلى أوساط محرومة، فيجب أن يدعو "الخطاب" إلى بذل جهود منسقة من جانب المربين لصالح أطفال الشوارع والأيتام وضحايا الحروب وغيرها من الكوارث. وعندما يجد "الخطاب" أن لدى الأطفال احتياجات خاصة يتعذر تشخيصها أو الوفاء بها داخل الأسرة، فعليه دعوة المدرسة أن تقدم المساعدة المتخصصة والتوجيه اللازم لتنمية مواهبهم، على الرغم من المصاعب التي يواجهونها في مجال التعلم، أو بسبب عوائقهم البدنية.
خامساً: ومن المهام المنوطة "بالخطاب التربوي الإسلامي" توجيه الفكر التربوي والعمل التعليمي نحو أن تستهدف التربية الإسلامية "العمران البشري"، وهو المعادل لعملية النهوض الحضاري أو التنمية البشرية في مصطلحات العصر الجارية.
وهنا نجد أن النموذج الحضاري الإسلامي يجعل أهداف الإنتاج والاقتصاد في خدمة الأهداف الأشمل للمجتمع وفق قواعد الاستخلاف كما حددها الشرع، وهي لا تغالي بالتالي في وزن الأمور الاقتصادية على نحو ما فعل أهل الغرب، وعلى هذا فإنه إذا كان الإتقان في صناعة السلع المادية أمراً مطلوباً وإنجازاً محموداً، فإن الإتقان في تربية ذرية صالحة يعتبر عندنا أولى بالطلب والحمد، ولكن أهل الغرب لا يرون ذلك، فهذه العملية لا تُقوم عندهم بنقود ولا تدخل في حساباتهم القومية المعتمدة لديهم، ولا يعتبر الجهد المبذول فيها من معايير التقدم. ويتفرع عن هذا أنه لا حرج عند أتباع النموذج الغربي من خروج المرأة للعمل خارج المنـزل (من غير حاجة ملحة تدعو إلى ذلك)، حتى إذا كان على حساب إنجاب الأطفال وإدارة شؤون الأسرة، طالما أن العمل في المنشآت خارج المنـزل سوف يزيد حساباتهم للناتج القومي.
ونحن نؤمن بأن دعم الأسرة وتنشئة أجيال جديدة مؤمنة ومجاهدة يأتي قبل إنتاج مزيد من الأحذية والأقمشة.. وحتى بمعايير هذا الإنتاج الاقتصادي والسلعي فإن تنشـئة أجيال جـديدة مؤمنة وتربيتها على المجاهدة والنظام - وهي مهمة تعجز عنها المدارس وحدها - يزيد الطاقة الإنتاجية وبمعدلات مستمرة مطردة.. وإهمال التربية للأجيال الجديدة، والأثر السلبي لذلك على العملية الإنتاجية لا يحتاج إلى إثبات.
ولا ينبغي أن يعني هذا بأي حال من الأحوال انقاصاً من دور المرأة، بل هو تنظيم لقدراتها ولدورها في إطار مفهوم أرحب لما يعنيه الإنتاج، ذلك أننا لا نحصر معنى الإنتاج بالمصانع وما أشبه خارج المنـزل، فالعمل داخل المنـزل هو في كثير من الأحيان أكثر إنتاجية وأكثر بركة من المنظور الاجتماعي، بل ومن المنظـور الاقتصـادي أيضاً، وفي كل الأحوال، فإننا لا نغلق باب العمل خارج المنـزل أمام أصحاب الكفاءات الخاصة من النساء، أو أمام من تتطلب حاجات المجتمع جهدهن، وكذلك لا نقف في وجه من تفضلن هذا النوع من العمل لسبب أو لآخر، ما نعارضه هو ازدراء المتغربين لدور المرأة في العمل داخل المنـزل، واعتبار ذلك نوعاً من التخلف وتبديد الطاقات والكفاءات، مع أن حكمة الله عز وجل قضت بأن تتمتع غالبية النساء بالقدرات التي تؤهلهن لهذا الدور، وكان هذا الدور خلف ازدهار الحضارة والتقدم الاجتماعي.
