سبعة مقالات في التربية الإسلامية
الدكتور/ صالح بن علي أبو عرَّاد
المقال الأول
كيف تنظر التربية الإسلامية للشخصية الإنسانية؟
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :
فقد تميز منهج التربية الإسلامية عن غيره من المناهج التربوية القديمة والحديثة بشموله لمختلف أبعاد حياة الإنسان الدينية والدنيوية ، وعنايته الكاملة بجميع جوانب النفس البشرية التي اختلفت و تباينت الطروحات الفكرية و الفلسفية في شأنها ؛ إذ إن معظم أنواع التربية التي عرفتها البشرية عبر العصور المختلفة لم تستطع أن تُحقق التكامل المطلوب ، أو الوصول إلى التوازن المنشود بين مختلف الجوانب والطاقات والقوى التي فطر الله الإنسان عليها وزوده بها ؛ فقد كانت كُلُ تربيةٍ منها تُعنى بجانبٍ واحدٍ من جوانب الشخصية الإنسانية على حساب الآخر ، أو تهتم بإحـدى الطـاقات مقابل إهمال غيرها .
ولعل خير مثالٍ على ذلك أن التربية اليونانية مثلاً قد اهتمت اهتماماً بالغاً بالجانب العقلي للإنسان في الوقت الذي أهملت فيه بقية الجوانب الأخرى ؛ في حين أن التربية الرومانية ركّزت اهتمامها على الجانب الجسمي مقابل إهمال غيره من الجوانب . أما التربية المسيحية فقد عُنيت كثيراً بالجانب الروحي للإنسان على حساب غيره من الجوانب الأخرى …وهكذا .
وعندما ننظر إلى التربية الإسلامية نجد أنها جـاءت بخـلاف ذلك كله ؛ حيث تميز منهجها التربوي بشموله لحياة الإنسان كلها ، وعنايته بجميع جوانب النفس البشرية المتمثلة في الأبعاد الرئيسة الثلاثة ( الروح ؛ والعقل ؛ والجسم ) ؛ دونما إهمالٍ أو مبالغة في حق أحدٍ منها على حساب الآخر . وهنا تجدر الإشارة إلى أن عناية التربية الإسلامية لا تتصف بمجرد الشمول لهذه الجوانب الثلاثة ؛ فهي مع شمولها تسعى إلى تحقيق التوازن المطلوب بينها دونما إفراطٍ أو تفريط . فللروح حظها ، و للجسم حقه ، و للعقل نصيبه .
و ليس هذا فحسب ؛ بل إن الارتباط و التداخل بين هذه الجوانب الثلاثة يبرز بصورةٍ لا يمكن معها فصلُ جانبٍ منها عن الآخر .
وبذلك يمكن القول : إن أبعاد أو جوانب الشخصية الإنسانية من منظور التربية الإسلامية ثلاثة فقط هي ( الروح ، والجسم ، و العقل ) . وهذه الجوانب الثلاثة هي الجوانب الرئيسة ؛ أما بقية الجوانب الأخرى - التي يُشير إليها كثيرٌ من الكُتاب في هذا الميدان - مثل الجوانب الأخلاقية ، و الوجدانية ، و المعرفية ،…إلخ ؛ فلا تخرج عن كونها جوانب متفرعة عن هذه الأبعاد الثلاثة الرئيسة أو مندرجةً ضمنها ؛ إلا أنها مع ذلك تحظى بحقها الكامل ، وحظها الوافر الذي يضمن لها أن تؤدي دورها المطلوب منها بكل ثقةٍ و اقتدار؛ فتكون المحصلة النهائية لذلك كله بناء وإعداد شخصية الإنسان المسلم بناءً كاملاً متكاملاً - بإذن الله - .
وفق الله الجميع لما فيه الخير والسداد ، والهداية والرشاد ، والحمد لله رب العباد .
المقال الثاني
هل التربية الإسلامية من العلوم الإنسانية ؟!
