التربية الذاتية من الكتاب والسنة
الدكتور هاشم علي الأهدل
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . أما بعد :
يرى التربويون أن العملية التعليمية ( تعلما وتعليما ) تتكون من ثلاث عناصر هي : المدرس والمنهج والتلميذ ، ومما لا شك فيه أن للمدرس دورا كبيرا في تنشئة الأفراد وإصلاح المجتمعات ، إلا أن هناك أسلوبا آخر لتلقي التربية وتشرب المعرفة من دون المدرس ، وهو ما يعرف بالتربية الذاتية أو التلقائية ، حيث يربي الفرد نفسه ويوجهها وجهة سليمة بما يوافق الغاية التي من أجلها أوجده الله عز وجل على هذه البسيطة وصيره فيها خليفة .
ولذا فإن للفرد مسئولية عظمى تجاه نفسه وتربيتها سواء كان ذلك على مقاعد الدراسة أو في العمل أو في البيت أو في الشارع ، فهو مطالب ببلوغ الكمال البشري الذي ينبغي أن ينشده كل إنسان بلغ مرحلة الرشد والتكليف ، ولن يتأتى له ذلك إلا باتباع المنهج الإلهي ، قال تعالى :) قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( [ الأنعام : 162 ، 163 ]
وإن الناظر والمتدبر لآيات الكتاب وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ليهتدي إلى أساليب متعددة لتربية النفوس وتهذيب الأفئدة ومنها :
1ـ التربية بالقصة .
3ـ التربية بالموعظة .
5ـ التربية بالعادة .
2ـ التربية بالقدوة .
4ـ التربية بالترغيب والترهيب .
6ـ التربية بالعقوبة .
وغيرها كثير .
وقد جاء هذا التنوع في الأسلوب تبعا لطبيعة المجال والموقف الذي تبحثه ، فهناك التربية الجسدية والتربية الفكرية والتربية المهنية والتربية الروحية والنفسية وغيرها ، ولو أردنا أن نجمع بين أنواع التربية وأساليبها لتبين لنا أن موضوع التربية يركز على الفرد قلبا وقالبا ، ولذا كان لزاما على هذا الفرد أن يسعى بنفسه لتحقيق أهداف التربية الإسلامية وفي مقدمتها تحقيق العبودية لله عز وجل . وبناء على ذلك فسوف تهتم هذه الدراسة بالتربية الذاتية ، أي التربية التي تنبع من ذات الشخص أي من نفسه لتحقيق ذلك الهدف ، كما أنها سوف توضح بعضا من مبادئ وأساليب التربية الذاتية المختلفة الواردة في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
أهمية الموضوع :
تبذل المجتمعات قصارى جهودها من أجل إصلاح أفرادها وتهذيب سلوكهم ، ومما ينبغي أن يصاحب هذه الجهود شعور الأفراد بذلك حتى يندفعوا من تلقاء ذواتهم إلى إصلاح أنفسهم وتربيتها مما يسهل وييسر مهمة التربية التي تسعى لإعداد الإنسان الصالح ، ولذا فإن أهمية البحث ترجع إلى أنه :
1ـ يبين عظم المسئولية الملقاة على عاتق الفرد في تربية نفسه وتوجيهها وإصلاحها .
2ـ يضع لبنة قوية في سبيل إصلاح المجتمع حيث إنه إذا أصلح كل فرد نفسه وربى ذاته تخلص المجتمع من الأمراض والانحرافات واتجه للبناء والإصلاح .
3ـ ينير الطريق أمام المؤسسات التربوية في كيفية توجيه الأفراد لتحقيق الغايات والأهداف التي تتوخاها المؤسسات التربوية لتربية الفرد .
4ـ يوضح أسلوبا مهما من أساليب التربية وله دور كبير في إصلاح النفوس ، إلا أنه أغفل في البحوث التربوية .
5ـ يبين أيضا أحد أساليب التقويم المهمة ألا وهو ما يعر ف بالتقويم الذاتي والتي تسعى التربية الحديثة إلى تطبيقها ، في حين أن الإسلام عرض لها منذ خمسة عشر قرنا .
الفصل الأول
مكانة الإنسان في التصور الإسلامي
مقدمة
الإنسان ، ما الإنسان ؟ ما أدراك ما الإنسان ؟! إنه ذلك الكائن المتفرد الذي خلقه الله عز وجل لحكمة أرادها ولمهمة اختاره لها بعد أن فضله على بقية الكائنات . قال تعالى : ) ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( [ الإسراء : 70 ] .
وقد أوضح لنا المنهج الإسلامي ما يحتاج أن يعرفه الإنسان عن نفسه ، فبين أيدينا نحن المسلمين مصدر أصيل ) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ( [ فصلت : 42 ] ، منه نصدر ومنه نورد في كل حال وفي أي وقت . فمنه يستقي الفرد المسلم تصوراته وآرائه لنفسه ولما حوله من موجودات فيهتدي إلى الصواب ويحظى برضى رب الأرباب . وسنتحدث في هذا المبحث ـ إن شاء الله ـ عن نشأة الإنسان وغايته ومصيره .
إن قصة الإنسان منذ بدئه حتى منتهاه تظهر بجلاء ووضوح في قوله تعالى : ) وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون *وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( [ البقرة : 30 – 35 ]
ويبين ذلك أيضا ما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث عظيم جامع لأحوال الإنسان بدءا بخلقه في بطن أمه وبيان حاله في هذه الدنيا وانتهاء بمصيره ، فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها . [ مسلم : 4/2036 ]
هذا هو الإنسان وهذه هي قصة نشأته والغاية من وجوده والمصير الذي سيؤول إليه ، وسنوضح بيان ذلك بشيء من التفصيل .
أولا : النشأة
قال تعالى : ) إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين( [ ص : 71 ، 72 ]
فالإنسان : قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله ، قبضة من طين الأرض تتمثل في حقيقة الجسد : عضلاته ووشائجه وأحشائه ... ، ونفخة من روح الله تتمثل في الجانب الروحي للإنسان ، تتمثل في الوعي والإدراك والإرادة ، تتمثل في كل القيم والمعنويات التي يمارسها (1)
وقد أبدعه البارئ المصور على غير مثال سابق وخلقه على صورته ، قال تعالى : ) الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك ( [ الانفطار 7 ، 8 ]
وقال تعالى : ) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ( [ التين : 4 ] فجعله في أحسن صورة وشكل ، منتصب القامة سوي الأعضاء وحسنها . ويقول الرفاعي : ولو شاء تعالى لكان في صورة قرد أو خنزير أو كلب أو حمار ، والله عز وجل قادر على ذلك(2)
فتلك كانت البداية وهذه هي الخلقة كما صورها القرآن الكريم ، ولنر كيف يشطح الفكر بعيدا إذا لم يكن له منج رباني يسير على نوره ويهتدي بهديه .
لقد زعم بعضهم أن الإنسان سليل القرود وأنه تطور عبر الأزمان والعصور حتى وصل إلى هذه الصورة التي نراها اليوم . وقد افتريت هذه الفرية من أجل أن يقال : إن هذا الإنسان مثله مثل سائر الأنواع التي لابد أنها قد انحدرت من نوع مختلف سابق في الوجود ... ، ومن ثم فلابد أن الإنسان قد ظهر على الأرض نتيجة تطور سلسلة مجاورة من سلاسل مملكة الحيوان (1)
لا شك أن هذه النظرة المنحرفة تجعل كل متمسك بدين يقف حائرا أمام معتقداته ، ويتردد في الاحتفاظ بها والدفاع عنها ، بل يشجعه ذلك على التخلي عنها ، وقد حصل هذا فعلا حينما أعلن دارون نظريته الملحدة في أوروبا وقرر حيوانية الإنسان فزادت الفجوة بين الشعوب البائسة والكنيسة المتسلطة على رقابهم ، ومن ثم تركوا الدين أو بقايا الدين الذي كانوا يعرفونه . يقول الشيخ محمد قطب : ولعل أكبر زلزلة أصابت الكنيسة كانت على يد دارون حين نادى بنظريته أصل الأنواع ، وتتالت الضربات بعد ذلك على أيدي العلماء والباحثين فترنحت هيبة الكنيسة وأخذت تتهاوى ... ، ولكن أوروبا حين نزعت عنها سلطان الكنيسة لم تكتف بذلك بل نزعت عنها سلطان الدين أيضا ، إذ كان الدين لديها ممثلا في الكنيسة مجسما فيها ، وأغراهم بهذا أن في العقيدة المسيحية كما صورتها الكنيسة لا كما أنزلتها السماء كثيرا مما يناقض العقل ويثقل الأفهام (2)
إن أي إنسان يشغل ذهنه ويعمل فكره فيما ليس من قدرات عقله من أمور الغيب فإنه حتما سينقلب خاسئا وهو حسير أو على الأقل سيأتي بالعجائب والترهات كما حصل من دارون وفرويد ودوركايم وغيرهم .
لنرجع ونتدبر كتاب ربنا ونتأمل كيف ينشأ الإنسان ، وما هي الأطوار التي يمر بها في بطن أمه فيخرج سوي الأعضاء كاملها ، يقول تعالى : ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ([ المؤمنون : 12-14 ] . ونحن لا نملك إلا أن نقول : سبحان الخالق المبدع المصور الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى . يقول سيد قطب : لقد نشأ الجنس الإنساني من سلالة من طين ، فأما تكرار أفراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنة الله أن يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صلب رجل فتستقر في رحم امرأة ، لا بل خلية واحدة من عشرات الألوف من الخلايا الكامنة من تلك النقطة ، تستقر في قرار مكين ثابتة في الرحم الغائرة بين عظام الحوض المحمية من التأثر باهتزازات الجسم ... ، ومن النطفة إلى العلقة حينما تمتزج خلية الذكر ببويضة الأنثى وتعلق هذه بجدار الرحم نقطة صغيرة في أول الأمر تتغذى بدم الأم ، ومن العلقة إلى المضغة حينما تكبر تلك النقطة العالقة وتتحول إلى دم غليظ مختلط ، وتمضي هذه الخليقة في ذلك الخط الذي لا ينحرف ولا يتحول ولا تتوانى حركته المنظمة الرتيبة ... ، حتى تجيء مرحلة العظام ... ، فمرحلة كسوة العظام باللحم ... ، ثم يتحول إلى تلك الخليقة المتميزة المستعدة للارتقاء . (1)
لقد مر خلق الإنسان بمراحل متعددة ، فهو أصلا من طين ، وبالتقاء الذكر والأنثى تكون النطفة ، ومن النطفة تخلق العلقة فالمضغة فالعظام ، ثم تكسى العظام باللحم ويتكون الجنين ، كل ذلك يتم بتقدير العليم الحكيم ، وهذه الحقائق أخبر بها القرآن منذ خمسة عشر قرنا وكفانا مؤونة البحث عنها والتفكير فيها ، ومما يزيد الفرد المؤمن يقينا وثباتا واعتزازا بدينه أن العلم لم يكتشف هذه الحقائق إلا في العصر الحاضر .
يقول الدكتور بوكاي : وكل هذه الآيات تتفق وحقائق اليوم الثابتة . ولكن كيف تسنى للرجال الذين عاشوا في عهد محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون لديهم هذه التفاصيل الكثيرة والدقيقة في علم الأجنة ؟! إن هذه الحقائق لم تكتشف إلا بعد مرور ألف عام تقريبا على نزول القرآن ، ويقودنا تاريخ العلوم إلى أن نجزم بعدم وجود أي تعليل أو تبرير بشري لوجود هذه الآيات في القرآن . (2)
ثانيا : الغاية
لم يخلق الله عز وجل الإنسان عبثا ولم يتركه هملا ، فبعد أن سواه ونفخ فيه من روحه أسجد له ملائكته المقربين ، ثم أهبطه إلى الأرض مع الجان ليكون الابتلاء والامتحان ، واستخلف في الأرض ليعمرها بطاعته . يقول الدوسري رحمه الله : والخليفة لله في أرضه هو المكلف بأحكام يطبقها على نفسه وينفذها على غيره . (1)
وقد أخذ ربنا العهد على الإنسان أن يعبده ولا يشرك به شيئا ، قال تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } [ الأعراف : 172 ] أورد ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة . (2)
ويقول الرفاعي : وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم . (3)
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به . قال : فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي . [ أحمد : 3/127 ]
وفي مسند أحمد أيضا عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان – يعني عرفة – فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا ، قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون [ 1/272 ]
ولما كان الأمر كذلك فإن الخلق كلهم مكلفون بالاتباع ، وكل فرد بذاته قد أودع في فطرته الإسلام وإفراد العبادة لله رب العالمين ، ولهذا خلق آدم عليه السلام وذريته لكي يكون كل منهم عابدا لله متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه . وقد استمر آدم وذريته على ذلك عشرة قرون كلهم على شريعة الحق حتى عهد نوح عليه السلام (1)
فلما اختلفوا وحادوا عن الصراط بعث الله الرسل والأنبياء يوجهون الناس ويرشدونهم لكي يردوهم إلى جادة الصواب
قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ البقرة : 213 ] . وقد أرسل الله سبحانه وتعالى المرسلين عليهم السلام لتجديد العهد وتوضيح هذه الغاية ، فقال نوح عليه السلام لقومه : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [ الأعراف : 59 ] ، وكذلك قال هود عليه السلام لقومه عاد : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [ الأعراف : 73 ] وقالها شعيب عليه السلام لأصحاب الأيكة : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [ الأعراف : 85 ] كما قالها غيرهم لأقوامهم ، وقد حقق بعض تلك الأمم غاية وجوده ونكل عن ذلك آخرون كما قال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } [ النحل : 36 ]
وجاء القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مقررا ومؤكدا على ذلك الهدف العظيم من وجودك أيها الإنسان وذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] فمقام العبودية هو المقام الذي اختاره تعالى للخلق أجمعين . وقد وصف ملائكته المقربين بوصف العبودية فقال تعالى : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 19 ] وقال أيضا : { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون } [ الأعراف : 206 ] . وفي حادثة الإسراء ارتقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى أشرف مقام وأعظم منزلة ، قال تعالى : { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } [ النجم : 8 ، 9 ]
وتلك مكانة لم يصل إليها نبي مرسل ولا ملك مقرب ، ومع ذلك فقد ارتبط لفظ العبودية به عليه السلام ، قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا } [ الإسراء : 1 ] فدل ذلك على أن أرفع منزلة هي منزلة العبودية ، وكذلك قال عز وجل عن عيسى عليه السلام : { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } [ الزخرف : 59 ] ولذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله . [ البخاري 2/490 ] .
والعبودية وصف ملازم لكل إنسان ما دام له قلب ينبض وعين تطرف ، قال تعالى : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] قال ابن حجر رحمه الله : قال سالم : اليقين : الموت (1)
وفي هذه الآية والآيات التي قبلها رد على مزاعم الصوفية التي تقول إنه يمكن للعبد أن ترفع عنه التكاليف الشرعية متى وصل إلى حالة أو مرحلة معينة ، ونحن نعلم من سيرة المصطفى عليه السلام أنه كان عابدا لله حتى آخر لحظة من حياته ، فهل يمكن لعبد أن يسعه ما لم يسع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! وفي الآيات أيضا دلالة على تكريم الإنسان الذي شرفه ربه بأن جعله وهو المخلوق الضعيف منتسبا بالعبودية لرب الكونين رب السماوات السبع والأرضين ومن فيهن . وفي المقابل نجد أفرادا من المسلمين يتجردون من عبوديتهم للخالق منصرفين إلى عبادة غيره ، وقد دعا الرسول عليه السلام على أولئك دعوة تصل إليهم وهم في عقر منازلهم فقال : تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع . [ البخاري : 2/328 ] .
معنى العبودية :
علمنا مما سبق أن وظيفة الإنسان الأولى والغاية من وجوده هي العبودية ، فماذا تعني هذه الكلمة وما مدلولاتها ؟ هل هي نطق بالشهادتين فقط ؟! أم أنها حركات بالجوارح ؟! أم يكفي الاعتقاد بالقلب ؟! أم غير ذلك من الأقوال والآراء ؟ الواقع أنها تشمل ذلك كله فهي نطق باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان وذلك في حدود ما شرعه الرحمن . وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – هي : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة ، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر بنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك من العبادات لله . (1)
والعبودية تعني أن يستسلم المرء لخالقه بكل جوارحه وطاقاته وتصرفاته وأفكاره وشعوره . كما تعني أن ينقاد للشرع ويحكمه في نفسه وأهله وما ملكت يمينه ، تاركا أهواءه وشهواته وراءه ظهريا . ويوضح سيد قطب حقيقة العبادة في أسلوب أدبي رفيع قائلا : إن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين :
الأول : هو استقرار معنى العبودية لله في النفس ، أي استقرار الشعور أن هناك عبدا وربا . عبدا يعبد وربا يعبد ، وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار . ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود وإلا رب واحد والكل له عبيد .
والثاني : هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير وكل حركة في الحياة . التوجه بها إلى الله خالصة والتجرد من كل شعور آخر ومن كل معنى غير معنى التعبد لله (2) .
نعم ... بهذا الاستسلام وبهذا الانقياد يكون الفرد عبدا لله ، عبدا يوظف كل ما يملك من نعم مادية أو معنوية ابتغاء مرضات الله ويجعلها ذخرا وزادا ليوم المعاد استعدادا . قال تعالى : { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } [ القصص : 77 ] وليعلم الإنسان أنه إن لم يعبد الله حق العبادة فإنه لا شك سيعبد الشيطان الذي أخذ عهدا على نفسه بأن يغوي بني آدم ويزين لهم الضلال ويحبب إليهم المنكرات . فينبغي على كل مسلم أن يكون حذرا حتى لا يقع في حبائل الشيطان ومصائده فيسلم من شره ويصبح من عباد الله المخلصين كما قال تعالى في حوار مع الشيطان : { قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [ الحجر : 39-42 ] .
فعبد الله المخلص يوحد الله بالعبادة ولا يدع للشيطان مجالا أو منفذا يصل إليه منه . ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – الأساس العقدي لهذا الأمر فيقول : ولهذا كان كل من لم يعبد الله وحده فلابد أن يكون عابدا لغيره ، يعبد غيره فيكون مشركا وليس في بني آدم قسم ثالث ، بل إما موحد أو مشرك أو من خلط هذا بهذا كالمبدلين من أهل الملل النصارى ومن أشبههم من الضلال المنتسبين إلى الإسلام (1)
فالإنسان يحدد بنفسه إما أن يكون عابدا لله أو عابدا للشيطان ، وبيده تحقيق غاية وجوده ، وبالتالي تحديد مصيره .
ثالثا : المصير
إن أي مخلوق مهما امتد أجله وطال عمره فإن له نهاية محتمة ، فكل نفس ذائقة الموت ، الموت الذي قدره الله عز وجل على خلقه وكتبه على عباده وانفرد جل شأنه بالبقاء والدوام ، قال تعالى { كل نفس ذائقة الموت } [ آل عمران : 185 ]
وقال أيضا : { ألهاكم التكاثر ، حتى زرتم المقابر } [ التكاثر : 1، 2 ] ، ففي آيتين من خمس كلمات فقط يصور القرآن الكريم حال الدنيا وما بعدها ، فهي حياة ملهية ثم زيارة وأي زيارة ، زيارة منتهية لا محالة ويكون بعدها الانتقال إلى دار الحساب ، ولكن تلك الزيارة أي فترة البقاء في القبور لا يعلم مداها إلا الله ومع ذلك فنحن نعلم من ديننا أن تلك الحفرة الضيقة ستكون على صاحبها أحد أمرين : إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ، كما ورد في حديث البراء بن عازب الطويل [ انظر سنن أبي داود حديث رقم 3212 ] وغيره من الأحاديث . يقول ابن القيم : مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب ، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة ، وأنها تتصل بالبدن أحيانا ويحصل له معها النعيم أو العذاب ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العباد ، ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى.(1)
فإذا مات الإنسان فهذه قيامته وهي القيامة الصغرى ، أما القيامة الكبرى فتكون عندما يؤذن بالنفخ في الصور فيحشر جميع العباد ، قال تعالى : { يوم ترجف الراجفة ، تتبعها الرادفة } [ النازعات : 6 ، 7 ] عندئذ ترتجف القلوب والأفئدة وتحتار العقول والأفهام كما قال تعالى : { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } [ الحج : 2 ] . ويصور هول ذلك اليوم أيضا قوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} [ لقمان : 33 ] .
وإذا تأملنا القرآن الكريم وجدنا آيات كثيرة جدا تعرض لذلك اليوم من زوايا متعددة ومشاهد مختلفة ، وتعني هذه المشاهد بتصوير الهول في يوم القيامة ، ذلك الهول الذي يشمل الطبيعة كلها ويغشى النفس الإنسانية ويهزها ولا يكاد يخلو مشهد واحد من اشتراك الأحياء فيه ...، وتعني هذه المشاهد أيضا بتصوير مواقف الحساب قبل النعيم والعذاب ، وهنا نلتقي بألوان شتى من طرق العرض الكثيرة وسمات شتى للموقف المعروض(2)
وتبين السنة كذلك بعض أهوال ذلك اليوم العصيب ، ففي حديث الشفاعة يقول صلى الله عليه وسلم : يجمع الله الناس ـ الأولين والآخرين ـ في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ، [ البخاري : 3/250 ]، ومن حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا فقلت يا رسول الله النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ فقال يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض [ مسلم : 4/ 2194 ]
ومن حديث المقداد ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما ، قال وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه [ مسلم : 4/ 2196 ]
فهذه الأهوال وغيرها تنتظر كل إنسان ولن ينجو منها أحد فالكل صائرون إلى الله يقول تعالى : { يقول الإنسان يومئذ أين المفر ، كلا لا وزر ، إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبؤا الإنسان يؤمئذ بما قدم وأخر } [ القيامة : 10 ـ 13 ]
وبعد أن يقوم الناس لرب العالمين تجازى كل نفس بما كسبت ويلاقي كل عبد ما قدم ، قال تعالى : { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } [ البقرة : 281 ] وقال : { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين } [ النور : 25 ] ويقول صلى الله عليه وسلم فيم يرويه عن ربه عز وجل : ....يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، [ مسلم : 4/ 1994 ]
ويقول تعالى أيضا : { إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى } [ طه : 74- 76 ]
فهذه هي الخاتمة ، خلود دائم وحياة لا تنتهي ، فمن زكى نفسه فإلى دار النعيم ومن دساها فإلى الجحيم والعياذ بالله ، فليختر كل امرئ ما يريد ، قال تعالى : { ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها } [ الشمس : 7-9 ]
نخلص من هذا القول بأن العبد يمر بثلاث مراحل : الحياة الدنيا فالقبر ثم الخلود ، وهذه المراحل لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى ، وهناك مغيبات كثيرة في هذه المراحل لا نعلم منها إلا ما ثبت في الكتاب والسنة ، والمسلم الحق يؤمن ويصدق بها وإن لم يستطع عقله أن يتصورها أو يدرك كنهها .
يقول ابن أبي العز الدمشقي : والحاصل أن الدور ثلاث : دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار ، وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها ، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام الدنيا على الأبدان ، والأرواح تبع لها ، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدان تبع لها فجاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعا(1)
الفصل الثاني
مبادئ التربية الذاتية من الكتاب والسنة
المبحث الأول : الحرية
المبحث الثاني : المسئولية والجزاء
المبحث الثالث : الاهتمام بالغير
مقدمة
يزخر القرآن الكريم والسنة المطهرة بالعديد من المبادئ والأسس التي تنير الطريق للفرد المسلم وللمجتمعات المسلمة لتحقيق غايتها من الوجود فهناك مبادئ التربية الخلقية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والجنسية والروحية والجسمية ، وهناك أيضا مبادئ التربية الذاتية وغيرها ، وفي مجال التربية الإسلامية تسعى كل من هذه المبادئ للوصول بالإنسان إلى غاية خلقه ووجوده وتحقيق دوره في الحياة ، ويحسن بالباحث قبل المضي قدما توضيح المقصود بكلمة المبادئ وماذا نعني بقولنا : أن هناك مبادئ في التربية الإسلامية ثم ما هي وظيفة مبادئ التربية الذاتية .
يقول ابن منظور : البدء فعل الشيء أول ، .. والبدء والبدئ : الأول وأبدأت بالأمر بدءا : ابتدأت به ، وبادئ الرأي : أوله وابتداؤه ، وقال الفراء : لا تهمزوا بادي الرأي أي أول الرأي لأن المعنى فيما يظهر لنا ويبدو ، وقال : ولو أراد ابتداء الرأي فهمز كان صوابا(1)
وصرح هارون بكلمة المبادئ فقال : المبدأ مبدأ الشيء أوله ومادته التي يتكون منها كالنواة مبدأ النخل ، أو يتركب منها كالحروف مبدأ الكلام ، وجمعها مبادئ ، ومبادئ العلم أو الفن أو الخلق أو الدستور أو القانون : قواعده الأساسية التي يقوم عليها ولا يخرج عنها (2)
وبالنظر إلى البحوث والدراسات التربوية المعاصرة وجد الباحث أن معظمها لم يتطرق إلى تعريف واضح محدد للمبادئ ، فتجد كتابا أو بحثا بعنوان مبادئ تربوية في كذا أو لكذا ، وإذا ما تصفحت ذلك الكتاب أو البحث تجد أن المؤلف أدرج بعض المفاهيم التربوية معتبرا إياها دون أن يوضح ماذا يقصد بهذا المصطلح التربوي ، وممن عرف هذا المصطلح عبد الرحمن النحلاوي حيث قال إن كلمة المبدأ تعبر عن : فكرة شاملة تنبثق عنها أفكار فرعية أو تنظم على ضوئها عمليات فيزيائية أو كيماوية أو تربوية أو علاقات اجتماعية ، وتأتي المبادئ على الأغلب مصرحا بها أو متضمنة في البحوث أو القصص أو التشريعات أو مجموعة مرتبة في العلوم الطبيعية ، أما مبادئ التربية الإسلامية فيجدها الباحث موزعة في القرآن والسنة (1)
وفي موضع آخر يحدد النحلاوي المبادئ التربوية الإسلامية بأنها : قواعد وقوانين تربوية عامة واسعة الشمول مقتبسة من القرآن والسنة(2)
ويرى الباحث أن التعريفات السابقة غير وافية لتعريف المبادئ التربوية الإسلامية ، وتمحيصا لما ذكر يستخرج الباحث تعريفا يراه جامعا ، فمبادئ التربية الإسلامية هي : قواعد أساسية شاملة تستنبط مباشرة من الكتاب والسنة وتنبثق عنها سلوكيات الفرد المسلم والمجتمع المسلم
ولا يقتصر غياب هذا المفهم على المؤلفات النظرية بل يتعداه إلى الواقع العملي في حياة كثير من المسلمين ، ومما يتأكد لدى كل عاقل حصيف أن المبادئ الإسلامية عموما تبقى كذلك وإن تخلى عنها أصحابها أو تهاونوا في التمسك بها والخاسر الوحيد هو من أعرض عنها ، قال تعالى : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم ، إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم } [ آل عمران : 176 ، 177 ]
وقال تعالى أيضا : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم } [ محمد : 32 ]
والآيتان السابقتان ـ وإن كانتا تتحدثان عن حال الكافرين أو المرتدين ـ إلا أنهما تنطبقان على واقع بعض المسلمين الذين تركوا المبادئ الإسلامية الأصيلة لينهلوا من مبادئ الشرق أو الغرب ، والاستشهاد بالآيتين هنا لبيان الحال فقط والله أعلم بالمآل . وتعتبر مبادئ التربية الإسلامية بحق عنصرا أصيلا وركنا ركينا في مسيرة المربين والمريدين يهتدي بهديها ويسار على خطاها لتؤتى العملية التربوية أكلها كل حين بإذن ربها .
أما فيما يتعلق بهذا البحث فإننا نعرف مبادئ التربية الذاتية بأنها الأسس والركائز التي تضع الفرد المسلم أمام نفسه ليرى مدى تطويعه لهذه المبادئ لتحقيق العبودية الحقة لله سبحانه وتعالى ، وهي تذكرة بدوره ووظيفته كفرد مسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما أنها تجعله يسائل نفسه دائما ويراجعها مقوما ومرشدا لكي يستفيد من ذلك في سيره إلى ربه على صراط مستقيم ، قال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيم فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } [ الأنعام : 153 ]
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، [ أحمد : 1/ 435 ]
وعن النواس بن سمعان ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضرب الله تعالى مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تتعوجوا وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام والسوران حدود الله تعالى والأبواب المفتحة محارم الله تعالى وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق : واعظ الله في قلب كل مسلم ، [ أحمد : 4/182 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3782 ]
لا ريب أن مبادئ التربية الذاتية تستثير واعظ الله في قلب كل مسلم للمبادرة إلى فعل الطاعات وترك المنهيات بجميع أنواعهما ، أي لتربية ذاته وتزكيتها وتقويمها .
وقد اختار الباحث بعض مبادئ التربية الذاتية المستنبطة من الكتاب والسنة للحديث عنها وقسمت إلى المباحث التالية :
1ـ الحرية
2ـ المسؤولية والجزاء
3ـ الاهتمام بالآخرين
وسوف يتناول البحث كلا منها بشيء من التفصيل والتوضيح
المبحث الأول
الحرية
مقدمة :
تتضمن الحرية تقرير المصير وهي من هذه الناحية تتفق مع التربية الذاتية ، ولذلك تعتبر الحرية إحدى العلامات المميزة للطبيعية الإنسانية وبها يقرر الفرد ما سيكونه وما سيفعله وما سيعتقده(1)
ولذا فهي من أبرز عوامل تحقيق الذات الإنسانية والتي تسعى التربية لتحقيقها لتكوين شخصية الفرد ، وقد وضع الشرع الحنيف أسسا واضحة لكل فرد لممارسة الحرية بحيث لا تستبد به رغباته وأهواؤه فتزل قدمه ويضل فكره ويخسر دنياه وآخرته .