وإذا كانت هناك أحـاديث نبوية في مدح الزهـد في الدنيا، فإن هذا لا يعني مدح الفقر، فإن الزهد يقتضي ملك شيء يزهد فيه، فالزاهد حقاً، من ملك الدنيا فجعلها في يده ولم يجعلها في قلبه، بل إن الإسلام يجعل الغنى نعمة يمتن بها الله، ويطالب بشكرها، ويجعل الفقر مشكلة، بل مصيبة يستعاذ بالله منها، ويضع مختلف الوسائل لعلاجها، ذلك لأن الفقر خطر على أمن المجتمع وسـلامته واسـتقرار أوضاعه، وفي ذلك روي عن أبى ذر قوله: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه"؟ وقد يصبر المرء إذا كان الفقر ناشئاً عن قلة الموارد وكثرة الناس، أما إذا نشأ عن سوء توزيع الثروة وبغي بعض الناس على بعض، وترف أقلية المجتمع على حساب الأكثرية، فهذا هو الفقر الذي يثير النفوس، ويحدث الفتن والاضطراب، ويقوض أركان المحبة والإخاء بين الناس.
وما دام في المجتمع أكواخ وقصور، وسفوح وقمم، وتخمة وفقر دم، فإن الحقد والبغضاء يوقدان في القلوب ناراً تأكل الأخضر واليابس، وستتسع الشقة بين المترفين والمحرومين، ومن هنا تتخذ المبادئ المضللة والأفكار المنحرفة أوكارها بين ضحايا الفقر والحرمان والضياع. كذلك فإن الفقر خطر أيضاً على سيادة الأمة وحريتها واستقلالها، فالبائس المحتاج لا يجد في صدره حماسة للدفـاع عن وطنه والذود عن حرمـات أمـته، فإن وطنه لم يطعمه من جوع ولم يؤمنه من خوف، وأمته لم تمد إليه يد العون لتنتشله من وهدة الشقاء.
ومن البديهي أنه لا إعمـار ولا إنتاج بغير علم، وكلما زاد نصيب الفرد أو الجماعة من العلم، ومن استغلال حقائق العلم ومدلولاته ومكتشفاته ومخترعاته، كلما تضاعف الإنتاج وتكاثر في شتى المجالات، فاغتنى الفرد واغتنت الجماعة، فحيث وجد العلم وجدت الثروة، وقد خطت البشرية خطوات واسعـة، كان العلم مقياساً لكل خطوة تخطوها، وكان كل توقف في حياتها، أو تخلف في سيرها، أساسه الجهل والظلام والحاجة.
وعلى هذا كان العلم في تطوره تسجيلاً لتطور الإنسانية نحو القوة والحضارة، وحيث انطفأ مصباح العلم انتقلت الثروة إلى الغرب، الذي انكب على مجالات العلم المختلفة يغترف منها بأقصى ما يستطيع من قدرة، وليس ذلك لأن الشرق فقد موارده، وأن الغرب قد اكتشف لنفسه موارد جديدة لم تكن له من قبل، فقد بقيت الموارد كما كانت من قبل في الشرق وفي الغرب، وإنما جهل الشرق موارده وينابيع ثروته، فكم في باطن التربة الشرقية، وعلى سطحها، من كنوز وثروات وجواهر، ولكن وباء الجهل حجبها عن أبصار أبناء الشرق، فإذا علموا أمرها، حال بينهم الجهل وبين طرق استغلالها، فإذا استغلوها حال بينهم وبين طريق تصريفها في الأسواق وبيعها، ومن هنا ليس أمامنا سوى العلم، هادياً ومرشداً ومخرجاً من الفقر والفاقة إلى الثروة والكفاية والتنمية.
ويحرص الإسلام على تكامل النظرة في التنمية وشمولها، فحتى في مجال التنمية الاقتصادية التي قد ينصرف مفهومها إلى النواحي المادية وحدها، نجد تربية الإسلام تبرز تلك العروة الوثقى بين القيم الاقتصادية والأخلاقية، وهذا ما يتبدى لنا في ذلك الموقف الذي نرى فيه رسول الله e يعطينا في قضية المتسول الذي أتى يسأل عن "لقمة عيش"، كان من "حقه" أن يأخذها من المجتمع بنص من القرآن الكريم في الزكاة، وكان النبي e أدرى الناس بتطبيقه، كما كان e أجود من الرياح السخية في الربيع لتقديم هذه اللقمة لمسكين جاء يطلبها، ولكن أعمال النبي eتشريع أو عبرة لأمته، فأشار على من حوله من الصحابة بأن يجهزوا هذا الفقير ليحتطب، وأشار على الرجل بأن يحتطب ليأكل من عمل يده.