الحمد لله حمد الشاكرين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين ، وعلى آله وصحبه والتابعين ، أما بعد :
فقد جرت العادة في كثيرٍ من كتبنا و مناهجنا عند تقسيم العلوم والمعارف أن يتم تصنيف العلوم التربوية بمختلف فروعها وميادينها ضمن قسم العلوم الإنسانية التي جاءت تسميتُها بهذا الاسم ترجمةً لكلمة Humanities الإنجليزية ؛ ومعلوم أن العلوم الإنسانية مصطلح غربي يُقصد به مجموعة العلوم التي تهتم بدراسة الإنسان ، وتُعنى بكل شؤونه فهي بذلك تستمد مصادرها ، وتستقي مناهجها من فكر الإنسان ، وتجاربه ، و خبراته ، ومجريات حياته ، وتعتمد على ذلك اعتماداً كُلـيًّا .
وبناءً على هذا التعريف فإن العلوم الإنسانية مثل : (علم التربية ، وعلم النفس ، وعلم الاجتماع ، وعلم الاقتصاد ، وعلم التاريخ ، … إلخ ) ؛ تختلف اختلافاً كُليًّا وجذريًّا عن تلك العلوم الإلهية الشرعية التي تعتمد مصادرها ، و تُبنى مناهجها ، وتُستمد توجيهاتها من الوحي الإلهي والتشريع الرباني الذي جاء من عند الله سبحانه وتعالى ، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
وانطلاقاً من كون التربية الإسلامية -كما هو شائع عند الجميع -أحد فروع العلوم التربوية التي تُعنى بدراسة أصول هذه التربية ، وتاريخها ، وفكرها ، وأهدافها ، ومناهجها ، وأساليبها ،…إلخ من وجهة النظر الإسلامية ؛ فإنها في -حقيقة الأمر -تختلف اختلافاً جوهرياً عن بقية تلك العلوم التربوية فهي لا تنتمي إلى العلوم الإنسانية انتماءً كليًّا ؛ ولا يمكن القول بأنها تنضوي تحت لوائها بصورةٍ كليةٍ ومباشرةٍ لأنها علمٌ ثنائي المصدر حيث تعتمد في المقام الأول على الوحي الإلهي المتمثل في كتاب الله العظيم القرآن الكريم ، وسُنة الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم قوليةً كانت ، او فعليةً ، أو تقريريةً . فهي بذلك إلاهية المصدر في المقام الأول وهو ما يُعبر عنه بالمصادر الرئيسية للتربية الإسلامية .
كما أنها تُفيد كثيراً من مصدرٍ آخرٍ يُعد مصدراً فرعياً يشتمل على القسمين التاليين :
( أ ) تراث ومنهج السلف الصالح المتمثل في مجموع أفكار ، واجتهادات ، وآراء الفقهاء ، و العُلماء ، والمفكرين والمربين المسلمين ، التي لها علاقة بالمجال التربوي عبر العصور الإسلامية المختلفة .
( ب ) الصالح من الفكر التربوي المُعاصر والمُستجد : ويُقصد بذلك مجموع الدراسات والأبحاث والملاحظات العلمية والطروحات الفكرية التربوية المُعاصرة التي يُمكن الإفادة منها في مختلف القضايا والمشكلات التربوية ، مع مراعاة أن تتم الإفادة من الجانب الإيجابي فيها ، والذي لا يتعارض بأي حالٍ مع ثوابتنا الشرعية وتعاليم ديننا السمحة .
فهي بذلك إنسانية أو بشرية المصدر في المقام الثاني وهو ما يُعبر عنه بالمصادر الفرعية للتربية الإسلامية .
وبذلك يمكن القول : إن تصنيف علم التربية الإسلامية ضمن العلوم التربوية التابعة للعلوم الإنسانية والاجتماعية تصنيفٌ غير صحيح أبداً ؛ ولا يتفق بحالٍ من الأحوال مع الواقع ، الذي يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن علم التربية الإسلامية ليس علماً أُحادي المصدر ؛ وإنما هو علم ثنائي المصدر ؛ فهو يجمع بين الوحي الإلهي ( في الدرجة الأولى ) ؛ وبين المعرفة البشرية ( في الدرجة الثانية ) شريطة أن تكون هذه المعرفة البشرية ( قديمةً كانت أو حديثةً ) خاضعةً تماماً لما جاء به الوحي ؛ وغير متعارضةً معه .