قال تعالى : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } [ ص :26 ]
وقال أيضا : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } [ القصص : 50 ]
فالحرية الفردية في الإسلام محددة بضوابط وقيود تجعلها مرتبطة بالأصل الأصيل الذي خلق الإنسان لأجله ألا وهو العبودية لله تعالى ، وهذا التشريع ليس سلبا للأفراد حريتهم بل من أجل أن يجنب البشرية الخوض في مزالق الردى ومهاوي الضلال قرونا طويلة ظلوا يتخبطون فيها ويتعثرون في تجاربهم وتؤدي بهم هذه التجارب إلى دمار الأجيال(2)
ومن فوائد هذا التشريع أيضا أن تراعى حقوق المجتمع ومتطلباته التي قد تتعارض أحيانا مع حق الفرد وحريته ، وقد صور لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك تصويرا بليغا فقال : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا، [ البخاري : 3 / 207 ]
فليس هناك فرد يعيش لوحده يفعل ما يشاء وقتما يريد بحجة أن له حرية شخصية يتصرف بها وفق هواه ، بل أن القضية مرتبطة بأفراد آخرين يتأثر كل منهم بحرية الآخر ، وهذا هو المنهج الذي ينبغي أن يراعى في جانب الحرية ، يقول محمد قطب : ليس هناك مصلحة لفرد هي مصلحته وحده وشأنه بمفرده ، كل مصلحة هي مصلحتهم جميعا ـ أي جميع الأفراد ـ وكل ضرر هو ضرر يصيبهم جميعا ولا يستطيع أحد أن يتخل عن مسئوليته في هذا السبيل (1)
ولما كانت الحرية بهذه الدرجة من الحساسية وكانت بحاجة إلى مستوى معين من التوازن ، فإن على كل فرد مراعاة ذلك في الأقوال والأفعال وتوظيف هذا المبدأ ـ مبدأ الحرية ـ وفق مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد كفل الدين الإسلامي ممثلا في الكتاب والسنة تحقيق هذا المبدأ في نفوس معتنقيه ، ويبرز ذلك في عدة جوانب منها :
1ـ حرية العقيدة والعبادة .
2ـ الحرية الفكرية .
3ـ الحرية الملكية .
4ـ الحرية العلمية .
أولا : حرية العقيدة والعبادة
ويتفرع منها عنصران هما :
1ـ حرية العقيدة .
2ـ حرية العبادة .
1ـ حرية العقيدة :
بادئ ذي بدء يقرر الإسلام حرية اعتناق الإسلام فلا يكره أحدا على تبديل عقيدته وإن كان يدعو إلى ذلك ، وفرق بين الإكراه على الإسلام والدعوة إليه . قال تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } [ البقرة : 256 ] وقال أيضا : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف : 29 ] . فأمر الهدى والضلال أو الإيمان والكفر بيد كل إنسان ولا حق لأحد مهما كان أن يكره غيره أو يجبره قسرا على ذلك فإن فعل فهو مستبد ظالم . يقول سيد قطب – رحمه الله - : إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف إنسان ، فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد إنما يسلبه إنسانيته ابتداء ، ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة والأمن من الأذى والفتنة وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة ... ، وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني ، التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب متعسفة ونظم مذلة لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله – باختياره لعقيدته – أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها ، فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا وهو يحرمه من الإيمان بإله للكون يصرف هذا الكون ، وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب (1)
وللحرية الفردية في الإسلام مسار ينبغي أن تسير فيه . يقول تعالى : { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } [ البقرة : 256 ] ويقول أيضا : { ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى } [ لقمان : 22 ] .
فالاستمساك بالشرع الحنيف هو المسار الصحيح للحرية الفردية ، وهو التوجيه الإلهي لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه حيث قال : { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا } [ هود : 112 ] فكان كل منهم كما وصفهم الله تعالى في كتابه الكريم : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار } [ النور : 37 ] .
إن استشعار المؤمن لحرية العقيدة التي كفلها الإسلام يزيده يقينا بالهدى الذي منحه الله عز وجل له واختاره من بين كثير من الناس للاعتناق به ، ونداء الفطرة الذي أوجد في كل إنسان يقوده بسهولة إلى التشبث بالمنهج الحق دون عناء أو مشقة ، بل ويتحمل في سبيله كل المصاعب والآلام والعقبات التي يضعها الطغاة لصرفه عن مسايرة فطرته والتمشي بموجبها ، والسبب الكامن وراء ذلك أنه لا يمكن له أن يتخلى عن تلك الفطرة التي غرست في كيانه وأصبحت جزءا لا يتجزأ من نفسه التي بين جنبيه .
نماذج واقعية في تطبيق حرية العقيدة :
وفيما يلي يستعرض الباحث تطبيقات واقعية لحرية العقيدة في حياة أفراد من خير القرون :
1ـ عندما أسلم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وأعلن إسلامه وعلمت قريش بذلك ثاروا عليه وما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم ، ولما أعيا عمر قعد وقال : افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاث مائة رجل لقد تركناهم لكم أو تركتموها لنا ، وبينما هم كذلك إذ أقبل العاص بن وائل السهمي فقال : ما شأنكم ؟ قالوا صبأ عمر ، قال : فمه رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون ؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا ؟ خلوا عن الرجل ، فتفرقوا عنه (1)
2ـ ولما أسلم عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـأخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطا وقال : أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث ؟ والله لا أحلك أبدا حتى تدع ما أنت عليه عن هذا الدين ؟ فقال عثمان: والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه ، فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه(2)
3ـ وهذا بلال وخباب وآل ياسر وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يعذبون في ذات الله من أجل أن يتنازلوا عن حريتهم ومع ذلك صبروا وتحملوا الشدائد حتى لقي بعضهم حتفه وهو في ذلك العذاب ، وبقي البعض يحدث عما لقيه من العنت والشدة ، وكلهم قد لقي الله وهو راض عنه .
2ـ حرية العبادة :
أما الحرية في العبادة فهي فرع من الحرية في العقيدة ، وحيث أن العبادة هي فعل للمأمورات وترك للمنهيات فقد وضع لنا صلى الله عليه وسلم القاعدة في ذلك قائلا : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم...[ مسلم :4/1830 ]
وهذا الحديث كما قال النووي في شرح مسلم : من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام(1)
ومن أحكامه ودلائله أنه يتعين على كل مسلم : الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم يجتهد في فهم ذلك والوقوف على معانيه ثم يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من الأمور العلمية وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر واجتناب ما ينهى عنه فيكون همته مصروفة إلى ذلك لا إلى غيره وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة (2) ومن هذا الحديث يتبين لنا عدة أمور هي :
1ـ أن ما نهى عنه الشارع الحكيم يتركه الفرد المسلم بالكلية.
2ـ أن يجتهد في فعل كل الأوامر.
3ـ أن ما أمر به يفعله قدر الاستطاعة .
فالواجب إذن على كل مكلف أن يجتنب المنهيات والمحرمات والمكروهات ، مع المبادرة إلى فعل الطاعات والمسارعة إلى الخيرات وتنويع القربات لتمتلئ الصحائف بالحسنات ، ولو تتبعنا شعائر الإسلام وفرائضه لوجدناها كثيرة جدا وكذلك الواجبات والسنن والمستحبات ، ولا يمكن لفرد أن يقوم بها كلها في وقت واحد وفي ساعة واحدة ، ومن أمثلة ذلك : الصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقة وزيارة المريض وقيام الليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقراءة القرآن وتشييع الجنازة وإكرام الضيف وتعليم الجاهل ومساعدة الجيران والجهاد في سبيل الله ومخالطة الناس للنصح والإرشاد وغير ذلك من أمور العبادة ، وفي ذلك يظهر مبدأ الفروق الفردية بين العباد ، كما يظهر مبدأ الحرية في العبادة ، فقد يكون لعبد من العباد أن يكثر من النوافل آناء الليل وأطراف النهار وآخر رغبته في الإكثار من قراءة القرآن ، وفرد ثالث يكثر من الصدقة ورابع مشتغل بتعليم عوام الناس أمور دينهم وخامس آخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله ، ....وهكذا .
ولكن ذلك لا يمنع أن تجتمع بعض هذه الأمور أو كلها لشخص واحد وقليل ما هم .
روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أنفق زوجين في سبيل الله نودي يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ، قال أبو بكر الصديق : يا رسول الله : ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم وأرجو أن تكون منهم، [مسلم : 2/712 ]
قال النووي ـ رحمه الله ـ : قال العلماء معناه من كان الغالب عليه في عمله وطاعته ذلك(1)
ويقول الإمام المقدسي : وقد كانت أحوال المتعبدين من السلف مختلفة ، فمنهم من كان يغلب على حاله التلاوة حتى يختم كل يوم ختمة أو ختمتين أو ثلاثا وكان فيهم من يكثر التسبيح ومنهم من يكثر الصلاة ومنهم من يكثر الطواف بالبيت(2)
الميزان الصحيح لأفضل العبادة :
وإن سأل سائل ما هو الميزان الصحيح لأفضلية العبادة ؟ وما هي القربات التي يحبها الله أفضل من غيرها كي يستزيد منها المرء ؟ وما هو الأنفع والأحق بالإيثار والتخصيص في منازل العبودية ؟ والجواب على ذلك جد يسير فإن : أفضل العبادة في كل وقت وحال : إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه(1)
فكل زمان أو مكان له عبادة أفضل من غيرها ، فمن كان بجوار الكعبة فالأفضل له أن يطوف بدلا من الجلوس لقراءة القرآن ، ومن تيسر له الوقوف بعرفة فذلك أفضل من حضور مجلس للذكر ، وأفضل العبادات في وقت الجهاد : الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن والطمأنينة ، والأفضل في وقت حضور الضيف القيام بحقه من إكرام وغيره والانشغال به عن حق الأهل والأولاد ، والأفضل وقت السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن وترك الزوجة والفراش ، والأفضل وقت انتشار غياهب الجهل وظلماته هو الدعوة إلى الله والنصح والإرشاد وإن أدى ذلك إلى التقصير في زيارة الأقارب وخاصة البعيدين منهم ، فهذا هو العبد الحر أو ما يسميه العزى العبد المطلق الذي : لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه ، فهذا هو المتحقق بـ { إياك نعبد وإياك نستعين } حقا ، القائم بهما صدقا ، ملبسه ما تهيأ ومأكله ما تيسر واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا ، لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم ، حر مجرد ، دائر مع الأمر حيث دار يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه ، يأنس به كل محق ويستوحش منه كل مبطل كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارم الله فهو لله وبالله ومع الله(1)
تلك هي الصورة المثالية في حرية العبادة أو ما ينبغي أن يكون ، أما التطبيق العملي للحرية الذاتية في العبادة في واقع المسلمين فيتمثل في قوله تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } [ فاطر : 32 ] فالخلق ثلاثة أصناف في العبادة : ظالم ومقتصد وسابق ، ويوضح ابن تيمية ـ رحمه الله ـ هذه الأصناف بقوله : فالظالم لنفسه العاصي بترك مأمور أو فعل محظور ، والمقتصد المؤدي للواجبات والتارك للمحرمات والسابق بالخيرات المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب والتارك للمحرم والمكروه(2)
وبفهم واع وبصيرة نافذة يقرر ابن تيمية حقيقة الحرية في العبادة لدى الفرد فهو يرى أن العبد كلما ازداد حبا لله ازداد له عبودية وحرية عما سواه ، ومن جهة أخرى كلما ازداد له عبودية ازداد له حبا وحرية عما سواه(3).
وحرية العبادة التي هي حق لكل فرد في المجتمع المسلم لها تأثير بالغ في عبادته وتؤثر مباشرة في شخصيته ، فإذا أدى العبد ما افترض الله عليه من العبادات أمكنه بلا حرج أن يتنقل بين العبادات الأخرى فيما تميل إليها نفسه وتشتاق إليها روحه أكثر من غيرها ، وبذلك يقبل عليها بنفس مطمئنة راضية ويندفع في آدائها بكل رغبة وارتياح .
ويستنبط الباحث حرية العقيدة والعبادة معا في القرآن من قوله تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ، كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا } [ الإسراء : 18 ـ20 ]
ثانيا : الحرية الفكرية
ومن عناصرها : حرية الاجتهاد
لقد كفل الإسلام لأفراده حرية الاجتهاد وابداء الرأي وأحاط ذلك بسياج قوي من الدعم والتوجيه ، وبنظرة سريعة للفقه الإسلامي نجد أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ قد اعتبروا الاجتهاد مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي ، والاجتهاد هو : استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس بالعجز عن المزيد عليه(1)
وحيث أن في الاجتهاد في الأحكام الشرعية توقيعا عن رب العالمين فقد اشترط في المجتهد شروط عدة لكي يتسنى له الاجتهاد(2) ، فليس في الشريعة تحجير للعقول وكبت للآراء بل في الأمر تيسير وسعة خاصة فيما يستجد من أمور الحياة ومتطلباتها وما يعرض للناس من أقضية وأحكام .
وتؤيد نصوص الكتاب والسنة ذلك الاجتهاد في مواضع كثيرة ، يقول سبحانه وتعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين } [ 78 ، 79 ] ففي الآية الثانية اختص الله عز وجل سليمان عليه السلام بالفهم ثم أثنى على داود وسليمان عليهما السلام بالحكم والعلم ، أما ابن كثير فيقول : فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود (3)
أي كأن الله سبحانه وتعالى قد أقر كلا منهما على اجتهاده ، وثبت عن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا حكم الحاكم فاجتهد الحاكم ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر [ البخاري : 4 /372 ]
ويرى الباحث أن تقرير هذه النصوص من الكتاب والسنة حث لكل عبد على الاجتهاد فيما يستطيعه من الأمور التربوية أو الاجتماعية أو غيرها ، فإذا ما واجه الفرد قضية من القضايا التي لا نص فيها من الشرع وتأكد من ذلك ، أمكنه أن يعمل فكره ويشحذ ذهنه لإحراز الصواب .
أمثلة للاجتهاد من حياة الرسول وأصحابه :
وإذا تتبعنا السيرة النبوية نجد أمثلة كثيرة لاجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام منها :
1ـ قبوله عليه السلام للفداء من أسرى بدر فأنزل الله معاتبا إياه على ذلك قال تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } [ الأنفال : 67] فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في قضية أسرى بدر . [ مسلم : 3 /1385 ]
2ـ ما وقع منه عليه السلام من الإذن للمعتذرين أن يتخلفوا عن غزوة تبوك فأنزل الله معاتبا : { عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } [ التوبة : 44 ] وهنا يعاتب الله نبيه في اجتهاده في الحكم على المتخلفين عن غزوة تبوك .
3ـ قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ، فصلى بعضهم في الطريق اجتهادا منهم ولم يصل البعض الآخر حتى وصلوا إلى بني قريظة ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا منهم لاجتهاده . [ مسلم : 3 / 1391 ]
4ـ قصة بعث معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن ولما سأله عليه السلام بم تحكم قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ، قال : بسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ، قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله . [ أبو داود : 4 /19 وأخرجه الترمذي وقال : وليس إسناده عندي بمتصل ].
قال ابن القيم تعليقا على الحديث : وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله .
ثالثا الحرية الملكية
لقد تمشي الإسلام مع فطرة الإنسان وغريزته في حب المال وتملكه ، أتاح له فرص الكسب المختلفة وسمح له أن يحوز ثمرة جهده ونتيجة عطائه دون أن يمس كرامة غيره أو يجور عليهم في ظل الشرع الحنيف ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه . [ الترمذي : 4/529 ]
ويبين الخولي وظيفة الحافز الفردي في الملكية الفردية فيقول : إنه قانون نفساني ذو خصائص إيجابية يؤدي به المرء دوره في عمارة الأرض على أتم وجه ، ومن هذه الخصائص نزوعه إلى الاستيلاء على حصيلة عمله وأن تحقيق هذا الاستيلاء هو الاستجابة الواجبة ليحقق هذا القانون أثره الذي أراد الله له .(1)
ولكن الإسلام أباح التكسب وجمع المال ضمن ضوابط شرعية معينة وفي إطار مراتب متدرجة ، يقول الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة :
ثم الكسب على مراتب ، فمقدار ما لابد لكل أحد منه يعني ما يقيم به صلبه يفترض على كل أحد اكتسابه عينا لأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرائض إلا به ، ومما يتوصل به إلى الفرائض يكون فرضا فإن لم يكتسب زيادة على ذلك فهو في سعة من ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها . [ الترمذي : 4 / 496 ] .
وهذا إن لم يكن عليه دين فإن كان عليه دين فالاكتساب بقدر ما يقضي به دينه فرض عليه لأن قضاء الدين يستحق عليه عينا وبالاكتساب يتوصل إليه .
وكذا إن كان له عيال من زوجة وأولاد فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهم عينا لأن الإنفاق عليهم مستحق عليه وإنما يتوصل إلى إيفاء هذا المستحق بالكسب ، والكسب زيادة على ذلك فيه سعة(1).
وإذا حاز الإنسان على كل شيء من هذا المال وجب عليه أن يقوم بمتطلباته وتكاليفه ، فالمال الذي يمتلكه الإنسان هو مال الله وهو مستخلف فيه وهو مسئول عن كسبه وإنفاقه لا ريب ، وإذا امتلك عبد هذا المال ـ مهما كثر ـ فإنه يبقى فقيرا إلى خالقه ومولاه ، محتاجا إلى رحمته ومغفرته ، قال تعالى : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } [ فاطر : 15 ].
يقول الخولي : وإذا أدرك الإنسان حقيقة الافتقار في نفسه عرف أنها فطرته فالتزمها وجعلها منهاجا ، وإذا استعلنت له حقيقة السلب في نفسه بدت كل المواهب نعما وإرادة من الله ومنعه ذلك أن يزهى بها على غيره ، والإحساس بالافتقار يدفع إلى الإقبال على الله ليستمد الإيجاب من معاني صفاته .(1)
فالمال عارية مردودة وإن بقي لأحد فلن يبقى له أحد حيث أنه متاع الحياة الفانية ، قال تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } [ آل عمران : 14 ].
ولن ينفع هذا المال صاحبه إلا إذا استغله فيما يرضي الله عز وجل ويعود عليه بالنفع والفلاح يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وفي ذلك حث وتحريض لكل من يملك أن يستبدل ما عند الله من اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات المخدجة الناقصة الفانية (1) .
وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم المال الذي ينفق في أوجه البر بقوله : نعم المال الصالح للمرء الصالح ، [ أحمد : 4 / 197 ]
إن ذاتية الفرد المالك تكمن في تغلبه على نوازعه الشيطانية وتسخير المال الذي رزقه الله لتزكية نفسه وتربيتها لتمضي مع النصوص القرآنية الكثيرة التي تشير إلى ذلك ومنها : { وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ... } [ البقرة : 177 ] { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا } [ الكهف : 46 ].
وقوله : { وسيجنبها الأتقى ، الذي يؤتى ماله يتزكى } [ الليل : 18 ] ، { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير } [ البقرة : 265 ] ، { انفروا خفاقا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } [ التوبة : 41 ] .
إضافة إلى ذلك فإن التطبيق الصحيح لحرية التملك يخلص النفس من أنانيتها واستئثارها بما وهبها الله ، وفي التعود على البذل والعطاء راحة للضمير وسكينة للفؤاد ، وإذا أدرك المرء أن المال مال الله وأن الذي أعطاه اليوم يمكنه أن يأخذه غدا ويعطيه لغيره ، يجعله دوما يشعر بالحاجة إلى ما عند الله فيقبل عليه بالطاعات ويوظف ماله في مرضاة الله لنيل ما عند الله من النعيم المقيم .
إن حرية التملك التي أقرها الإسلام للأفراد لا تهيئ لهم البذل والعطاء للانعتاق من ذل القيود الأرضية فحسب ، بل تهيئ لهم الإنفاق في المباحات وتوفير المال وتثميره في ظل الشريعة الغراء ، ولهذه الحرية منافع جمة ، يقول سيد قطب : وتقرير حق الملكية الفردية يحقق العدالة بين الجهد والجزاء فوق مسايرته للفطرة واتفاقه مع الميول الأصلية في النفس البشرية ، تلك الميول التي يحسب الإسلام حسابها في إقامة نظام المجتمع وفي الوقت ذاته يتفق مع مصلحة الجماعة بإغراء الفرد على بذل أقصى جهد في طوقه لتنمية الحياة ، فوق ما يحقق من العزة والكرامة والاستقلال ونمو الشخصية للأفراد بحيث يصلحون أن يكونوا أمناء على هذا الدين ، يقفون في وجه المنكر ويحاسبون الحاكم وينصحونه دون خوف من انقطاع أرزاقهم لو كانت في يديه (1).
فمما تسعى إليه التربية الإسلامية أن يكون التوافق كبيرا بين فطرة الإنسان والحرية الملكية التي أبيحت له .
والفرد المسلم المنتمي إلى الجماعة المسلمة لا يرضى لنفسه أن تتنعم بالمال ولا تتذكر إخوانها من حولها فتبادر إلى المساهمة في بناء المجتمع من خلال هذا المال فيشعر في قرارة نفسه أنه قدم شيئا للإسلام والمسلمين .
ويتعجب المرء حين يسمع عن الجمعيات المنحرفة والمؤسسات الضالة التي يسخو أصحابها سخاء لا تعرفه الجمعيات والهيئات الإسلامية ، بل وينظمون أمورها تنظيما ينتج الشر الكبير ويثمر الفتنة العارمة التي لا يشقى بويلاتها إلا الملتزمين بشرائع الإسلام(2).
نموذج فريد لتطبيق الحرية الملكية :
وإذا أردنا مثالا لنفس حررت ذاتها من قيود المال وكانت تطبيقا عمليا لتلك الآيات فلننظر إلى شخصية الحبيب صلى الله عليه وسلم وسيرته القولية والعملية فإنها صورة مقتبسة من القرآن الكريم ، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله : كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة بما ملكت يده وكان لا يستكثر شيئا أعطاه لله تعالى ولا يستقله وكان لا يسأله أحد شيئا إلا أعطاه قليلا كان أو كثيرا وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذ وكان أجود الناس بالخير يمينه كالريح المرسلة ، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه تارة بطعامه وتارة بالهدية ، وكان ينوع في أصناف عطائه وصدقته فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعا كما فعل ببعير جابر ، وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه وأفضل وأكبر ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفا وتنوعا في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن ، وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها بحاله وقوله فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى ، وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيرا عجيبا في شرح الصدر وإن ضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره بالنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها وشرح صدره حسا وإخراج حظه منه.(1)
واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ينطلق المسلم من ذاته لفك القيود التي تربطه بالأرض وليرتفع إلى الملكوت الأعلى في السماء ، ويحصل له ذلك بالبذل والعطاء والإنفاق في سبيل الله بسخاء ، فإن في ذلك حياة المجتمع وتضامن أفراده وثبات بنيانه كما أن فيه تربية للإيمان بالاعتماد على الله والتوكل عليه وفيه تربية للنفوس وتمحيصها من أدرانها .
رابعا : الحرية العلمية
لم يلزم الإسلام جميع أفراده بالاتجاه إلى علم معين ، وترك هذا الأمر مطلقا حسب رغبة كل فرد وميوله وأهوائه ، بل إن مقتضى الحال يدعو إلى أن يكون للمسلمين باع في كل علم من العلوم المفيدة وأن يكون لدى جماعة المسلمين الخبراء والمختصون في مختلف المجالات لكي يكونوا في قوة ومنعة ويستغنوا بإمكانيتهم عن الأعداء ، قال تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا } [ النساء : 83 ].
فوجود الهيئات المتخصصة والعلماء البارعين في مختلف المجالات النافعة أمر هيأته الشريعة ويسرت سبله عن طريق حرية العلم للأفراد ، يقول أحد التربويين المعاصرين : وحين تتعقد المواقف والمشكلات ـ خاصة تلك التي تتعلق بأمور السلم أو أمور الحرب والأخطار ـ وتحتاج إلى درجات عالية من القدرات والخبرات العميقة ومناهج التفكير الحكيم فإن القرآن يوجه إلى وجوب إقامة هيئة متخصصة في دراسة هذا النوع من المواقف والمشكلات(1).
وقد كانت حرية العلم واضحة في حياة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ورضي الله عنهم أجمعين ـ فمنهم العالم بالقرآن والعالم بسنة المصطفى عليه السلام واللغوي والشاعر والقاضي ومنهم القائد المحنك الخبير بفنون الحرب والتاجر المتمرس بالتجارة والعالم بالفرائض والعالم بالحلال والحرام ، وورد في سيرة المصطفى القولية والفعلية ما يدل على تشجيعه وإقراره لكل منهم على المجال الذي برع فيه أو العلم الذي اختاره ، من ذلك ما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدها في دين الله عمر وأصدقها حياء عثمان وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأقرؤها لكتاب الله أبي ، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت ، ولكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح . [ أحمد : 3/184 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 908]
وروى البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لحسان بن ثابت : اهج المشركين فإن جبريل معك . [ أحمد : 4/286 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2519 ]
وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه . [ رواه أبو يعلى في مسنده ، نقلا عن الألباني في الصحيحة برقم 1154 ] والآثار في ذلك كثيرة .
إن الحرية العلمية في التربية الإسلامية تفتح الباب على مصراعيه لتتنوع الخبرات وتتعدد التخصصات ، ورغم كثرتها وتنوعها ، إلا أنها كلها تصب في منبع واحد هو تحقيق الاكتفاء الذاتي للمجتمع وذلك بتكاتف أفراده وتعاونهم .
وتسعى التربية الإسلامية لهذا الهدف بتوظيف الطاقات ، فالجميع يعمل ويبني ويساهم كل من موقعه وكل حسب طاقته وكل حسب ميوله العلمية ورغباته الفكرية أو قدراته المهنية ، ومن المفترض ألا يوجد بين المسلمين من لا ينفع في أي أمر من الأمور ، وما دام الفرد المسلم عاملا فهو يضع لبنة في البناء ، وهو بذلك له جهده ومساهمته التي لا يستغنى عنها ، وشعور المرء بحرية العلم يجعله لا ينتقص أي جهد يقدمه ولو كان يسيرا ، بل على العكس من ذلك فإن هذا يدفعه إلى أن يبدع في مجاله ويسد الثغرة التي هو عليها حتى لا يؤتي المجتمع المسلم من قبله وحتى لا يصبح هو نفسه عالة على غيره .
قواعد أساسية :
لا ريب أن الاكتفاء الذاتي أمر مطلوب وهدف نبيل تسعى التربية الإسلامية لتحقيقه من خلال الحث على الانخراط في مختلف التخصصات والعلوم ، ولكن تصحيح النظرة والموازنة بين العلوم من حيث المنفعة والأفضلية والحاجة مما يستدعي التنبيه إليه ، فهناك قواعد أساسية ينبغي أن يعيها الفرد المسلم عند مناقشة موضوع حرية العلم ، وهي كما يلي :
1ـ العلوم من حيث فائدتها وضررها :
تنقسم العلوم من حيث فائدتها إلى نافع وضار ، والمسلم مطالب بالاستزادة من العلم النافع ، قال تعالى : { وقل رب زدني علما } [ طه : 114 ] ، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ من العلم الذي لا ينفع ، ففي الصحيح عن زيد بن أرقم أن النبي عليه السلام قال : ... ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها ، [ مسلم : 4 / 2088 ].
ومن أمثلة العلوم النافعة علم التفسير والفقه والحديث وعلوم التجارة والزراعة والصناعة والطب والهندسة ، ومن العلوم الضارة السحر والتنجيم والكهانة وغيرها ، ويضع الباحث أسسا وركائز للعلوم النافعة للفرد المسلم :
أ ـ موافقته للكتاب والسنة وعدم معارضته للشرع في أي جزئية من جزئياته .
ب ـ العمل به فيما يعود بالخير على الفرد والمجتمع .
ج ـ تأدية زكاته بنشره وتعليمه من لا يعلمه أو يحتاجه .
د ـ الإخلاص في أدائه وتقديم النية الحسنة بين يديه فإنما الأعمال بالنيات وكذلك العلوم .
إن أي علم لا ينتفع منه في أمر دنيا أو آخرة ينقلب وبالا على صاحبه وقد يكون الأولى به أن يدعه ولا يضيع أوقاته فيه ، قال عليه السلام : إن علما لا ينتفع ككنز لا ينفق منه في سبيل الله . [ رواه ابن عساكر ، نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 2108 ] .
2 ـ أفضل العلوم :
دلت نصوص الكتاب والسنة على أن خير العلوم هو الذي يدلك على معرفة الله وخشيته وتقواه والإنابة إليه ، أي علم الآخرة .
قال تعالى : { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } [ سبأ : 6 ].
وقال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] أي العالمين بالله عز وجل الذين قدروا الله حق قدره .
وقال تعالى : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب }. [ الزمر : 9 ] . فمن يتعلم ويعلم العلم الذي يقرب من الله والدار الآخرة لا يستوي هو ومن لا يعلم ذلك العلم ، قال صلى الله عليه وسلم : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين .[ البخاري : 1 / 42 ] .
يقول ابن حجر ـ رحمه الله ـ : وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم .(1)
ولفضل العلم في الدين على سائر العلوم فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه فقال : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل . [ ابن ماجة : 1 / 49 ].
وعن ابن عباس قال : ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : اللهم علمه الكتاب . [ البخاري : 1 /44 ]. وأورد ابن حجر في رواية أخرى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب . والمراد بالكتاب القرآن وبالحكمة السنة . (1)ومعلوم أنه لو كان علم خير من علم الكتاب والسنة لدعا النبي عليه السلام لابن عمه ـ رضي الله عنهما ـ ، فدل ذلك على أن علوم الآخرة أفضل وخير من علوم الدنيا .
ذكر الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ في كتابه إحياء علوم الدين مقارنة لطيفة بين علوم الآخرة متمثلة في علم الفقه وبين علوم الدنيا متمثلة في علم الطب فقال : اعلم أن التسوية بينهما غير لازمة بل بينهما فرق ، وأن الفقه أشرف منه من ثلاث وجوه :
أحدهما : أنه علم شرعي إذ هو مستفاد من النبوة بخلاف الطب فإنه ليس من علم الشرع
الثاني : أنه لا يستغني عنه أحد من سالكي طريق الآخرة البتة لا الصحيح ولا المريض ، وأما الطب فلا يحتاج إليه إلا المرضى وهم الأقلون .
الثالث : أن علم الفقه مجاور لعلم طريق الآخرة لأنه نظر في أعمال الجوارح ومنشؤها صفات القلوب . (2)
إن تقرير حقيقة أفضلية علم الآخرة على بقية العلوم لا يلغي أهمية العلوم الأخرى وحاجة المسلمين كافة إليها ، ولكن ذلك يعني أن على كل مسلم مكلف ـ أيا كان علمه ـ ألا يحرم نفسه من الاستزادة من هذا الخير فإن من فاته هذا العلم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم وصار علمه وبالا عليه وحجة عليه ولم ينتفع به لأنه لم يخشع قلبه لربه ولم يشبع نفسه من الدنيا بل ازداد عليها حرصا ولها طلبا ولم يسمع دعاؤه لعدم امتثاله لأوامر ربه وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه (1).
وليست الأفضلية مقتصرة على علوم الدنيا ، بل إن العلم بالله أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات من صلاة وصيام وتسبيح ودعاء وذلك لأسباب عدة يذكرها ابن جماعة (2) كما يلي :
أ ـ أن العلم يعم نفعه لصاحبه وللناس ، والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها ،
ب ـ أن العلم مصحح لغيره من العبادات ومفتقرة إليه ولا يتوقف هو عليها .
ج ـ أن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه بينما تنقطع النوافل بموت صاحبها .
د ـ في بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة .
هـ ـأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه .
3 ـ الحاجة إلى العلم الشرعي :
لقد ذم الله قوما انصرفوا بالكلية عن العلم الأخروي إلى علوم هذه الدنيا الفانية ، اهتم الفرد منهم بصلاح دنياه وأمر معاشه وزيادة أمواله متجاهلا دينه الذي هو عصمة أمره وبه فلاحه ونجاحه . قال تعالى : { وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون * أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون } [ الروم : 6-8 ]
وقال الحسن في وصف هؤلاء : يعلمون متى زرعهم ومتى حصادهم ، ولقد بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بظفره فيخبرك بوزنه ولا يحسن يصلي (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم في أمثال هؤلاء : إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب في الأسواق ، جيفة بالليل حمار بالنهار ، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة . [ رواه البيهقي في السنن نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 1874 ]
ما أشد انطباق الوصف في هذا الحديث على حال كثير من شباب المسلمين وشيبهم ، رجالا ونساء في العصر الحاضر ، فربما يتقن المهندس عمله ويبدع الصانع في مصنعه ويربح التاجر في سوقه أو يخلص الأستاذ في تدريسه واستيعاب مادته ، وكل واحد من أصحاب المهن والوظائف يقضي الساعات الطوال ليقوم بتبعات تلك المهنة أو الوظيفة وما يتعلق بها ومع ذلك لا تجده يفرغ ساعة من وقته في الأسبوع أو في الشهر لتعلم أمور دينه إما في بيته مع أهله وأولاده وإما في المسجد القريب من سكنه مع جيرانه أو بأي طريقة من الطرق ، ويرى الباحث أن هذا الإعراض مما ابتلي به المسلمون حتى المثقفين منهم ، وقد عد العلماء من نواقض الإسلام التي تخرج صاحبها من الإسلام ، الإعراض عن دين الله تعلما وعملا (2).
إذا فالأمر جد خطير وعلى الفرد المسلم أن يكون له من العلم الشرعي نصيبب ، وينبغي على كل مكلف تعلم أصول الدين وما هو معلوم من الدين بالضرورة من أمور العقائد والعبادات والمعاملات والمداومة على ذلك من المهد إلى اللحد وخاصة فيما تمس إليه حاجة الفرد نفسه ، فالتاجر يتفقه شرعيا في أنواع البيوع والقاضي يتعلم أحكام القضاء والحكم وقل مثل ذلك للسياسي والمعلم والطبيب والمهندس وهلم جرا ، وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عما يجب على المكلف اعتقاده وما الذي يجب عليه علمه فقال : أما الإجمال فيجب على المكلف أن يؤمن بالله ورسوله ويقر بجميع ما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما أمر به الرسول ونهى بحيث يقر بجميع ما أخبر به وما أمر به فلابد من تصديقه فيما أخبر والانقياد له فيما أمر ، ... ، وأما الذي يجب عليه علمه فهذا يتنوع فإنه يجب على كل مكلف أن يعلم ما أمر الله فيعلم ما أمر بالإيمان به وما أمر بعلمه بحيث لو كان له ما تجب فيه الزكاة لوجب عليه تعلم علم الزكاة ، ولو كان له ما يحج به لوجب عليه تعلم الحج وكذا أمثال ذلك ، ويجب على عموم الأمة علم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا يضيع من العلم الذي بلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته شيء وهو ما دل عليه الكتاب والسنة لكن القدر الزائد على ما يحتاج إليه المعين على الكفاية إذا قامت به طائفة سقط من الباقين .
وأما العلم المرغب فيه جملة فهو العلم الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته لكي يرغب كل شخص في العلم الذي هو إليه أحوج وهو له أنفع وهذا يتنوع ، فرغبة عموم الناس في معرفة الواجبات والمستحبات من الأعمال والوعد والوعيد أنفع لهم ، وكل شخص منهم يرغب في كل ما يحتاج إليه من ذلك ، ومن وقعت في قلبه شبهة فقد تكون رغبته في ما ينافيها أنفع من غير ذلك (1)
وبناء على ما قرره شيخ الإسلام فلا يحق لأي فرد أن يتهاون في طلب العلم الشرعي والحرص عليه وخاصة في مثل هذه الأيام التي بعد الناس فيها عن العلماء ومجالسهم وانشغلوا بملذات الحياة وشهواتها ، كما أن مناهج ومقررات التربية والتعليم ليست كافية ومؤدية للدور المطلوب منها في ظل مستجدات الحياة
والباحث لا ينكر الدور الذي تؤديه بعض المؤسسات التعليمية ولكن الحق أنه ما يزال يعتريها النقص والقصور ، وليس أدل على ذلك من أن كثيرا من مسائل الصلاة التي يؤديها كل مسلم خمس مرات على الأقل كل يوم تغيب عن أذهان خريجي المدارس والجامعات فضلا عن غير المتعلمين ، وتجد بعض أصحاب الشهادات العليا لا يعرف كيف يغتسل من الجنابة ولا يدري أن من اعتنق غير الإسلام دينا فهو من الخالدين المخلدين في نار جهنم ، وقل مثل ذلك عن الجهل بحقوق الجيران والأقارب وأمور البيع والشراء التي تهم كل مكلف ولا يعذر بالجهل فيه أحد إلا بعذر شرعي ، وقد يقول قائل أن هذه الأمور يعذر بالجهل بها فنرد عليه بأن العلماء قي القديم والحديث ناقشوا هذه المسالة وأوسعوها بحثا ، ولأن المجال ليس مناسبا لسردها فتراجع في مظانها ، ولكن لا بأس أن نشير إلى رسالة بعنوان : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، تقدم بها الشيخ صالح بن حميد لنيل درجة الدكتوراه من كلية الشريعة بجامعة أم القرى ، حيث استعرض فضيلته ما ذكره العلماء في حكم الجهل بما يعذر فيه وما لا يعذر فيه ، ثم استخلص الأمور التالية (1):
أ ـ الجهل بأصول الدين أي أمور التوحيد والعقائد لا يعتبر عذرا بأي حال كما لا يقبل الادعاء به
ب ـ الجهل بضروريات الدين من صلاة وزكاة وصيام وحج غير مقبول أبدا ، ويدخل في ذلك بعض الأركان والشروط والواجبات لبعض العبادات لأن المسلم المكلف مهما قلت درجته العلمية مطالب بالإتيان بها في أوقاتها وعلى صفتها الشرعية ، وكذلك المحرمات المشهورة لدى عامة المسلمين كقتل النفس والخمر والربا والزنا
ج ـ يعذر بالجهل ويقبل ادعاؤه إذ نشأ المسلم في دار حرب ولم يعلم حكم ما أقدم عليه أو امتنع عنه
د ـ يعذر بالجهل إذا كان المسلم حديث عهد بالإسلام
ه ـ يقبل الجهل ويكون عذرا في حق العامة إذا كان واقعا في أحكام لا يعلمها إلا العلماء
لذا فينبغي على الفرد المسلم أن يتجنب هذه المزلة الدحضة التي وقع فيها كثير من الناس ، فيحرص على طلب العلم الشرعي والاستزادة منه أيا كان تخصصه وأيا كان مجاله ، وخاصة في الأمور التي يحتاجها الفرد سواء في مهنته أو في منزله ، وبذا يرتبط قلب المسلم بدينه ولا ينسى انتماءه وولاءه لهذا الدين
إن الاهتمام بحرية العلم في التربية الإسلامية وما يتعلق بها من قواعد سيكون له أثره الفعال في تربية النفس وتنميتها لتكون قوة فعالة ولبنة راسخة لبناء مجتمع إسلامي معتز بدينه مفتخر بعقيدته له دوره في تغيير مجريات الأحداث في العالم المعاصر .
المبحث الثاني
المسئولية والجزاء
أولا : المسئولية
يقصد الباحث بالمسئولية : المسئولية الشخصية أي فردية التبعة أو تحمل الجزاء الحاصل نتيجة العمل الذي قام به الفرد أو كلف به ، أي إنها تعني ترتب الجزاء من الله تعالى على ما يأتي به المكلف من أعمال أو أقوال أو نيات باختياره سواء ألزم بها شرعا أو التزم بها بمقتضى الشرع ، ولها أركان ثلاثة هي :
الأول : السائل وهو الله عز وجل المالك القادر على الجزاء
الثاني : المسئول وهو البالغ العاقل المبلغ على لسان الرسل
الثالث : المسئول عنه وهي التعاليم المبلغة وهي شريعة الله التي ارتضى لعباده (1) .
وتؤكد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على المسئولية الشخصية للأفراد ، يقول تعالى : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما * ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما } [ النساء : 110 ، 111 ] فالآية الأولى تبين المسئولية الشخصية لما يفعله المرء في حق نفسه ، والآية الثانية تقرر الجزاء الفردي الذي يناله من قام بالعمل ولا يسأل عنه غيره ، كما قال تعالى : { قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون } { سبأ : 25 ] .
وتتضمن المسئولية أيضا ما يفعله الإنسان من الخير والهدى أو الشر والضلال ، قال تعالى : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الإسراء : 15 ] يقول سيد قطب – رحمه الله – فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه إن اهتدى فلها وإن ضل فعليها ، وما من نفس تحمل وزر أخرى ، وما من أحد يخفف حمل أخيه ، إنما يسأل كل عن عمله ويجزى كل بعمله ولا يسأل حميم حميما (2)
ويعرض لنا القرآن الكريم صورا شتى لتقرير هذا المبدأ فيذكر لنا موقف امرأة نوح وكذلك امرأة لوط اللتين لم توافقا زوجيهما النبيين على الإيمان ولا صدقاهما على الرسالة فلم يجد ذلك كله شيئا ولا دفع عنهما محذورا أو رد عذابا في النار ، وفي المقابل تبرز لنا صورة امرأة فرعون المؤمنة التي ما ضرها كفر زوجها حين أطاعت ربها وآمنت به
قال تعالى : { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين ، وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين }[ التحريم : 10 ـ11]
ومن خلال هذه الحقيقة يقرر المرء الحياة التي يريد أن يحياها والطريق الذي سيختاره لنفسه والمصير الذي سيؤول إليه كل فرد يضع نفسه حيث يريد هو ، يكرمها أو يهينها ، يرفعها أو يضعها ، قال تعالى { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ، كل نفس بما كسبت رهينة }[ المدثر : 37 ، 38 ]
والخطاب واضح والبيان ناصع في الحث على تربية الذات والسمو بالشخصية إلى المراتب العليا وذلك بالاستعداد لهذه المسئولية التي سيواجهها كل فرد حيث تبدأ مسئولية كل فرد في هذه الحياة منذ بلوغه سن التكليف وتنتهي بمفارقته لها ، ولكل مسئوليته الخاصة به .
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام الأعظم الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وهي مسئولة عنهم ، وعبد الرجل راع على كل مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته [ البخاري : 4 /328 ]
كل فرد في المجتمع الإسلامي له رعية يرعاها ، وبغض النظر عن موقعه فيه في القمة أو في القاع ، وسواء كان رجلا أو امرأة ، حرا أو عبدا ، مهما اختلفت الظروف والأحوال فإنه مسئول عن رعيته ، يوضح هذا المعنى محمد بن عبد الله دراز فيقول (1):
والحق أن هذه الظروف لا تتخلف أبدا فلكل منا بالضرورة بعض العلاقات وهو يشغل مكانا معينا ويمارس بعض الوظائف في جهاز المجتمع ، فالأب مسئول عن رفاهية أولاده ـ المادية والأخلاقية ـ والمربي مسئول عن الثقافة الأخلاقية والعقلية للشباب والعامل عن تنفيذ عمله وكماله ، والقاضي عن توزيع العدالة والشرطي عن الأمن العام والجندي عن حفظ الوطن ، كذلك نحن ـ فرادى ـ مسئولون عن طهارة قلوبنا واستقامة أفكارنا ، كما أننا مسئولون عن حماية صحتنا وحياتنا ، حتى أننا نستطيع أن نجد في كل لحظة من لحظات الحياة الإنسانية بعض المسئوليات وهي ليست افتراضية فحسب بل حاضرة وواقعية متى تحققت لها الشروط العامة ، ثم إن اختلاف المواقف لا يتدخل إلا من أجل تخصيص وتحديد موضوع هذه المسئولية
وإنما يزيد هذه المسئولية خطورة وأهمية قوله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة [ مسلم : 1/125 ]وفي رواية : ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة [البخاري : 4 /331 ]
وفي رواية لمسلم : ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة [ أبو داود : 3 / 356 ]
وقال أيضا عليه السلام : من ولاه الله عز وجل شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره [ أبو داود :3 /356 ]
ألا فليتفكر في هذه النصوص كل المربين والعلماء والحكام وغيرهم من الرعاة فإن التبعة كبيرة والحساب عسير . صحيح أن الجزاء يوم القيامة ولكن لا يغيب عن البال أن المسئولية تبدأ من الحياة الدنيا دار العمل والكسب ، فهل أدى كل فرد ما يترتب عليه من واجبات تجاه الأمانة التي كلف بها ، إن إجابة أي فرد لنفسه عن هذا السؤال تتطلب التجرد والنزاهة ، فلا داعي لجلب الأعذار وتبرير الأخطاء أو انتحال المغالطات النفسية والحيل اللاشعورية ، فاليوم دار عمل ولا حساب وغدا دار حساب ولا عمل
إن شعور الفرد بهذه المسئولية يدفعه للعمل بدون توان ولا ملل ويراعى في هذه المسئولية هل حفظ الأمانة كما ينبغي أم ضيع وفرط ، وإن أولى الناس بالمحاسبة والمراقبة نفسه التي بين جنبيه فيراجعها الفينة بعد الأخرى ويسائلها قبل أن تسأل
كما أن مسئولية الفرد عمن يعول يشعره بالتبعة الشاقة فيتعاهدها بالرعاية والعناية ويراقب الله في هذه الأمانة عملا بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد }[ التحريم :6 ]
ثانيا : الجزاء
وبنهاية هذه الحياة الدنيا تأتي فترة البرزخ وهي الفترة التي يقضيها الإنسان بعد مماته في القبر وقبل يوم الحشر ، قال تعالى : { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } [ آل عمران : 185 ]
وقال أيضا : { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } [ النساء : 78 ]
يعتقد المسلم اعتقادا جازما أن الموت باب وكل الناس داخله ، والبرزخ دار كل الناس سيزورها وسيقضي فيها فترة الله أعلم بها ، ثم يكون المحشر للسؤال عن الأعمال وللفصل بين العباد . وفي البرزخ يحيا الفرد حياة الله أعلم بها ، لا أب ولا أم ولا أصحاب ولا أتباع ولا خدم ولا حشم ، تكون مساءلة ويكون حساب .
قال تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } [ إبراهيم : 27 ] .
روى أبو جعفر النحاس – رحمه الله – في معنى هذه الآية فقال : قال البراء بن عازب وأبو هريرة : هذا عند المساءلة إذا صار في القبر (1)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل . [ أبو داود : 3/550 ]
وعن البراء – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . [ البخاري : 3/247 ] .
كما روى أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا . وأما المنافق والكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال له : لا دريت ولا تليت ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين . [ البخاري : 1/422 ] .
إن المسئولية في البرزخ أمر لازم ولا مفر منها لأحد ، ومحصلة هذه المسئولية إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار . يقول القرطبي (1) : الإيمان بعذاب القبر وفتنته واجب ، والتصديق به لازم حسب ما أخبر به الصادق ، وأن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره برد الحياة إليه ويجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه ما يجيب به ويفهم ما أتاه من ربه وما أعد له في قبره من كرامة أو هوان . وبهذا نطقت الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم وعلى آله آناء الليل وأطراف النهار ، وهذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أهل الملة .
وينبغي الإكثار من ذكر هاذم اللذات ومفرق الجماعات لقول النبي صلى الله عليه وسلم : أكثروا من ذكر هادم اللذات . [ الترمذي : 4/479 ] .
إن من يتذكر ذلك البيت المظلم بيت الوحشة والدود لن تصرفه هذه الدنيا بملذاتها عن العمل والاستعداد للسؤال في ذلك المكان المقفر ، وسوف يراقب نفسه في كل حين ، ورحم الله عمر بن عبد العزيز الذي كان يتمثل بأبيات لابن عبد الأعلى حيث ينشد قائلا (2) :
من كان حين تصيب الشمس جبهته
ويألف الظل كي تبقى بشاشته
في قعر مظلمة غبراء مقفرة
تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس
وسابقي بغتة الآجال وانكمشي
لا تكدي لمن يبقى وتفتقري
أو الغبار يخاف الشين والشعثا
فسوف يسكن يوما راغما جدثا
يطيل تحت الثرى في قعرها اللبثا
قبل الردى لم تخلقي عبثا
قبل اللزوم فلا منجا ولا غوثا
إن الردى وارث الباقى وما ورثا
كما أن تذكر هذا المصير المحتوم يولد القشعريرة في القلب ويملؤه بالخشية والإنابة وبالتفكر الصادق تسقط العبرات من المدامع ويحس الإنسان بالتفريط ويعترف بالتقصير فيندم على ما مضى وينيب إلى ربه ويسارع إلى تدارك ذاته فيربيها ويقومها على الجادة قبل أن يعض أصابع الندم ولات حين مندم . ومن وضع في مخيلته ظلمة القبر ووحشته سيتذكرها تلقائيا كلما وجد نفسه في غرفة مظلمة أو صحراء موحشة أو ما أشبه ذلك ، وذلك مما يحثه على التجهز والاستعداد قبل فوات الأوان .
وحين ينفخ في الصور ويبعث من في القبور يحشر كل إنسان إلى ربه حيث يلاقي جزاء ما قدم في حياته الدنيا .
قال تعالى : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون } [ النحل : 111 ] . ويقول : { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون } [ يونس : 30 ] .
ومعنى هذه الآية : أي في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر (1)
عندما يحشر الناس يوم القيامة يكون كل فرد مسئولا عن نفسه ولن يهتم أو يلتفت إلى أقرب أقربائه وذلك لأن الموقف عصيب والحساب شديد ، وفي ذلك الموقف تنشر الصحف ويطلع كل امرئ على صحيفته فيرى ما قدم من أعمال ويعرض على الرب عز وجل بدون واسطة أو شفيع .
قال تعالى : { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } [ مريم : 95 ]
وعن عدي بن حاتم – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان ثم ينظر فلا يرى شيئا قدامه ، ثم ينظر بين يديه فتستقبله النار ، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة . [ البخاري : 4/198 ] .
إن الإنسان قد يشعر بالرهبة إذا التقى بعظيم من عظماء الدنيا أو بملك من ملوكها ، فكيف اللقيا برب الأرباب وملك الملوك عظيم السماوات والأرض ، وكيف السؤال وكيف الجواب . فتوهم نفسك يا عبد الله بعد تطاير الكتب ونصب الموازين للحساب وقد نوديت للمساءلة والحساب .
يقول الشاعر :
مثل وقوفك يوم العرض عريانا
والنار تلهب من غيض ومن حنق
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل
لما قرأت ولم تنكر قراءته
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي
المشركون غدا في النار يلتهبوا
مستوحشا قلق الأحشاء حيرانا
على العصاة ورب العرش غضبانا
فهل ترى فيه حرفا غير ما كانا
إقرار من عرف الأشياء عرفانا
وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا
والمؤمنون بدار الخلد سكانا
وفي يوم القيامة أيضا تعدد الأهوال ، ومن ذلك الأسئلة الخمسة التي يسأل عنها كل فرد وهي كما يلي :
السؤال الأول : كيف قضى عمره المحدود في الحياة الدنيا وهل كان مؤمنا موحدا أو كان فاسقا عاصيا أم كان كافرا .
السؤال الثاني : كيف مرت فترة الشباب التي عاشها ؟ هل كانت في طاعة الله ومرضاته أم في معصية وفسوق وفجور ؟
السؤال الثالث : من أين اكتسب المال الذي كان يقتات به في الدنيا ؟ هل مصادر كسبه من حلال ومباح أم من غش وخداع أم من استحلال المحرمات كالربا والخمر والملهيات بأنواعها ؟
السؤال الرابع : ما هي طرق إنفاق ذلك المال ؟ هل أدى حق الله فيها وكان نعم المال الصالح للرجل الصالح ؟ أم أنفقت فيما لا يرضي الله عز وجل ولا يعود بالنفع ؟
السؤال الخامس : ماذا كانت نتيجة العلم الذي تحصل عليه ؟ هل كان علما نافعا وعمل به وأدى زكاته ؟ أم أعرض عنه وجعله مطية للحياة الفانية فقط وكان ممن آمن ببعضه وكفر بالبعض الآخر ؟
ومصداق هذه الأسئلة الخمسة من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وماذا عمل فيما علم . [ الترمذي : 4/529 . وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 7176 ]
ومن الأهوال التي لا ينجو منها أحد من المؤمنين أبدا المرور على الصراط . قال تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } [ مريم : 71-72 ] .
وقد ثبت من الأحاديث الصحيحة أن الناس يمرون عليه وتكون سهولة ذلك بقدر أعمالهم في الدنيا ، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كالطرف ، ومنهم من يمر كشد الرحل يرمل رملا . فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه تخر يد وتعلق يد وتخر رجل وتعلق رجل وتصيب جوانبه النار . (1)
ومن رحمة الله عز وجل أن الناس يتفاوتون في الحساب فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا ومنهم من يحاسب حسابا عسيرا كل حسب عمله في الدنيا .
فقد حدثت عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك . فقلت : يا رسول الله أليس قد قال الله { فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا } ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما ذلك العرض ، وليس أحد يناقش الحساب إلا عذب . [ البخاري : 4/198 ]
والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالحقير قبل الجليل وترك المسامحة والعفو .
وقال رجل لابن عمر : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ قال : سمعته يقول : يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول : هل تعرف ؟ فيقول : رب أعرف . فيقول : إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم . قال : فيعطى صحيفة حسناته . وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق : هؤلاء الذين كذبوا على الله . [ مسلم : 4/2120 ]
وإذا تقرر ما ذكر عن الجزاء والحساب يوم القيامة يتضح جليا أن الجزاء من جنس العمل وهذا هو غاية العدل من رب العباد ، قال تعالى : { قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ } [ الأنعام : 104 ] .
وقال : { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] وقال : { فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى } [ النازعات : 37-41 ] وقال : { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه * وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة } [ عبس : 37-43 ] .
إن الفرد الذي ينتظر جزاء ما قدمت يداه من خير ويخشى سوء ما اقترفت من شر لن يكون في تصرفاته وسلوكه مثل من لا يعتقد ذلك ، ولذا تراه يراقب الله في كل حين ويسوق نفسه سوقا لنيل مرضاة الله وفكاكها من عقابه .
أخيرا لا يعد من المبالغة إذا اعتبر الباحث مبدأ المسئولية أهم مبادئ التربية الذاتية التي تتحكم في تصرفات الإنسان المسلم . كيف لا وهي تبدأ معه في هذه الحياة ثم تلازمه في قبره وينتهي به المطاف معها يوم يقوم الناس لرب العالمين حيث يلاقي العبد نتيجة تحمله إياها . وهي فرصة واحدة فقط لا يعطى عبد غيرها ولا يعوض عنها . فإن أحسن العمل فهنيئا له بجنة عرضها كعرض السماء والأرض وإن أساء استخدام تلك المسئولية فمصيره إلى بارئه يجازيه بما يستحق أو يفعل سبحانه ما يشاء . والأمر لله من قبل ومن بعد .
المبحث الثالث
الاهتمام بالغير
مقدمة
تتعلق التربية الذاتية كما ذكرنا سابقا بأن يهتم الفرد بنفسه لتربيتها وتزكيتها ، ويتم ذلك بجهوده الذاتية دون انتظار المعونة أو التوجيه من أحد ، وقد يفهم من هذا ألا يلتفت المرء إلى غيره بحجة ألا يشغله ذلك عن تربية نفسه ، ولكن الحقيقة أن الاهتمام بالآخرين عنصر أساسي من عناصر التربية الذاتية .
ويقصد الباحث بمبدأ الاهتمام بالغير أي الاجتماع بالناس ومخالطتهم ونفعهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ونشر الخير بينهم .
إن الفرد الذي يعيش لنفسه ولا يهتم بغيره يعيش صغيرا ويموت صغيرا ويندم كثيرا ، ولا يستطيع الفرد السوي إلا أن يكون مختلطا بمن حوله ، فإن من أخص خصائص الإنسان أن ينتمي إلى وسط ما يشعر بمشاعره ويحس بأحاسيسه ، ويتحول هذا الوسط في التربية الإسلامية إلى ما يسمى بالأخوة الإسلامية التي تقوم على الحب في الله ، وهذه الأخوة لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع ومن حيز الادعاء إلى حيز التطبيق إلا من خلال المساعدة والمساندة والاهتمام والسعي وقضاء الحوائج للآخرين . ويكفي من يقوم بذلك رضا وسرورا علمه أن من ينفع غيره من العباد فهو محبوب عند الله عز وجل مما يشعره بالقرب منه والاتصال به .
قال صلى الله عليه وسلم : أحب العباد إلى الله أنفعهم لعياله [ حسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 170 ] . فالخلق كلهم عالة على الله وفي حاجة إليه ، وخير هؤلاء من يقدم النفع لهم .
والتعامل مع النفوس البشرية المختلفة يقتضي سعة الصدر وسماحة الطبع واليسر والتيسير في غير تهاون ولا تفريط في دين الله ، وكل هذا مما يعود أثره على ذات المسلم فتزداد صقلا وتزداد تربية وتزكية (1)
وخدمة الآخرين يكسب الفرد صفات أخلاقية عدة منها : الصبر والتضحية والبذل والتعاون وغير ذلك من الأخلاق الإسلامية الحميدة التي تشع نورا وبهاء من النفس المتحلية بها .
وعندما يأمر الفرد بالمعروف وينهى عن المنكر يزداد ثباتا على المبادئ التي يعتنقها ويكون أول الفاعلين لها والمتمسكين بها ، فهذه العبادة هي أولا إصلاح للذات قبل أن تكون إصلاحا للغير ، وحري بكل مسلم أن يحرص عليها ليربي ذاته ويزكي نفسه .
وسيقتصر هذا المبحث على تقرير الاهتمام بالغير كمبدأ من مبادئ التربية الذاتية في التربية الإسلامية من خلال ثلاثة عناصر هي :
1ـ تنفيذ التكليف الرباني .
2ـ النجاة من العذاب .
3ـ التشوق للأجر العظيم .
أولا : تنفيذ التكليف الرباني
يستطيع المتدبر لكتاب الله أن يدرك معنى التكليف الرباني لكل فرد بالاهتمام بالآخرين في مواضع كثيرة من كتاب الله وخاصة في الآيات التي تخاطب جماعة المؤمنين .
نلاحظ أولا أن جميع أنبياء الله قد أرسلوا للاهتمام بأقوامهم وانتشالهم من عبودية الأرباب إلى عبودية رب الأرباب . قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } [ الحديد : 25 ] . وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } [ النحل : 43 ] .
وقال تعالى مخاطبا رسوله الكريم : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وجاء الخطاب في ذلك صريحا لنبينا محمد عليه السلام قائلا : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } [ الكهف : 28-30 ] . وهذا مثل قوله تعالى : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون * ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين } [ الأنعام : 51 ، 52 ] .
قال الزجاج – رحمه الله - (1) : إنما ذكر الذين يخافون الحشر دون غيرهم وإن كان منذرا لجميع الخلق لأن الحجة على الخائفين الحشر أظهر لاعترافهم بالمعاد فهم أحد رجلين : إما مسلم فينذر ليؤدي حق الله عليه في إسلامه وإما كتابي فأهل الكتاب مجمعون على البعث .
وفي آية سورة الأنعام روى سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – قال : نزلت هذه الآية في ستة : في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال . قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء فاطردهم عنك ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل فنزلت هذه الآية . [ ابن ماجة : 2/1383 ].
فهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خير الرسل أجمعين قد كلفه ربه بتصبير نفسه مع تلك الثلة من ضعفاء المؤمنين وفقرائهم ، وهذا يعني الاهتمام بشئونهم وقضاياهم وما يواجهونه من مصاعب ومشكلات ., وكانت الجارية تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذهب به حيث شاءت ، والأمثلة من السيرة في هذا الباب كثيرة جدا .
وآيات القرآن الكريم وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام تبين أن التكليف الرباني ليس خاصا بنبينا صلى الله عليه وسلم بل إن الأمة جمعاء مكلفة بإعداد أفراد يتصدون لهذه المهمة ، هذا مع وجوب أن يقوم كل فرد بدوره حسب استطاعته وقدرته .
قال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } [ آل عمران : 104 ]
يقول العلامة عبد الرحمن بن سعدي غفر الله لنا وله (2) فكل من دعا الناس إلى خير على وجه العموم أو وجه الخصوص أو قام بنصيحة عامة أو خاصة فإنه داخل في هذه الآية الكريمة .
ويوافق الباحث العلامة ابن سعدي فيما ذهب إليه ، وهذا يعني أيضا أن يدخل في هذه الآية الكريمة كل الآباء والأمهات والمعلمون والمرشدون والعلماء والأمراء وغيرهم ، أي جميع أفراد المجتمع كل حسب قدرته .