فإذا حللنا هذه القصـة من حيث أبعادها الخلقية نرى كيف يحل الرسولe أزمة اجتماعية تعرض عليه صـورة متسـول من المساكين، فيفضل e حلها في نطاق "الواجب" على "الحق"، أو إذا قدرنا الأبعاد الاقتصادية فإننا نراه e يفضل الحل في نطاق "الإنتاج".
سادساً: ومن مهام "الخطاب التربوي الإسلامي" الدعوة إلى غرس قيم ومبادئ ومقومات الحرية وممارستها، على مستوى الفكر والتطبيق، ذلك أن المنفعة الاجتماعية إذا كانت تقتضي أن تلتزم الدولة العدل في توزيع العدل، في توزيع المسؤولية، وإذا حملت الدولة وحدها تبعات المجتمع ومسؤوليات مصيره، فإنها، على الرغم مما ستبذله من جهد وتضحية، تكون قد أخلَّت بمقتضيات العدل والنفع الاجتماعي. وإذا كانت الدولة، لكي تباشر مسؤولياتها تفكر في حرية وتعلن رأيها في حرية، وتقول في أمن، فإن المجتمع، لكي يباشر مسؤولياته لابد أن يظفر بالفرصة نفسها فيفكر حراً، ويقول رأيه وكلمته في غير خوف ورهبة.
وإذا كانت الحرية بمثل هذه الضرورة بالنسبة للمجتمع عامة، فإنها أكثر ضرورة بالنسبة لمجتمع العلماء، فالعلم الذي يتم بحثه والتفكير في مسائله في ظل إرهاب السلطة وتدخل الدولة، ثمراته فقيرة، بطيئ النمو، فالحرية بالنسبة للباحثين والمعلمين والمتعلمين تكاد أن تكون شرط حياة.
ومما لا شك فيه أن حركة التقدم على مستوى العالم، إذا كانت قد أنجزت ما لا حصر له من نظريات علمية واجتماعية وأجهزة ومعدات تكنولوجية، فإن مما لا يقل عن ذلك أهمية حقاً، هو هذا الزخم الواضح حديثاً وتنظيراً وسعياً نحو ممارسة الديموقراطية، وحق الإنسان في أن يفكر حراً، وبالتالي، فإن لنا أن نمسك بما نجد في موروثنا التربوي من أفكار ودعوات وممارسات على طريق الحرية والتحرر والتحرير.
لكننا في الوقت الذي نثبت فيه آيات ونماذج لكتابات تؤكد على حرية المتعلم، وحث المعلـم على أن يمـكن المتعلم ويدربه على حرية التفكير، فلا ينبغي أن نغض الطرف عن صور ونماذج أخرى سارت على العكس من ذلك، فكم من مفكرين وعلماء سلسلوا بالقيود ورموا في غياهب السجون، ونالوا من العذاب ما لا يكاد يصدقه عقل، ويكفي الإشـارة هنا إلى محنة ابن حنبل، لا لشيء إلا لأنه رفض أن يتبنى الرأي الذي تبناه المأمون، خليفة المسلمين ورئيس الدولـة، ويكفي أن نشير أيضاً إلى ما تم بالنسبة لكتب ابن رشد… إلى غير هذا وذاك من أمثلة سلبية.
لكن هذا البحر، عندما نغوص فيه بحثاً عما هو ثمين، نجد أنه في الوقت الذي يمكن أن يكون فيه حافلاً بما هو ثمين من لآلئ، وكائنات حية تفيد، فهو أيضا يحوي في أعماقه ما هو عكس ذلك، فهل يدفعنا الصنف الأخير أن ننصرف عن الغوص في أعماق البحر بحثاً عما هو ثمين ومفيد ؟
لقد كان نظام التعليم في الدول الإسلامية كلها يتيح الفرصة لكل طالب أن يجلـس إلى من يريد أن يتعـلم على يديه، العـلم الذي يريد، ولم يكن هذا النظام يعرف ما هو سائد اليوم من حيث تقرير مقررات بعينها على الطالب يتحـتم عليه دراسـتها في وقت معين على يد معلم بعينه، وما نظام الساعات المعتمدة إلا صورة عصرية متقدمة لهذا الذي كان.