وهذا يعني أن من الواجب علينا جميعاً في مدارسنا ، ومعاهدنا ، وجامعاتنا ، أن نبادر إلى تصحيح كل ما له علاقةٌ بهذا الخطأ الشائع الكبير الذي انجرفنا فيه مع التيار دونما تفكيرٍ ، أو تأملٍ ، أو تبصر ؛ وأن نعيد النظر في مناهجنا التعليمية ، وما تشتمل عليه من مفردات ، وموضوعات ، ومواد تعليمية هي في حاجةٍ ماسةٍ جداً إلى إعادة النظر ، والمراجعة ، والتصحيح ، و التنقيح ؛حتى تبقى لتربيتنا الإسلامية هويتها المميزة ، وخصوصيتها المصدرية التي تميزها عن غيرها من العلوم الأخرى .
وفق الله الجميع لما فيه الخير و السداد ، و الهداية و الرشاد ، و الحمد لله رب العباد.
المقال الثالث
هل التربية الإسلامية أُحادية أم ثُنائية المصدر ؟
الحمد لله الواحد ، والصلاة والسلام على النبي الماجد ، وبعد ؛
فلكل تربيةٍ من أنواع التربية قديمةً كانت أو حديثةً ، مصادر معروفة تستمد منها أصولها الثابتة الراسخة ؛ و تستقي منها منهجها وإطارها الفكري الذي نبع من تلك الأصول وتشَّكل في صورته النهائية . ومن ثم تتم ترجمته إلى واقعٍ مُعاشٍ و ممارساتٍ تربويةٍ ماثلةٍ للعيان .
ولأن التربية الإسلامية نابعةٌ من الدين الإسلامي الحنيف ؛ فإن مصادرها هي نفس مصادر الدين الإسلامي التي تعتمد عليها التربية الإسلامية في بناء و تحديد معالم نظامها التربوي .
وهنا أُشير إلى أن كثيراً من الكُتاب في عصرنا الحاضر قد أشاروا إلى أن مصادر التربية الإسلامية هي : ( القرآن الكريم ، و السُنة النبوية المطهرة ، وأقوال الصحابة والتابعين - رضوان الله عليهم - ، والإجماع ، و الاجتهاد ، و القياس ، و المصالح المرسلة ، ……إلخ ) . مستندين في زعمهم ذلك إلى أن مصادر التربية الإسلامية هي نفسها مصادر التشريع الإسلامي إلا أنني أرى - من وجهة نظري - أن ذلك أمرٌ ليس على اطلاقه ، ويحتاج إلى تمحيصٍ وتدقيقٍ وإعادة نظر ؛ فمصادر التربية الإسلامية كعلمٍ من العلوم التربوية تتمثل في المصادر التالية :
1) القرآن الكريم الذي يُعد المصدر الأول و الأساسي للتربية الإسلامية لما فيه من تشريعات إلهية و توجيهات تربوية ربانية تهدي إلى الحق ، و إلى الطريق المستقيم ، وتهدف إلى إصلاح النفس البشرية و إسعادها في الدنيا و الآخرة . قال تعالى : } إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ { ( سورة الاسراء : من الآية 9 ).
2 ) السُنة النبوية المُطهرة التي تُعد مصدراً رئيساً من مصادر التربية الإسلامية ، لما فيها من الهدي النبوي العظيم المستمد في الأصل من كتاب الله العظيم ، ولما فيها من توضيحٍ وبيانٍ لمنهج التربية الإسلامية الذي جاء مجملاً في القرآن الكريم ؛ إضافةً إلى كونها جاءت بتشريعاتٍ ، و توجيهاتٍ ، وآدابٍ نبويةٍ أخرى لم ترد في القرآن الكريم ؛ وإنما تم استنباطها من حياة الرسول e ومعالم شخصيته المتميزة التي جعلها الله سبحانه أُسوةً حسنةً و قدوةً متجددةً على مر الأجيال .