قال ابن كثير – رحمه الله - (1) : والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه .
ويدل على ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع بقلبه وذلك أضعف الإيمان . [ مسلم : 1/69 ] . وفي رواية : وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل . [ مسلم : 1/70 ] .
وبالتمعن في مفهوم الآية والحديث يتبين لنا أمران هما :
1ـ أن المفلح هو من يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أي يهتم بشئون غيره وليس مقتصرا على نفسه فقط .
2ـ أن هناك علاقة مطردة بين زيادة الإيمان وتنميته وبين الشعور بواجب إصلاح الخطأ ليعم الصواب ويندثر المنكر . وبعبارة أخرى : فكلما ربى الإنسان نفسه كلما أداه ذلك إلى الاهتمام بغيره .
وبما أن كل مسلم مكلف من قبل خالقه بأن يكون من المفلحين ، وبالجمع بين الآية والحديث يستنتج الباحث أن الاهتمام بالغير واجب شرعي في عنق كل مسلم بالإضافة إلى أنه مبدأ رئيس في التربية الذاتية . ومما يدعم هذا القول ويسنده قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } [ التحريم : 6 ] . وقوله صلى الله عليه وسلم : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته [ سبق تخريجه ] . وبما أن كل فرد مخاطب بهذا التكليف فإن الواجب عليه الانصياع له وتنفيذ هذه الطاعة الربانية التي تقربه من الله ومرضاته .
ثانيا : النجاة من العذاب
مر معنا في الفصل الأول أن مصير الإنسان إما جنة أو نار ، والفرد المسلم يرجو رحمة ربه والفوز بجنته ويخشى عذابه والتلظي بناره . قال تعالى : { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } [ آل عمران : 185 ] . فالفوز الحقيقي هو أن ينجو العبد من عذاب الله ويدخل الجنة ، والاهتمام بالغير سبيل من السبل المؤدية إلى هذا الفوز ، بينما التفريط في هذا الجانب يؤدي بالفرد والمجتمع إلى الهلاك والدمار . قال تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب } [ الأنفال : 25 ] . قال ابن عباس في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب . (1)
وحذر سبحانه من فعل أقوام سابقة تهاونوا في هذا الأمر فأنزل عليهم سخطه وعقابه . قال تعالى { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } [ المائدة : 78 ، 79 ]
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم } إلى قوله { فاسقون } ثم قال : كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصر . وزاد في رواية : أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم . [ أبو داود : 4/508 ]
وعن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم . { الترمذي : 4/406 ] .
وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يسأل العبد يوم القيامة حتى ليقول : فما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره ، فإذا لقن الله عبدا حجته قال : أي رب وثقت بك وفرقت من الناس . [ ابن ماجة : 2/1322 . وجود الألباني إسناده في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 929 ] وإذا قام كل فرد بواجبه في إصلاح نفسه وفعل الخير والدعوة إليه فإنه لا يضره فساد من فسد وضياع من ضاع وإن كان أقرب الأقربين .
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } [ المائدة : 105 ] وليس في هذه الآية دعوة إلى ترك الاهتمام بالغير وإنما هي إخبار عن حال الإنسان إذا فسد المجتمع من حوله وذلك بأن يثبت على فعل ما أمره الله به وترك ما نهى عنه مع القيام بواجبه في الإصلاح قدر الطاقة . كان هذا هو الفهم الذي أوتيه صديق هذه الأمة حين قام فحمد الله ثم أثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وإنكم تضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه . [ ابن ماجة : 2/1326 ] .
ثم إن في القيام بواجب الاهتمام بالغير والنصح لهم إعذارا إلى الله سبحانه وتعالى الذي سيسأل كل امرئ عما عمل فيما علم وهل أدى ما عليه من النصح والاهتمام أم أنه فرط في ذلك .
قال تعالى : { وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون * فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } [ الأعراف : 164 : 166 ] . فبين الله تعالى نجاة الذين بذلوا النصح وسكت عن الذين تراخوا عن هذا الواجب لأن الجزاء من جنس العمل .
ثالثا : التشوق للأجر العظيم
ما من شك في أن الطريق الذي سلكه الأنبياء والرسل يوصل إلى مرضاة الله وجنته فأولئك الذين هدى الله وبهداهم يقتدي كل السائرين إلى مرضاة الله رب العالمين . وقد كان مما هداهم إليه أن هداهم إلى مهمة عظيمة وهي دعوة الخلق لتوحيد المنهج والغاية ، أي الإيمان بالله وحده لا شريك له والكفر بالطواغيت بأنواعها . قال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] وإنه لشرف جد عظيم أن يشترك فرد من الأمة مع أنبياء الله ورسله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . قال تعالى : { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال : إنني من المسلمين } [ فصلت : 33 ] . فليس هناك أحد أفضل ممن أصلح نفسه واهتم بغيره لنشر الهدى والخير والصلاح ، وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : من دل على خير فله مثل أجر فاعله . [ مسلم : 3/1506 ] وقال صلى الله عليه وسلم : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم . [ ابن ماجة : 2/1338 ] وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من دل إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا . [ مسلم : 4/2061 ] .
وهناك الكثير من الأحاديث التي ترتب الجزاء العظيم من الله وذلك لمن يحسن إلى غيره أو يسدي إليه معروفا . كما أن فيها بيانا لأبواب الخير وطرق خدمة الآخرين . ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد – يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم – شهرا . ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام ، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل . [ رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج ، والطبراني في الكبير نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 147 ، وسلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 906 ] .
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه . من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة . [ البخاري : 2/190 ] .
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه . [ نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 6453 ] .
إن الاهتمام بالآخرين فرصة عظيمة لكل من أخذ بزمام تربية وتعليم ونصب نفسه مرشدا وموجها أن يحوز على هذا الأجر العظيم الذي من الله به على من يخدم غيره ويهتم به ويصبر على ما يلاقيه من جراء ذلك ابتغاء وجه الله . فأما إذا أخلص النية واستحضرها وابتغى بذلك وجه الله فإنه سينال أجور جميع من اقتدى به في الخير ويضاف ذلك إلى رصيد حسناته ، وأما إن لم يستحضر النية فسيفوته ذلك الأجر ، وأما إن كان تعليمه ضلالا وفسادا فستعود مغبة ذلك على نفسه وستمتلئ صحائفه بالذنوب والآثام .
روت أم سلمة – رضي الله عنها – عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : صنائع المعروف تقي مصارع السوء والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب ، وصلة الرحم زيادة في العمر وكل معروف صدقة وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الاخرة وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة [ رواه الطبراني في الأوسط نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 3690 ] .
الفصل الثالث
أساليب التربية الذاتية من الكتاب والسنة
المبحث الأول : العبادات الإسلامية
أولا : الشعائر التعبدية
ثانيا : المحاسبة
ثالثا : تقوى الله
المبحث الثاني : المعاملات
أولا : التحلي بالأخلاق الإسلامية
ثانيا : اتخاذ القدوة
ثالثا : السؤال والحوار
رابعا : العزلة والمخالطة
المبحث الثالث : استغلال الوقت
أولا : العادة
ثانيا : ملء الفراغ
ثالثا : المحاولة والخطأ
مقدمة
ناقش البحث في الفصل السابق مبادئ التربية الذاتية ، ويناقش في هذا الفصل الأساليب التربوية لتحقيق تلك المبادئ . لنلق أولا نظرة في بعض معاجم اللغة لمعرفة ماذا يعنى بكلمة الأساليب .
جاء في مختار الصحاح : أن الأسلوب هو الفن . (1)
وقال ابن منظور : يقال للسطر من النخيل أسلوب وكل طريق ممتد فهو أسلوب . قال : والأسلوب الطريق والوجه والمذهب ، يقال : أنتم في أسلوب سوء ويجمع أساليب . والأسلوب الطريق تأخذ فيه . الأسلوب بالضم : الفن ، يقال : أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه . (2)
إن ذلك يعني أن البحث سيناقش في هذا الفصل بعض الطرق والوسائل والأفانين التي يتبعها الفرد لتربية ذاته وتزكية نفسه لكي يكون ذلك المسلم الفعال ، ذلك الشخص الذي اعتزم تحقيق القيم والمبادئ الإسلامية في نفسه ومن يعول والتي بدورها تحدد إسلاميته وذاتيته .
وكما أنه لا يتصور أن ينجح طالب في دراسته بدون جد واجتهاد فكذلك لا يمكن لفرد أن يربي ذاته بدون تحقيق أساليب التربية الذاتية ، وهذه سنة الله في الكون : بذل الأساليب لتحقيق المسببات . قال الشاعر :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس
أن يغير الفرد سلوكه وتصرفاته وأفكاره إلى الأفضل يعني سيره وفق السنن الكونية التي وضعها الله سبحانه وتعالى في الكون . قال تعالى : { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [ آل عمران : 137 ] .
لذا كان من الضروري معرفة السنن والقوانين لإصلاح الأفراد والمجتمعات لتحقيقها في الواقع ، يقول جودت سعيد : ومن أكبر الظلم الذي ينزله الإنسان بنفسه ألا يرى العلاقة التسخيرية الموجودة بين الإنسان والكون والمجتمع ـ الآفاق والأنفس : فيهمل نفسه ولا يضعها في المكان الذي يسخر الآفاق والأنفس على أساس السنن المودعة فيهما (1)والرابط المشترك لأساليب التربية الإسلامية عموما وأساليب التربية الذاتية خصوصا هو أنها تتعاون لتربية الإنسان الصالح في أي مكان وزمان ، ويتفاوت التطبيق الفردي حسب طبيعة كل إنسان وإمكانياته وميوله وتهيئه النفسي وقدرة إدراكه(2)
والأساليب التربوية لتحقيق التربية الذاتية متعددة ومتنوعة ، فبعضها لا يعتبر المرء بدونها داخلا في دائرة الإسلام ولكنها ذكرت للتأكيد عليها وبيان أثرها المباشر في تزكية المسلم ، وبعض هذه الأساليب يختلف أداؤها من شخص لآخر ، وما جمع في هذا الموضع إن هو إلا نتاج اجتهاد شخصي من الباحث فإن أصاب فمن الله وإن أخطأ فمن نفسه ومن الشيطان ، وفيما يلي تصنيف الأساليب المقترحة :
المبحث الأول : العبادات الإسلامية
أولا : الشعائر التعبدية .
ثانيا : المحاسبة .
ثالثا : تقوى الله .
المبحث الثاني : المعاملات :
أولا : التحلي بالأخلاق الإسلامية
ثانيا : اتخاذ القدوة
ثالثا : السؤال والحوار
رابعا : العزلة والمخالطة
المبحث الثالث : استغلال الوقت
أولا : العادة
ثانيا : ملء الفراغ
ثالثا : المحاولة والخطأ
ويلاحظ أن هذه الأساليب تستثير الشخصية المسلمة الراغبة في تزكية نفسها ، وكل منها مكمل للآخر ، فمنها ما هو مستقر في الشعور ويمارسه الفرد مع نفسه أو مع الآخرين ومنها ما يتطلب أداؤه عددا من حواس الإنسان ، وكلما كان عدد الحواس أكثر ، كلما كانت الفائدة المرجوة أكبر ، فاشتراك السمع والبصر واللمس والقراءة والإدراك في نشاط إدراكي أو تعليمي أو عاطفي أو انفعالي ، فإن هذه أدعى لأن يكون النشاط أشد وأقوى وأعمق .(1)
المبحث الأول
العبادات الإسلامية
أولا : الشعائر التعبدية
يقول تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } [ الأنفال : 24 ] إنه ما من شيء يدعو إليه الله ورسوله إلا وفيه حياة القلوب وتزكية النفوس وزيادة الإيمان ، وفي الشعائر التعبدية إحكام للصلة بين العبد وربه وترسيخ للإيمان في نفسه ، وأهم ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل ويزيد من إيمانه ويرفع درجته هو أداء الفرائض التي افترضها سبحانه وتعالى
وهي قدر مشترك بين العباد ـ فيما يتعلق بالكم لا بالكيف ـ ثم يتفاوتون فيما عدا ذلك من نوافل العبادات كما بين ذلك في مبادئ التربية الذاتية فيما يتعلق بحرية العبادة ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل : إن الله قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ، [ البخاري : 4/192] ، ففي الحديث دلالة على أن أحب الأعمال إلى الله هو أداء الفرائض وهي على نوعين :
أ ـ ظاهرة : وهي التي تؤدى بالجوارح
ب ـ باطنة : وهي أعمال القلوب
فالظاهرة : عملا كالصلاة والزكاة وغيرها من الأفعال ، وتركا مثل : الربا والقتل وغيرها من المحرمات
والفرائض الباطنة :
هي كالعلم بالله والحب له والتوكل عليه والخوف منه ، كذلك الولاء للمسلمين والبراء من المشركين ، وكل ذلك ينقسم إلى أفعال وتروك(1)
فأول ما يتشبث به الفرد في سيره إلى ربه وتربية ذاته هو المحافظة على هذه الفرائض وعدم التهاون بها بأي حال من الأحوال ، ويأتي بعد ذلك باب النوافل وهي ما زاد على الفرائض من صلاة وصيام وصدقة وغيرها ، وهذا الباب متيسر لكل فرد أن يلجه وأن يكثر من أداء النوافل طمعا في نيل رضا الخالق الذي هو غاية كل مخلوق والهدف من تربية النفس ، إذا نال العبد محبة الله ورضاه وفقه الله لكل خير وعصمه من كثير من الشرور
يقول الإمام الخطابي ـ رحمه الله ـ شارحا للحديث السابق : قوله فكنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، هذه أمثال ضربها والمعنى ـ والله أعلم ـ توفيق للأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها فيحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن موافقة ما يكره الله من إصغاء إلى اللهو بسمعه ونظر إلى ما نهى عنه ببصره وبطش إلى ما لا يحل له بيده وسعي في الباطل برجله ، وقد يكون معناه سرعة إجابة الدعاء والإنجاح في الطلبة وذلك أن مساعي الإنسان إنما تكون بهذه الجوارح الأربع(2)
لقد جاء الدين الإسلامي بعبادات شتى تملأ حياة المسلم في كل الظروف والأحوال وبالليل والنهار ، فهناك العديد من السنن القولية والعملية والتي يعتبر أداؤها من الأساليب المهمة لتربية النفس ، ومن هذه العبادات قيام الليل وصيام التطوع والصدقة وقراءة القرآن والأذكار المتنوعة ، ولا شك في أن الإتيان بهذه العبادات تقوية للصلة التي تربط بين العبد وربه وتوثيقا لعرى الإيمان في قلبه فتزكو النفس وتصفو الروح ، وهذا الأمل هو الذي يدفعه ليكون له من كل منها حظ ونصيب مما يجعله ينوع في عباداته وأعماله الصالحة كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } [ الحج : 77 ]
ولعل في هذا التنوع مراعاة لطبيعة النفس الإنسانية التي إذا داومت على أمر معين تمله حتى لو كان هذا الأمر طعاما أو شرابا أو عملا أو مسكنا (1)وذلك مثل قول أبي تمام :(2)
وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
وكما بين الباحث في الفصل الثاني فإن العبادات في الإسلام ليست إلا جزءا من مفهوم العبادة الشامل ، وهذا المفهوم له أثره البالغ في تربية النفس الإنسانية يقول محمد شديد : ومنهج العبادة يلبي في الإنسان فطرته ، ويجعل منها تربية لنفسه وعلاجا لضعفه وينير له طريقه ويحدد معالمه حتى يصل إلى غايته دون شطط أو ضلال ، ويقوم هذا المنهج على فكرة القرآن عن وضع الإنسان من الكون والحياة ، وفطرة نفسه على التعبد والتوجه إلى بارئها بالتضرع والدعاء ، وهدفه أن يضع الإنسان في مكانه الصحيح من الكون حتى لا يخرج عن سنته ولا ينحرف عن ناموسه ، فخروجه وانحرافه لا يؤديان إلا إلى الضلال والفساد والشقاء(3)
من أجل ذلك لابد للمرء أن يحفز نفسه للإكثار من هذه العبادات
والعبادات التي يستطيع أن يباشرها بنفسه لتحقيق غاية وجوده وتربية ذاته كثيرة جدا منها : قيام الليل وقراءة القرآن والدعاء وصلة الأرحام وصدقة السر والمتابعة بين الحج والعمرة وصيام الأيام المرغب فيها كالاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر ، وكذلك ملازمة الأوراد وطلب العلم وغيرها ، ولأن مجال البحث لا يتسع لذكر كل منها على حدة فسنكتفي ببعضها
1_ قراءة القرآن :
القرآن الكريم هو كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين على سيد المرسلين ليكون منهجا للعالمين ، وأن في قراءته وتدبره تربية للنفس وأي تربية ، وفيه حياة للروح ، وأي حياة ، قال تعالى : { إن هو إلا ذكر للعالمين ، لمن شاء منكم أن يستقيم } [ التكوير :27 ، 28 ] ، وقال أيضا : { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } [ البقرة :1 ] ، وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القرآن شافع مشفع وما حل مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه قاده إلى النار [ رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب والطبراني في الكبير وابن سعد ، نقلا عن الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 2019
ومن القرآن يأخذ المؤمن التصورات والأفكار والمبادئ الصحيحة عن نفسه وعن الكون وعن الحياة وعن الآخرة فيحيا كما يريد خالقه ، ومن القرآن يقتبس الطرق الناجحة لتربية النفس وإحياء الضمير
وإن من يريد أن يربي نفسه حري به أن يتعهدها بكتاب الله تلاوة وتدبرا وفهما وحفظا ، مبتعدا بذلك عن منهج أهل الزيغ والعصيان الذين هجروا كلام الرحمن ، ومن عاش في رحاب القرآن أصبح بمثابة قرآن يتحرك على الأرض ، ففيه منهج حياة لكل فرد في كل زمان ومكان
وما الحيرة والضياع التي يعيش فيها كثير من أفراد المسلمين إلا لأنهم ابتعدوا عن هذا النبع الأصيل ، ولذلك لا يستغرب أن ترى بعض المنتسبين للإسلام يمر عليهم الشهر والشهران والثلاثة ، بل السنة بأكملها ولم يقرأ جزءا أو سورة من سور المصحف الشريف ولم يتدبر معناها ولم يعمل بمقتضاها ، لا غرو أن أمثال هذا ممن يثقل كاهل الأمة ويكون عبئا عليها ، بينما نجد أن أهل القرآن العاملين به على العكس من ذلك فهم أهل الله وخاصته وبهم تقاس حضارة الأمة ، ولذا امتدحهم الرب سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ترغيبا لكل فرد أن يحذو حذوهم قال الله عز وجل : { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور } [ فاطر : 29 ، 30 ] وعن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم : خيركم من تعلم القرآن وعلمه [ البخاري : 3/346]
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد له أجران [ البخاري :3/39] ، وعن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ...[ مسلم :1/533] ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها [ الترمذي : 5/163 وقال حسن صحيح ]
إن هذه الخيرية التي ينالها المتصل بكتاب الله والرفعة التي يحظى بها في الدنيا والآخرة ، هي من بركات التوفيق لتربية الذات وتزكيتها
ومن شرع في القرآن فليكن شأنه الخشوع والتدبر والبكاء فبذلك تنشرح الصدور وتستنير القلوب وتسمو الأرواح ، ولكي يحظى قارئ القرآن بالتسديد والتوفيق والقبول ينبغي أن يتحلى بآدابه فلا يهذه كهذ الشعر ولا يسرح بخياله أثناء قراءته ولا يكن همه لآخر السورة ، وإنما يقف متدبرا لمعانيه متفكرا في وعده ووعيده عاملا بأوامره منتهيا عن نواهيه ، وهذا لا يتنافى مع الندب إلى الإكثار من تلاوة القرآن والمحافظة على ذلك
ولحرص السلف رضوان الله عليهم على تربية ذواتهم بقراءة القرآن وتدبره ، فقد كانت لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون به ، فروي أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة ، وروي عن بعضهم في كل شهر ختمة ، وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة ، أو في كل ثمان ليال ، ومنهم من زاد على ذلك أو أنقص(1)
كما استحب العلماء أن يختم القارئ في السنة مرتين على الأقل وذلك قياسا على أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض القرآن مرتين على جبريل عليه السلام في السنة التي قبض فيها(2)
ولكن الأولى من هذا أن يقال أن مقدار القراءة يعتمد على حال كل شخص بذاته ، يقول الإمام النووي ـ رحمه الله ـ : المختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ،فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ وكذلك من كان مشغولا بنشر العلم أو فصل الحكومات أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ولا فوات كماله ، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل أو الهذرمة في القراءة (1)
والقصد من إيراد من قول النووي بيان أن تربية النفس بقراءة القرآن لا تكون بكثرة القراءة فقط ولكن قد تحصل التربية الذاتية بقراءة آيات قليلة مع تدبر معانيها واستخراج كنوزها ، ويمكن للقارئ أن يحرز ذلك بسؤال أهل العلم أو بالرجوع إلى التفاسير المعتمدة لدى أهل السنة والجماعة
2ـ ذكر الله تعالى :
بين العلماء أن للذكر نوعين هما :
الأول : ذكر أسماء الرب وصفاته والثناء عليه بهما وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به تبارك وتعالى ، وهذا النوع ينقسم إلى قسمين :
أ ـ إنشاء الثناء عن الذاكر مثل قول سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله
ب ـ الثناء على الله بما أثنى به على نفسه وبما أثنى به عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ، مثل الخبر عن سمع الله وبصره وعلمه عز وجل بما ثبت في الكتاب والسنة
الثاني : ذكر أمره ونهيه وأحكامه وله قسمان أيضا :
أ ـ الإخبار بأنه أمر بكذا ونهى عن كذا وبأنه أحب كذا أو كره كذا
ب ـ ذكر الله عند أمره فيبادر إليه وعند نهيه فيهرب منه [ ابن القيم : 1406 ، 178ـ 181 ]
فيشمل ذكر الله ترديد كل ما ثبت من الأدعية والأذكار ويشمل حضور مجالس الذكر في المساجد والبيوت وغيرها من الأماكن ، ويشمل أيضا بيان حكم الله عز وجل فيما يواجه الناس من أقضية وأحكام ، هذا بالإضافة إلى المبادرة إلى تنفيذ ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه خاصة عند تذكر قدرة الله وعظمته وما أعده للأبرار من نعيم وللفجار من جحيم ، وذكر الله مما ينبغي أن يتحلى به المسلم ويتشبث به سواء كان لوحده أو مع غيره ، قال تعالى { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } [ آل عمران : 190، 191 ]
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول اله تعالى : أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ هم خير منهم ، وإن تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة [ مسلم : 4/2061 ]
إن لذكر اله أثر عظيم في تربية الذات وتحريك الضمير لأن دوام ذكره تعالى يربي في النفس مقام مراقبة الله في السلوك والتصرفات ، قال تعالى { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } [ الأنفال : 2 ] وإنه ما من شك في أن اتخاذ ذكر الله بجميع أنواعه أسلوبا في حياة الفرد يعد من أنجح الأساليب في التربية الذاتية ، بالإضافة إلى أهمية هذا الأسلوب في تربية الأمة ، ومن لا يتخذ هذا الأسلوب فسيدع مجالا لشياطين الإنس والجن وأعوانهما كي تذكر وتنشر ، ومن ثم سيصير ـ والعياذ بالله ـ من الذين ذمهم الله تعالى فقال فيه : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } [ الزمر : 45 ]، وقال تعالى : { ومن يغش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } [ الزخرف : 36 ]
وقد حث المصطفى صلى الله عليه وسلم على مداومة الذكر في أحاديث كثيرة ، عن معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى ، قال : ذكر الله تعالى [ الترمذي : 5/428 ]
وعن معاذ أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله [ أحمد : 5/239 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 5520 ]
وبين العلامة الجهبذ ابن القيم أن للذكر نحوا من مائة فائدة ، وينصح الباحث كل مهتم بتربية نفسه أن يراجع تلك الفوائد فإن فيها نفائس جمة ودررا عظيمة لا تكاد توجد عند غيره ، ومن ذلك أنه أورد روايات وأقوالا عدة عن سلف هذه الأمة في بيان أثر هذا الذكر على نفوسهم وأرواحهم ، قال رحمه الله : وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إلي وقال : هذه غدوتي ولو لم اتغذ هذا الغذاء سقطت قوتي ... ، وقال لي مرة : لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر ، ... ، وسمعت شيخ الإسلام يقول : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة ، ...وقال أيضا : ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري إن رحت فهي معي لا تفارقني إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة(1)
ومن الأقوال العظيمة في هذا الباب قول أحدهم : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ، وقال آخر : مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها ، محبة الله تعالى ومعرفته وذكره(2)
وشكا رجل للحسن البصري قسوة قلبه فقال أدبه بالذكر(3)
ونختم بما قاله ابن القيم عن أثر الذكر في التربية الذاتية ، قال رحمه الله : ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء فإذا ترك الذكر صدئ فإذا ذكره جلاه ، وصدأ القلب بأمرين : بالغفلة والذنب وجلاؤه بشيئين : بالاستغفار والذكر(4)
وفي ذكر الله بجميع أنواعه تكثير للحسنات ورفع للدرجات ، وهذا ما يسعى إليه العبد من تربية ذاته
3ـ قيام الليل :
يقول تعالى : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا } [ الفرقان : 62 ]
ففي تعاقب الليل والنهار حكمة عظيمة وفي كل منهما عمل لا يصلح في الوقت الآخر أو على الأقل لا ينضبط تماما ، مثلا النوم في الليل ليس كالنوم في النهار ، وطلب المعاش في وقت النهار ليس كطلبه في العتمة ، قال تعالى : { وجعلنا الليل لباسا ، وجعلنا النهار معاشا } [ النبأ : 10 ، 11 ] كما أن أي خلل يطرأ على دورة الضياء ودورة الظلام ..على دورة الليل والنهار سيؤثر على ما يسمى بالساعة الداخلية في الإنسان التي تسيطر على دورته اليومية ، تلك الساعة التي تأقلمت واعتمدت على دورة الليل ودورة النهار .. دورة الضوء ودورة الظلام الطبيعية(1)
ولذلك كان من رحمة الله أن أوجد الليل والنهار يعمل الفرد فيهما بما يناسبهما كما يعملان فيه ، قال تعالى : { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } [ القصص : 73 ]
إنها لنعمة عظيمة جدا ينبغي للمسلم أن يشكر المنعم عليها ، ومن شكر هذه النعمة أن ينظم المسلم وقته وحياته وفق هذه السنة الكونية ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، فهناك عبادات وأمور تؤدى في الليل وأخرى تؤدى في النهار والأولى أن يؤدي كل في وقته
ومن الأمور التي حث الشرع عليها قيام الليل ويقصد به صلاة النافلة وقت منام الخلق وخاصة في الهزيع الأخير من الليل ، ويقال له : التهجد وهو ما كان بعد نوم ، يقول تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } [ الإسراء : 79 ] وفي موضع آخر يقول تعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا } [ المزمل : 6 ] والمقصود من ذلك أن قيام الليل هو أنسب الأوقات لاستجماع الفكر وتفهم القراءة حيث لا شاغل ولا صارف عن ذلك(2)
وإذا تدبر المرء ما يتلو من آيات في ظلمة الليل البهيم والناس نيام كان ذلك أدعى للتدبر والتفكر ولأن تؤتي القراءة ثمارها اليانعة ، وقد رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في قيام الليل في أحاديث كثيرة نذكر بعضا منها :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله أخبرني بشيء إذا عملت به دخلت الجنة ، قال : أفش السلام وأطعم الطعام وصل الأرحام وقم بالليل والناس نيام وادخل الجنة بسلام
[ أحمد : 2/295 وصححه الألباني برقم 1096 في صحيح الجامع ]
وعن أبي مالك الأشعري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصل بالليل والناس نيام
[ أحمد : 5/343 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2119 ]
وأورد المروزي بسنده عن بلال ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وإن قيام الليل قربة إلى الله وتكفير للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء عن الجسد (1)
[ رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3958 ]
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر المحرم [ مسلم : 2/821]
وقد شهد عليه الصلاة والسلام لمن يقوم الليل بسلامته من الإثم والفجور فقال : جعل الله عليكم صلاة قوم أبرار يقومون الليل ويصومون النهار ليسوا بأثمة ولا فجار ، [ رواه عبد بن حميد ، نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 3092]
ومن ابتغى الشرف والرفعة فليداوم على صلاة الليل لقوله عليه السلام : شرف المؤمن صلاته بالليل وعزه استغناؤه عما في أيدي الناس
[ رواه الخطيب والعقيلي ، نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 3604]
ما أكثر الفوائد التي يجنيها الفرد من قيام الليل لتربية ذاته وصلاح حاله ولعل من أهم الثمار التي يتحصل عليها هي تنمية وازع الإخلاص الذي هو أحد شرطي قبول العمل ، وفي قيام الليل يربي الإنسان نفسه على تحقيق الشرط الثاني من شرطي قبول العمل وهو المتابعة حيث ثبت أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، أضف إلى ذلك أن من تدبر القرآن أثناء هجوع الناس أحس بتقصيره وندم على تفريطه ، ومن خشع في القراءة والصلاة سالت منه عبرات التوبة والندم ، وإذا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه حشره رب العزة والجلال في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ولا عفو إلا عفوه
وحين ينصرف الناس إلى محبوبيهم من أهل الدنيا يتوسطون لهم لقضاء حاجاتهم ، يثوب المؤمن إلى ربه مخبتا ويصلي من الليل ما شاء الله له أن يصلي ويدعو ما شاء الله له أن يدعو عله أن يقضي له حوائجه ويغفر له ذنوبه أو يدخرها له إلى أن يلقاه ، ويدعو الله بأن يؤتي نفسه تقواها ويزكيها ويخلصها من شرورها وآثامها ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟
[ أحمد : 2/487 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 8024]