ومن هنا نجد دعوات في موروثنا التربوي تنصح الطالب بأن يتوقف طويلاً قبل أن يختار المعلم الذي يدرس على يديه، فهذا هو "الزرنوجي" ينصح طالبه بألا يتعجل في الاختلاف إلى الأئمة، وأن يمكث شهرين حتى يتأمل ويختار أستاذاً، فإذا ذهب إلى عالم وبدأ بالسبق عنده، فلربما لم يعجبه درسه فيتركه وذهب إلى آخر، فلا يبارك له الله في التعلم. فإذا تأمل واختار، فعليه أن يثبت ويصبر على الأستاذ المختار.
ولهذا كان الطلبة عندما يأتون إلى المدن يقضون فترة قد تقصر أو تطول بحسب الأحوال، ينتقلون فيها بين الحلقات العلمية، يستمعون إلى الشيوخ في دروسهم، ويقارنون بينهم، ويفحصون على الطبيعة أو في جو العمل وعلى أرض الواقع، كفاءات الأساتذة وطرائق تعليمهم، وبلاغة تعليقاتهم. وقد تكون نية أحدهم في انتقاله من بلده أن يرحل للقاء شيخ معين يتلقى على يديه، فإذا به يجد من هو أكفأ في نظره، أو من هو أشد جذباً له من غيره من الأساتذة فينصرف عن الأول ويلتحق عند الثاني، ويكون للأستاذ في شخصيته وعلمه العامل الأول في اختيار الطالب لمادته التي يدرسها.
وهاجم الشوكاني "التعصب" و"التقليد"، وهما آفتان خطيرتان على حياة الحرية. لقد كان الرجل يدعو إلى العقيدة السلفية في بساطتها أيام رسول الله e، ويدعو إلى الاجتهاد ونبذ التقليد، وذلك بأخذ الأدلة الشرعية من مواطنها، من الكتاب والسنة، بحيث يفترض المرء نفسه موجوداً في زمن النبـوة، وعند نزول الوحـي، وإن كان في آخر الزمـان، وكأنه لم يسبقه عالم، ولا تقدمه مجتهد، فإن الخطابات الشرعية تتناوله كما تناولت الصحابة من غير فرق.. إن الأقوام متساوية، ليس لواحد منهم أن يدعي أنه غير متعبد بما تعبد به الله عباده، أو خارج عن التكليف، أو أنه غير محكوم عليه بأحكام الشرع، ومطلوب منه ما طلبه الله من عباده من سائر الناس، وليس لواحد أن يرتقي إلى درجة التشريع، وإثبات الأحكام الشرعية، وتكليف العباد بما يصدر عنه من رأي، إلا فيما فوضه إلى رسله.
ثم يوجه الشوكاني خطابه إلى طالب المعرفة بأن أهم ما يجب عليه أن يكون منصفاً لا أن يكون متعصباً في شيء من هذه الشريعة، فلا يمحق بركتها بالتعصب لعالم من علماء الإسلام، ذلك أن هذا العالم وإن فضله بنوع من أنواع العلـم، فهو لم يخرج بذلك عن كونه محكوماً عليه، متعبداً بما هو متعبد به، فضلاً عن أن يرتفع عن هذه الدرجة إلى درجة أن يكون رأيه فيها حجة على العباد واجتهاده لديها لازماً لهم.
وكان العلماء يشجعون طلبتهم على المناقشة والمناظرة، ويوجبون عليهم التمرن عليها، وكان الطالب يخالف أستاذه في الرأي أحياناً، مع مراعاة التأدب والاحترام.
ورأى "الزرنوجي" أن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من مكث شهر كامل في الحفظ والتكرار.
وقد كان للعناية بالمناقشة والمناظرة والحوار بالأسئلة والأجوبة أثر حيوي كبير في طالب العلم، جعله يشترك في أن يعلم نفسه بنفسه، ويعتاد حسن التفكير، وجودة التعبير، والقدرة على النقد، والقوة في الإقناع، والاعتماد على النفس، وحرية التفكير.