3 ) منهج وتراث السلف الصالح ويشمل مجموع اجتهادات ، وآراء ، وأفكار العُلماء ، والفقهاء ، و المفكرين ، و المربين المسلمين في مجال التربية عبر التاريخ الإسلامي ، إضافةً إلى ما تزخر به سيرهم الخالدة من مواقف تربوية مختلفة ؛ شريطة أن يكون هذا التراث متفقاً وغير متعارض مع ما جاء في كتاب الله العظيم و سُنة نبيه الكريم ، ومضبوطاً بالضوابط الشرعية ؛ و مُحققاً لأهداف التربية الإسلامية وغاياتها السامية.
4 ) الصالح من الفكر التربوي المُعاصر والمُستجد : ويُقصد بذلك مجموع الدراسات والأبحاث والملاحظات العلمية والطروحات الفكرية التربوية المُعاصرة التي يُمكن الإفادة منها في القضايا والمشكلات التربوية المختلفة ، لاسيما وأن المجال التربوي يُعد مُتطوراً ومُتجدداً وغير ثابتٍ أو مستقر ؛ فكان لا بُد من الانفتاح المُنضبط والإيجابي على مُختلف المعطيات الحضارية المُعاصرة شرقيةً كانت أو غربية ؛ للإفادة مما وصل إليه التقدم العلمي في مختلف المجالات ، مع مراعاة أن تتم الإفادة من الجانب الإيجابي فيها ، والذي لا يتعارض بأي حالٍ مع ثوابتنا الشرعية وتعاليم ديننا السمحة .
والمعنى ؛ أن مصادر التربية الإسلامية كعلمٍ تربوي تمتاز وتنفرد عن غيرها من أنواع التربية الأخرى بكونها تجمع بين نوعين من المصادر هما:
أ ) المصادر الإلهية ( الأصلية ) المتمثلة في المصدرين الأساسيين ( القرآن و السُّنة ) لأنهما يشتركان في كونهما جاءا وحياً من الله سبحانه ، فقد روي عن المقداد بن معد يكرب - رضي الله عنه- أن الرسولe قال : " ألا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه" ( رواه أحمد و أبو داود ) .
ب ) المصادر البشرية ( الفرعية ) التي تتمثل في كلٍ من : تراث السلف الصالح لهذه الأمة وفكرهم التربوي سواءً كان ذلك الفكر في الماضي أو الحاضر ، والصالح من الفكر التربوي المُعاصر والمُستجد ؛ شريطة أن يتفق هذا التُراث البشري قديماً كان أو حديثاً ، مع ما جاء في المصادر الأصلية ، ولا يتعارض معه بأي حالٍ من الأحوال .
المقال الرابع
المرادفات المستخدمة قديماً للدلالة على مصطلح التربية الإسلامية
انطلاقاً من كون التربية الإسلامية أحد أهم العلوم التربوية التي حظيت باهتمام وعناية العلماء والمفكرين المسلمين ، ونالت نصيباً طيباً من جهودهم العظيمة التي تمثلت في مجموعة الاستنباطات التربوية من القرآن الكريم ، و السُنة النبوية المُطهرة ، أو الدروس و التوجيهات التربوية التي توصلوا إليها من خلال كتاباتهم ، وتجاربهم ، و ملاحظاتهم المختلفة . فإنه يمكن القول : إن مصطلح التربية الإسلامية يُعد مصطلحاً علمياً حديث النشأة في المجال التربوي . ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن معروفاً من قبل إذ أن هناك مجموعةً من المصطلحات المرادفة التي ورد ذكرها مبثوثةً في كُتب وتراث سلفنا الصالح ، والتي استعملها بعضهم للدلالة على معنى التربية الإسلامية ، ومنها على سبيل المثال :
1) مصطلح التنشئة : و يُقصد به تربية الإنسان ورعايته منذ الصغر . وهو مصطلح قد يدل - على العموم – على معنى التربية ؛ إلا أنه لايفي تماماً بذلك . ويأتي من أبرز المستخدمين لهذا المصطلح العالم ابن خُلدون في مقدمته الشهيرة .