وبعد كدح النهار والسعي لجلب لقمة العيش يأوي الناس إلى فرشهم الدافئة ، ويلتذ أهل المعاصي بشهواتهم ومعاصيهم كما يلتذ المؤمن بالوقوف بين يدي ربه لمناجاته والتزود لاستقبال يوم جديد على عمله شهيد ، والزاد الإيماني ضروري جدا لمواصلة العطاء وتحمل التبعات والتكاليف التي حملها الإنسان وذلك يحتاج إلى استعداد طويل ، يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ :
وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب ولا تلفت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب والمعوقات لثقيل يحتاج إلى استعداد طويل ، وإن قيام الليل والناس نيام والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها والاتصال بالله وتلقي فيضه ونوره والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه وترتيل القرآن والكون ساكن وكأنما يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة ، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي ... , إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل ، وينير القلب في الطريق الشاق الطويل ويعصمه من وسوسة الشيطان ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير ... وإن في مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش بعد كد النهار أشد وطأ وأجهد للبدن ولكنها إعلان لسيطرة الروح واستجابة لدعوة الله وإيثار للأنس به(1)
ولا عجب أن يكون التأكيد الإلهي بالمحافظة على هذه الشعيرة والترغيب فيها حتى في الحالات التي يعيا فيها المرء من شغل النهار ويرنو للاسترخاء والاستراحة ، قال تعالى : { فإذا فرغت فانصب ، وإلى ربك فارغب } [ الشرح :7 ، 8 ] ولا عجب أيضا أن يكون الجزاء الأخروي كبير جدا ، بل لا يعلم مداه إلا الله ، قال تعالى : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ، فلا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين جزاء بما كانوا يعلمون } [ السجدة : 16 ، 17 ]
وقد كان سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ من رواد مدرسة الليل وكانوا بحق رهبانا في الليل فرسانا في النهار وعلى أيديهم انتشر النور وعم الضياء فزكوا أنفسهم وزكوا غيرهم
يقول أحد التربويين : وأكثر من هذا فإن من يتخرج من مدرسة الليل يؤثر في الأجيال التي بعده إلى ما شاء الله ، والمتخلف عنها يابس تقسو قلوب الناظرين إليه والدليل عند بشر بن الحارث الحافي منذ القديم شاهده وأرشدك إليه فقال : بحسبك أن قوما موتى تحيا القلوب بذكرهم وإن قوما أحياء تقسو القلوب برؤيتهم ، فلم كان ذلك إن لم يكن ليل الأولين يقظة وليل غيرهم نوما ؟ ونهار الأولين جدا ونهار الآخرين شهوة ؟(2)
وحسبنا شاهدا على هدي سلف الأمة في قيام الليل مقالة الحسن البصري ـ رحمه الله ـ عنهم حيث يقول : لقد صحبت أقواما يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سجدا وقياما ، يقومون هذا الليل على أطرافهم تسيل دموعهم على خدودهم ، فمرة ركعا ومرة سجدا يناجون ربهم في فكاك رقابهم ، لم يملوا طول السهر لما خالط قلوبهم من حسن الرجاء في يوم المرجع فأصبح القوم مما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين ، فرحم الله امرأ نافسهم في مثل هذه الأعمال ولم يرض لنفسه من نفسه بالتقصير في أمره واليسير من فعله فإن الدنيا عن أهلها منقطعة والأعمال على أهلها مردودة(1)
ودقائق الليل الغالية لم تفلت من قريحة الشعراء فهي عندهم ليست برخيصة ولذا أوسعت إنشادا وتقريضا ، يقول ابن القيم في وصف رجال الليل الذين يغتنمون تلك الدقائق :
يحيون ليلهم بطاعة ربهم بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال
بوجوههم أثر السجود لربهم وبها أشعة نوره المتلالي
ويعتبر قيام الليل مدرسة عظيمة تعلم تلاوة القرآن بخشوع وتدبر ، وهي تربي في الفرد مداومة ذكر الله والإخلاص في عبادته وتشد القلب إلى خالقه
ومدرسة الليل مفتوحة لكل فرد أن ينضم إليها فيقتبس الدروس العظيمة والمعاني الكبيرة في تربية الذات ، والانتظام بهذه المدرسة لا يكلف شيئا إلا مجاهدة النفس من أجل مصلحتها وهى من أجل تربيتها وتقويمها
ثانيا : المحاسبة
يقتضي مبدأ المسئولية والجزاء الذي مر ذكره ضمن مبادئ التربية الذاتية ، أن يحاسب المرء نفسه ويراقبها على الدوام كي لا تحيد ولا تميل عن الجادة المثلى
قال تعالى : { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } [ الكهف : 49 ]
ويقول أيضا : { يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد } [ المجادلة : 6 ]
ويقول : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } [ الأنبياء : 47 ]
فينبغي أن يضع الفرد المسلم المحاسبة نصب عينيه استعدادا للسؤال وترقبا لما بعده من أهوال ، والمحاسبة هي ذلك الميزان الدنيوي الذي يستخدمه المرء المسلم لتصحيح مساره وتعديل سلوكه مستضيئا في ذلك بهدي الكتاب والسنة ، ويعرفها الحارث المحاسبي بأنها : التثبت في جميع الأحوال قبل الفعل والترك من العقد بالضمير أو الفعل بالجارحة ، حتى يتبين له ما يترك وما يفعل ، فإن تبين له ما كره الله عز وجل جانبه بعقد ضمير قلبه وكف جوارحه عما كرهه الله عز وجل ومنع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض وسارع إلى أدائه(1)
وقيل هي : التمييز بين ما للمرء وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه(2)
أهميتها :
إن هذا الأسلوب ـ أي أسلوب المحاسبة ـ مهم جدا ومع ذلك لم يفطن إليه إلا من وفقه الله ، والله سبحانه وتعالى ينادي عباده المؤمنين مطالبا إياهم بذلك فيقول : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون } [ الحشر : 18 ]
والمعنى أن ينظر كل امرئ وليتفكر فيما يقوم به من أعمال : أهي من الصالحات المنجيات أم من السيئات الموبقات وذلك استعدادا ليوم الحساب والمجازاة ، وإذا استطاع الإنسان أن يحاسب نفسه ويراقبها في تصرفاتها وحركاتها وسكناتها فإن هذه مظنة الاستقامة والسير على الصراط المستقيم ومن ثم الفوز بجنات النعيم ، وهذه الأمنية هي غاية ما يتمنى المسلم من تربية ذاته
قال تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون } [ فصلت : 30-32]
وتعد منزلة المحاسبة من أفضل المراتب لأنها تحتاج إلى مراقبة دائمة ومجاهدة مستمرة للنفس الإنسانية ، قال تعالى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } [ العنكبوت : 69 ] وعن فضالة بن عبيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المجاهد من جاهد نفسه في سبيل الله عز وجل
[ أحمد : 6/22، وجود الألباني إسناده في الصحيحة برقم 1496]
ومن فوائد هذا الأسلوب أيضا أنه يربي الضمير في داخل النفس وينمي في الذات الشعور بالمسئولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان دقيق هو ميزان الشرع
نماذج قولية وعملية :
عرف سلفنا الصالح أهمية هذه المنزلة فحققوها في أنفسهم وحثوا غيرهم عليها مما حدا بهم أن يؤلفوا الرسائل والتصنيفات المستقلة لإيراد النماذج القولية والعملية عنها ، وقد ورد عن سلفنا الصالح مواقف شتى في تطبيق أسلوب المحاسبة ، فهذا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول مبينا أهمية هذا الأسلوب : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر ، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (1)
وإذا أتينا إلى التطبيق العملي نجد هذا الخليفة العادل يقيم الحجة في محاسبة النفس على كل الرعاة والدعاة والمربين وغيرهم ، عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يوما وخرجت معه حتى دخل حائطا فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط : عمر أمير المؤمنين بخ بخ والله بني الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك(2)
ويعتبر ميمون بن مهران المحاسبة ميزانا للتقوى فيقول : لا يكون الرجل تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه(3)
وعن أهمية تخصيص وقت المحاسبة وأثرها في حياة الفرد يقول وهب بن منبه : مكتوب في حكمة آل داود : حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه ، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويحمد ، فإن هذه الساعة عونا على تلك الساعات وإجماما للقلوب (4)
ومن حاسب نفسه في الدنيا هان الحساب عليه في الآخرة كما يقول الحسن : أيسر الناس حسابا يوم القيامة الذين يحاسبون أنفسهم في الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم ، فإن كان الذي هموا به لهم مضوا ، وإن كان الذي هموا به عليهم أمسكوا .. وإنما يثقل الأمر يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور في الدنيا أخذوها من غير محاسبة فوجدوا الله عز وجل قد أحصى عليهم مثاقيل الذر(1)
ويصف الإمام الغزالي أرباب القلوب المنيبة وذوي الضمائر الحية الذين اتخذوا هذا الأسلوب نهجا في حياتهم : فعرف أرباب البصائر من جملة العباد أن الله تعالى لهم بالمرصاد ، وأنهم سيناقشون في الحساب ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات ومحاسبتها في الخطرات واللحظات ، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحسن منقلبه ومآبه ، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته(2)
وفيما يلي نورد مزيدا من النماذج العملية في المحاسبة الذاتية :
ـ أورد ابن أبي الدنيا بسنده قال : كان توبة بن الصمة بالرقة وكان محاسبا لنفسه فإذا هو ابن ستين فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألفا يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال : يا ويلتى ألقى المليك بأحد وعشرين ألف ذنب ، كيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ؟ ثم خر مغشيا عليه(3)
ـ وأورد أيضا بسنده عن إبراهيم التيمي قال : مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي : أي شيء تريدين ؟ قالت : أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا ، قال : فقلت : فأنت في الأمنية فاعملي (4)
ـ ويروي الغزالي ( د . ت ) قال : حكى صاحب للأحنف ابن قيس قال : كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل الدعاء ، وكان يجئ إلى المصباح فيضع أصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه : يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا ؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا (1)
أنواعها :
ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ أن للمحاسبة نوعين هما : نوع قبل العمل ونوع بعده ، فأما النوع الأول : فهو أن يقف عند أول همه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه ، والنوع الثاني محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع هي :
أ ـ محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله فلم تؤدها كما ينبغي
ب ـ محاسبتها على كل عمل كان تركه خيرا له من فعله
ج ـ محاسبتها على الأمور المباحة أو المعتادة لم فعلها [ ابن القيم ، 1381هـ ، ص1/97ـ99]
ويشير الباحث إلى نوع ثالث من المحاسبة وهو محاسبة النفس أثناء أداء العمل فإن كان خالصا لوجه الله تعالى وموافقا لهدي المصطفى مضى فيه وإلا رجع عنه ، والسبب في ذلك أن العمل يكون خالصا عند أول الهم به ولكن قد يشوبه أثناء أدائه شيء من الرياء فيحبط العمل ويصبح وبالا على عامله ، هذا إذا لم يجدد النية ويصححها
كيفية المحاسبة وما يعين عليها :
وأما كيف يستخدم هذا الأسلوب في التربية الذاتية وما هي طريقة محاسبة النفس فهذا أمر ليس باليسير ويستدعي مداومة الترويض والتهذيب للنفس كيما تصل إلى رضى خالقها ، يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : وبداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته عز وجل وجنايتك فحينئذ يظهر لك التفاوت وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب .. ثم تقايس بين الحسنات والسيئات فتعلم بهذه المقايسة : أيهما أكثر وأرجح قدرا وصفة ، وهذه المقايسة الثانية مقايسة بين أفعالك وما منك خاصة(2)
وفي وصف المؤمن المحاسب لنفسه أورد الحافظ ابن أبي الدنيا بسنده عن الحسن قوله :
إن المؤمن يفجأه الشيء ويعجبه فيقول والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك ، هيهات حيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء فيرجع نفسه فيقول : هيهات ما أردت إلى هذا وما لي ولهذا ، ما أردت إلى هذا وما لي ولهذا ، والله ما أعذر بهذا والله لا أعود إلى هذا أبدا إن شاء الله...إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئا حتى يلقى الله ، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك كله (1)
ومن المحاسبة أن يقرر المرء نفسه بذنوبه ومعاصيه لكي ترجع وتؤوب ، يقول مالك بن دينار : رحم الله عبدا قال لنفسه : ألست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائدا (2)
ولنستمع إلى المحاسبي وهو يحدث نفسه محاسبا ومعاتبا :
ويحك إن الدنيا دار نجاة الآخرة .. إن الجامعين بدلوا الأحزان في الدنيا فورثوها في الآخرة دوام السرور ، ويحك فلا تدعي معاملة مولاك في دار العمل فتخسري الدنيا والآخرة .. ، ويحك يا نفس أين تلاوة القرآن ؟ وأين معاني الآثار ؟ وأين الشكر لمن لا تعرفين منه إلا الإحسان ؟ رضيت بأحوال الجاهلين ومنازل الغافلين وأعمال الفاسقين ، ويحك يا نفس أليس قد انقطع عنك كل لذة وزالت عنك كل رفاهية وانقضت الساعات والأيام وما كان فيها من التخليط والذنوب وبقيت عليك الأوزار هذا ما قد قضى وذهب .. وبقي السؤال ، فهكذا تستقبلين أيامك .. ما يكون منها وما يبقى عليك من التبعات فتحولي عما ينقضي ويبقى سوء عاقبته ...(3)
إن مما يحفز المسلم لمحاسبة نفسه تيقنه أن الله عز وجل يقبل التوبة من عباده في كل حين ومهما كبر الذنب أو دق ، يقول تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } [ الزمر : 53 ]
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها [ مسلم : 4/2113 ]
ومما يعين على المحاسبة أن يكون المرء صادقا في محاسبته لنفسه ، وتعتمد المحاسبة الصادقة على ثلاث أسس هي : الاستنارة بنور الحكمة وسوء الظن بالنفس وتمييز النعمة من الفتنة ، فأما نور الحكمة فهو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل والهدى والضلال ، وكلما كان حظه من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم ، وأما سوء الظن بالنفس حتى لا يمنع من كمال التفتيش والتنقيب عن المساوئ والعيوب ، وأما تمييز النعمة من الفتنة لأنه كم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر ، مفتون بثناء الجهال عليه مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه (1)
ومما يعين الإنسان على معرفة عيوب نفسه ويساعده على تمييز النعمة من الفتنة ما أشار إليه الغزالي حيث أورد أربعة طرق لمعرفة عيوب النفس هي(2) :
ـ أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدتها
ـ أن يطلب صديقا صدوقا بصيرا متدينا رقيبا على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله
ـ أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة خصومه وأعدائه فإن عين السخط تبدي لك المساوئ
ـ أن يخالط الناس ـ وخاصة أهل الصلاح منهم ـ فكل ما رآه مذموما فيما بين الخلق فليطالب نفسه وينسبها إليه وليتفقد نفسه ويطهرها
ويلخص الباحث فيما يلي الآثار التربوية لأسلوب المحاسبة :
ـ تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل .
ـ مراقبة الله في السلوك والمعاملات .
ـ أداء حقوق الآدميين كاملة من غير نقصان .
ـ إتقان العمل كل في مجاله وتخصصه .
ثالثا : تقوى الله
يقول تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما } [ الأحزاب : 70 ، 71 ] فالعلاقة قوية بين تقوى الله والتربية الذاتية ونتيجتها أن يتقبل الله الحسنات ويزكي الأعمال (1)
ويقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ وعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم أي يوفقهم للأعمال الصالحة وأن يغفر لهم الذنوب الماضية وما قد يقع في المستقبل يلهمهم التوبة منها (2)، وفي ذلك صلاح لأمري الدنيا والآخرة كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم } [ الأنفال : 29 ] وبين عليه الصلاة والسلام أهمية التقوى عندما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال : التقوى وحسن الخلق . [ ابن ماجة : 2/1418 ، وقال الترمذي : حديث حسن ] ويقول أيضا : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك . [ أحمد : 1/307 ] وحفظ الله هو تقواه بحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه أي بفعل الواجبات جميعا وترك المحرمات كلها (3)
ومن ميزات هذا الأسلوب أنه ينشئ داخل حس الإنسان رقابة ذاتية تشعره بالمسئولية المطلقة أمام الله ليكون حارسا أمينا لنظام الحياة الذي ارتضاه لعباده وطالب كل فرد بتطبيقه فلا يحيد عنه قيد أنملة .
إن تقوى الله هو عقد متفرقات جميع أساليب التربية الذاتية ، وهي الرابطة أو الحلقة التي ينبغي أن يحيط بها العبد عند الهم بأي من تلك الأساليب . وتشبه المحاسبة من جوانب عدة مثل العلم قبل العمل وعدم معرفة المخلوقين بها . وربما يكون الفرق بينهما أن المحاسبة تكون غالبا بعد أداء العمل بينما تقع التقوى قبله .
حقيقة التقوى :
التقوى هي وصية الله إلى الأولين والآخرين ، قال تعالى { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } [ النساء : 131 ] وهذه الوصية العظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده . ويورد الباحث فيما يلي جملة من أقوال السلف الصالح في بيان حقيقة التقوى :
قال ابن عمر : لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر
[ البخاري : 1/19 ]
سئل علي بن أبي طالب عن التقوى فقال : هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل (1)
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : اتقوا الله حق تقاته أي أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر .
وقال عمر بن عبد العزيز : هي ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير .
وقال طلق بن حبيب : التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله .
وقال ابن المعتز ناظما (2) :
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
فحقيقة التقوى إذن أنها كلمة جامعة لفعل الطاعات وترك المعاصي الكبير منها والصغير والجليل والحقير .
وهي في جملتها تكتنف النفس المؤمنة من الداخل بحيث ينبع الخير منها دون ضغوط خارجية ، وتنفر من الشر بلا قسر أو إكراه .
ثمرة التقوى :
إن في التزام التقوى فلاح الدنيا والآخرة ، ويفصل الباحث فيما يلي بعض ثمار التقوى اقتباسا مما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة :
1ـ تكفير السيئات ومضاعفة الحسنات .
2ـ تحقيق معية الله وحفظه .
3ـ الحصول على الإلهام والرشد والتوفيق في جميع الأمور .
4ـ القدرة على التمييز بين الحق والباطل والهدى والضلال .
5ـ تفريج الهموم وتنفيس الكروب .
6ـ تيسير سبل الرزق .
7ـ الاستعداد لملاقاة رب العباد .
8ـ التمكين في الأرض وتعبيد البشر لرب العالمين .
9ـ النجاة من عذاب جهنم ومن أهوال يوم القيامة .
10ـ الفوز برضى الرحمن ونيل أعلى درجات الجنان .
إن هذه الفوائد وغيرها مما يتمنى كل فرد بذاته أن يحظى بها ، ولكن ليس الحصول عليها بالتمني وإنما ببلوغ درجة المتقين .
تحقيق التقوى :
إن تحقيق هذا الأسلوب العظيم – التقوى – يتطلب الاتصاف بخصال المتقين التي وردت في الكتاب والسنة وهي كثيرة جدا ، يذكر الباحث طرفا منها .
قال تعالى : { آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }
[ البقرة : 1-5 ]
فمن أخص خصائصهم الإيمان بالغيب لأنه يجعل من ضمير الإنسان رقيبا ذاتيا يحصي عليه جميع حركاته وسكناته وتصرفاته . يقول أحد العلماء – رحمه الله - : فالمؤمن بالغيب على الحقيقة هو الذي يستشعر دائما مشاهد يوم القيامة . وكل ما يرى في الدنيا من صنوف اللذات والنعيم يذكر به نعيم الجنة الذي هو خير منه وأبقى فيبادر إلى الأعمال الصالحة ويكون إنسانا صالحا ، وكل ما يرى في دنيا من أصناف الشرور وحر النار يذكر به عذاب جهنم وشدة حرها فيرتدع عن الشهوات ويكبح نفسه عن جماحها ولا يطلق لها أنانيتها من أنواع الطمع والشره في مال أو عرض أو أي نوع من أنواع التسلط والاغتصاب ... (1) .
ومن صفاتهم أيضا أنهم أوابون رجاعون إلى الحق إذا ما أخطأوا أو ضلوا ، قال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] وكذا من صفاتهم ترك الشبهات وما ترجح بين الحلال والحرام أو خفي حكمه لقوله صلى الله عليه وسلم : ... فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ... [ البخاري : 341 ] ويقول أيضا : لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس [ الترمذي : 4/547 ، وقال : حسن غريب ] .
يقول الحسن البصري : ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام . وقال سفيان بن عيينة : لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال وحتى يدع الإثم وما تشابه منه (2) .
فترك الشبهات منزلة عظيمة لا يبلغها إلا المتقون ولا تأتي إلا بمجاهدة النفس ومغالبتها تحقيقا لأوامر الشرع .
يقول محمد المصري : وهكذا يظل المؤمن في علاج لنفسه وجهاد لرغباته وأهوائه حتى ينتهي به الأمر إلى أن تصبح التقوى مغروسة في نفسه وتصبح خلقا من أخلاقه وسجية من سجاياه ، وهنا يدرك ثمرة التقوى في أيامه كلها ، وهنا يرهف إحساسه ويسمو وجدانه فيصبح سريع الإدراك لمواطن الخير ولمواطن الشر ، خبيرا كل الخبرة بالتمييز بينهما ، ويصبح طبعه الخير وهواه مع الخير وكراهيته للشر ونفوره منه ويكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار (3)
المبحث الثاني
المعاملات الإسلامية
أولا : التحلي بالأخلاق الإسلامية
ليس من شك في أن للأخلاق أثرا قويا في بناء الأمم والأفراد لأن كل السلوكيات والتصرفات ناشئة عن تلك الأخلاق ، وبها يبلغ المرء أعلى المراتب والدرجات أو ينزل إلى أسوأ الدركات . والأخلاق الإسلامية بالذات مطلب رئيسي في التربية الإسلامية . قال صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم [ أبو داود : 5/149 ] . وقال أيضا : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله [ رواه الترمذي 5/11 ، وقال : حديث حسن صحيح ] وأنماط السلوك متعددة منها ما هو فردي ومنها ما هو اجتماعي وكلاهما ينعكس أثره على البيئة أو المجتمع الذي يعيش فيه الأفراد . فالسلوك الفردي محوره الفرد ومثاله الطموح والرضا والصبر والتواضع ، والسلوك الاجتماعي يشترك فيه اثنان على الأقل لكي يظهر إلى حيز التطبيق ومنه التعاون والإيثار والتضحية (1) .
والنمط الأول – أي السلوك الفردي – هو الذي يتصل مباشرة بالتربية الذاتية ، وإذا تحلى الفرد بالأخلاق الحسنة وجاهد نفسه لكي يكتسبها وتبقى متأصلة فيه فإن ذلك سيساعده بإذن الله في تزكية نفسه وتقويمها . يقول الدكتور عبد الحميد الأقطش : وقد يبدأ التخلق بخلق ما عملا شاقا على النفس إذا لم يكن من أصل طبيعتها الفطرية ، ولكنه بتدريب النفس عليه وبالتمرس والمران يصبح سجية ثابتة يندفع الإنسان إلى ممارسة ظواهرها اندفاعا ذاتيا دون مشقة ، وليس التدريب النفسي ببعيد الشبه عن التدريب الجسدي الذي تكتسب به المهارات العملية الجسدية (2) .
ولطبيعة البحث سيقتصر الحديث على أهم الصفات الخلقية الفردية وأثرها في التربية الذاتية .
أ ـ الصبر
لابد لطالب التزكية أن يحلي نفسه بالصبر لينال مراتب الكمال ، ومن لم يتعود الصبر فليصبر نفسه وليرغمها على ذلك . قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } [ آل عمران : 200 ] . يقول عليه الصلاة والسلام : ... وإنه من يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله ومن يستغن يغنه الله ولن تعطوا عطاء خير وأوسع من الصبر . [ البخاري : 4/186 ]
ويقول صلى الله عليه وسلم : إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقعه [ حسنه الألباني في الصحيحة برقم 342 ] فمن يتصبر يصبره الله ويعطيه هذا الخلق الرفيع .
والصبر في التربية الذاتية على أنواع ، فمنه الصبر على رغبات النفس ومنه الصبر على متاعب الحياة التربوية ومنه الصبر على معاملة الأستاذ والمربي ومنه الصبر على جفاف المادة العلمية أحيانا .
وقد أشارت قصة موسى مع الخضر عليهما السلام إلى أن تربية الذات لا تتحقق إلا بالصبر والتحمل حيث قال تعالى مخبرا عنهما : { قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا } [ الكهف 66-70 ]
فقد كان موسى عليه السلام يتطلع إلى العلم الذي خصه الله بالخضر عليه السلام ولكن مخالفته للشرط الذي كان بينهما وهو الصبر فوت عليه ذلك ، وهذا ما جعل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول : ... وددنا أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما ... [ البخاري : 3/257 ]
ومراتب الكمال في التربية والتعليم وغيرهما لا تنال بين عشية وضحاها وإنما بالصبر واليقين والجد والاجتهاد كما قال تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } [ السجدة : 24 ] وقال صلى الله عليه وسلم : ما رزق عبد خيرا له ولا أوسع من الصبر [ رواه الطبراني نقلا عن الألباني في الصحيحة برقم 449 ]
ويقول أيضا : أفضل الإيمان الصبر والسماحة . [ رواه الديلمي نقلا عن الألباني في الصحيحة برقم 1495 ] .
فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ، وبتتبعنا لسيرة سلفنا الصالح نجد أنهم ما وصلوا إلى تلك الدرجات السابقة إلا بعد التحلي بهذا الخلق الكريم .
يحكي لنا خير الأمة وترجمان القرآن – عبد الله بن عباس رضي الله عنهما – قصة كفاحه وصبره حتى حقق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالفقه في الدين فيقول : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار : هلم نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير . فقال : يا عجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم ؟ قال ابن عباس : فتركت ذلك وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل – أي نائم في نصف النهار – فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح علي من التراب فيخرج فيراني فيقول : يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك ؟ هلا أرسلت إلي فآتيك . فأقول : لا أنا أحق أن آتيك . قال : فأسأله عن الحديث . قال ابن عباس : فعاش الرجل الأنصاري حتى رآني قد اجتمع حولي الناس يسألوني فقال : هذا الفتى كان أعقل مني . (1)
إن في قصة ابن عباس عبرة وعظة لكل الكسالى والساقطين على جنبات الطريق التربوي الطويل ، وفيها درس لكل المربين والمتربين الذين يستعجلون قطف الثمار أو الذين يستنكفون عن السير في الطريق من أوله أو يظنون استحالة الوصول إلى نهايته . ويؤكد الإمام النووي هذا المفهوم فيقول : من لم يصبر على ذل التعلم بقي عمره في عماية الجهالة ومن صبر آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة ... ومنه الأثر : ذللت طالبا فعززت مطلوبا (2) .
وقيل للإمام الشعبي من أين لك هذا العلم كله ؟ قال : ينبغي الاعتماد والسير في البلاد وصبر كصبر الجمال وبكور كبكور الغراب . فلا عجب إذن أن يفوز أهل الصبر كما قال تعالى { إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون } [ المؤمنون : 111 ] وقال أيضا : { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } [ الشورى : 33/ سبأ : 19 / إبراهيم : 5 / لقمان : 31 ] يقول ابن القيم رحمه الله (1) :
ولما كان الإيمان نصفين : نصف صبر ونصف شكر كان حقيقا على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر سعادتها ألا يهمل هذين الأصلين وأن يجعل سيره إلى الله بين هذين الطريقين ليجعله يوم لقائه مع خير الفريقين ... ، والصبر آخية المؤمن التي يجول ثم يرجع إليه وساق إيمانه الذي لا اعتماد إلا عليها فلا إيمان لمن لا صبر له وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف وصاحبه من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ولم يحظ منهما إلا بالصفقة الخاسرة . فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم وترقوا إلى أعلى المنازل بشكرهم فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
وبالتصبر تقوى إرادة الإنسان فيتحرر من عبودية الجسد والمادة منطلقا بذلك إلى عبودية الله وحده وسائرا في تحقيق إرادته في أن يكون مسلما في أفكاره وتصوراته ومعاملاته وأخلاقه .
ب ـ التواضع
هذا الخلق الكريم ينبئ عن معدن صاحبه ويظهر عليه في التعامل مع غيره خاصة إذا كان هذا أقل علما أو عمرا أو منزلة اجتماعية . وبما أن الحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها وهو أولى من غيره أن يحصل عليها ولا يعيقه عن ذلك أي من العوائق النفسية أو الموانع الاجتماعية . ومما ييسر هذا أن يتخلص الإنسان من شرور نفسه من عجب وتكبر وغرور ومدح للنفس أو غير ذلك من الصفات القلبية الممقوتة . قال تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } [ النجم : 32 ]
ومن ابتلي بشيء من هذه الشرور فقد حرم خيرا كثيرا ، ومن لم يتواضع فسيحقر غيره ويترفع عن الاستفادة منه وتحصيل ما لديه من علوم وخبرات وتجارب .
روى عياض بن حمار – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد . [ مسلم : 4/2199 ] .
ومن المقرر شرعا أنه لا فضل لأحد على أحد حتى وإن كان من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتقوى .
ومن التواضع في التربية الذاتية ألا يخجل الإنسان من الاستفادة ممن هو أصغر منه عمرا أو أقل منزلة ، فلا يستنكف الأستاذ أن يتعلم من تلميذه ولا الوالد أن يقتدي بابنه فقد يكون ممن أوتي علما وخبرة وتجربة لم يؤتها الآخر .
ولا يكاد المتأمل في آيات القرآن يجد مثلا للتواضع أبلغ في الاستشهاد من موقف موسى مع الخضر عليهما السلام ، فهذا نبي من أنبياء الله ينزل إلى مقام التلميذ متحليا بالتواضع مع أستاذه العبد الصالح .