سابعاً: ومما يجب أن يعنى به "الخطاب التربوي الإسلامي"، الحرص على أن تحل منظومـة القيم محل القلب من العمل التربوي، فإذا كان الدين - وفقاً للخطاب النبوي - هو المعاملة، فإن المعاملة "سلوك" بمواصفات بعينها ومعايير محددة.
وعندما يكون مناط الأمر هو السلوك، فإن ما يؤكده علماء النفس والتربية والفلسفة والاجتماع أن السلوك إنما يتحرك بمنظومة من القيم.
وإذا كان للقيم مضمونها الفكري، إلا أن لحمتها وسداها مما يعتمد على الوجدان والعاطفة.
لقد حسب فلاسفة منذ سقراط في بلاد الإغريق، أن العلم فضيلة، وأن المعرفة وحدها تكفي لتحسين الأخلاق وتحقيق القيم وتقدم المجتمع، ولكن المشاهدة والبحث حملاً باحثين معاصرين على العناية بالعواطف والميول، بل والغرائز، وصاروا إلى اعتبارها العنصر الأكثر فطرية والأعظم تأثيراً، حتى أن منهم من أحل الذكاء منـزلة ثانوية بالإضافة إليها.
ويبقى من الثابت أن لاضطراب الحياة العاطفية أو شذوذها عقابيل وخيمة كما أن بعض المتميزين بالذكاء والموهبة لا ينتجون ما هم به جديرون لضآلة حساسيتهم، على نقيض الأبطال والمصلحين وكبار الرواد المتميزين بقوة عواطفهم وخصبها. إن العلماء العباقرة ليسوا باردين حقاً كما يبدو من أمرهم في الوهلة الأولى، ذلك أنهم لا يشاطرون عامة الناس أذواقهم، أو أنهم يعيشون جانحين إلى الصمت والتأمل، وهم يتمتعون بحساسية شديدة جداً هي حساسية حب الحقيقة وكل ما يتصل بجمالها القيمي.
والقيم الأخلاقية في التربية الإسلامية، بالإضافة إلى قيامها بدور الموجه والضابط، فهي تقوم بالنسبة لمجمل الأمة بدور الرابط، والجامع، والموحد، هذه الروح الخلقية منحة من السماء إلى الأرض تأتيها مع نزول الأديان عندما تولد الحضـارات، ومهمتها في المجتمع ربط الأفراد بعضهم ببعض، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ((... وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) (الأنفال:63).
ومن الأمور الأساسية للقيم هو التمييز بين نوعي التعلم: التعلم للصيانة، والتعلم المجـدد، فمن شـأن التعلم للصيانة أن يتجاهل القيم التي لا تكون جزءاً لا يتجزأ من البنية الاجتماعية والسياسية المطلوب صيانتها، وأن تجعل قيمها الذاتية قيماً ضمنية غير مكشوفة. ومع ذلك فإن التشدد والتوتر الناتجين عن الضغط للاختيار من بين مجموعة من القيم هو الذي يساعد على ظهور التعلم المجدد، وهذه يمكن أن تكون عملية لها وضوحها وبروزها واستثارتها، وهي عملية لابد أن تكون قد مارسها كل فرد، فحين تقوم التحديات في وجه ما عنده من قيم، فإن عملية التعلم تدب فيها الحياة، ومن هذه الوجهة يمكن القول: بأن القيم هي "إنزيمات" عملية التعلم المجدد.
وقد حرص الباحثون في قضية القيم على تصنيفها، وظهرت اجتهادات متعددة، لكن الكثير منها يتشابه بعضه مع بعض، ولكن هناك من اجتهدوا حديثاً من علماء المسلمين ليؤسسوا تصنيفاً جديداً: فهناك القيم التأسيسية الحاكمة، وتشير إلى التوحيد، والتزكية، والعمران، على تفاعل فيما بينها. ويرتبط بها القيم الوسيطة الناظمة: العدل، الكرامة، الأمانة، المساواة، الاختيار، الشورى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هذه وتلك تخرج القيم التي ترتبط بحقل التفاعل الدولي والعلاقات المتفاعلة فيه مثل: الاستخلاف، والعالمية، والدعوة، الآخر، التسامح، الوفاء بالعهد، المعاملة بالمثل، الأمن.