2) مصطلح التزكيـة : وتعني تطهير النفس البشرية بمختلف جوانبها ( الجسمية ، والعقلية ، والروحية ) من كل المساوئ الظاهرة و الباطنة ، مصداقاً لقوله تعالى : ] كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويُزكيكم ويُعلمكم الكتاب والحكمة ويُعلمكم ما لم تكونوا تعلمون[ ( البقرة : 151).
3) مصطلح التأديب : الذي يعني التحلي بمحامد الصفات السلوكية ، و التخلي عن قبائحها . و يشتق من هذا المصطلح تسمية المعلم مؤدباً ؛ و تسمية التعليم تأديباً ؛ وتسمية المعارف آداباً . وقد استخدم هذا المصطلح " التأديب " و" الأدب " بعض سلفنا الصالح مثل الإمام البُخاري في كتابه ( الأدب المفرد )، و أبو الحسن الماوردي في كتابه ( أدب الدنيا و الدين ) ؛ وغيرهما من العلماء ، والمربين ، والمفكرين المسلمين.
4) مصطلح الإصلاح : الذي يعني تعديل الشيء ، وتحسينه ، وتقويمه . و هو بذلك مصطلحٌ لا يؤدي المدلول و المعنى الكامل للتربية ؛ وإنما يؤدي جزءًا منه.
5) مصطلح التهذيب: ويُقصد به في العموم التسوية و التنقية ، ويعني تنقية الأخلاق ، والصفات ، والسلوك من كل رذيلة ؛ و تسويتها حتى تُصبح في أحسن حالٍ ؛ وأجمل صورة . وقد استعمل هذا المصطلح ابن مسكويه في كتابه ( تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ) .
6) مصطلح التطهير: الذي يعني التنـزه عن كل ما يشين النفس البشرية ؛ والبعد عن كل ما لا يليق بها من الأقوال و الأفعال و الصفات.
7) مصطلح التعليم : الذي يُعد مصطلحاً شائعاً تم استُخدمه للدلالة على معنى التربية عند بعض السلف في كتاباتهم ؛ مثل رسالة ( العالم و المتعلم ) للإمام أبي حنيفة النُعمان ؛ وكتاب ( تعليم المتعلم طريق التعلم ) لبرهان الدين الزرنوجي.
8) مصطلح السياسة : وهو مصطلح يُقصد به حُسن تدبير الأمور في مختلف شئون الحياة . وممن استخدمه في هذا الشأن العالم المسلم ابن الجزار القيرواني في كتابه ( سياسة الصبيان وتدبيرهم ) .
9) مصطلح الإرشاد ويعني بذل النصح للآخرين ودلالتهم على الخير ، وقد استخدم هذا المصطلح الحارث المحاسبي في رسالته ( رسالة المسترشدين ) .
وعلى الرغم من كثرة هذه المصطلحات فإن الملاحظ أنه ليس فيها مصطلحٌ واحدٌ مرادفٌ تماماً لمعنى التربية الإسلامية في تراث سلفنا الصالح ؛ إذ إن بعضاً من أعلام المربين المسلمين قد فضلوا استخدام مصطلح التأديب والأدب ؛ ومنهم من فضل استخدام مصطلح التعليم ؛ و منهم من استعمل مصطلح الإصلاح ؛ وهكذا. إلا أنه يمكن القول أن المرادفات المعروفة لمصطلح التربية الإسلامية على اختلافها وتعددها تُشير ـ بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة ـ إلى معنى التربية الإسلامية ؛ وتؤدي جزءاً من معناها الشامل لجميع جوانب حياة الإنسان .
المقال الخامس
هل الفطرة أصلٌ في تربية الإنسان المسلم ؟
تُعد الفطرة السوية التي خلق الله سبحانه الإنسان عليها أصلاً ثابتاً من الأصول التي قامت عليها تربية الإنسان المسلم انطلاقاً من قوله جل في علاه: ]فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكـثر الناس لا يعلمون[ ( الروم :30 ) . وحتى يمكن المحافظة على هذه الفطرة سليمةً صافيةً نقيةً كان لابد للإنسان من تربيةٍ تقوم على رعاية هذه الفطرة والعناية بها في كل شأن من شئونه ، وفي كل جانبٍ من جوانب حياته .