وهذا إبراهيم عليه السلام ينصح أباه عله يرتدع عن غيه وضلاله ولكن الأب الضال يستكبر ويرفض إتباع ابنه حيث روى القرآن تحاورهما فقال إبراهيم عليه السلام : { يا أبت أني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا } [ مريم : 43 ]
ويكون جواب الأب المعاند : { قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا } [ مريم : 46 ]
ولو أن الرجل تواضع وانصاع لدعوة الحق لحاز الفلاح في الدارين ، وكذا من أراد تربية ذاته وتزكيتها فليتواضع لمن هو أعلم منه كما يتواضع له من هو أجهل منه
قال عمر بن الخطاب : تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من تعلمون (1)
ورحم الله الإمام الشافعي حين يقول : لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح(2)
فإذا لم تكن للمرء بداية محرقة لم تحصل له نهاية مشرقة ، أي إذا لم يصبر على أخلاق من يتعلم منه ولم يصبر على ذل التعلم ، وإذا لم يتواضع للمعرفة التي يحملها المعلم أيا كانت منزلته فلن يصل إلى التزكية المبتغاة ، فليكن المتعلم لمتعلمه كأرض دمثة نالت مطرا غزيرا فتشربت جميع أجزائها وأذعنت بالكلية لقبوله (1)
وفي الحث على الصبر والتواضع يقول الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ (2) :
اصبر على مر الجفا من معلم فإن رسوب العلم في نفراته
ومن لم يذق مر التعلم ساعة تذوق مر الجهل طول حياته
ومن فاته التعليم وقت شبابه فكبر عليه أربعا لوفاته
وذات الفتى والله بالعلم والتقى إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته
وبالتحلي بخلقي الصبر والتواضع تستجلب محبة الآخرين فتفتح مغاليق قلوبهم وأفئدتهم ، وتنطلق ألسنتهم للإفادة والتعليم ، كما تنساب منهم المعارف والعلوم والخبرات فتزكو الروح وتسمو الذات
ثانيا : اتخاذ القدوة
مهما يكن لدى المرء من طاقات وقدرات ومواهب ومهما يكن لديه من وسائل وأساليب يستثمرها لتربية ذاته وتزكيتها فإنه لا يستغني بأي حال من الأحوال عن وجود قدوة من بني جنسه تكون له نبراسا وهاديا في سيره إلى ربه ، وتؤثر القدوة تأثيرا كبيرا في تكوين شخصية الفرد وصقلها حيث أن الإنسان ميال بطبعه إلى التقليد والمحاكاة ، ولهذا المكيل أسس نفسية يرتكز عليها هي :
1. الرغبة في التقليد والمحاكاة للمماثلين والمشاكلين
2. الاستعداد النفسي الذي يتغير حسب الظروف والأحوال والأشخاص
3. الهدف أو الدافع الغريزي الذي قد يكون معروفا لدى المقلد أو لا يكون(3)
4. الشعور بالنقص وقلة الخبرة والحاجة إلى التعلم
وفي التربية الإسلامية يتحول هذا التقليد أو يوجه إلى ما يسمى بالإتباع ، والإتباع هو عملية فكرية يمزج فيها بين الوعي والانتماء والمحاكاة والاعتزاز في ظل البصيرة والحجة ، ولذلك كان الخطاب الإلهي بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } [ آل عمران : 31 ] وقال : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153]
فلما أراد الله إقامة الحجة على الناس لم ينزل إليه الكتب فحسب بل أرسل إليهم الرسل ، ومن رحمة الله عز وجل أن كان الرسل والأنبياء من بني البشر حتى يكون ذلك أدعى للإتباع وأحرى بالإقتداء ، ولو كان الرسول ملكا من الملائكة لاحتج الناس بضعفهم وعجزهم وعدم طاقتهم على مجاراة الملك فيما يصدر منه من أفعال وتصرفات ، قال تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ، ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } [ الأنعام : 8 ، 9 ] وهكذا حتى يحصل كمال الإقتداء والاتساء كانت قدوات البشر من بني جنسهم
مستويات القدوة :
نظرا لتشعب مجالات القدوة في التربية الإسلامية ، يرى الباحث أنه يمكن تصنيفها إلى المستويات التالية :
المستوى الأول :
وهو الاقتداء المطلق بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله وأقواله وأحواله إلا ما كان من خصوصياته عليه الصلاة والسلام ، وهذا المستوى هو الأسمى والأعلى والأمثل الذي ينبغي أن يتخذه الفرد لتربية نفسه وتزكيتها وبهذا الاقتداء يكون الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة وبدونه يكون الخسران المبين .
قال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } [ الأحزاب : 21 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا : ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى . [ البخاري : 4/359 ]
وفي شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته يجد المرء الأسوة الحسنة في حياته كلها . فهو إنسان أكرمه الله برسالته ومع ذلك فسيرته شاملة لكل النواحي الإنسانية في الإنسان ، فهو الشاب الأمين قبل البعثة والتاجر الصادق وهو الباذل لكل طاقته في تبليغ دعوة ربه ، وهو الداعية الصبور والأب الرحيم والزوج المحبوب والقائد المحنك والصديق المخلص والمربي المرشد والسياسي الناجح والحاكم العادل . كما أنه عليه الصلاة والسلام ضرب المثل الأعلى في تربية الذات من جميع النواحي سواء في عبادته أو زهده أو خلقه الكريم أو غير ذلك . والمتأمل لسيرته يجد الحل والصواب لكل المعضلات التي تقف حائلا دون إشعاع الروح وبلوغ صفائها ونقائها . ولذلك فإن التأسي بالمصطفى عليه السلام فيه تربية للروح كي تصل إلى مرتبة الكمال البشري والسمو الإنساني المتمثل في شخصه الكريم .
المستوى الثاني :
وهو أقل درجة من المستوى الأول ويتمثل في الاقتداء بسلف هذه الأمة من عظمائها ومجدديها الذين كان لهم دور بارز في مجريات التاريخ . فإذا كان لدى الفرد ميل إلى نوع من أنواع النبوغ كالعلم أو العبادة أو الدعوة أو التخصص في أي علم من العلوم فيحتاج أن يكون أمامه مثل بارز في هذا المجال يسير على خطاه ويقتفي آثاره . والقدوات في هذا المستوى لا تعد ولا تحصى وتختلف باختلاف التخصصات والمجالات . ولا تقتصر الأمثلة على الصحابة رضوان الله عليهم بل يتعدى ذلك إلى من جاء بعدهم ، فهناك عمر بن عبد العزيز في العدل والإمام الشافعي في العلم والإمام أحمد في الثبات على الحق والعقيدة الصحيحة وابن تيمية في العلم والجهاد معا وابن القيم في التربية والشيخ محمد بن عبد الوهاب في الدعوة إلى الله ، وهناك ابن النفيس في الطب وابن خلدون في علم الاجتماع وابن رجب في المواعظ ... وهكذا . روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول : من كان متأسيا فليتأس بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة (1) .
إن هذا النوع من الاقتداء يلبي رغبة فطرية موجودة لدى الإنسان الذي يتطلع إلى تحقيق ما وصل إليه أولئك الأفذاذ أو يزيد .
المستوى الثالث :
وهو الاقتداء بمن يستحق أن يكون قدوة في الخير والصلاح من الأحياء المحيطين بالإنسان في بيئته . فحرص المرء على اختيار شخص استجمع قدرا كبيرا من الفضل والتقوى يكون قدوة له ويحاكيه في أمور الخير والهدى ويرجع إليه في السراء والضراء مستفيدا من عقله ورأيه ومشورته فيما يلم به من أحداث ومواقف وتغيرات . كما يحرص على معاشرته لاكتساب تجاربه وخبراته والاستفادة منها في تربية ذاته . ذلك القدوة الذي من صفاته أنه مفتاح للخير مغلاق للشر كما مدحه المصطفى عليه السلام فيما رواه أنس – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير ، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه [ ابن ماجة : 1/86 ، وحسنه الألباني في الصحيحة برقم 1332 ]
وينبغي أن يكون الضابط في اختيار القدوة في هذا المستوى أن يكون ممن تعلق فؤاده بالله تعالى ولم يغفل عنه وأخلص في العلم والعمل . قال تعالى : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } [ الكهف : 28 ]
يقول ابن القيم – رحمه الله - : فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين ، وهل الحاكم عليه الوحي أو الهوى ؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة وأمره فرط لم يقتد به ولم يتبعه فإنه يقوده إلى الهلاك ، ... وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى واتباع السنة وأمره غير مفروط بل هو حازم في أمره فليتمسك بعروته . (1)
ولأهمية هذا النوع من القدوة كان العلماء الأوائل يحرصون على اتخاذه لتربية ذواتهم فيلازمون مشايخهم وينقادون إليهم صابرين مطيعين . ويقرر الإمام الشاطبي هذا الأمر كقاعدة فيقول : وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك ، وقلما وجدت فرقة زائغة ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف ، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ ولا تأدب بآدابهم . وبضد ذلك كان العلماء الراسخون الأئمة الأربعة وأشباههم . (2)
وكافيك تبيانا لأهمية الملازمة أن العلماء كانوا يعدون ملازمة الأستاذ من شروط التحصيل العلمي والتربية العملية . يقول الشافعي – رحمه الله - (1) :
أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان
وقد يسأل مسترشد فيقول : وأين أجد مثل هذا النوع من القدوات ؟ فنقول له :
صحيح أنه يعز وجودهم في عصورنا المتأخرة ، ولكن إذا تلفت المرء يمنة ويسرة واستعرض أمام مخيلته أساتذته الذين تتلمذ عليهم في إحدى المؤسسات التربوية أو التعليمية من مسجد أو مدرسة أو جامعة أو غير ذلك فلاشك أنه سيجد بغيته ، ولربما تكون هذه القدوة من العلماء العاملين البارزين في المجتمع ممن يبعد آلاف الأميال ومع ذلك يسهل الاتصال بهم والغرف من معينهم للاستفادة من علومهم وجهودهم وتجاربهم التربوية
ولعل وجود أمثال هؤلاء القدوات أمام ناظري الإنسان يزيده تمسكا بتعاليم الدين وقيمه فيجاهد نفسه في ذلك لأنه يرى إمكانية تطبيق تلك التعاليم في أرض الواقع ، ومن يتبلور في حسه وشعوره أن الحل الديني المقتبس من الكتاب والسنة هو الحل الأمثل والأنجح لمشكلات الحياة ، فإنه لا يتردد لحظة في الأخذ بنصيحة أولئك الأفذاذ والاسترشاد بآرائهم ومشورتهم فيوفر على نفسه كثيرا من الوقت والجهد في سبيل البحث عن الأفضل والأصلح لذاته
المستوى الرابع
ويقع في هذا المستوى كل المعاشرين من الصحبة والرفقاء حيث أن الإنسان بطبعه ميال إلى الاستئناس بغيره والاتصال برفقة أو جماعة يشاركها أفراحها وأتراحها ويعيش في كنفها مؤثرا ومتأثرا بالقيم والمبادئ والصفات التي تتميز بها تلك الرفقة أو تلك الجماعة ، ومن هذا المنطلق اعتبر هذا المستوى مجالا من مجالات القدوة لما له من تأثير على شخصية الفرد سلبا وإيجابا ، ونجد في القرآن الكريم والسنة النبوية نصوصا كثيرة تدل على الاهتمام بهذا النوع من القدوة وتحث على الاختيار الحسن لها ، وإذا أراد أمرؤ أن يربي نفسه فليختر الرفقة التي تذكره بالله إذا نسي وتدله على الهدى إذا غفل وتعينه إذا فعل طاعة أو دل عليها ، قال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم } [ التوبة : 71 ]
ومما يلاحظ أن الجليس يؤثر في من يجالسه من حيث يشعر أو لا يشعر ، والطباع والأرواح جنود مجندة يقود بعضها بعضا إلى الخير أو إلى ضده ، عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة ، [ مسلم : 4/2026 ]
ويزيد المرء تشبثا بهذه الصحبة علمه بأنها ترافقه في الدار الآخرة قد يشفع بعضهم لبعض بعد إذن الله تعالى ، فهي منفعة متحصلة في الدنيا وفي الآخرة ، يقول سبحانه : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } [ الزخرف : 67 ]
ويقول أيضا : { ما للظالمين من حميم ولا شفيع مطاع } [ غافر : 18 ]
ضوابط ومحاذير :
هناك بعض الضوابط والمحاذير التي يجب أن تراعى عند اتخاذ القدوة كأسلوب من أساليب التربية الذاتية منها :
1ـ أن كل قدوة يؤخذ من أفعاله وأقواله البعض ويترك البعض إلا صاحب المستوى الأول في القدوة وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن البشر يخطئون ويصيبون إلا الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه فإنهم معصومون
2ـ يترتب على ما ذكر في الضابط الأول أن تعرض أعمال القدوات وأحوالهم وأقوالهم على الكتاب والسنة ليرى مدى قربها أو بعدها عنهما فيؤخذ الموافق ويترك المخالف إن ظهر وتبين
3ـ لا ينبغي أن تفنى شخصية الفرد فناء مطلقا وتذوب في شخصية القدوة من المستويات الثلاثة الأخيرة كما يحدث عند بعض فرق الصوفية ، وخاصة في الأمور الجبلية مثل طريقة المشي والكلام واللبس وما شابه ذلك ، بل إن بعض الأمور الاجتهادية يحسن بالفرد أن يكون له رأي مستقل تبرز إمكانياته وقدراته وشخصيته
4ـ لا يعني تقسيم هذا الأسلوب إلى عدة مستويات أنه يمكن الاستغناء ببعضها عن الآخر ، ولكن الواجب استعمال كل مستوى في زمانه ومكانه المناسب
ثالثا : السؤال والحوار :
إن هذا الأسلوب من الأساليب التي لا يستغنى عنها الإنسان الذي منحه الله القدرة على النطق والتفكير ، وهو في حياته اليومية يجد نفسه في حوار أو سؤال مع جيرانه أو أصدقائه أو أهله أو غيرهم ، والمرء في حياته العادية يحتاج إلى هذا الأسلوب كي يشعر بالراحة والطمأنينة ، فما هو دور كل منهما كأسلوب من أساليب التربية الذاتية ؟ وكيف يمكن توجيهها لتحقيق هذا الغرض ؟
1ـ السؤال :
كل إنسان في هذه الحياة له طاقات معينة وبالتالي فإن معارفه محدودة ولن يحيط بكل شيء ، ومن عرف أشياء غابت عنه أشياء أخرى كثيرة ، ولذا تراه يبحث عن إجابات لما يجهل ، ومن ضمن وسائل الكشف عن المجهول السؤال
وللسؤال مزايا متعددة من توفير للجهد والوقت والمال ، كما أن فيه تحصيل منفعة ودفع مضرة في أمور الدنيا والدين ، خاصة إذا كان المسئول من أهل الخبرة والاختصاص ، قال تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [ النحل : 43 ، والأنبياء : 7 ]
ولما كان الأمر كذلك فلا ينبغي للعاقل التردد في السؤال والسكوت على الجهل حتى لا يحدث ما لا تحمد عقباه سواء في القريب العاجل أو في البعيد الآجل ، ويذكر عبد الحميد الهاشمي أن سكوت الإنسان على جهله قد يكلفه غير قليل من تجارب فاشلة ومن آلام ومتاعب ، لأنه لو عرف الإجابة الموفقة لضمن لنفسه العمل السليم أو السلوك الصائب لاسيما في أمور تتصل بالمحاولة والخطأ والتجريب (1)
وتذكر لنا كتب السيرة مثلا يبين مغبة تجاهل السؤال لطلب العلم وتلقي المعرفة ، عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال : هل تجدون لي رخصة في التيمم ، فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات ، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال ... الحديث
[ أبو داود : 1/239 ، وصححه الألباني في إرواء الغليل برقم 105]
ولأهمية السؤال حرص الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ رجالا ونساء على السؤال عما يخفى عليهم من أمور دينهم وورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك مثل قوله : يسألونك ويستفتونك ، وليس هذا خاصا بالرجال بل حتى النساء أيضا ، تقول عائشة بنت الصديق ـ رضي الله عنهما ـ : ...نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين [ مسلم : 1/261] ، ولم يحقق عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ دعوة رسول الله له بالتفقه في الدين إلا بسؤال أهل العلم حتى أنه كان يقول : إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (1)، فبلغ في ذلك شأنا بعيدا حتى أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يجله ويكرمه لعلمه وكان يدنيه ويستشيره في المعضلات
روى الإمام أحمد عن الزهري بسند ضعيف قال : قال المهاجرون لعمر : ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس قال : ذاك فتى الكهول إن له لسانا سؤولا وقلبا عقولا (2)
وذكر ابن عبد البر قول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : زيادة العلم الابتغاء ودرك العلم السؤال فتعلم ما جهلت واعمل بما علمت ، كما ذكر قول ابن شهاب : العلم خزانة مفاتحها المسألة(3)
وقال أمية بن الصلت (4) :
لا يذهبن بك التفريط منتظرا طول الأناة ولا يطمح بك العجل
فقد يزيد السؤال المرء تجربة ويستريح إلى الأخبار من يسل
وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها ولا البصير كأعمى ما له بصر
فاستخبر الناس عما أنت جاهله إذا عميت فقد يجلو العمى الخبر
ويحمل بالسائل أن يتأدب بآداب السؤال فلا يرفع صوتا ولا يقاطع متكلما ، ويراعي اختيار الألفاظ المناسبة في غير ما تكلف ، ثم ينتظر الإجابة في تواضع واحترام وينصت لفهمها واستيعابها
ومن عود نفسه على السؤال زادت ثقته بنفسه وشعر بالطمأنينة والارتياح لمعرفة الإجابة عما كان يجول بخاطره ويشغل ذهنه ، وإن لم يجد الإجابة لدى المسئول فحسبه أنه بذل وسعه ، وربما يعاود السؤال في مناسبة أخرى
2_ الحوار :
هو نوع من الحديث يتم بين شخصيتين ـ على الأقل ـ يتبادلان فيه وجهات النظر ، ولكل منهما فرصة متكافئة في طرح الآراء والرد عليها ، وعادة ما يتسم الحوار بالهدوء والرزانة بعكس الجدل المتميز بالمخاصمة ورفع الصوت ، وقد تتضح أثناء الحوار مفاهيم خاطئة أو أمور غامضة أو أسئلة حائرة لا يجد لها أحد المتحاورين أو كلاهما إجابة حتى يكون الحوار
وقد عني القرآن الكريم والسنة المطهرة بالحوار عناية بالغة ، وذلك لأهميته للإقناع الذاتي فهو : الطريق الأمثل للاقتناع الذي ينبع من أعماق صاحبه ، والاقتناع هو أساس الإيمان الذي لا يمكن أن يفرض فرضا وإنما ينبع من داخل الإنسان(1)
ولكي يحدث هذا الاقتناع لابد من إخلاص النية والتجرد للوصول إلى الحق بغض النظر عن الأهواء والشهوات أثناء الحوار مع الآخرين أو حتى مع النفس
يقول تعالى : { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد }[ سبأ : 46 ]
فهذه دعوة لكل من يريد أن يصل إلى الصواب مع من يحاوره أو يخالفه في الرأي وذلك بالتجرد لله تعالى أثناء المحاورة وبعدها وقبلها ، يقول سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ حول ظلال هذه الآية :
وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق ( قل إنما أعظكم بواحدة ) إنها دعوة إلى القيام لله بعيدا عن الهوى ، بعيدا عن المصلحة ، بعيدا عن ملابسات الأرض بعيدا عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب فتبعد به عن الله ، بعيدا عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة والمؤثرات الشائعة في الجماعة ، دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط لا مع القضايا والدعاوى الرائجة ولا مع العبارات المطاطة التي تبعد العقل والقلب عن مواجهة الحقيقة في بساطتها
دعوة إلى منطق الفطرة الهادئ الصافي بعيدا عن الضجيج والخلط واللبس والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة ، وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة ، منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات وعلى مراقبة الله وتقواه ، وهي واحدة إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق ، القيام لله لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة .. التجرد .. الخلوص ، ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون . ( أن تقوموا لله مثنى وفرادى ) مثنى ليراجع أحدهما الآخر ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء ، ... وفرادى مع النفس وجها لوجه في تمحيص هادئ عميق . ( ثم تتفكروا ) فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر والرزانة وما يقول شيئا يدعو إلى التظنن بعقله ورشده إن هو إلا القول المحكم المبين (1)
وليس الوصول للحق هو الهدف الوحيد من الحوار بل إن هناك أهدافا أخرى منها استعادة المعلومات ومراجعتها لتثبيتها بدل أن تبقى رهينة العقول وفي ذلك يقول الزهري : إنما يذهب العلم بالنسيان وترك المذاكرة . ويقول آخر : مطارحة ساعة خير من تكرار شهر . ومن محاسن الحوار ما يلخصه الهاشمي فيما يلي (2) :
1ـ أنه يحترم الذات الإنسانية فلا يفرض عليها الأفكار والتجارب والخبرات فرضا وإنما تنمو مع الذات عن طريق اكتسابها شخصيا عن طريق المناقشة .
2ـ أنه يشجع روح النقد الذاتي في الإنسان لمراجعة أفكاره وخبراته بين حين وآخر
3ـ استغلال الجانب الإيجابي التفكيري في الشخصية الإنسانية في مراقبة الجوانب الأخرى للشخصية في السلوك والإدراك والانفعال .
4ـ الحث على التفكير العميق في جوانب الموضوع المحدد أو إلى إجراء الاستقصاء والملاحظة والتجربة بعيدا عن التلقي والحفظ والترديد .
5ـ توجيه غير مباشر لزيادة ثقة الفرد بنفسه عند طرح الأفكار أو الرد عليها .
ولأهمية الحوار في العلاقات الإنسانية التي تعود بالتأثير المباشر على الإنسان نذكر فيما يلي أسس وأصول الحوار التي ينبغي أن يراعيها الفرد في محاوراته :
1ـ حسن الاستماع والاهتمام بكلام الطرف الآخر وعدم الاستئثار بالحديث .
2ـ الحذر من الكذب والغموض واللف والدوران .
3ـ التسليم بالخطأ والإنصاف في الحكم والنقاش .
4ـ مراقبة النفس أثناء الحوار لكي لا يخرج الحوار عن طبيعته الهادئة .
5ـ التواضع عند كسب الحوار وتجنب الشماتة وكل ما يشعر بالاحتقار (1) .
ولكي يسير الحوار في طبيعته الهادئة بعيدا عن الفظاظة والغلظة يحسن أن تتوفر بعض الأمور المتعلقة بالثقافة الذاتية للفرد المحاور أو مدى فهمه للخلفية الثقافية للطرف الآخر وتلخصها فيما يلي :
1ـ مراعاة الفروق الفردية وتفاوت العقول في المناقشة والفهم .
2ـ الحرص قدر الإمكان على حسن البيان وتوضيح الأفكار بالأمثلة وغيرها .
3ـ البدء بمواطن الاتفاق والنقاط المشتركة .
4ـ توثيق الحوار من الناحية العلمية والإسنادية بذكر المصادر والإحصائيات .
5ـ عدم التعرض لكلام الطرف الآخر ومناقشته قبل فهمه تماما .
6ـ الإحاطة بمواطن الخلاف لكي يمكن الرد عليها أو قبولها . (2)
رابعا : العزلة والمخالطة
لقد كثر الجدل حول هذين الأمرين – العزلة والمخالطة – وأيهما أفضل للمرء لتربية ذاته . فذهب بعض العلماء والمربين إلى أن العزلة أفضل وأولى في جميع الأحوال ، ورجح البعض الآخر أن الخلطة أفضل . والصواب أن يقال أنه لا يمكن التفريق بينهما ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر ، فلكل منهما أثر في التربية الذاتية . ويتبين فيما يلي آثار كل منهما وفوائدهما ومتى تكون ولمن تكون مستدلين في ذلك بالكتاب والسنة .
1ـ فوائد العزلة في التربية الذاتية :
أ ـ التفرغ للعبادة والتفكر والاستئناس بمناجاة الله تعالى عن مناجاة الخلق ، ويتضح هذا جليا في الحث على قيام الليل والناس نيام والحث على صلاة المرء في بيته عدا المكتوبة . ومن الأمثلة في ذلك قصة أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم فرارا بدينهم وتفرغا لعبادة الله ، قال تعالى : { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا } [ الكهف : 16 ] . وكذلك اعتزال أهل الفسق والباطل ومفاصلتهم وخاصة أثناء مقارفتهم للمعاصي والمنكرات كي يسلم المرء من أذاهم وباطلهم كما قال إبراهيم عليه السلام لقومه : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا } [ مريم : 48 ] . وقيل لبعض الحكماء ما الذي أرادوا بالخلوة واختيار العزلة فقال يستدعون بذلك دوام الفكرة وتثبيت العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة ويذوقوا حلاوة المعرفة . وقيل لبعضهم : ما أصبرك على الوحدة . فقال : ما أنا وحدي . أنا جليسي الله تعالى إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت ، وقال الفضيل : إذا رأيت الليل مقبلا فرحت وقلت : أخلو بربي ، وإذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس وأن يجيئني من يشغلني عن ربي (1)
ب ـ الابتعاد عن المعاصي التي يتعرض لها الإنسان غالبا بالمخالطة مثل الغيبة والنميمة والرياء والتزين للناس ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه . [ البخاري : 4/102 ] .
وقال الخطابي (1) : ولو لم يكن في العزلة إلا السلامة من آفة الرياء والتصنع للناس وما يدفع إليه الناس إذا كان فيهم من استعمال المداهنة معهم وخداع المواربة في رضاهم لكان في ذلك ما يرغب في العزلة .
وإذا تخلصت الذات من شرورها وسلبياتها أصبحت قوة فعالة واتجهت للبناء والتنمية والسمو بالذات إلى مراتب الكمال .
جـ ـ الخلاص من الفتن والخصومات وصيانة الدين والنفس عن الخوض فيها والتعرض لأخطارها . ويتأكد اعتزال الناس حينما تظهر الفتن برؤوسها ، قال صلى الله عليه وسلم : إن بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي . قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : كونوا أحلاس بيوتكم . [ أبو داود : 4/459 ] .
فيتعين على الإنسان الاعتزال وذلك عندما لا يكون هناك فائدة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس من المستطاع الاحتفاظ بالمبادئ والقيم ويكون في هذه الحالة من الأولى التزام البيوت سلامة للدين وحفظا للذات من الانسلاخ .
د ـ السلامة من شرور الناس وحسدهم ومكرهم وانقطاع الطمع عما في أيديهم ، وهذه الفائدة متحصلة في كل حال من اعتزال الناس . قال تعالى : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } [ طه : 131 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله [ مسلم : 4/2275 ] .
2ـ فوائد الخلطة في التربية الذاتية
أ ـ التعلم والتعليم : بين الباحث في مبدأ الحرية وحرية العلم خاصة أن هناك أمورا لا يعذر المرء المسلم بجهلها وينبغي عليه أن يتعلمها وهذه غالبا لا يمكن تحصيلها بغير المخالطة . ويجب على من آتاه الله علما أو فقها ألا يكتمه ويحجر عليه ، بل الواجب مخالطة أفراد المجتمع لتعليمهم وإفادتهم .
ب ـ التأدب والتأديب وهاتان اللفظتان تحمل معنى أخص من التعلم والتعليم . فالتأدب كما قال الإمام الغزالي – رحمه الله – يعني : الارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمل أذاهم كسرا للنفس وقهرا للشهوات (1) .
والمقصود من ذلك ترويض النفس على التحلي بالأخلاق الفاضلة التي لا تظهر إلا بالاحتكاك مع الآخرين وكثرة التعامل معهم . ومن هذه الأخلاق التضحية والإيثار والتعاون والصفح عن الإساءة وغير ذلك .
أما التأديب فتعني ترويض الآخرين وتأديبهم وتهذيبهم . وهذا المقام يناسب حال المعلم مع طلابه والمربي مع مريديه أو العالم والشيخ مع أفراد مجتمعه ، فيصبر على كثرة مخالطتهم وشغل أوقاته احتسابا لله ومتأسيا في ذلك بأحوال الدعاة الأوائل من سلف هذه الأمة الذين ندبوا أنفسهم وأوقاتهم في الدعوة إلى الله وتعليم الناس الخير . قال تعالى : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين } [ يوسف : 108 ] . وقال صلى الله عليه وسلم : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم . [ ابن ماجة : 2/1338 ، وأورده الألباني بإسناد حسن في الصحيحة برقم 939 ] .
جـ ـ نيل الثواب وترويح النفس : ففي مخالطة الناس أداء بعض الفرائض والواجبات كحضور الجمع والجماعات وأداء الحقوق المفروضة بين المسلمين أنفسهم كعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وكذا حضور مجالس الذكر التي يباهي الله بها ملائكته ، كما أن في اللقاء بالإخوان ترويحا للقلب وتهييجا لدواعي النشاط في العبادة والاستئناس بالمشاكلين والحديث معهم ولذا يوصي الإمام الغزالي في هذا المقام بوصية ثمينة فيقول : وليحرص أن يكون حديثه عند اللقاء في أمور الدين وحكاية أحوال القلب وشكواه وقصوره عن الثبات على الحق والاهتداء إلى الرشد ففي ذلك متنفس ومتروح للنفس وفيه مجال رحب لكل مشغول بإصلاح نفسه فإنه لا تنقطع شكواه ولو عمر أعمارا طويلة ، والراضي عن نفسه مغرور قطعا (1) .
وفي أداء الجمع والجماعات وحضور اجتماعات إخوانه المسلمين تحقيق للعبودية المطلقة للخالق . والنفس بطبعها تضعف وتفتر أحيانا ولكنها تقوى وتثبت عند مخالطة مثيلاتها ممن يسيرون على ذات المنهج
د ـ معرفة الواقع وكيد الأعداء : إن المسلم المعاصر يعيش في ظروف وملابسات تختلف عن تلك التي كان يعيشها إخوانه الذين سبقوه بالإيمان في العصور الماضية . فللباطل اليوم صولة وجولة ، والجاهلية المعاصرة تخطو خطوات حثيثة وبوسائل حديثة لإقصاء تيار التربية الإسلامية عن التغيير في مجريات الأحداث لتعبيد العباد لرب العباد في الوقت الذي بذلت فيه تلك الجاهلية قصارى جهودها وإمكانيتها لتعبيد العباد للشهوات والطواغيت . ولقد نجحت في ذلك إلى حد كبير . إن الإسلام اليوم لا يستقيم عموده فقط بدعاء شيخ في زوايا المسجد أو بإلقاء خطب رنانة جوفاء لا مكان لها في الواقع ، ولا يستقيم كذلك بنشر تصريحات في الجرائد والمجلات المشبوهة بل لابد من الجهاد . الجهاد مع النفس والجهاد ضد الأعداء والجهاد مع الشهوات والشبهات . ومن أنواع الجهاد ضد الأعداء معرفة ورصد الخطط والمؤامرات التي يدبرها أولئك الأعداء ضد المسلمين عملا وتنفيذا لقوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } [ الأنعام : 55]
فلا يمكن لمسلم اليوم أن يعيش بمعزل عن البيئة والأحداث ولا يمكن أن ينجو من أحابيل شياطين الإنس والجن إن لم يكن يقظا فطنا لما يجري حوله وما يقع تحت بصره ويده من مستجدات وأمور وما وصل المسلمون إلى الحالة التي نراها عليهم اليوم إلا بعد أن لدغوا مرات ومرات ، والرسول صلى الله عليه وسلم يحذر أمته قائلا : لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين . [ البخاري : 4/115 ] ويقول الخليفة الملهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : لست بالخب ولا يخدعني الخب .