وفي داخل هذا التنظيم، تبرز القيمة الكلية الحاكمة: التوحيد، فعنها تصدر كل القيم، وبمعاييرها ينضبط العمل وحركة السير والتفكير.
ثم قيمة العدل، فهي القيمة الأساسـية الحاكمة كذلك لنظام القيم، إنها تعطي للقيم الأخرى مذاقها الخاص.
ومع الأسف الشديد، فقد اتجهت المؤسسات التعليمية في العقود الأخيرة إلى تركيز انتباهها إلى الوظيفة المعرفية للتعليم، وأخذ اهتمامها بالجانب القيمي يضعف، مما يحتم العودة إلى الجانب الذي عده بعض المفكرين حقيقة "فريضة غائبة".
وإن التسليم بماهية القيم، بأهمية تعليمها، يسوغ لنا أن نؤكد أن برامج التنمية بعامة، وبرامج تطوير التعليم بخاصة، إذا لم تؤسس على أعمال مقصودة تهدف إلى تنمية القيمة لدى الناس، عبث لا جدوى منه، ومضيعة للوقت وللجهد والمال، لأن القيم هي الموجهات الأساسية لكل ما يحرزه المتعلمون في مجالات العلوم، والتطبيقات التقنية.
ثامناً: وإذا كان على "الخطاب التربوي الإسلامي" أن يؤكد على أخلاقيات التسامح وسعة الصدر، وكظم الغيظ، والتعامل بالرفق... إلى غير هذا وذاك من الأخلاقيات الإسلامية التي تشير إليها آيات كثيرة من آيات القرآن الكريم، وأحاديث متعددة لرسول الله e، لكن هذا وذاك لا يمكن أن يعني أبداً التراخي في المطالبة بالحقوق والدفاع عن الحق وصلابة الموقف في بعض الأحوال التي يكون فيها تهديد يمكن أن يقع على مصالح الأمة الآنية والمستقبلية، ومن هنا يجد "الخطاب" نفسه ملزماً بأن يؤكد على تكوين الشخصية المسلمة القادرة على المقاومة للظلم والاستغلال، والقادرة على تحمل الصعاب والمجاهدة ومواجهة التحديات.
وهناك آيات كريمة عدة من كتاب الله المجيد، القرآن الكريم، تشير لنا إلى أن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان في هذه الحياة الدنيا لم يضعه على طريق مفروش بالورود والرياحين، وإنما على طريق "الابتلاء" سائر، وقد زوده المولى عز وجل بإمكانات وقدرات "المغالبة" وأرشده إلى غاية السعي، وهداه إلى أساليب وآداب "الكدح": ((إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَةَ عَلَى السَّمَـاواتِ وَالاْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَـانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)) (الأحزاب:72)
فها هنا الموقف الأول للتحدي والابتلاء، لقد ألقى الله عز وجل تبعات جسام على عاتق هذا المخلوق "الإنسان" في الوقت الذي ناءت بحملها مخلوقات أخرى تبدو ذات قوة وبأس شديد، كالسموات والأرض والجبال. إنها التكاليف والحقوق المرعية التي أودعها الله المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد، وأمرهم بمراعاتها وأدائها والمحافظة عليها من غير إخلال بشيء من حقوقها.
والصراع أبرز صور التحدي، فهناك من يسعون في الأرض فساداً، لكن الله سبحانه وتعالى يقيض لهذه الأمة من أبنائها من يحملون على عاتقهم مسؤولية التصدي لهؤلاء، فيرفعون لواء النضال والكفاح، ولولا هذا لتداعت حياة الأمة: ((...وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ...)) (البقرة:251).
وتتعدد آيات "الابتلاء" بمعنى الامتحان والاختبار، ويكون بالخير والشر والنعمة، وأيضا النقمة:
- ((وَبَلَوْنَـاهُمْ بِالْحَسَنَـاتِ وَالسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (الأعراف:168).
- ((وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)) (الأنبياء:35).
- (( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الاْمَوَالِ وَالاْنفُسِ... )) (البقرة:155).
- (( لَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـاكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)) (محمد:4).