وعلى الرغم من أن معظم الأمم والحضارات،وكثيراً من المذاهب والفلسفات ؛ قد حاولت منذ فجر التاريخ إيجاد هذه التربية المطلوبة لرعاية الفطرة الإنسانية على الوجه الصحيح الذي يحقق للإنسان إنسانيته ، ويساعده على أداء رسالته في هذه الحياة ، إلا أن ذلك لم يتحقق بالصورة المطلوبة التي يرتضيها الله سبحانه لعباده في هذه الحياة الدنيا، حتى أَذِنَ الله ـ جل في علاه ـ ببعثة خير البرية ومعلم البشرية النبي الأمي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فجاء بدين الإسلام الحنيف وتـربيته الإسلامية العظيمة التي استقت أصولها وأصالتها ، وشمولها وتوازنها ، ووضوحها وعالميتها ، من كتاب الله العظيم وسُنة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
هذه التربية التي جاءت بمنهجٍ فريدٍ ومتميز يهتم بالإنسان كله ، و يُعنى بفطرته التي خلقه الله عليها ؛ فلا يُخالفها ولا يزيد عليها ، ولا يُنقِص منها ، و إنما يُوافقها و يسير معها في توافقٍ عجيبٍ ، و تكاملٍ بديعٍ بين مختلف جوانبها الروحية ، و العقلية ، و الجسمية ؛ التي تحظى جميعاً بالعناية ، والرعاية ، والاهتمام دونما إفراطٍ أو تفريطٍ ، أو زيادةٍ أو نقصان.
ومع أن التكامل بين مختلف جوانب شخصية الإنسان هو الأساس الذي تنطلق منه نظرة التربية الإسلامية المتوافقةِ مع الفطرةِ السويةِ؛ إلا أن من مستلزمات هذه الفطرة أن يحظى كل جانبٍ من جوانب شخصية الإنسان بحقه الكامل، وحظه الوافر من العناية، والرعاية، والاهتمام؛ لأن أي نقصٍ أو تقصيرٍ في ذلك إنما هو إخلالٌ بأحد مستلزمات الفطرة السوية التي على أساسها يتم بناء شخصية الإنسان المسلم بناءً صحيحاً.
ولماَّ كان للفطرة السوية هذه الأهمية الواضحة،والاهتمامُ الكبير في ديننا الإسلامي عامةً، وفي تربيته الإسلامية خاصةً، فإن ذلك يفرضُ علينا جميعاً أن نُعنى عنايةً خاصةً بسلامتها، وحمايتها، وصيانتها من كل ما من شأنه الإضرار بها، أو التأثير فيها سواءً أكان ذلك بطريقةٍ مباشرةٍ أم غير مباشرة.
المقال السادس
هل هناك علاقة بين الروح و العقل و الجسم في التربية الإسلامية؟
ينظر الدين الإسلامي الحنيف إلى الإنسان على أنه وحدةٌ واحدةٌ مترابطة الجوانب، متكاملة القوى. وعلى الرغم من أن لهذه الوحدة جوانب ثلاثة هي ( الروح ، والجسم ، والعقل ) إلا أنها تُشكِّل فيما بينها كياناً واحداً يعتمد في تكوينه على توازنٍ دقيق، وترابطٍ شديد، وتداخلٍ شائكٍ فيما بين هذه الجوانب الثلاثة التي تتضح العلاقة بينها في كونها تُشكل في مجموعها ما يُمكن تسميته بالأبعاد الأساسية لشخصية الإنسان، وبقدر ما بينها من توافقٍ وانسجام يكون تكامل هذه الشخصية . كما أن الترابط والتداخل بين هذه الجوانب الثلاثة قوي جداً لدرجةٍ يصعب معها إمكانية الفصل بينها.