ومعرفة الواقع تشمل العناية والاهتمام بأحوال المسلمين في أرجاء المعمورة لقوله صلى الله عليه وسلم : المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لما يصيب أهل الإيمان كما يألم الرأس لما يصيب الجسد . [ رواه أحمد وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 6535 ] . ومن حديث النعمان بن بشير يقول صلى الله عليه وسلم : المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله وإن اشتكى عينه اشتكى كله . [ أحمد : 4/271 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 6544 ] ولقوله أيضا : من لم يهتم للمسلمين عامة فليس منهم . [ ذكره الألباني في الضعيفة برقم 309 ]
إن دراسة الواقع وفهمه فهما جيدا من الأمور الهامة جدا في حياة المسلمين لأنها تتعلق ليس بالأفراد فحسب ولكن بالمجتمعات أيضا . وتعد مرحلة دراسة الواقع من المراحل المتقدمة في التربية الذاتية حيث أنها تستلزم فيمن ينبري لها أن تتوفر لديه مقومات عدة من أهمها (1) :
- القناعة بأهمية فقه الواقع وحاجة الفرد والأمة إليه .
- التأصيل العلمي الشرعي الذي يبنى على الكتاب والسنة .
- سعة الاطلاع وتجدده وخاصة من المصادر المباشرة والأصلية للمعلومات .
- القدرة على الربط والمقارنة والتحليل والاستنتاج والتنبؤ .
- التفاعل الإيجابي والممارسة العملية في الميادين المختلفة .
وإذا ما تحققت تلك المقومات فسيكون من ثمراتها ونتائجها ما يلي (2) :
- حماية المسلم لنفسه ولإخوانه من كيد الأعداء وألاعيبهم .
- إبطال كيد الأعداء وفضح خططهم ومؤامراتهم الحالية والمستقبلية .
- ربط الأسباب بمسبباتها واتخاذ المواقف الصحيحة والوصول إلى النتائج السليمة والمحكمة .
- تحقيق التربية الشاملة المتكاملة والثبات على الطريق .
فالخلاصة فيما ذكر من فوائد العزلة والمخالطة أن لكل منهما حالات وأوقات ، وهي تختلف من شخص لآخر حسب وضعه الاجتماعي وعلمه وفقهه وحسب الباعث له على أي منهما ، ولكن ينبغي لزوم القصد في حالتي العزلة والخلطة كما أوصى بذلك الحافظ أبو سليمان الخطابي حين قال : والطريقة المثلى في هذا الباب ألا تمتنع من حق يلزمك للناس وإن لم يطالبوك به وألا تنهمك لهم في باطل لا يجب عليك وإن دعوك إليه فإن من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه ، ومن انحل في الباطل جمد عن الحق فكن مع الناس في الخير وكن بمعزل عنهم في الشر وتوخ أن تكون فيهم شاهدا كغائب وعالما كجاهل . (1)
وقد يحدث عند الاختلاط بالإخوان بعض المزالق التي ينبغي أن يحذر منها ، ويفصل ذلك ابن القيم (2) – رحمه الله – قائلا :
الاجتماع بالإخوان قسمان : أحدهما على مؤانسة الطبع وشغل الوقت فهذا مضرته أرجح من منفعته وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت .
الثاني : الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها ولكن فيه ثلاث آفات :
أ – تزين بعضهم لبعض .
ب ـ الكلام والخلطة أكثر من الحاجة .
جـ ـ أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود من الاجتماع .
المبحث الثالث
استغلال الوقت
أولا – العادة
تعرف العادة بأنها : ميل نفسي متعلم مكتسب بالتكرار والخبرة للقيام بذات الأعمال السلوكية بحيث يقوم الإنسان بها بطريقة آلية عفوية إلى حد بعيد ويطمئن إليها الفرد سعادة في تمام الأداء (1) .
ولما كانت التربية أساسا مبنية على الممارسة والتطبيق لمبادئها المتعلقة بها فإن الأفكار النظرية المجردة لن يكون لها أثر إذا لم تظهر إلى عالم الواقع ويعمل بها وتنطبق هذه الخاصية تماما في التربية الإسلامية التي يقترن فيها الإيمان بالعمل الصالح وتقترن فيها النية المضمرة بالحركة الحية . وقديما قال الحسن البصري (2) : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل .
فمن المهم أن يبدأ المسلم العمل ولكن الأهم أن يستمر عليه ويداوم عليه . قال تعالى : { فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم } [ الزخرف : 43 ] وقال أيضا : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ الأحقاف : 13 ] .
إن الاستقامة على الطريق ضمان للوصول إلى نهايته وإن التعود على الأعمال الصالحة والاستمرار عليها تثبيت للنفس الإنسانية لمواجهة أعباء الطريق وتكاليفه وصرف لمكايد الشيطان ونوازغه . ومن هنا تظهر أهمية هذا الأسلوب في التربية الذاتية لذا كان صلى الله عليه وسلم يحث صحابته على ملازمة هذا الأسلوب ، فها هو يقول لعبد الله بن عمر – رضي الله عنهما - : يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل .
[ النسائي : 3/253 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 7822 ]
ويقول أيضا : أديموا الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد . [ رواه الطبراني في الأوسط نقلا عن الألباني في الصحيحة برقم 1185 ] .
وللسلوك المعتاد تأثير قوي على النفس البشرية ، ففيه تربية على الثبات وتعزيز للمفاهيم وتقوية للإرادة وبذا يجنبها كثيرا من الانحرافات والانتكاسات . ومن إيجابيات السلوك المعتاد أنه اقتصاد للجهد الفكري والحركي وسرعة الأداء مما يتيح المجال لأنشطة أخرى . بالإضافة إلى أن العادة تجعل الإنسان ذا استعداد نفسي لأداء السلوك الاعتيادي في المواقف المناسبة (1)
فإذا عود المرء على الفضائل فإنها تنقاد له وإذا تهاون في ذلك فقد تصبح مستعصية كما قال الشاعر :
والنفس كالطفل إن ترضعه شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم .
يقول زغلول النجار : إن تكوين الأخلاق الفاضلة لا يتم بالوعظ فقط ولا بالحفظ وحده ولا بالاقتناع العقلي بمفرده بل يحتاج إلى ممارسة فعلية يقوم بها الإنسان حتى يتعود هذه الأخلاق الفاضلة فتصبح جزءا من كيانه وطبيعة فيه لا يطمئن قلبه بغيرها ولا يرتاح ضميره إذا خرج عليها فتعود المرء على النظام والأمانة وضبط النفس والتعاون مع غيره والتسامح مع المخالفين له والتضحية في سبيل المجموع يتطلب مرانا وممارسة من الإنسان طوال حياته حتى تتأصل تلك الخصال فيه . (2)
وتثبيتا لهذا الأسلوب فقد أوكلت التربية الإسلامية تطبيقه لكل فرد حسب طاقته وقدرته . عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة قال : من هذه ؟ قالت : فلانة تذكر من صلاتها . قال : مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا . وكان أحب الدين ما داوم عليه صاحبه .
[ البخاري : 1/30 ]
قال الإمام النووي – رحمه الله – مه كلمة زجر ونهي ، ومعنى لا يمل الله لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم ويعاملكم معاملة الحال حتى تملوا فتتركوا ، فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم (3) . وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أي الأعمال أحب إلى الله تعالى ؟ قال : أدومها وإن قل .
[ البخاري : 4/184 ] .
واستنبط ابن رجب – رحمه الله – من هذا الحديث أمرين هامين تتميز بهما الأعمال التي يحبها الله عز وجل هما (1) :
أولا : ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليل المقدار أو العدد
ثانيا : ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير ، أي حسب كل إنسان بذاته .
ومن التطبيقات التي يراها الباحث لهذا الحديث أن يكتفي المرء في قيام الليل بثلاث ركعات أو خمس مع المداومة عليها خير وأفضل عند الله من صلاة أحد عشر ركعة أو أكثر في ليلة من الليالي ثم الانقطاع عن هذه العبادة في الليالي التالية . كما أن صيام يوم واحد أو ثلاثة أيام من كل شهر أحب إلى الله من صيام عدة أيام في شهر من الشهور ثم الانقطاع ... وهكذا في سائر العبادات والأعمال الحسنة . فكل إنسان يعرف قدر استطاعته فيثبت عليه ولا ينقص منه ، روي عن الحسن قوله(2): إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوما على طاعة الله عز وجل فبغاك وبغاك ، فإن رآك مداوما ملك ورفضك ، وإذا رآك مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك
ومن فضل الله وكرمه أن المسلم إذا اعتاد وداوم على طاعة من الطاعات ثم جاء ما يصرفه عن أدائها من عجز أو مرض أو فتنة ، فإن أجره لن ينقطع ولن يتوقف حتى يزول ذلك الصارف ، والدليل على ذلك ما رواه أبو بردة قال : سمعت أبا موسى مرارا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا [ البخاري : 2/357]
وفي الحديث : إذا اشتكى العبد المسلم قال الله تعالى للذين يكتبون اكتبوا له أفضل ما كان يعمل إذا كان طلقا حتى أطلقه
[ أحمد : 2/502 ، وانظر الصحيحة رقم 1232]
وليرغب هادي البشرية أفراد أمته في المداومة على عبادة الله من الصغر حتى الكبر ومن الشباب حتى الشيخوخة يقول : الشيب نور المؤمن ، لا يشيب رجل في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة ورفع بها درجة
[ رواه البيهقي في الشعب ، نقلا عن الألباني في الصحيحة برقم 1243 ]
وورد أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ذلك الشاب الذي نشأ في طاعة الله ، فليحرص المرء في سيره إلى ربه أن يكون من العارفين لله في كل وقت من الأوقات ومن الذين يحرصون على فعل الطاعات في كل الأمكنة ، فإنه بذلك يقطع دابر شياطين الإنس والجن
ثانيا : ملء الفراغ
الفراغ في اللغة كما يقول ابن منظور : الخلاء (1) ، وعليه يكون وقت الفراغ هو الوقت الذي يكون صاحبه خاليا من المشاغل فيملؤه بما يريد . أي هو الوقت الذي يكون الفرد فيه حرا من ارتباطات العمل أو أية التزامات أخرى بحيث يمكن الاستفادة من هذا الوقت في الراحة أو الاسترخاء أو في ممارسة أنواع من النشاط تعود عليه بتطوير ذاته وتربية نفسه
ويعرف باعتبار وظيفته للفرد بأنه مجموعة الوظائف أو الأنشطة التي ينغمس فيها الفرد بمحض إرادته وذلك بحثا عن الراحة والمتعة أو لغرض تنمية ثقافته ومعلوماته أو لتحسين مهارته أو للإسهام في تقديم خدمات تطوعية للمجتمع الذي يحيط به وذلك بعد تركه لعمله الأساسي سواء العائلي أو الاجتماعي (2)
وقد أولت التربية الإسلامية عناية بالغة بالأوقات عامة وبوقت الفراغ خاصة لما لها من أثر عظيم في حياة الفرد والمجتمع . قال تعالى : { وجعلنا الليل والنهار آية فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا } [ الإسراء : 12 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ .
[ البخاري : 4/175 ]
والحديث يبين مدى خسارة من يفرط في استغلال نعمتي الصحة والفراغ . وإذا كان الوقت هو رأس مال المسلم الذي يتاجر فيه بالطاعات واكتساب الحسنات ، فإن الفراغ هو مكسب إضافي يتزود فيه لنيل أعلى الدرجات وتحصيل المنافع الجمة ، ومع ذلك نجد الكثير والكثير من أوقات الفراغ في حياة الأمة تضيع هباء وتذهب سدى ، ولو افترضنا على سبيل المثال أن مسلما قضى ساعة واحدة فقط لمشاهدة فيلم هابط أو مسرحية داعرة فهذا يعني بلا مراء أن ملايين الساعات بل بلايينها من وقت الأمة قد صرف في غير ما فائدة ، وليضع المتدبر الواعي في باله الساعات التي تضاع وتهدر في أمور أخرى مثل التسكع في الأسواق والجلوس في المقاهي والطرقات أو في المسامرات والسهرات بلا رقيب ولا وازع من سلطان أو قرآن .
ولا يستغرب بعد هذا أن نسمع ونقرأ تقارير الخبراء والمختصين عن قلة النتاج القومي أو نقص الموارد البشرية أو عن الإهدار الكمي والكيفي للطاقات والمواهب والقدرات وكذلك العجز المزمن في ميزانيات الدول والشعوب المسلمة . ولبيان خطورة هذه القضية يكفي أن يشير الباحث إلى ما ذكر في الفصل الثاني حول الأسئلة التي يسأل عنها يوم القيامة كل فرد ومنها عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه ، وهذا غير الخسائر المادية والصحية والاجتماعية التي تصيب الفرد والمجتمع في الدنيا من جراء ذلك .
إذا علم ما سبق فبضدها تتميز الأشياء . وكما أن في إضاعة الوقت خسائر فادحة فإن في استغلاله مكاسب عظيمة . ومن أراد تربية نفسه فليحرص على اتباع هذا الأسلوب بألا يدع وقتا من أوقاته إلا شغله ولا فراغا إلا ملأه لأن النفس إذا لم تشغلها بطاعة شغلتك بمعصية . وللفراغ الذي ينبغي أن يشغل عدة أضرب :
1ـ فراغ عقلي ويقصد به خلو الذهن من الآراء والمعتقدات والأفكار السليمة التي تسير المرء في حياته .
2ـ فراغ قلبي وهو خلو القلب من الإيمانيات التي تصل الإنسان بالملأ الأعلى ولها تأثير مباشر على تصرفاته وسلوكه .
3ـ فراغ حسي ويشمل الدقائق والساعات التي يقضيها الفرد بعد أداء نشاطاته الأساسية وهو الذي يدعى بوقت الفراغ .
والمسلم الحق لا يشعر عادة بالفراغ العقلي أو بالفراغ الروحي لأن اعتناقه بالعقيدة الإسلامية قولا وعملا يشغل حيزا كبيرا من هذين الضربين من الفراغ . أما الفراغ الحسي فمن المفترض أن يقضيه المسلم في أمر نافع لاكتساب الخبرات والمعارف التي يبني عليها السلوكيات الموافقة لمعتقداته والتصرفات المنبثقة عن مكونات سرائره ، بالإضافة إلى إبراز دوره في الأنشطة الاجتماعية المختلفة . ولو أحسن الفرد استغلال وقت الفراغ وملأه بما يفيد حسيا ومعنويا لأسهم ذلك مساهمة كبيرة جدا في تربية ذاته وتحقيق دوره في الحياة .
وسائل ملء الفراغ
أبرزت التربية الحديثة وسائل عدة لملء الفراغ وشغله ولكن الحقيقة أنها ليست كلها موافقة لأسس التربية الإسلامية ، بل إن بعضها مما يضادها ويناقضها ، ومن كان حريصا على تربية ذاته يسعى لملء أوقاته بما يفيد حتى لا يصاب بالحسرة والندامة . ورد عن معاذ – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها . [ رواه الطبراني في الكبير ، نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 5322 ] .
ويمكن تقسيم وسائل ملء الفراغ للتربية الذاتية إلى نوعين هما :
1ـ وسائل مفيدة 2ـ وسائل ضارة
وسيورد الباحث أمثلة لهذين النوعين من الوسائل مبينا أثرها في التربية الذاتية .
1ـ الوسائل المفيدة :
إن الذات المسلمة في حاجة ماسة لما يزيدها اتصالا بالله ومعرفة بأحكامه وشرائعه . ولذا فهي تستخدم الوسائل المناسبة لتغطية هذا الجانب . ولا بأس من شغل الفراغ بالولوج في باب المباحات بقدر مناسب حتى لا يطغى هذا الجانب على المفروضات . ومن الوسائل المفيدة لملء الفراغ :
أ ـ القراءة ب ـ المحاضرات والندوات جـ ـ اللهو المباح .
أ ـ القراءة :
ما من شك في أن الكلمة المقروءة ستظل حتى قيام الساعة مصدرا أصيلا من مصادر تحصيل العلم والمعرفة لدى الفرد المسلم . ذلك أنه ورد في الكتاب العزيز قوله تعالى : { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } [ العلق : 1 – 5 ]
وهذه الآيات محفوظة إلى قيام الساعة بحفظ الكتاب العزيز ، وللقراءة فوائد عديدة فهي تفتح مغاليق أسرار الوجود ، أسرار ما يعلم الإنسان وما لا يعلم . وهي مفتاح المعرفة والطريق إلى سعادة الدار الآخرة والوسيلة إلى الاتصال بعقول البشر ومعرفة أفكارهم والطريق الذي يمدنا بما يقع في الكون وما يدور في البيئة من أحداث . وهي إلى جانب ذلك متعة في أوقات فراغنا (1) .
وقد كان للسلف من علماء الأمة وأدبائها شغف كبير بالقراءة وولع شديد بالكتب واقتنائها ، ولهم في ذلك أقوال مأثورة ، ورد عن بعضهم قوله : لا شيء آثر للنفس ولا أشرح للصدر ولا أوفر للعرض ولا أذكى للقلب ولا أبسط للسان ولا أشد للجنان ولا أكثر وفاقا ولا أقل خلافا ولا أبلغ إشارة ولا أكثر عبارة من كتاب تكثر فائدته وتقل مؤونته وتسقط غائلته وتحمد عاقبته وهو محدث لا يمل وصاحب لا يخل وجليس لا يتحفظ ومترجم عن العقول الماضية والحكم الخالية والأمم السالفة ، يحيي ما أماته الحفظ ويجدد ما أخلقه الدهر ويبرز ما حجبته الغباوة ويصل إذا قع الثقة ويدوم إذا خان الملوك(2) .
وحتى تساهم القراءة في ملء الفراغ وتربية الذات ينبغي أن يخصص الإنسان جزءا من وقته اليومي للقراءة الهادفة في الكتب والمجلات النافعة . وقد يحتار المرء في القراءة بأي المواضيع يبدأ وفيم يقرأ ولمن يقرأ ، وهنا تأتي مشورة الأستاذ الواعي والمرشد الناصح . ويقترح المؤلف بعض المواضيع والتي لها تأثير مباشر في تربية الذات المسلمة . وتمتاز هذه المواضيع بأنها مهمة لكل النفوس المؤمنة ولا يستغني عنها الفرد المكلف في أي مرحلة من مراحل حياته . وينصح بالاطلاع على الكتب التي تطرق هذه الجوانب ، وهذه المواضيع هي :
- جانب العبادات والسنن .
- السيرة النبوية وتراجم الصالحين
- المواعظ وأعمال القلوب كالإخلاص والتوكل والمراقبة والخوف والرجاء والإنابة وغير ذلك .
- صفات الشخصية المسلمة والخلق الإسلامي .
وهذا التخصيص لا ينافي القول بأن في قراءة الدوريات المتخصصة أو الكتب المتنوعة تثقيف للإنسان وزيادة معلوماته واستفادة من خبرات الآخرين . ولكن ليس المهم أن يمتلئ الذهن بالمعلومات فقط ولكن المهم تحكيم ما يقرأ على ضوء القواعد الثابتة من الكتاب والسنة ، وبذا يكون القارئ مثقفا واعيا . يقول الجاسر (1) : وهكذا تكون القراءة معرفة ونموا وتكون وعيا ونضجا . فكل خطوة يخطوها القارئ تصبح فيما بعد سلما إرشاديا يساعده على وضوح الرؤية ودقة الحكم ويظل نضجه العقلي يتنامى بصورة مطردة ليصبح بعد ذلك محكا حساسا وصادقا لكل محاولة تضليلية وكل محاولة غزو خارجية وداخلية .
ومن المهم اقتناء الكتب في المنزل للرجوع إليها وقت الحاجة وشغل أوقات الفراغ بها وتعويد النفس على ذلك . ومن طريف الذكر أن بعض الأدباء عوتب على لزومه منزله وتركه محادثة الرجال فأجاب بجواب مدح فيه كتبه فقال :
لنا جلساء ما نمل حديثهم ألباء مأمونون غيبا ومشهدا
يفيدوننا من رأيهم علم من مضى وعقلا وتأديبا ورأيا مسددا
بلا مؤنة تخشى ولا سوء عشرة ولا تتقي منهم لسانا ولا يدا
فإن قلت هم موتى فلست بكاذب وإن قلت أحياء فلست مفندا
يفكر قلبي دائما في حديثهم كأن فؤادي ضافه سم أسودا
إن وجود مكتبة في المنزل تحوي مختلف الكتب وفي شتى المجالات يدفع جميع أفراد المنزل للاستفادة من هذه المكتبة وخاصة إذا وجد التوجيه والإرشاد من رب المنزل أو غيره . ولا شك أن أثرها على التربية الذاتية سيظهر إن عاجلا أو آجلا . كما أن الاستفادة من هذه المكتبة بعد وفاة صاحبها يعتبر من الصدقات الجارية التي تنفع المرء بعد موته .
ب ـ المحاضرات والندوات
تزخر الأمة المتقدمة بالكثير من المجامع العلمية والمنتديات الفكرية التي يلتقي فيها العلماء والمثقفون والمفكرون لمعرفة الجديد والمفيد عبر المحاضرات والندوات واللقاءات في شتى مجالات المعرفة والواقع . وحضور مثل تلك المحاضرات والندوات يعتبر رافدا مهما من روافد ملء الفراغ بما يفيد في التربية الذاتية . وتكون المحاضرة غالبا تلخيصا لكم هائل من المعلومات وربما لتجارب سنوات عديدة تلقى على المستمعين في فترة محدودة وتوفر عليهم وقتا وجهدا كبيرين في تحصيل واستيعاب تلك المعلومات . كما أن في حضور الندوات فرصة للاستفادة من خبرات الآخرين وتجاربهم وفرصة لمعرفة وجهات النظر المتباينة أو المتفقة وتعويد النفس على تمحيص الآراء لانتقاء الصالح منها والمناسب .
قال تعالى : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب } [ الزمر : 18 ]
روى الخطيب البغدادي بإسناده عن عبد الله بن عباس قوله : العلم كثير ولن تعيه قلوبكم ولكن ابتغوا أحسنه ، ألم تسمع قوله تعالى – وقرأ الآية السابقة - (1) ، وفي المجتمع المسلم يجد المؤمن نفسه في مواقف كثيرة يستعمل فيها حاسة السمع مثل خطب الجمع والأعياد والاستماع إلى المؤذن لترديد الأذان خلفه والاستماع إلى قراءة الإمام في الصلاة الجهرية وغير ذلك من المواقف . قال تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } [ الأعراف : 204 ] وهذا رسولنا العظيم يطلب من صاحبه عبد الله بن مسعود أن يقرأ له آيات من كتاب الله ، قال – رضي الله عنه – قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي القرآن . قلت : أأقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فيقول عليه السلام : إني أحب أن أسمعه من غيري . [ البخاري : 3/351 ] .
ولا تكاد تمر على الطالب في مراحله الدراسية المختلفة محاضرة أو درس إلا ويكون للاستماع والإنصات نصيب كبير من وقت تلك المحاضرة أو الدرس . وهنا يلفت الباحث نظر المسئولين عن التربية والتعليم والتوجيه والإرشاد إلى الاهتمام باستغلال ملكة السماع لدى المتربين والناشئة لما لها من أثر في تشرب المعرفة وازدياد الإيمان .
ولكي تكون تلك المحاضرات والندوات رافدا من روافد التربية الذاتية ينبغي على الفرد أن يتبعها في مظانها من خلال الجامعات والنوادي الأدبية والمساجد وليحرص قبلا على معرفة المشاركين في تلك اللقاءات الفكرية لأخذ فكرة موجزة على الأقل عنها وحتى لا يفاجأ بأن الوقت قد ضاع في الاستماع لأفكار سخيفة وماجنة .
ويأتي من ضمن المصادر المعاصرة للاستماع والتي تساهم بشكل فعال في التربية الذاتية ما يعرف بالشريط الإسلامي الذي يسهل اقتناؤه ويمكن الاستفادة منه في البيت والسيارة وفي السفر أو الحضر وفي الصباح أو المساء ، أي في الزمان والمكان والحال الذي يختاره الإنسان لنفسه أو الذي يتيسر له فيه الاستماع إليه .
وفي عصرنا الحاضر استحدثت إذاعة للقرآن الكريم يذاع من خلالها برامج ثقافية وشرعية وتلاوات للقرآن الكريم . ولا شك أن في متابعة برامج هذه الإذاعة خير كثير وفوائد جمة . ولذا ينصح الباحث كل مهتم بتربية ذاته أن يتابع برامج هذه الإذاعة لكي يستفيد من برامجها أولا ولكي يسلم من الأذى الذي تبثه الإذاعات الأخرى ثانيا .
جـ ـ اللهو المباح :
لا حرج على المسلم أن يقضي جزءا من وقته في اللهو المباح والمتعة البريئة على ألا يجور في ذلك على حق ربه أو حق نفسه أو حق غيره من المخلوقين . وفي ديننا والحمد لله فسحة للترويح عن النفس كي تبقى معطاءة على الدوام .
عن عطاء بن أبي رباح قال : رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عمير الأنصاريين – رضي الله عنهما – يرتميان فمل أحدهما فجلس فقال له الآخر : كسلت ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لغو ولهو أو سهو إلا أربع خصال : مشي الرجل بين الغرضين وتأديبه فرسه وملاعبته أهله وتعلم السباحة . [ رواه أبو نعيم في الحلية . نقلا عن الألباني في الصحيحة برقم 315 ] .
ففي هذا الحديث بيان لبعض وسائل الترويح المباحة . فمن اللهو مباسطة الرجل أهله ومؤانستهم وملاعبتهم . روت عائشة – رضي الله عنها – قالت : كان الحبش يلعبون بحرابهم فسترني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنظر فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف ، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو . [ البخاري : 3/385 ] .
وفي ذلك يعلق خلدون الأحدب : وكان ذلك منه صلى الله عليه وسلم إدراكا لحقيقة النفس البشرية وتلبية لنداء الفطرة ، فتمكين القلوب من حقها في الراحة وترويح النفس بأضرب من اللهو المباح يجعل المرء أقدر على مواصلة عطائه بل أكثر استفادة من زمانه (1) .
ومن اللهو المباح ممازحة الرجل لأصدقائه ورفقائه على ألا يخرج في مزاحه عن الضوابط الشرعية . عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قالوا : يا رسول الله إنك تداعبنا . قال : نعم غير أني لا أقول إلا حقا .
[ الترمذي : 4/314 ، وصححه الألباني في مختصر الشمائل المحمدية برقم 202 ]
وعن معاوية بن حيدة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ، ويل له ويل له .
[ رواه الترمذي 4/483 وقال : حديث حسن ]
وللهو المباح أنواع أخرى ، فمنه ما يفيد في تنمية الجسم والقوى العضلية كبعض الألعاب الرياضية التي قد لا تحتاج إلى مدرب أو موجه مثل المشي الطويل والجري والرماية . ويمكن استغلال فترات من هذه الرياضات في التسبيح والتحميد والتهليل وغيرها من أذكار اللسان التي لا تكلف المرء إلا تحريك لسانه فقط . ومن اللهو أيضا ما يفيد في تغذية العقل وترويح القلب كمناشدة الأشعار وطرح المسابقات الذهنية والثقافية وذكر الطرائف والنوادر .
روي عن علي – رضي الله عنه – قوله : اجمعوا هذه القلوب وابتغوا لها طرائف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان . وعن الزهري قوله : كان بعض العلماء يقول : هاتوا من أشعاركم فإن الأذن مجاجة والنفس حمضة . وقوله أيضا : روحوا القلوب ساعة وساعة (1).
ومن اللهو المباح أيضا ما يفيد في ترويض العقل والجسم معا كالاستفادة من الألعاب التربوية أو توجيه الألعاب الرياضية وجهة تربوية وهنا تبرز أهمية اتخاذ الألعاب كوسيلة للتربية الذاتية وللتربية عموما في مختلف المراحل التربوية وحسب الفروق الفردية . ولهذا الغرض يجب أن تنظم الألعاب تنظيما تربويا لتحقيق أهداف تربوية عدة لا لمجرد شغل الوقت في أغراض تافهة أو بدون غرض ، بل ينبغي توجيهها لاكتساب المثل العليا والأخلاق الفاضلة وخاصة في المعسكرات التربوية والرحلات الهادفة (2)
وهناك وسائل أخرى كثيرة لملء الفراغ وشغله بما يعود على المرء بالفائدة والخير ولكن المجال لا يتسع لحصرها ومنها : الرحلات والمخيمات – صلة الأرحام والزيارات بين الأصدقاء – الاشتراك في الأنشطة الاجتماعية المفيدة التي تنفع الإسلام والمسلمين .
أما إذا استعرضنا حال علمائنا الأوائل في شغل أوقاتهم لرأينا العجب العجاب . يحدثنا الإمام ابن عقيل عن نفسه فيقول : إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة أعمل فكري في حال راحتي وأنا مستطرح فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره ، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين . (3)
ويذكر الحافظ الذهبي في ترجمة أبي حاتم الرازي أن أبا حاتم قال : قال لي أبو زرعة : ما رأيت أحرص على طلب الحديث منك . فقلت له : إن عبد الرحمن ابني لحريص . فقال : من أشبه أباه فما ظلم . ولما سئل عن اتفاق السماع له وسؤالاته عن أبيه أجاب بأنه كان يستغل كل لحظة يقضيها مع والده فإذا ما أكل قرأ عليه وإذا مشى قرأ عليه وإذا دخل الخلاء قرأ عليه وإذا دخل البيت في طلب شيء قرأ عليه (1) . وبمثل هذا يكون ملء الفراغ .
إن من لا يستشعر أهمية الوقت يحس بالغبن يوم القيامة فإن كان مفرطا ندم على تفريطه وإن كان مقصرا ود لو كان من المحسنين .
2ـ الوسائل الضارة :
من وسائل ملء الفراغ ما يكون ذا أثر سلبي ومعيقا للتربية الذاتية . ومن هذه الوسائل :
أ ـ الإفراط في النوم .