- ((وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلَـاكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا ءاتَـاكُم)) (المائدة:48)... وكذلك في: (الأنعام:165)، و(هود:7)، و(النحل:92)، و(الملك:2)... وهكذا.
بل إن الله سبحانه وتعالى ينص في كتابه العزيز على أن الحياة الإنسانية بكليتها إنما هي سلسلة متصلة الحلقات من الأمل والمشقة: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَـانَ فِى كَبَدٍ)) (البلد:4).
ويقول عز من قال: ((يأَيُّهَا الإِنسَـانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَـاقِيهِ...)) (الانشقاق:6)، أي لا تنفك تجد وتعمل إلى أن تلقى ربك فيجزيك وفقاً لما فعلت.
من هنا يكون "التحدي" و"الابتلاء" من علامات الطريق الإنساني، لابد أن يبرز الوعي به حتى يمد المسلم بطاقة صمود ومقاومة وقدرة على المغالبة.
تاسعاً: كذلك فإذا كنا نشكو من غياب الرؤية المستقبلية عن "الخطاب التربوي"، فلابد أن نتيقن من أن مكونات الطاقة البشرية لم تستنبط بعد، وهناك حاجة لاستخراجها وتجميعها وتوجيهها وتصويبها لخير الأمة ومستقبل الإنسان. ولابد أيضاً أن نستحضر لأذهاننا أننا نُعلم لمجتمع لم يولد بعد، ولا نعُلم للمجتمع الراهن، الذي هو في طريقه إلى التحول والتغير لتحل أوضاع أخرى ربما تكون مغايرة إلى حد كبير ما كان سائداً.
ولا شك أن هذا العمل المنوط بالمؤسسات التربوية يعتبر جديداً، لأن وظيفة التربية في الماضي انحصرت على وجه العموم في ربط ماضي الأمة بحاضرها، وفي المحافظة على العلاقات الاجتماعية، ويمكن أن ندرك بسهولة سبب هذا التحول، إذا قارنا بين الاستقرار النسبي للمجتمعات في الماضي وبين التطور المتسارع للمجتمع المعاصر، ولعلنا اليوم في وقت يجب أن تعمل فيه التربية من أجل "تكوين أطفال لا نعرفهم"، وإعـدادهم للحياة في مستقبل لا نعرفه، وبناء على ذلك، فإن طبيعة الأمور تفرض أن يكون هدفها هو التفكير في المستقبل، ورسم صورته كما نريدها أن تكون.
وهذا الاتجاه ملحوظ في الدول التي حصلت فيها تحولات عميقة، وأصبحت مقاليد الحكم فيها بيد قوى اجتماعية وسياسية جديدة، مما جعل تلك الدول تعمل على تنظيم المجتمع بتغييره جذرياً، وهو ملحوظ أيضاً في الدول التي لها إمكانات تقانية واسعة، ولها مشروع للنهوض بالإنسان الجديد، من غير أن تتعرض لما تعرض له غيرها من الطفرات السياسية المفاجئة. وقد منع الوضع السياسي المضطرب في بعض البلدان، والمشكلات العويصة والتناقضات الداخلية التي تعاني منها، منعها ذلك من إدراك مصير شعوبها بكل تبصر. ولئن كانت العقول النيرة، والإرادة الفعالة، متوافرة في تلك البلاد، فإنها من ناحية أخرى في حاجة إلى وضع أسس متينة، وتوفير الوسائل اللازمة للنهوض بأمرها.
وهكذا نجد أن حسن قيام "الخطاب التربوي الإسلامي" بمهمة المساهمة في النهوض الحضاري للأمة يقتضي أن تكون وجهة التفكير فيه "مستقبلية".
إن كثيرين يخطئون عندما يتصورون أن الوجهة المستقبلية للتفكير في النهوض الحضاري إنما هي أثر من آثار العصر الراهن، ذلك أن استقراء سريعاً لعدد من المحاولات الفكرية التي قام بها العقل البشري منذ آلاف السنين تؤكد على هذا التوجه.
رأيناه فيما رواه القرآن الكريم عن خطط يوسف عليه السلام، عندما مكنه عزيز مصر في العصر الفرعوني من تدبير أمر ما كان متوقعاً من مجاعة في المستقبل..
ورأيناه في جمهورية أفلاطون...
وفي آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي...
وغير هذا وذاك، كثيرون..
لكن الفرق أن بناء تصور للمستقبل لم يعد أمراً يقوم على التأمل الفكري الذي يقوم به هذا الفرد أو ذاك، مهما أوتي من قدرات عالية..
ولم يعد أمر أحلام وفيضان من المشاعر والرغبات التي ترنو إلى غد يتسم بالرفاه والتقدم..
إنه جهد علمي يقوم على التلاقح الفكري بين عديد من العقول وفق أساليب تقوم على التدقيق المنهجي، وعمق الرؤية، وسعة الإحاطة.
إن مستقبل الشعوب اليوم لا يبنى من خلال تجربة الماضي أو تجربة الحاضر فقط، بل يبنى من خلال التعرف على المستقبل، المستقبل المتوقع من جهة، والمستقبل المنشود الذي نريد أن نبنيه، انطلاقاً من ذلك المستقبل المتوقع من جهة ثانية.
لم تعد تجربة الماضي والحاضر، على أهميتها، تكفي لبناء حياة الشعوب، بل لابد من نظرة مستقبلية تحسبية، نحدد في ضوئها مهماتنا وخطواتنا ورؤانا: أين سيكون العالم في مستقبل الأيام؟ أين سيكون موقعنا من العالم إذ ذاك؟ وما هي المشكلات التي ستواجهنا في المستقبل في ضوء تلك الصورة العالمية وفي ضوء الصورة المتوقعة لمجتمعاتنا؟ ما هي الجهود التي علينا أن نبذلها لنجعل من صورة المستقبل عندنا صورة تساير الركب العالمي وتنجو من هوة التخلف والانسحاق؟ أسئلة كثيرة لابد من طرحها أمام "الخطاب التربوي الإسلامي"، تساعده على الإجابة عنها الدراسات المستقبلية في مجال التعليم.
ويمكن القول: بأن فاعلية النظر المستقبلي "للخطاب" تفرض القيام بعدة عمليات، منها:
- تشخيص الوضع الراهن وتحديد عناصره، وعوامله الإيجابية والسلبية، والعلاقات المباشرة، وغير المباشرة، بين هذه العوامل، إيجاباً وسلباً.
- كيفية تعبئة وحشد القوى والوسائل المتاحة، واختبار الأكثر ملاءمة من بينها.
- الطريق إلى تعبئة وحشد القوى والمواد اللازمة.
- سبل استغلال العوامل الإيجابية، وإتاحة الظروف المناسبة لنموها.
- تحديد العوامل السلبية، ووضع الخطط والظروف الملائمة لحصرها.
- الوعي بأهمية تنسيق استخدام العوامل والوسائل والظروف والقوى ووضعها في نسق واحد مترابط يحقق التكامل والتفاعل.
- كيفية تحريك النسق الموضوع بما يتلاءم مع تحقيق الأهداف.
- التشديد على مراعاة المواءمة مع المواقف المتغيرة والمرونة وفق الظروف المتجددة، والقدرة على الحركة الواسعة بسرعة كافية.
وبعد،
ولعلنا هنا ننتهي بما بدأنا به..
فإذا كان الجزء الأخير يؤكد لنا ضرورة التكامل والتنسيق، فإن الخطوة الأساسية للنظر الشامل المتكامل، هي الاستناد إلى عقيدة لها رؤاها المجتمعية الشاملة المتكاملة، ألا وهي العقيدة الإسلامية.
لكن العقيدة، كما أكدنا، وأكد كثير غيرنا، ليست شعائر تؤدى فقط، وليست أفكاراً تمتلئ بها عقولنا وقلوبنا، وإنما هي كذلك "سلوك" نسلكه مع خالقنا سبحـانه وتعالى، ومع أنفسـنا، ومع الناس، والاستعانة في هذا بما أفاء الله به على الإنسان من مستويات تقدم معرفي، وخاصة في علوم التربية وعلم النفس، مما يعطي في جملته تأكيداً عملياً بأن هذه العقيدة تملك ما لا حصر له من إمكانات بناء الإنسان.
تلك هي سبيلنا: (( هَـذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)) ، وهي سبيل نفر: (( دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَـانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَـالَمِينَ )).
المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/65194