وليس هذا فحسب بل إن العلاقة بين هذه الجوانب الثلاثة تتمثل في أن كُلاً منها يتأثر بالآخر ويؤثر فيه ، وما يؤثر في أحد هذه الجوانب يؤثر في الجانبين الآخرين ؛ ولعل خير مثالٍ يوضح مدى قوة العلاقة بين هذه الجوانب الثلاثة أنها قد تشترك مجتمعةً في العمل الواحد الذي يؤديه الإنسان، فالصلاة عند المسلم كما يُشير إلى ذلك الأستاذ/ محمد قطب " تشمل الكيان البشري كله في آنٍ واحد : جسمه ، وعقله ، وروحه . فنصيب الجسم هو الحركة من قيامٍ ، وركوعٍ ، وسجودٍ ، وتحركٍ ، وسكونٍ . ونصيب العقل هو التفكر فيما يتلوه المصلي من الأدعية والآيات . ونصيب الروح هو الخشوع ، والتقوى ، والتطلُّع إلى رحمة الله . وكلُ ذلك في آن." [ 1 ] ( بتصرف من الكاتب ).
وهذا معناه أن العلاقة بين الجسم ، والعقل ، والروح ، تتلخص في أن التربية الإسلامية تسعى للإفادة الكاملة و التامة من طاقات وقدرات هذه الجوانب الإنسانية الثلاثة مجتمعةً ، وتسخيرها بصورةٍ متناسقةٍ لغرض تحقيق أهدافها السامية ، وغايتها الكُلية ؛ فالطاقات الجسمية – على سبيل المثال - تُستخدم لتحقيق معنى العبادة الخالصة انطلاقاً من قوله تعالى: }وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون { ( الذاريات : 56 ) . وللقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض انطلاقاً من قوله تعالى: }وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة{ ( البقرة : 30 ) . ولإصلاح الأرض وإعمارها على النحو الذي يتفق مع شرع الله العظيم ، ومنهجه القويم عملاً بقوله تعالى: } هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها{
( هود : 61 ).
و الطاقات العقلية تُسخَّر للتفكر والتأمل والتدبر في آيات الله الكونية العظمى التي انتدب الله سبحانه عباده إلى إعمال العقل فيها بقوله تعالى : } إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون { ( الرعد : 3 ). وقوله تعالى : } أولم يتفكروا في أنفسهم { ( الروم : 8 ). إضافةً إلى تسخير هذه القوى والطاقات للتعرف على سنن الله تعالى الكونية وقوانينه الإلهية، ومن ثم تسخيرها لخدمة الإنسان ونفعه تحقيقاً لقوله تعالى : } وسخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض جمـيعاً منه إن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكرون {( الجاثية : 13 ) .
أما الطاقات الروحية فتُوجَّه لاستمرارية التواصل مع الله سبحانه وتعالى ، والارتباط به ، والإخلاص له في كل شأنٍ من شؤون الحياة عن طريق أداء العبادات المفروضة ، وامتثال الطاعات المشروعة ؛ قال تعالى : }قل إن صلاتي ونسكي و محياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين { ( الأنعام : 162 - 163) .
وبذلك فإنه يمكن القول : إن العلاقة بين هذه الجوانب الثلاثة علاقة ارتباطٍ وتلازم إذ أنه لا يمكن أن يستغني جانبٌ منها عن غيره ؛ و لا يمكن أن تقوم الشخصية الإنسانية بدون تكامل هذه الجوانب الرئيسة وانسجامها مع بعضها .
المقال السابع
أبرز صفات المعلم السلوكية في الفكر التربوي الإسلامي ؟
الحمد لله حمد الشاكرين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين ، وعلى آله وصحبه والتابعين ، أما بعد :
فلا شك في أن المعلم يحظى في فكرنا التربوي الإسلامي بمنزلةٍ رفيعةٍ، ومكانةٍ ساميةٍ جعلت منه وريثاً شرعياً للأنبياء ( عليهم السلام ) في أداء رسالتهم الخالدة المتمثلة في هداية الناس وتعليمهم و إخراجهم من الظلمات إلى النور . وقد أشارت مصادر فكرنا التربوي الإسلامي إلى كثيرٍ من النصوص و الشواهد التي تُنوه بفضل المعلم ؛ و تُشير إلى كثيرٍ من صفاته و خصائصه التي تُميزه عن غيره ، وتُكسبه هويته الإسلامية المتميزة . ومن أبرز هذه الصفات و الخصائص ما يُمكن أن نسميه ( الصفات الخُلُقية و السُلوكية ) التي نُجملها في ما يلي:
1) أن يكون المعلم مُخلصاً في قوله و عمله و نيته : و معنى ذلك ألا يقصد المعلم بعلمه و عمله غير وجه الله سبحانه، طاعةً له و تقرباً إليه . كما يستلزم الإخلاص أن يبذل المعلم قُصارى جهده في الإحاطة بمختلف الجوانب التربوية و التعليمية التي تجعل منه معلماً ناجحاً، متصفاً بالإخلاص في السر و العلن.
2) أن يكون متواضعاً لله عز وجل ؛ متذللاً له سبحانه و تعالى فلا يُصيبه الكبر ولا يستبد به العُجب لما أوتي من العلم ؛ فإن من تواضع لله رفعه ؛ ولأن المعلم متى تحلى بالتواضع وقف عند حده ، وأنصف غيره ، وعرف له حقه ، ولم يتطاول على الناس بالباطل .
3) أن يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، متصفاً بالعقل و الروية ، و حُسن التصرف، و الحكمة في أمره ونهيه ؛ لأن ذلك كله نابعٌ من حرصه على حب الخير للناس ، و حرصه على دعوتهم إلى الخير و الصلاح.
4) أن يكون حسن المظهر جميل الهيئة ؛ إذ إن لشخصية المعلم و هيئته تأثيراً بالغ الأهمية في سلوك الطلاب و تصرفاتهم الحالية و المستقبلية . ثم لأن العناية بالملبس وأناقته دونما سرفٍ ولا مخيلةٍ مطلبٌ هام للمعلم حتى ترتاح لرؤيته العيون ؛ وتسعد به النفوس ، ويتأثر به الطلاب في هذا الشأن.
5) أن يكون صابراً على معاناة مهنة التعليم و مشاقها ؛قادراً على مواجهة مشكلات الطلاب و معالجتها بحكمةٍ و روية ؛ دونما غضبٍ ، أو انفعالٍ ، أو نحو ذلك.
6) أن يكون مُحباً لطلابه مُشفقاً عليهم ، مُتفقداً لهم في مختلف أحوالهم ، مشاركاً لهم في حل مشكلاتهم حتى تنشأ علاقة قوية وثيقة بينه و بينهم ؛ تقوم على الأخوة و الحب في الله تعالى.
7) أن يكون عادلاً بين طلابه ؛ متعاملاً معهم بطريقةٍ واحدةٍ يستوي فيها الجميع ؛ فلا فرق عنده بين غنيٍ و فقير ، ولا قريبٍ ولا غريب ، ولا أبيض ولا أسود . ثم لأن العدالة صفةٌ لازمةٌ ينبغي للمعلم أن يتحلى بها و أن يمارسها مع جميع طلابه ؛ فيعُطي كل طالب من طلابه حقه من الاهتمام ، والعناية ، والدرجات ، ونحو ذلك دونما ميلٍ أو محاباةٍ أو مجاملةٍ لطالبٍ على حساب الآخر.
وختاماً؛ فإن خلاصة الصفات الأخلاقية و السلوكية السابقة يمكن أن تجتمع في ضرورة أن يكون المعلم قدوةً حسنةً في قوله و عمله ؛ و سره و علنه ؛ و أمره و نهيه ؛ و جميع شأنه لأن القدوة الحسنة هي جماع الصفات الأخلاقية و السلوكية اللازمة للمعلم ؛ وخير ما ينبغي أن يتحلى به من سمات و صفات ؛ ثم لأن طلابه يعدونه المثل الأعلى لهم فهم يقلدونه ويتأثرون به في كل صغيرةٍ و كبيرةٍ من حيث يشعرون أو لا يشعرون ؛ فكان واجباً عليه أن يكون قدوةً حسنةً في إخلاصه وتواضعه ، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، وقدوةً حسنةً في حُسن مظهره ، وصبره على طلابه ، وحبه لهم ، وشفقته عليهم ، و عدله بينهم .
وفق الله الجميع لما فيه الخير و السداد ، و الهداية و الرشاد ، و الحمد لله رب العباد.
المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/59429