ب ـ الانغماس في اللهو والباطل .
ونشير إلى أثر هاتين الوسيلتين على التربية الذاتية :
أ ـ الإفراط في النوم :
يظن بعض الناس أن كثرة النوم وزيادته دليل على إعطاء النفس حقها من الراحة والفائدة . والصحيح أن في ذلك ضررا بالغا على النفس .
فمن أضراره أنه يصرف النائم عن أداء أعمال كثيرة مفيدة ويقلل من فرص استثمار وقت الفراغ التي كان من المفترض أن يشغله فيما يعود عليه بالنفع والصلاح . ومن نام كثيرا خسر كثيرا .
وقد دلت الدراسات والأبحاث على أهمية الإقلال من النوم وإنقاص ساعاته بشكل معقول . يقول الدكتور حمدي (2) : فالأطباء يقولون إن الأشخاص الذين يكتفون بفترة نوم قصيرة هم أكثر حيوية ونشاطا من الذين تزيد فترة نومهم عن الثماني ساعات ! ذلك أن محبي النوم غالبا ما يتميزون بالقلق والانطواء والعزلة والكآبة ويغلب عليهم الكبت الجنسي والانهيار العصبي والتردد والحيرة والتأثر بأقل سبب .. والتطير ، كما أنهم غالبا ما يأخذون مشكلاتهم الشخصية مأخذا جديا مفرطا ولذلك يبدون بنومهم هذا وكأنهم يهربون من الحياة ومشكلاتها ومواجهتها .
فكثرة النوم تعتبر هروبا من الواقع ، بينما الحياة ساعات قليلة تستغل في مواجهة هذا الواقع ومجاهدة النفس للتغلب عليه وتوجيهه نحو الأفضل . ويقول حمدي أيضا : كما أن الدراسات التي قام بها الأخصائيون تثبت أن الذين ينامون فترات قصيرة يستمتعون بنوم أعمق من أولئك الذين ينامون أكثر من المعدل اللازم .. فالنوم الكثير ليس صحيا والنوم الأقل يمكن أن يكون شافيا . (1)
ولذل فليراقب المرء نفسه في مقدار النوم الذي يصرف وقته فيه . والمسألة بالتعود ، كما أن النفس تميل إلى ما عودتها عليه .
ومن الأوقات التي غفل عنها وفرط بالنوم فيها كثير من الناس الوقت الذي يلي صلاة الفجر ، وهذا إن لم يناموا عن صلاة الفجر نفسها ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس . وهذا الوقت من الأوقات المباركة التي تقسم فيها الأرزاق المادية والمعنوية . وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على التبكير في طلب العلم والسعي إلى الرزق وذلك لعلمه بما فيه من الخير والبركة .
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بورك لأمتي في بكورها . [ رواه الطبراني في الأوسط . نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 2838 ] .
كما روى الصحابي الجليل صخر بن وداعة الغامدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : اللهم بارك لأمتي في بكورها . وقال : وكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم في أول النهار . وقد استفاد هذا الصحابي من هذا الحديث حيث كان تاجرا فكان يبعث تجارته أول النهار فأثرى وكثر ماله (2)
ولما كان التبكير يجلب الخير ويكثر الربح ويزيد في إنجاز الأعمال وفي إتمامها فإن حرص المرء على عدم النوم في ذلك الوقت المبارك يجعله مستغلا له فيما ينفعه ويساهم في تربية ذاته وتزكيتها .
ب ـ الانغماس في اللهو والباطل
ومن الوسائل الضارة لملء الفراغ والتي تصرف عن التربية الذاتية الانغماس في اللهو والباطل وخاصة عند متابعة كثير من برامج الفيديو والتلفزيون . وتمتاز هاتان الوسيلتان بأنها تثير المشاهدين بلقطاتها الباهرة السريعة مستخدمة أساليب التقنية الحديثة في إعدادها وتنفيذها ورغم ذلك فهي لا تحمل في طياتها إلا قدرا ضئيلا من الفائدة . والأمر المؤسف أن الصور التلفزيونية المتتابعة أمام المشاهد تقف حجر عثرة ضد الملكة النقدية لديه فتتحول تلك الصور لا شعوريا إلى عقله الباطن لتصبح مسلمات وحقائق . وإذا ما استمر الفرد على هذه الحالة مستقبلا لكل ما يعرض عليه من ثقافات وعادات ومتشربا لها فسيفقد يوما ما هويته وشخصيته الأصلية . وهكذا يتبين أن للتلفزيون دورا محدودا في التربية والتعليم . يقول مروان كجك : إن أفضل أنواع التعليم هي التي تعتمد على المشاركة ... ومشاهدة التلفزيون تعتمد على الأخذ فقط والاستغناء عن التفاعل ولا يمكنها عمل شيء سوى استرعاء انتباهك ... ولذا فإن المعلومات تستمر ولكننا لا نتفاعل بعد ذلك ، لا نعرف مع أي شيء نتفاعل ، وعندما تشاهد التلفزيون فإنك تدرب نفسك على عدم التفاعل وتنمي فيك السلبية (1)
وليس ذلك فحسب ، بل إن التلفزيون ينقض في فترة وجيزة ما يبنيه المربون خلال سنوات ، أي أن التلفزيون يروج لعملية التربية الموازية والمضادة لعمليات التربية التي تقوم بها المساجد والمدارس والأسر (2) .
وللتلفزيون والفيديو من الآثار السيئة على النفس الإنسانية ما الله به عليم ، وهذه الآثار قد لا تظهر مباشرة بعد انتهاء برامج أو مشهد تلفزيوني ولكن تظهر بعد فترة طويلة . يقول مروان كجك أيضا : ومن المؤكد أن هذه الآثار لا تأتي مباشرة عقب صب المعلومات وتغلغلها في النفس وإنما تظهر بعد حين نتيجة تضافر برامج أخرى تعمل على تراكم الآثار التي تأخذ بدورها من جديد بالاندفاع من الداخل نحو الخارج على صورة سلوك حركي يترجم التفاعل اللاإرادي الذي يأخذ سبيله إلى النفس على شكل مفاهيم امتـزجت مع الشخصية فأكسبتها بعضا من ملامحها وأهدافها . (3)
ورغم ما ذكر فإن الباحث يرى أنه لو أحسن توجيه واستغلال وسائل الإعلام عموما وتم إصلاح برامجها وأنشطتها بما يتوافق مع معتقداتنا وأخلاقنا وقيمنا الإسلامية وبشرط ألا تشغل وقت الفرد المسلم فإنه يمكن تلافي الكثير من آثارها السيئة والإفادة منها في مجالات متعددة ومن ضمنها التربية الذاتية .
ثالثا : المحاولة والخطأ
من البديهي أن الإنسان يخطئ أحيانا ويصيب أحيانا ويخطو إلى الأمام خطوات ويتعثر أخرى ولكن يدفعه الأمل والعزيمة إلى المحاولة مرارا وتكرارا لأن الفشل أساس النجاح . ويلجأ الفرد إلى أسلوب المحاولة والخطأ للوصول بالعمل إلى كماله المنشود أو للتثبت من الاجتهادات البشرية واكتشاف خبرات جديدة .
والمقصود بالمحاولة والخطأ هو تكرار العمل أكثر من مرة لتحقيق أقصى نجاح ممكن ، ومن الأدلة على هذا الأسلوب من التربية الإسلامية حديث المسيء صلاته .
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ارجع فصل فإنك لم تصل ، فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ارجع فصل فإنك لم تصل ( ثلاثا ) فقال : والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره فعلمني ... الحديث
[ البخاري : 1/257 ]
الشاهد من الحديث أن ذلك الصحابي حاول تصحيح خطئه بنفسه – بعد أن وجهه النبي صلى الله عليه وسلم – وكان من الممكن أن يؤدي العمل كما ينبغي ولجهله عجز ثم سأل . وهذا الأسلوب أوقع في النفس وأدعى إلى قبوله وانطباعه في الذاكرة(1)
ويذكر يالجن مؤكدا على هذا الأسلوب قائلا : والتجربة وهي جعل المتربي يجرب بنفسه القيم والأفكار والحقائق المقدمة إليه ، ذلك أوقع في نفسه وأقرب إلى إدراك قيمة تلك الحقائق والأفكار (2)
ومما ينبغي أن ينتبه إليه أنه ليس كل أمر يصح فيه تجريب أسلوب المحاولة والخطأ للتأكد من صلاحه ونجاحه . فأحكام الشرع مثلا من تحريم لشرب الخمر أو مزاولة الربا وغير ذلك لا يمكن أن نضعها تحت التجربة والمحاولة لأنها منزلة من لدن حكيم خبير . والمسلم الحق يفعل ما يأمره خالقه ويجتنب ما ينهى عنه بدون أدنى تردد في التطبيق . أما المحاولة في تطبيق العمل لإتقانه فهذا أمر مرغوب شرعا لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه
[ رواه البيهقي في شعب الإيمان . نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 1876 ]
وفي رواية أخرى : إن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن .
[ رواه البيهقي في شعب الإيمان . نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 1887وحسنه]
وحيث أن الغالب على النفس البشرية لقصورها أنها لا تتقن أداء العمل من أول محاولة فإن الأمر يحتاج إلى مرات وكرات . والإنسان السامي لبلوغ الكمال البشري لا ييأس ولا يكل ولا يمل فيحاول ويحاول حتى يصل إلى مبتغاه وينال ما يتمناه . وبالإرادة القوية وتركيز الانتباه تصبح الذات هي محور الحضارة والمحرك الفعال لتحقيق الأماني وتحسين الأداء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) دراسات في النفس الإنسانية : محمد قطب . دار الشروق ، بيروت ، الطبعة السادسة 1403 هـ
(2) تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير : محمد نسيب الرفاعي . مكتبة المعارف ، الرياض ، 1407هـ ( 4 أجزاء . 4/489 )
(1) ما أصل الإنسان ؟ إجابات العلم والكتب المقدسة : موريس بو كاي ، الرياض ، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج 1406هـ ، ص : 15
(2) الإنسان بين المادية والإسلام : محمد قطب . دار الشروق ، بيروت ، الطبعة السادسة ، 140هـ ، ص 16
(1) في ظلال القرآن : سيد قطب . دار الشروق ، بيروت ، الطبعة التاسعة ، 1400 هـ ، ( 6 أجزاء ) ، 4/2458- 2459
(2) ما أصل الإنسان ؟ : مرجع سابق ص : 207
(1) صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم : عبد الرحمن بن محمد الدوسري . مكتبة دار الأرقم ، الكويت ، 1406 هـ . 2/72
(2) تفسير القرآن العظيم : إسماعيل بن كثير . دار المعرفة ، بيروت ، 1400 هـ ، ( 4 أجزاء ) 1/249
(3) تيسير العلي القدير : مرجع سابق 2/252
(1) تفسير القرآن العظيم : مرجع سابق 1/250
(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري : أحمد بن حجر العسقلاني . تصحيح وتحقيق عبد العزيز بن عبد الله بن باز . الرياض ، مكتبة الرياض الحديثة ، 1379 هـ ، 8/383 .
(1) العبودية : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية . دار الكتب العلمية ، بيروت 1401 هـ ، ص 4 .
(2) في ظلال القرآن : مرجع سابق /3387
(1) الحسنة والسيئة : أحمد بن عبد بن الحليم بن تيمية . دار الكتب العلمية ، بيروت ، ص 56
(1) الروح : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1406 هـ ، ص 97
(2) مشاهد القيامة في القرآن : سيد قطب ، دار الشروق ، بيروت ، ص 41-43
(1) شرح العقيدة الطحاوية : أبو العز علي بن علي بن محمد ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، الطبعة السادسة ، 1400 هـ ، ص 453
(1) لسان العرب : محمد بن منظور ، دار صادر ، بيروت 1300 هـ ، 15 جزءا ، 10 /27
(2) المعجم الوسيط : عبد السلام هارون وآخرون ، طهران ، المكتبة العلمية ، 10 / 42
(1) التربية الإسلامية والمشكلات المعاصرة : عبد الرحمن النحلاوي ، الرياض ، مكتبة أسامة وبيروت المكتب الإسلامي ، الطبعة الثانية1405هـ ص 55
(2) الإصلاح التربوي والاجتماعي والسياسي من خلال المبادئ والاتجاهات التربوية عند التاج السبكي : عبد الرحمن النحلاوي ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، 1410 هـ ، ص 50
(1) فلسفة التربية : فينكس ، 1402 هـ ، ص 422
(2) المسئولية : محمد أمين المصري ، الكويت ، دار الأرقم ، الطبعة الثانية ، 1400 هـ ، ص 156
(1) الإنسان بين المادية والإسلام : محمد قطب ، دار الشروق ، بيروت ، الطبعة السادسة ، 1400 هـ ، ص 168
(1) في ظلال القرآن ، مرجع سابق 1/291 .
(1) السيرة النبوية : ابن هشام ، أبو محمد عبد الملك الحميدي ، تحقيق / مصطفى السقا وآخرون 1/348
(2) حياة الصحابة : محمد يوسف الكاندهلوي ، دمشق ، دار القلم ، 1403هـ ، 3 أجزاء ، 1/386
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: أبو زكريا يحيى بن شرف النووي ، الإسكندرية ، دار الريان للتراث ، 1407 هـ ، 9 أجزاء 5/102
(2) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم : عبد الرحمن بن رجب ، القاهرة ، مؤسسة الكتب الثقافية ، 1382هـ ، ص 79
(1) صحيح مسلم بشرح النووي : مرجع سابق ، 4/116
(2) مختصر منهاج القاصدين : المقدسي أحمد بن عبد الرحمن المقدسي مكة دار الباز 1398هـ ، ص 65
(1) تهذيب مدارج السالكين : عبد المنعم العزى ، جدة ،دار المطبوعات الحديثة ، 1405 هـ ، ص 72
(1) تهذيب مدارج السالكين : عبد المنعم العزى ، جدة ، دار المطبوعات الحديثة ، 1405 هـ ، ص 73
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية : جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي. النجدي وابنه محمد ، الرياض ، مطابع الرياض ، الطبعة الأولى ، 1381هـ ،1/5 ـ 6
(3) العبودية : ابن تيمية ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1401هـ ، ص 29
(1) الأحكام في أصول الأحكام (370 ) : أبو الحسن علي الآمدي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1400هـ ، 4 أجزاء ، 4 /218
(2) شرح الكوكب المنير : ابن النجار ، تحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد ، مكة ، جامعة أم القرى ، مركز البحث العلمي ، 1400 هـ ، 4 أجزاء ، 4/459
(3) تفسير القرآن العظيم : إسماعيل بن كثير دار المعرفة ، بيروت ، 1400 هـ ، 4 أجزاء
(1) الثروة في ظل الإسلام : البهي الخولي ، القاهرة ، دار الاعتصام ، الطبعة الثالثة ، 1398 هـ ، ص 71.
(1) الاكتساب في الرزق المستطاب ، محمد بن الحسن الشيباني ، تحقيق محمود عرنوس ، مكة دار الباز للنشر والتوزيع ، 1406 هـ ، ص 35 ـ 36 .
(1) الثروة في ظل الإسلام مرجع سابق ، ص 49
(1) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين : محمد علان الصديقي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1405 هـ ، 4 أجزاء 2 / 385.
(1) العدالة الاجتماعية في الإسلام : سيد قطب ، جدة ، دار الشروق ، 1399 هـ ، ص 166.
(2) من هدي سورة الأنقال : محمد أمين المصري ، تقديم محمد العبدة ، الكويت ، مكتبة دار الأرقم ، ص 47 .
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد : ابن القيم الجوزية ، تحقيق / شعيب وعبد القادر الأرناؤوط ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1405 هـ ، 6 أجزاء ، 2 / 22 ـ 23
(1) أهداف التربية الإسلامية : ماجد عرسان الكيلاني ، المدينة المنورة ، مكتبة دار التراث ، 1408 هـ ، ص 61 .
(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري : أحمد بن حجر العسقلاني ، تصحيح وتحقيق / عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، الرياض ، مكتبة الرياض الحديثة ، 1379هـ ، 1/165 .
(1) المرجع السابق . 1/170
(2) إحياء علوم الدين : أبو حامد الغزالي ، بيروت ، دار المعرفة ، 5 أجزاء ، 1 /19 .
(1) فضل علم السلف على الخلف : ابن رجب ، عمان ، دار عمار ، 1406 هـ ، ص 52
(2) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم : ابن جماعة الكناني ، بيروت ، دار الكتب العلمية .
(1) زاد المسير في علم التفسير : عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي . بيروت ، المكتب الإسلامي ، 1404 هـ ، 6/289
(2) الولاء والبراء في الإسلام من مفاهيم عقيدة السلف : محمد سعيد سالم القحطاني ، الرياض ، دار طيبة ، 1402 هـ ،ص 76
(1) فتاوى ابن تيمية : مرجع سابق ، 3 /327 ــ 329
(1) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية : صالح عبد الله بن حميد ، مكة ، جامعة أم القرى ، مركز البحث العلمي ، 1403 هـ ، ص 230 ــ 237
(1) المسئولية وصلتها بالتكاليف الشرعية في ضوء القرآن الكريم : عبد الصمد بكر عابد . مكة ، جامعة الملك عبد العزيز ، 1398 هـ ، ص 71- 78
(2) في ظلال القرآن : سيد قطب . دار الشروق ، بيروت ، الطبعة التاسعة ، 1400 هـ ( 6 أجزاء ) ، 4/2217
(1) دستور الأخلاق في القرآن : محمد عبد الله دراز ، تعريب وتحقيق / عبد الصبور شاهين ، بيروت مؤسسة الرسالة ، الكويت ، دار البحوث العالمية ، الطبعة الرابعة ، 1402 هـ ، ص 139
(1) معاني القرآن الكريم : أبو جعفر النحاس . مكة ، جامعة أم القرى ، 1409 هـ ( 6 أجزاء ) 2/530
(1) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة : محمد أحمد الأنصاري القرطبي . القاهرة ، دار الريان للتراث ، الطبعة الثانية ، 1407هـ ، ص 137
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز : ابن الجوزي . د.ت ، ص 195
(1) تفسير القرآن العظيم : مرجع سابق ، 2/416 .
(1) شرح العقيدة الطحاوية : علي بن علي بن محمد أبو العز . المكتب الإسلامي ، بيروت ، الطبعة السادسة ، 1400 هـ ، ص 470
(1) في ظلال القرآن : مرجع سابق ، 3/1421
(1) زاد المسير في علم التفسير : مرجع سابق ، 3/43
(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان : عبد الرحمن بن سعدي . المدينة المنورة ، مطبوعات الجامعة الإسلامية ، 1398 هـ ، 1/194
(1) تفسير القرآن العظيم : مرجع سابق ، 1/390
(1) تفسير القرآن العظيم : مرجع سابق ، 2/299
(1) مختار الصحاح : محمد بن أبي بكر الرازي . 1408 هـ ، ص 130
(2) لسان العرب : مرجع سابق ، 1/473 .
(1) حتى يغيروا ما بأنفسهم : جودت سعيد ، تقديم / مالك بن نبي ، 1397 هـ ، ص 14
(2) أزمة التعليم المعاصر : زغلول النجار ، الكويت ، مكتبة الفلاح ، 1400هـ ، ص 56
(1) أصول علم النفس العام : عبد الحميد محمد الهاشمي ، جدة ، دار الشروق ، 1404 هـ ، ص 89
(1) فتح الباري : مرجع سابق ،11/347
(2) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري : حمد بن محمد البستي الخطابي ، تحقيق ودراسة الدكتور محمد بن سعد آل سعود . مكة ، نشر مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي ، جامعة أم القرى ، 1409 هـ ، 4 أجزاء
(1) دعوة الفطرة : د. يوسف أبو هلالة ، دار العاصمة ، الرياض ، ص 122
(2) ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي : تحقيق محمد عبده عزام ، مصر ، دار المعارف ، الطبعة الثالثة ، 4 أجزاء 2/23
(3) منهج القرآن في التربية : محمد أحمد شديد ، 1402هـ ، ص 179
(1) التبيان في آداب حملة القرآن : النووي ، مكتبة دار البيان ، دمشق ، 1405 هـ، ص 46
(2) الإتقان في علوم القرآن : جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ، بيروت ، دار المعرفة ، الطبعة الرابعة ، 1398هـ ، جزءان، ص 138
(1) التبيان في آداب حملة القرآن : مرجع سابق ، ص 48
(1) الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب : ابن قيم الجوزية ، تحقيق وتخريج / بشير عيون دمشق دار البيان ، 1406 هـ ، ص 85 ـ96
(2) المرجع السابق : ص 97
(3) المرجع السابق : ص 142
(1) النوم ...أسراره وخفاياه : أنور حمدي ، بيروت المكتب الإسلامي ، 1406 هـ ، ص 56
(2) تفسير القرآن العظيم : مرجع سابق ، 4/345
(1) قيام الليل : المروزي ، 1402 هـ ، ص 41
(1) في ظلال القرآن : مرجع سابق ، 6/3745
(2) منهج القرآن في التربية : مرجع سابق ، ص 34
(1) المرجع السابق : ص 30
(1) معاتبة النفس : الحارث بن أسيد المحاسبي ، تحقيق / محمد عبد القادر عطا ، القاهرة ، دار الاعتصام ، 1406 هـ ، ص 20
(2) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين : ابن قيم الجوزية ، تحقيق / محمد حامد الفقي ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، 1392 هـ ، 3 أجزاء ، 1/169
(1) الزهد : أحمد بن حنبل ، القاهرة ، دار الريان للتراث ، 1408 هـ ، ص 149
(2) الزهد : مرجع سابق : ص 149
(3) محاسبة النفس : عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا ، تحقيق / مجدي السيد إبراهيم ، القاهرة ، مكتبة القرآن ، 1407هـ ، ص 33
(4) المرجع السابق : ص 35
(1) المرجع السابق : ص 94
(2) إحياء علوم الدين : الغزالي ، بيروت ، دار المعرفة ، 5 أجزاء ، 4/393 ـ394
(3) محاسبة النفس : الحافظ ابن أبي الدنيا ، تحقيق مجدي السيد إبراهيم ، مكتبة الساعي ، القاهرة ، 1407 هـ ، ص 67
(4) المرجع السابق : ص 34
(1) إحياء علوم الدين : مرجع سابق ، 4/405
(2) تهذيب مدارج السالكين : مرجع سابق ، ص 115
(1) محاسبة النفس : مرجع سابق ، ص 36
(2) إحياء علوم الدين : مرجع سابق ، ص 4/405
(3) معاقبة النفس : مرجع سابق ، ص 56 ـ 60
(1) تهذيب مدارج السالكين : مرجع سابق ، ص 116
(2) إحياء علوم الدين : مرجع سابق ، 3/64 ـ65
(1) زاد المسير في علم التفسيبر : مرجع سابق ، 6/427
(2) تفسير القرآن العظيم : مرجع سابق ، 3/521
(3) نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس : ابن رجب ، تحقيق وتعليق / محمد بن ناصر العجمي . الكويت ، دار الأقصى ، 1406 هـ ، ص 24
(1) فتح المبين لشرح الأربعين : أحمد بن حجر الهيثمي . بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1398 هـ ص 164 .
(2) النووي : 1382 هـ ، ص 138
(1) صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم : عبد الرحمن بن محمد الدوسري . مكتبة دار الأرقم ، الكويت ، 1406 هـ ، 2/5
(2) الوافي في شرح الأربعين النووية : مصطفى البغا ومحيي الدين مستو . دمشق ، دار الإمام البخاري للنشر والتوزيع ، 1400 هـ ، ص 34 .
(3) من هدي سورة الأنفال : مرجع سابق ، ص 7 .
(1) القيم الخلقية في الإسلام : أحمد ماهر البقري . الإسكندرية ، مؤسسة شباب الجامعة ، 1407 هـ ، ص 7
(2) اكتساب الخلق الإسلامي : عبد الحميد الأقطش . مجلة الدعوة ، عدد 1267 ، الرياض ، إصدار مؤسسة الدعوة الإسلامية الصحفية ، 1410 هـ ، ص 50
(1) سير أعلام النبلاء : محمد أحمد عثمان الذهبي . التحقيق والتخريج بإشراف شعيب الأرناؤوط ، مؤسسة الرسالة ، 1402 هـ ، ( 23 جزءا ) 3/242
(2) المجموع شرح المهذب ويليه فتح العزيز شرح الوجيز للإمام الرافض ويليه التلخيص الحبير في تخريج الرافعي الكبير لابن حجر العسقلاني : النووي . بيروت ، دار الفكر ، 20 مجلدا ، 1/37- 38 .
(1) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين : ابن قيم الجوزية . تصحيح ومراجعة نعيم زرزور . بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1403 هـ ، ص 8 .
(1) الزهد : مرجع سابق ، ص 149
(2) المجموع شرح المهذب : مرجع سابق ، 1/35
(1) إحياء علوم الدين : مرجع سابق ، 1/50
(2) ديوان الإمام الشافعي : جمع وتعليق محمد الزعبي ، بيروت ، مؤسسة الزعبي ودار الجيل ، الطبعة الثالثة ، 1392 هـ ، ص 29
(3) الرسول العربي المربي : عبد الحميد محمد الهاشمي ، دمشق ، دار الثقافة للجميع ، 1401هـ ، ص 433
(1) جامع بيان المعرفة وفضله وما ينبغي في روايته وحمله : ابن عبد البر . القاهرة ، دار الفتح ، 2/97
(1) الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب : مرجع سابق ، ص 82 - 83
(2) الموافقات : الإمام الشاطبي .د.ت ، 1/94 - 95
(1) ديوان الإمام الشافعي : مرجع سابق ، ص 81
(1) الرسول العربي المربي : مرجع سابق ، ص 233
(1) سير أعلام النبلاء : مرجع سابق ، 3/344
(2) كتاب فضائل الصحابة : أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ، تحقيق وتخريج / وصي الله محمد عباس ، نشر مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي ، مكة ، مؤسسة الرسالة ، 1403 هـ ، جزءان ، 2/844
(3) جامع بيان العلم : مرجع سابق ، 1/87 ـ88
(4) ديوان أمية بن أبي الصلت : جمع وتحقيق ودراسة عبد الحفيظ السطلي ، دمشق ، المطبعة التعاونية ، الطبعة الثانية ، 1394هـ ، ص 436
(1) في أصول الحوار : الندوة العالمية للشباب الإسلامي ، الرياض ، وحدة الدراسات والبحوث ، 1408هـ
(1) في ظلال القرآن : مرجع سابق ، ص 5/2914
(2) الرسول العربي المربي : مرجع سابق ، ص 452 - 453
(1) وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم : قل إنما أعظكم بواحدة . عبد العزيز ناصر الجليل . الرياض ، دار طيبة ، 1410هـ ، ص 26 - 30
(2) وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم : المرجع السابق ، 2/227
(1) إحياء علوم الدين : مرجع سابق 2/227 .
(1) العزلة : حمد بن محمد البستي الخطابي . حققه وعلق عليه ياسين محمد السواس ، بيروت ، دمشق ، دار ابن كثير ، 1407 هـ ، ص 101
(1) إحياء علوم الدين : مرجع سابق ، 2/238 .
(1) إحياء علوم الدين : مرجع سابق ، 2/239
(1) فقه الواقع : ناصر العمر ، ص 20 - 35
(2) فقه الواقع : ناصر العمر ، ص 36 - 50
(1) العزلة : مرجع سابق ، ص 237
(2) الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب : مرجع سابق
(1) أصول علم النفس العام : مرجع سابق ، ص 136
(2) المناوي في الجامع الصغير .
(1) أصول علم النفس العام : مرجع سابق ، ص 138
(2) أزمة التعليم المعاصر : مرجع سابق ، ص 130
(3) صحيح مسلم بشرح النووي ، مرجع سابق ، ص 94
(1) المحجة في سير الدلجة : ابن رجب . تحقيق / يحيى غزاوي . بيروت ، دار البشائر الإسلامية ، 1404 هـ ، ص 44
(2) المحجة في سير الدلجة: مرجع سابق ، ص 46
(1) لسان العرب : 8/444
(2) الترويح وأوقات الفراغ في المجتمع المعاصر : كمال درويش ومحمد الحمامصي . مكة ، مركز البحوث التربوية ، جامعة أم القرى ، 1406 هـ ، ص 33
(1) التعليم الذاتي بين النظرية والتطبيق : أحمد محمد العلي . الكويت ، ذات السلاسل ، 1408 هـ ، ص 26 .
(2) تقييد العلم : الخطيب البغدادي . تحقيق / يوسف العشي . دار إحياء السنة النبوية . الطبعة الثانية ، 1394 هـ ، ص 124
(1) المسلم قارئا ومثقفا : جاسر الجاسر . مجلة البيان ، عدد 22 ، لندن ، المنتدى الإسلامي ، 1411 هـ ، صلى الله عليه وسلم 54 – 57
(1) تقييد العلم : مرجع سابق ، ص 60
(1) سوانح وتأملات في قيمة الزمن : خلدون الأحدب . جدة ، مكتبة دار الوفاء ، 1407 هـ ، ص 53 .
(1) جامع بيان العلم : مرجع سابق ، 1/105
(2) جوانب التربية الإسلامية الأساسية : مقداد لحن . بيروت ، دار الريحاني ، 1406 هـ ، ص 325 - 328
(3) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم : ابن الجوزي . الهند ، حيدر أباد ، دائرة المعارف العثمانية ، 1359 هـ ( 10 أجزاء ) ، 9/214
(1) سير أعلام النبلاء : مرجع سابق ، 13/250 - 251
(2) النوم .. أسراره وخفاياه : أنور حمدي ، ص 379
(1) النوم .. أسراره وخفاياه : ص 379
(2) فضائل الصحابة : مرجع سابق ، 1/154
(1) الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون : مروان كجك . الرياض ، دار طيبة للنشر والتوزيع ، الطبعة الثانية ، 1408 هـ ، ص 95
(2) بصمات على ولدي : طيبة اليحيى . الكويت ، مكتبة المنار الإسلامية ، الطبعة الثالثة ، 1409هـ ، ص 35
(3) الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون : مرجع سابق ، ص 106
(1) أصول التربية الإسلامية وأساليبها : عبد الرحمن النحلاوي . دمشق ، دار الفكر ، 1399 هـ ، ص 238
(2) جوانب التربية الإسلامية الأساسية : مرجع سابق ، ص 353
ا