في تطور الذات الليبرالية ومعوقات تبيئتها

بقلم: مناف الحمد

بينما كان النقاش الذي شغل علماء الكلام حول صفات الذات الإلهية متمحوراً في جزء كبير منه حول كونها عين الذات أم مغايرة لها، ولم تأخذ الذات البشرية الاهتمام نفسه، وحجم الجدل الذي أخذته الأولى، فإن المتأمل للسبب الكامن وراء ذلك يستطيع أن يستخلص أن الانصراف عن مناقشة الذات البشرية وصفاتها إنما تأتى من اعتبارها وصفاتها أمراً مفروغاً منه فهي وصفاتها وغاياتها مملوكة للذات الإلهية. وهو ما يجعل النقاش الكلامي متصالباً مع النقاش الليبرالي الذي تكرس حول مفهوم الذات البشرية، وهل هي مثقلة جوهرياً، أم مجردة من العوارض في سعي هذه النظريات لوضع أساس فلسفي لمفاهيم الحق والحرية والاستقلالية؟



فقد كان الانتقال إلى الحرية الطبيعية بعد تجاوز مرحلتي الارستقراطية والمجتمعات الطائفية التي يتحدد فيها الفرد بموقعه في السلم الاجتماعي - حيث كان أهم ما يميز المجتمع القروسطي عن المجتمع الحديث هو انعدام حريته الفردية، فقد كان كل شخص في الفترة الباكرة مقيداً بدوره في النظام الاجتماعي، وكانت حياته الشخصية مقيدة بمجموعة من القواعد والواجبات التي لا يستثنى منها عملياً أي مجال من مجالات النشاط - كفيلاً بفتح نقاش حول ذات مثقلة بالعوارض الاجتماعية تمنحها السوق الحرة- التي ساهمت المساهمة الأكبر في تبدل بنية وذهنية الإنسان في العصور الوسطى - الفرص التي تهتبلها بجهدها وبإرادتها، وهو ما اعتبر بالانتقال إلى مرحلة أكثر تقدماً في تمحيص مفهوم العدالة ظلماً واقعاً على من لم تتح لهم الظروف الاجتماعية والطبيعية ما أتاحته لغيرهم، فأفسح المجال لمفهوم المساواة الليبرالية التي تبنت مبدأ تكافؤ الفرص الذي يعتبر فيه الفرد مجرداً من العوارض الاجتماعية والطبيعية والمكانة الموروثة.
ولكنه كان في نظر ليبراليين معاصرين كـ“راولز” مبدأ قاصراً على اعتبار أنه حتى الدافع الذي يحرض الشخص على استغلال إمكانياته في تحصيل الفرصة المتكافئة هو اعتباطي، فتمّ تجاوزه إلى التصور الديمقراطي الذي يقضي بأن الفرد مجرد من الصفات العرضية المنسوبة إليه، ويعتبر فيه الأنا سابقاً على غاياته.



هذه الذات المجردة من العوارض سابقة على غاياتها، ولكنها واقعة في محذور التجريد الكانطي الذي يعتبرها ذاتاً مفارقة متعالية، حيث لا يمكن ـ حسب كانط- أن نكون أنوات مستقلة بدون عالم من المعقولات كشرط مسبق. وهو ما حاول راولز تجنبه عن طريق الوضع الأصلي الذي يجعلها لا تغرق في التجريد ولا تنغمس في التجسيد الذي صبغها لدى الغائيين الذين اعتبروا أن وحدة الذات تتحقق من خلال التجربة عبر تحقيق اكبر قدر من المتعة، وهو ما جعل مفهومهم للذات وللعدالة خاضعا لظروف تجريبية لا تصلح لأن تجعل الأنا تأخذ مسافة عن غاياتها تحقق لها الاستقلالية، وجعل العدالة قيمة ثمينة، ولكنها لا توزن بالوزن الذي توزن به غايات أهم كغاية السعادة التي هي المنفعة الكبرى في نظر الغائيين كـ“جون ستيوارت مل” مع أن مفهوم السعادة ليس واحداً بالنسبة للجماعات المختلفة ولا بالنسبة للأفراد المختلفين .



إن الذات لا تكون مستقلة ما لم تتخلص من العوارض، وهو ما جعل راولز يتدرج في تخليصها من سماكتها عبر نظرية نحيفة للخير يتفق فيها أطراف الوضع الأصلي على منافع أساسية مشتركة بالحد الأدنى يشتق منها مبدآ العدالة، ومن هذين المبدأين تشتق قيم الخير أو نظرية ممتلئة للخير، وبهذا يبقى الحق ذا أولوية على الخير بالرغم من اشتقاق مبدأي العدالة من نظرية الخير النحيفة؛ لأن نحافتها لا تؤثر على هذه الأولوية، وفي الوقت نفسه تبقي الذات مستقلة وسابقة على غاياتها؛ لأنه حسب ما يقول راولز: ليست أهدافنا هي التي تحدد طبيعتنا بل قدرتنا على اختيار ما هو الأهم من هذه الأهداف، وهذه القدرة تتجلى في مبادئ العدالة وعليه “الشخص الأخلاقي هو ذات بغايات اختارها أساسا من اجل تحقيق الشروط التي تمكنه من صياغة نمط حياة يكون تعبيرا عن طبيعته بوصفه كائنا عاقلا حرا ومتساويا بقدر ما تسمح به الظروف”.



وجذر هذه القدرة على الاختيار ناتج عن أن تحصيل غايات للأنا إنما يتم بأحد طريقين : إما الاكتشاف وهو البعد المعرفي، أو الاختيار وهو البعد الإرادوي. فعندما ينفصل الأنا عن غاياته يقع تعويض هذا الانفصال بالبعد الإرادوي، حيث يرتبط الأنا بغاياته من حيث هو ذات مريدة ما تختاره. أما عندما يكون الأنا فاقدا للقدرة؛ أي غير قادر عن التميز عن غاياته، فإن فقدان القدرة يتم تعويضه بالفاعلية بمعناها المعرفي.متى كانت غايات الفاعل محددة مسبقا كانت صفة الفاعل إدراكية لا إرادوية.



أولوية الذات على غاياتها تعني أن الذات ليست نتاجا لصروف الدهر، وإنما هناك ذات ماثلة وراء الغايات والتطلعات ذات إرادة وقدرة على الاختيار. هذه الأولوية تشير إلى وجوب أخلاقي يعني ضرورة احترام استقلالية الشخص، واعتباره حاملا للكرامة بغض النظر عن الدور الذي يؤديه والغايات التي يسعى إليها.



إن الهوة التي تفصل بين آخر ما وصل إليه تطور مفهوم الذات وحيازاتها من جهة، وبين المفهوم الديني من جهة أخرى يمكن توضيحه بحصر علاقة الذات بحيازاتها بهذه الاحتمالات: أنا إما مالك لحيازاتي، أو حارس عليها وملكيتها لذات أخرى وهو تصور المسيحيين الأوائل الذين يعتبرون الملك جميعا لله والمنظومات اللاهوتية الأخرى، أو مؤتمن عليها ولا حاجة للزعم بملكيتي لها أو ملكية غيري، أو الادعاء الاجتماعي العام بالحق على الحيازات الطبيعية.
إن المشكلة كامنة في التوفيق بين الاحتمال الثاني الذي يعتبر الذات حارسة على حيازاتها -وهو ما تقره المنظومات اللاهوتية – من جهة وبين ما تشترطه الاستقلالية التي تتضمن ضرورة أن يكون ثمة حيازات لي بالمعنى التكويني القوي أو الضعيف أو أن يتكون ثمة حيازات مشتركة تملكها ذات مشتركة –حسب الراولزية- أو الائتمان بدون ملكية أحد من جهة أخرى .



وبغض النظر عن التطور الذي حصل للنظرية الليبرالية فإن القاسم المشترك بينها هو رفض مفهوم الحراسة الديني ؛ لأنه يجرد الذات من استقلاليتها وهو كفيل بدوره بإضعاف مفهوم العدالة الذي يفترض أن يكون سابقا على مفاهيم الخير .



إن الانشغال بالسؤال حول علاقة الصفات بالذات الإلهية يمكن أن يعتبر سبباً معوقاً لاستقلالية الذات؛ لأنه يعبر عن إهمالها، واعتبار ها ذاتاً محوزة مع ما تملكه لله، وما تفعله لا يعدو أن يكون استبطاناً لغايات مسبقة محددة سلفاً يقصر دورها على البعد المعرفي، ويلغي البعد الإرادوي الذي هو شرط الاستقلالية والكرامة. كما إن التذرع باستحالة تقديم الحق على قيم الخير، وإن كان محقاً في بعض الحالات، لا يصلح لرفض الطرح القائل بضرورة نقل النقاش حول الذات وصفاتها وغاياتها من طبيعته الإلهية إلى طبيعته البشرية، من السماء إلى الأرض.



ويرتبط بهذا النقاش أن أسبقية الذات ضرورة تقتضيها كثرة الذوات الذي ينطوي على مبدأ التفريد الذي يميز كلّ ذات عن الأخرى، والذي يسبق مبدأ الوحدة وهو ما يمثل أحد الفروض الأساسية التي لا بد من تبنيها، ونحن بصدد معالجة التعددية الثقافية الذي فرضه انبعاث الهويات والذي نتج بدوره كردّ فعل على قلب الحقائق وافتراض الوحدة سابقة على الكثرة.

المصدر: http://www.alawan.org/article13723.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك