الإقناع أسسه وأهدافه في ضوء أسلوب القرآن الكريم
الدكتور / خالد حسين حمدان
دراسة وصفيَّة تحليليَّة
ملخص البحث:
يستهدف هذا البحث من ضمن ما يستهدف العقل الإنساني باعتباره المنحة الإلهية التي كرم الله عز وجل بها الإنسان على غيره من المخلوقات، قال تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً"[1] فطرق ووسائل الإقناع- على اختلافها – يجب أن توظف لتحقيق الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، ألا وهي العبودية لله تعالى، قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ"[2]، وهذا يعني أن الإقناع يسعى إلى تأصيل العلاقة بين الإنسان وربه، بتأدية حق الله تعالى، والالتزام بأوامره سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه، وأداء العبادات المفروضة، كـما يسعى إلى إقامة علاقات طيبة بينه وبين الآخرين، وبينه وبين نفسه، كي يشعر بلون من الرضا عن ذاته، في عصر التمزقات النفسية والتوترات والعقد، التي لا حل لها إلا بالإيمان بالله، وممارسة الشعائر، وبذلك يتحقق له الخير الذي ننشده له، ومما ينبغي عدم إغفاله أن الإيمان لا يفعل فعله في النفوس لاستنهاضها لمجرد كونه إيمان يحمل في ذاته طاقة الاستنهاض، وإنما يحتاج في ذلك إلى شرط آخر هو الكيفية التي يكون بها تحمله، بحيث يدفع الإرادة إلى الفعل فيتم النهوض.. وهذا يقتضي ترشيد الفهم العقدي والتفعيل الإرادي للعقيدة في النفس
إن الإقناع من أجل الإيمان يفرض على أصحابه تقديم مفهوم الألوهية للإنسان على أنه حب، ورحمة.. ومن هنا فإن التناول لمفهوم الألوهية والحديث عنها يجب أن يتم بذكاء وحذق وحب وود، ولعل حديثاً واحداً يقرب الناس من مفهوم الدين والإيمان، ويفتح مغاليق قلوبهم ويقدم لهم الفائدة التي لا تستطيع أن تقـدمها الدراسات العلمية والتجارب المعملية.
Abstract:-
This paper expounds diverse persuasion methods and techniques, which should be employed to achieve the mission for which man is created i.e. submission to Allah. This means that persuasion seeks to strengthen man's tie with his Lord, wherewith man performs his Lord's due duty, abides by His commands, refrains from His proscriptions, and develops good relations with self and others. Consequently, man attains self-content in an age full of mental stress, anxiety and conflicts. Such problems would never be solved without faith in Allah and performance of man's duties towards Him.
However, faith does not influence man just because it has a driving power; it also requires another condition embedded in the way it is borne. Faith must push the will to act. This necessitates rationalizing the concept of faith and activating its will in the human soul.
Persuasion for faith offers the concept of Theism as a form of love and mercy. Thus, treating the concept of Divinity must be creative, skilful and loving. Perhaps, a single Hadith might bring people nearer to the concept of faith, unlock shuttered hearts and offer the kind of help that scientific and empirical studies cannot offer.
مقدمة البحث:-
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:-
فإن موضوع البحث الذي نتناوله من أهم وأخطر الموضوعات ذات العلاقة بالدين الإسلامي على وجه الخصوص، والموضوعات الأخرى على وجه العموم، ذلك أن مخاطبة العقول والقلوب فن لا يجيده إلا من يمتلك أدواته، ورغبة في الوصول إلى تحقيق الهدف من الإقناع فإن مما تحسن العناية الشديدة به نشر هذه الثقافة، ثقافة الإقناع وفنون الحوار وفن الاستماع وتقمص شخصية الآخر في محاولة لفهم دوافع موقفه، لذلك ينبغي أن نتعرض أولاً لمفهوم الإقناع ونتعرف على مكوناته، من هنا يمكننا تعريف الإقناع بأنه:- العملية أو الطريقة التي يتم عن طريقها انتقال المعرفة من شخص لآخر، أو مجموعة أشخاص حتى تصبح قاسماً مشتركاً وتؤدي إلي التفاهم بينهم.[3]
وبذلك يصبح لهذه العملية عناصر ومكونات، ولها اتجاه تسير فيه وهدف تسعى إلي تحقيقه ومجال تعمل وتؤثر فيه.
أهميَّة البحث:-
يعتبر الإقناع ركيزة مهمة من ركائز العمل الإسلامي الذي يهدف إلى دعوة الناس إلى دين الله ولدراسة المواقف أهمية بالغة لما يعتقد من وجود علاقة قوية بين كل من المعتَقد والموقف والسلوك، إذ أن الموقف هو تلخيص لمجموعة واسعة من المعتقدات، كما أنه هو المدبر والموجه للسلوك... فإذا استطعنا تغيير معتقد إنسان ما، تجاه قضية معينة، نستطيع عندها أن نغير موقفه ومن ثم سلوكه لتصب تصرفاته في الهدف الذي رسمنا له، وهذا ما يزيد من أهمية معرفة الأساليب والطرق التي تؤدي إلى الإقناع ليتزود بها كل العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، إذ لا يمكننا أن نكره أي إنسان على اتخاذ موقف ما، أو أن يتصرف بطريقة معينة، لأنه مجبول بطبعه على رفض الإجبار والتمرد عليه ولو كلفه حياته.
تروي بعض الأساطير أن الشمس والرياح تراهنتا على إجبار رجل على خلع معطفه ؛ وبدأت الرياح في محاولة كسب الرهان بالعواصف والهواء الشديد والرجل يزداد تمسكاً بمعطفه وإصراراً على ثباته وبقائه حتى حل اليأس بالرياح فكفت عنه ؛ واليأس – كما يقال - أحد الراحتين. وجاء دور الشمس فتقدمت وبزغت وبرزت للرجل بضوئها وحرارتها فما أن شاهدها حتى خلع معطفه مختاراً راضياً...
إن الإكراه والمضايقة توجب المقاومة وتورث النزاع بينما الإقناع والمحاورة يبقيان على الود والألفة ويقودان للتغيير بسهولة ويسر ورضا . إن الإقناع لغة الأقوياء وطريقة الأسوياء ؛ وما التزمه إنسان إلا كان الاحترام والتقدير نصيبه من قبل الأطراف الأخرى بغض النظر عن قبوله.
والقرآن الكريم والسنة المطهرة وهما نبراس المسلمين ودستورهم وفيهما كل خير ونفع قد جاءا بما يعزز منهج الإقناع ويؤكد على اقتفاء أثره ، فآيات المحاججة والتفكر كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها وكالملك الذي حاج إبراهيم u في ربه وكمناقشة مؤمن آل فرعون قومه؛ وأما الأحاديث فمن أشهرها حديث الشاب المستأذن في الزنا ؛ وحديث الصحابي الذي رزق بولد أسود ؛ وحديث الأنصار بعد إعطاء المؤلفة قلوبهم وتركهم ؛ كل هذه النصوص مليئة بالدروس والعبر التي تصف الإقناع وفنونه وطرائقه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ولا يخفى أن الإنسان في حياته اليومية يتعرض لعشرات من المحاولات الإقناعية، فأنىّ توجه ومهما عمل فهنالك من يحاول تغيير رأيه أو موقفه حول شيء معين، هذا، ولا يقتصر الإقناع على الأفراد، بل هنالك جمعيات ومؤسسات وحكومات تحاول إقناع الناس بإتباع مواقفها، وتنفق المبالغ الطائلة لتحقيق هذه الغاية، ولو أدَّى ذلك إلى تحطيم أو قتل وجهة النظر المعادية، وذلك من خلال تزويد الناس بمعلومات يختلط فيها الوهم مع الحقيقة، بشكل يصعب معه على الفرد العادي التمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير ذلك، هذه المبالغ الطائلة التي أنفقت وتنفق، ليس إلا من أجل لعاعة من لعاعات الدنيا، الأمر الذي يحتم على العاملين في حقل الدعوة الإسلامية أن يسترخصوا كل غالٍ ونفيس في سبيل إقناع الناس من أجل الدخول في دين الله، وليكن شعارهم اعمل ثم اعمل ثم اعمل حتى يتحقق لك ما تريد، ردَّاً على ما قاله أحد زعماء الإلحاد: " اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس"[4] وعليهم أن يحذروا من الوقوع تحت طائلة قول الله تعالى:"… وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلآ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"[5] كيف لا ودين الله هو الدين الأصلح لقيادة البشريَّة، بإعطائه الحلول الدائمة لكافة الاحتياجات الإنسانية، والميول المختلفة والأجناس العرقية الكثيرة، بلا فرق بين عبد أو أمير، أو رئيس أو مرؤوس، أو أسود أو أبيض وهو دين العقل والتسامح والمحبة وبساطته ووضوحه يجعله في القمة العالية بين الأديان خصوصاً بإعطائه الفرد الحرية التامة في اعتناق ما يريد دون إكراه أو إجبار.
قال تعالى:" ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..."[6] وكذلك قوله تعالى:" لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ...ٌ"[7]، ومنها كذلك قوله تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"[8]
.أسباب اختيار الموضوع:-
1- الإقناع أفضل وسيلة لنشر الدين ذلك أنه يخاطب العقول والأرواح قبل الأبدان ويحرك الفطرة الإنسانية والشعور العميق داخل الإنسان، والذي كان بالأمس من أسباب انتشار الإسلام في العالم بسرعة كبيرة ومذهلة.
2- الوقوف على الأساليب الإقناعية في القرآن الكريم، وكيفية الاستفادة منها في الدعوة إلى الله، بهدف نشر الدعوة الإسلامية، بدلا من أن نكون مستقبلين فقط لثقافات لا تتجانس وعقيدتنا وقيمنا.
3 - تأخر المسلمين في نشر معالم دينهم، بل ربما عدم التأثير في المتلقين والمدعوين بالشكل
المطلوب أو أحياناً عدم التأثير فيهم نهائياً، وذلك راجع إلى:-
أ - نقصان الخطاب الإقناعي عند القائمين بعمليَّة الإقناع، الذي يجعل المتلقين يفرون عنَّا
بدلاً من أن يفروا إلينا.
ب- عناد من يراد إقناعهم في كثير من الأحيان، ذلك أن الاقتناع عملية تبدأ من المقتنع نفسه
وهذا ما سنبينه في التمهيد.
خطة البحث:- تم تقسيم البحث إلى مقدمة،وتمهيد، وثلاثة مباحث،وخاتمة،وفيما يلي بيان ذلك:-
1- المقدمة، وقد اشتملت على أهمية البحث، وأسباب اختياره.
2- التمهيد.
3-المبحث الأول:- الأسس التي يقوم عليها الإقناع.
4-المبحث الثاني:- الأهداف والغايات التي يستهدفها منهج الإقناع.
5-المبحث الثالث:- فن الإقناع.
6- خاتمة، وتشتمل على أهم النتائج والتوصيات والمقترحات.
منهج البحث:- سلك الباحث في بحثه المنهج الوصفي التحليلي.
..تمهيـــــــــــــــد
الاقتناع عملية تبدأ من المقتنع نفسه
كتب المناظرات والردود والجدال والحجاج ومجالسها كثيرة وطويلة على مر العصور، لكن الخلاف يزداد ولا ينقص، فلا نكاد نرى فرقة تقنع الأخرى بل كثيراً ما نرى أن الفرقة الواحدة تنشق فتصبح فرقاً متعددة، مع أن كلَّ فرقةٍ تزعم أنها على الحق وأنها تحتكم إلى العقل! والحقيقة أنه بعد نظر طويل وتفكير في هذا الأمر تولدت لدي "قناعة" أنه لا يمكنك أن تقنع أحداً إلا إذا أراد هو الاقتناع، فلا يمكن أن يقتنع أحد بأي حجة مهما كانت واضحة ومنطقية ما لم يكن طالباً للاقتناع راغبا فيه.
والسبب في ذلك أن الإقناع عملية تتكون من شقين:-
الأول:- المعرفة العقلية، وهذه يسهل توفيرها لمن يراد إقناعه من خلال سرد الأدلَّة التي يجب أن تكون واضحة وواضحة جدَّاً، وباتباع الطرق السليمة للتفكير يمكن الوصول إلى حجج عقلية منطقية قابلة لأن تؤدي إلى قناعات[9].
الثاني:- القبول القلبي، فإن النتيجة المنطقية الناتجة عن التفكير السليم ما لم يستقبلها القلب ويطمئن إليها لا تفيد شيئاً. لكن إذا قبلها القلب صارت قناعة وتولد منها الإيمان.
فالاقتناع - إذن - معرفة الشيء بالعقل، ومن ثم قبوله بالقلب، أما المعرفة العقلية دون القبول بالقلب فهي جحود. ولذلك قال الله تعالى عن فرعون وقومه:
"وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ"[10]، فهم عرفوا الحق لكن لم تنقد له قلوبهم، لا لضعف الحجَّة ولا لخفاء الدليل بل لأنهم -لظلمهم وإرادتهم للعلو- ما أرادوا الاقتناع، فلدينا الآن جهل وتكذيب وجحود، فالجهل عدم العلم من الأساس، والتكذيب عدم قبول العلم لمانع عقلي، وأمَّا الجحود فهو القبول العقلي مع رفض الانقياد والقبول القلبي.
وسبب هذا الأخير في الغالب الكبر، ولذلك كان الكبر أكبر موانع قبول الحق، ولا يمكن إزالته بمخاطبة العقل فقط، بل لابد من مخاطبة القلب بالترغيب تارةً وبالترهيب أخرى، وهذا ـ عند التأمل ـ هو أسلوب القران الكريم.
إنّ القرآن الكريم يأمر وينهي بمختلف التعبيرات والوسائل، ويذكر الدليل تلو الدليل، ويعتمد على الفطرة وعلى المرتكزات الراسخة عند الإنسان وعلى العِبر التي يمكن استخلاصها من الأمم السالفة، ويذكّر دائماً برحمة الله تعالى ومحبته ونِعمه على عباده وعلمه بمصالحهم، كل ذلك من قبيل مخاطبة القلب، ولعلَّه من المناسب هنا أن نسرد طائفة من الآيات في سياق الترغيب، تليها أخرى في سياق الترهيب، فمن آيات الترغيب قوله تعالى: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"[11]
وقوله تعالى: "أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً"[12]
وقوله تعالى: "إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ"[13]
ومن آيات الترهيب قوله تعالى: "وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ"[14]،
وقوله تعالى:"وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً"[15] وقوله تعالى:"فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ "[16]
المبحث الأول
الأسس التي يقوم عليها الإقناع
أولاً:- يسر الدين في مضمونه، ووضوحه في لفظه ومعناه:-
يقوم الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، هذه العقيدة السهلة لا تتطلب خبرة طويلة أو تجربة عميقة، ولا تثير أية مصاعب عقلية للفهم والاستيعاب، بل إنها تخاطب أدنى المستويات العقلية والإدراكية في الإنسان، نظراً لخلوها من التداخلات والحيل النظرية أو اللاهوتية، وبالتالي فإن أي فرد يستطيع أن يستوعب هذه العقيدة بسهولة ويسر، حتى أقل الناس خبرة بالأصول العقدية لهذا الدين.
وفي الحقيقة أن بساطة تعاليم الإسلام ووضوحها كانت من أبرز العوامل الفعالة في نشر الرسالة في مختلف المجالات وبين مختلف الأوساط، لأن فهم الدعوة الإسلامية لا يحتاج إلى قدرات فكرية واسعة، وملكات ذهنية كبيرة.
وتتميز دعوة الرسول r بالبساطة في اللفظ، والوضوح في المعنى، واليسر في المعالجة، وهو ما يتفق مع طبيعة هذا الدين ومنهجه في الدعوة، ولهذا لم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس، وأحيا الأخلاق، ورفع شأن الفضيلة في زمن قياسي كما فعل رسول الله ًًr، ويرجع ذلك إلى طبيعة هذا الدين الذي يخاطب فطرة الناس جميعاً، ويتعامل مع ظروفهم، ويلبي رغباتهم، ويعالج قضاياهم، ويرد على تساؤلاتهم، و يربط في تناسق وانسجام بينهم وبين واقع الحياة التي يعيشونها، وقد أراد الله تعالى أن ييسر للناس كباراً وصغاراً فهم الرسالة وإدراكها حتى يتمكنوا من استيعابها والعمل وفق معطياتها مصداقا لقول المولى عز وجل:"… يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ…"[17]
ثانياً:- الثراء والتنوع والتطور:-
تتميز الدعوة الإسلامية بالثراء في مادتها، والتنوع في أساليبها والتطور في معالجاتها، ويــأتــي ثـراء هـذه الدعـوة انطلاقــاً مــن النظـرة الشـمولية للدين الإسلامي الـذي جــاء شـاملاً جامعاً لحياة المسلميـن فـي شـــتى المجالات، فلم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتطرق إليها ابتـداءً من وضع أصول الحـياة الأسرية إلى إعداد الجيوش ومقاومة الأعداء، ويأتي ذلك مصداقاً لقول الحق جل وعلا:"...وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"[18] ومن ثم فإن القائمين بعمليَّة الإقناع لن يقفوا عاجزين عن الرد على تساؤلات السائلين، وعلامات الاستفهام التي تثور في أذهانهم حول أي مسألة تواجههم في أي زمان وأي مكـان، لأنهم سيجدون في دين الله U الردود الشافية لكافة التساؤلات.
كما تتميز الدعوة الإسلامية بقدرتها على التنوع في الأساليب والتعدد في معالجة كافة القضايا مع ثبات الركائز والأهداف، لأن عمليات الإقناع تحتاج إلى أسلوب القوة، كما تحتاج إلى أسلوب اللين، وقد تحتاج إلى أسلوب المواجهة بالخطأ، أو أسلوب المحاكمة العقلية أو أسلوب التعميم وعدم المواجهة، كما كَانَ النَّبِيُّ r أحياناً عند الإنكار إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلانٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا؟"[19] وعَنْ أَنَسٍ t أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ r سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ r عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"[20]،
وهنا يأتي دور القائمين بعمليَّة الإقناع وقدرتهم على استخدام الأسلوب المناسب في الموقف المـناسب والوقت المناسب وهم يقومون بدورهم الإقناعي، لأن دائرة الاختيار بين مختلف الأساليب ستكون واسعة ومتنوعة ومتعددة.
وتختلف أحوال عمليَّة الإقناع من وقت إلى آخر، ومن حال إلى حال بحسب مقتضيات الأحوال والأزمان، فقد يصلح أسلوب إقناعيٌّ في مخاطبة شريحة عمرية معينة، ولا يصلح مع غيرهم، وهنا يجب على القائمين بعمليَّة الإقناع أن يغيروا من أساليبهم بما يتناسب مع حال هذه الشريحة أو تلك، وقد يتطور الأسلوب الواحد من ترغيب إلى ترهيب أو العكس، وقد يتغير الموقف مع الـعدو من أسلوب المهادنة والصلح إلى أسلوب المواجهة والقتال أو العكس، لأن الأصل أن الأساليب الإقناعيَّة اجتهادية ومتطورة يمكن للقائمين عليها أن يطوروا فيها بحسب مقتضيات عصرهم.
بهذا المنهج المتميز يستطيع العمل الإقناعي الموجه أن يجذب انتباهة الفئات المستهدفة ويشد اهتمامها ويرد على تساؤلاتها في الوقوف على تبريرات مفهومة وبسيطة ونهائية للأمور التي تحيط بهم، وهذا هو الذي يفسر الأسباب التي تجعـل تلك الفئات مستعدة لتقبل التفسير الذي يقدم إليها لاسيما عندما يأتي هذا التفسير من مصدر موثوق به.
.ثالثاً:- المنطق السليم والاستناد إلى البرهان الصحيح :-
مما لا شك فيه أن المرء ترتفع قيمته كلما ارتقت اهتماماته العقلية، من هنا فإن من أهم الأهداف الإصلاحية لهذا الدين هو تحرير البشر من ربقة التقليد والخرافات، وتنشئتهم على التفكير الحر، ولذلك حارب الإسلام الوثنية لأنها انحطاط بالعقل، وَعَمىً في البصيرة. وحين طلب بعض المرتابين المعجزات المادية التي تثبت صحة هذه الرسالة، كان رد الله تعالى عليهم أن ينظروا فيما احتوته آيات القرآن الكريم من دلائل عقلية وصور كونية، تثبت صحة ما تضمنته هذه الرسالة، وصدق حاملها، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى:"وَقَالُوا لَوْلا أُنِْزلَ عََلَيْه آياتٌ مِن رَّبِّه، قُلْ إِنَّما الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وإنَّما أََنَاْ نَذِيْرٌ مُّبِيْنٌ. أَو لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لََرحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون"[21]. وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون منطق العقل تاج هذه الحياة الإنسانية، قال تعالى: " قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"[22] كما كتب الله تعالى في لوح هذا الوجود أن يقوم رسول الله r داعياً إلى الحق بمنطق العقل هو ومن اتبعه بإحسان، وفي ذلك يقول U: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ"[23]
وما أكثر الآيات القرآنية التي تطلب من الإنسان أن يتفكر ويتدبر، ويطلق عقله ليستنبط به، ثم يعتبر من خـلال الـنظر إلى ما حوله من ظواهر طبيعية وحقائق علمية، وبالتمعن في جوهر الدعوة الإسلامية يتبين لنا أنها تهتم بتنمية الملكات العقلية لدى الناس جميعاً، لأن الإسلام دين يقوم على المنطق، ويستند إلى البرهان، ويأتي ذلك على رأس طرق التفاهم والـنقاش والجدل المفيد، كما يجعل النظر فيما خلق الله Y من أفضل أساليب الإقناع وأهـم مداخل الإيمان، وقد
ذكر القرآن الكريم العقل باسمه ومشتقاته نحو خمسين مرة[24]، وذكر أولي الألباب ستة عشر مرة[25]، كما ذكر أولي النهى[26]، ولهذا أمر الله U بالمحافظة على العقل لعظم شأنه وضرورة الحاجة إليه، لأن فقده يعني فقد شخصية صاحبه، ولأن الإخلال به يؤدي إلى التخبط والضلال، فحرَّم كل ما يؤثر عليه من المسكر والمفتر، ووضع عقوبة قاسية لمن ينتهك حرمته.
وبلغ تقدير الإسلام للعقل أن جعل معجزته ـ وهي القرآن الكريم ـ معجزة إلهية ترتبط به في كل زمـان وفي كل مكان، وما أكثر الآيات القرآنية التي تطلب من الإنسان أن يتفكر ويتدبر ويطلق سراح عقله ليستنبط ويعتبر من خلال النظر إلى ما حـوله من ظواهر طبيعية وأحداث تمييزاً له عن الكائنات الأخرى التي لا تسمع ولا تعقل ولا تعي. وفي ذلك يقول عز من قائل:" أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِّلآ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً"[27]
ومن ثم فإن الجدل العقلي تصعب ممارسته بمعزل عن حرية العقل، فليس للإنسان أن يجـادل إلا فيما لا يقتنع به، ولا أن يسأل إلا عما لا يطمئن إليه قلبه، وبالتالي فإن أبرز ما يميز دعوة الإسلام هـو ربطها بالعقل واحترامها له، حيث اشترط هذا الدين عـلى من يتلقون عنه ويدينون به أن يتلقوه بعقـولهم، وأن يـأخذوا أحكامه وتعاليمه بعد بحث وتمحيص، ومن لم يقتنع بعد ذلك فهو في حل من دخول هذا الدين، وحسابه على الله تعالى، والإسلام ليس في حاجة إليه، هذا وقد ضرب الصحابيُّ الجليل حاطب بن أبي بلتعة -t- الذي حمل رسالة الرسول r إلى المقوقس ـ حاكم مصر النصراني آنذاك ـ أروع الأمثلة في الإقناع بالحجة، والمخاطبة بالبرهان، حين تحداه المقوقس بعد أن تسلم منه رسالة الرسول r قائلاً: "إني سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عنّي، قال قلت: هلم، قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي؟ قلت: بل هو رسول الله، قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها؟- فـرد عليه حاطب في الحال وهو يعلم أنه يخاطب حاكم نصراني كبير- قال فقلت: عيسى بن مريم أليس تشهد أنه رسول الله؟ قال: بلى، قلت: فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه ألا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه إلى السماء الدنيا؟ - أي أن عيسى بن مريم الذي تؤمنون برسالته كان يستطيع هو الآخر أن يدعو على قومه بما يشاء، وينشر دينه دون مجهود أو معاناة، فما الذي منعه من هذا حتى يوفر على نفسه العناء والمشقة؟ وقد تسبب هذا الرد في إصابة المقوقس بدوار ووجوم، صمت بعدها ولم يجد ما يرد به على حاطب، سوى أن قال له: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم..."[28]
وهكذا نرى أن الإسلام قد حرص على أن يظل حكم العقل سليماً، لا يتسرب إليه ما يؤثر في حسن تصوره، لذلك اعتبر الخمر والميسر رجساً من عمل الشيطان، ومن ثم أوجب اجتنابها.
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"[29]
من هنا فإن من أهم الواجبات على القائمين بعملية الإقناع احترام العقل الإنساني، لأن الإسلام يضع الحجج العقلية والأساليب المنطقية على رأس طرق التفاهم والنقاش والجدل المفيد، كما يجعل فيما خلق الله أهم مداخل الإيمان بالله، والتصديق بما جاء به محمد r، ومن ثم فإن عليهم أن ينهجوا هذا النهج في مخاطبة الجمهور، ويجعلوا العقل حكماً في الدين، وفي الإيمان لأن المرء لا يكون مؤمناً إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى يقتنع بـه، فمن رُبّيَ على التسليم بغير عقل، والعمل بغير فقه، فهو قاصر الإيمان، حتى لو كان عمله صالحاً، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ y قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِد"[30] فليس القصد مـن الإيمان أن يُذلَّل الإنسان للخير كما يُذلَّل الحيـوان، بل القصد منه أن يرتقى عـقله وترتقي نفسه بالعلم، فيعمل الخير لأنه يعرف أنه خير، ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته.
رابعاً:- الإقناع بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن:-
تقوم الدعوة الإسلامية على أساس ثابت، ومبدأ راسخ في مخاطبة الجماهير بصفة عامة، ويعتمد هـذا المبدأ على الكلمة الطيبة، والحكمة البالغة، من غير عصبية أو عنف، لأن الحكمة تجعل القائم بعمليَّة الإقناع يقدر الأمور حق قدرها، كـما تجعله ينظر ببصيرة المؤمن ليرى حاجة الجمهور، فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوبهم من أوسع الأبواب، فتنشرح له صدورهم، ويرون فيه المنقذ لهم، الحريص على سعادتهم ورفاهيتهم وأمنهم ومستقبلهم.
قال تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ..."[31]
وقال تعالى: " يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ..."[32]
إذاً فالحكمة منة، ونعمة عظيمة من الله تعالى يمتن بها على من يشاء من عباده، وهي من الأشياء التي يمكن اكتسابها بالمراس والمران.
يعرف الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ الحكمة بأنها:" فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي[33]"
يقول السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسير قول الله تعالى:- "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"" [34] . أي: ليكن دعاؤك للخلق, مسلمهم وكافرهم, إلى سبيل ربك المستقيم, المشتمل على العلم النافع, والعمل الصالح، " بِالْحِكْمَةِ " أي: كل أحد على حسب حاله وفهمه, وقوله وانقياده، ومن الحكمة, الدعوة بالعلم, لا بالجهل, والبدأة بالأهم فالأهم, وبالأقرب إلى الأذهان والفهم, وبما يكون قبوله أتم, وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة, وإلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة, وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها, والنواهي من المضار وتعدادها، وإما بذكر إكرام من قام بدين الله, وإهانة من لم يقم به، وإما بذكر ما أعد الله للطائعين, من الثواب العاجل والآجل, وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإن كان المدعو, يرى أن ما هو عليه حق, أو كان داعيه إلى الباطل, فيجادل بالتي هي أحسن, وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا. ومن ذلك, الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها, فإنه أقرب إلى حصول المقصود, وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة, تذهب بمقصودها, ولا تحصل الفائدة منها, بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها..."[35]
ومن أصول الحكمة مراعاة حال الجمهور، إذ ليس من الحكمة استخدام أسلوب واحد في عمليَّة الإقناع مع الكبير والصغير، والرجل و المرأة، والمتعلم والجاهل، والرئيس والمرؤوس، والهادئ والغضوب ، بل لا بد من تنويع أسلوب المخاطبة كل بما يناسبه
"قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم ...ْ"[36]
إن المقنِع الناجح هو الذي يعطي كل إنسان ما يلزمه من أفكار وتوجيهات، ويحاول أن يقنعه بالأسلوب الذي يناسبه، ويناسب مداركه، ذلك أن من الحكمة إيضاح المعنى وبيانه بالأساليب المؤثرة التي يفهمها من يراد إقناعه وبلغته التي يفهمها حتى لا تبقى عنده شبهة، وحتى لا يخفى عليه الحق بسبب عدم البيان، أو بسبب عدم إقناعه بلغته، فإذا كان هناك ما يوجب الموعظة وعظ وذكر بالآيات الزواجر، والأحاديث التي فيها الترغيب والترهيب، حتى ينتبه ويرق قلبه، وينقاد للحق، فالمقام قد يحتاج إلى موعظة وترغيب وترهيب على حسب حاله، وقد يكون مستعداً لقبول الحق، فعند أقل تنبيه يقبل الحق، وقد يكون عنده بعض التمنع، وبعض الإعراض فيحتاج إلى موعظة وإلى توجيه وإلى ذكر آيات الزجر
والموعظة الحسنة هي الكلمة الطيبة التي تصل إلى عقل الإنسان وقلبه فيجد فيها الخير والسعادة، وهي التي تحمل له البشرى. وتأخذ بيده إلى طريق الحق والصواب، ولا تسيء إليه، ولا تعنفه أو تحط من قدره، وهي الكلمة الطيبة الرقيقة التي تلمس القلوب فترق لها، وتخالط النفوس فتهش لها وتفرح بها، وهي البلسم الشافي الذي يداوي الجـراح، ويخفف الآلام، ويشفي النفوس.
إذا فالحكمة في عمليَّة الإقناع أمر مطلوب، والقائم بعمليَّة الإقناع مأمور بتوخي الحكمة حين يمارس مهمَّته في إقناع الآخرين ومصداق ذلك قول الله تعالى "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"[37] وقوله تعالى:" قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ"[38]
وحينما طبق الصحابة yالحكمة في دعوتهم، وساروا على هدي المصطفى r ونهجه دخل الناس في دين الله أفواجا، وانتشر الإسلام في بقاع الأرض.
.خامساً:- التدرج المرحلي أثناء القيام بعمليَّة الإقناع.
التدرج هو واحد من أبرز الأسس التي يقوم عليها الإقناع، ويأتي ذلك في مقدمة الأساليب الفعالة لإقناع الإنسان، ذلك لأنه يتناسب مع طاقاته الاستيعابية وقدراته العقلية، فعن طريق التدرج يستقبل هذا الإنسان الرسالة على جرعات تتوافق مع إمكاناته وملكاته، وهذا المنحى الإسلامي يتفق مع سنن الحياة وطبيعة الخلق، فما تكونت الجبال إلا من الحصى، وما ناطحات السحاب إلا لبنات رصت فوق بعضها البعض.
والتدرج سنة كونية، وسنة شرعية أيضاً، ولهذا خلق الله السموات والأرض على مراحل، وكان قادراً على أن يقـول لها: كوني، فما تملك إلا أن تكون، ولكنَّه خلقــها في أيامٍ ستة، أي في ستة أطوارٍ أو أزمنة يعلمــها اللـه. كـما خلـق الإنســان والحيوان والنبات على مراحل متدرجـة، حيث مر الطفل في تطوره بمراحل متزامنة، كل مرحلة تنبني على ما قبلها، وتسلم لما بعدها، حتى أصبح على هذه الصورة التي خرج بها من رحم أمه إلى هذه الحياة الواسعة، وما النطفة والعلقة والمضغة والعظام إلا دليل قاطع على هذه السنَّة الكونيَّة، قال تعالى:
"َولَقَد خَلَقْنَا اْلإنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقةَ مُضْغَةً َفخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمَاً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ، َفتَبَاَركَ اللَّهُ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ"[39]، أي أن التدرج المرحلي قد ارتبط بحياة الإنسان نفسها منذ مولده وحتى وفاته، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى:" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ"[40]، ومن هنا نزَّل الله القرآن الكريم على الرسول r متدرجاً وفي ذلك يقول U: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عليه الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ ِبهِ فُؤََادَكَ، َورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً" و قال تعالى:"وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً"[41]
وتأتى سنة التدرج مناسبة لطبيعة البشر تيسيراً من الله عليهم، فحين فرض الفرائض على عباده كالصلاة والصيام والزكاة، فرضها على مراحل ودرجات حتى انتهت إلى الصورة الأخيرة، فالصلاة فرضت أول ما فرضت ركعتين ركعتين، ثم أقرت في السفر على هـذا العدد، وزيدت فــي الحضر إلى أربع، وهي الظهر والعصر والعشاء، فعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: "فرض الله الصَّلاة حين فرضهاُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلاةِ الْحَضَر"ِ[42]، والصيام فُرِضَ أوَّلاً على التَّخيير، من شاء صام، ومن شاء أفطر وفدى، أي أطعم مسكيناً عن كلِّ يومِ يفطُره، والـزكاة فُرِضتْ أوَّلاً بمكة مطلقة غير محددة ولا مقيدة بنصابٍ ومقادير، بل تركت لضمائر المؤمنين وحاجات الجماعة والأفراد حتى فُرِضَت الزكاة ذات النُّصُب والمقادير في المدينة، والمحرمات كذلك، لم يأت تحريمها دفعة واحدة، فقد علم الله سبحانه مدى سلطانها على الأنفس، وتغلغلها في الحياة الفردية والاجتماعية، فليس من الحكمة فطام الناس عنها بأمرٍ مباشر يصدر لهم، ولكن الحكمة تكمن فـي إعدادهـم إعـداداً نفسـياًّ وذهـنياًّ لتقبـلها، وأخذهـم بقانون التدرج في تحريمها، حتى إذا جاء الأمر الحاسم كانوا مهيئين فعلياًّ ووجدانياًّ إلى تنفيذه قائلين : سمعنا وأطعنا، ومن أوضح الأمثلة على ذلك هو ما تم من تحريم الربا والخمر على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي ، حتى نزلت الآيات الحاسمة في النهي عنها من سورة المائدة ، "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ"[43]
ولعل رعاية الإسلام للتدرج هي التي جعلته يبقي على نظام الرق الذي كان سائداً في العالم كله عند ظهور الإسلام، ولو تم إلغاؤه مرة واحـدة لأدى ذلك إلى زلزلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة في تضييق روافده ما وجد إلى ذلك سبيل، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حد، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرق بطريق التدرج.
وهذه السنة الإلهية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع مع الإنسان، إذا أريد استمالته وجـذبه ثم التأثير فيه وإقناعه، ولن يتحقق ذلك بين يوم وليلة، ومن ثم فإنه في البداية لا بد من الإعداد والتهيئة لذلك مع الأخـذ بعين الاعتبار سمو الهدف، ومبلغ الإمكانات، وكثرة المعــوقــات، وهو نفس المنهاج الذي سلكه النبي r في هـذا الــصدد حيـث تركزت مهمته خـلال ثلاثة عشر عاماً بمكة في تربية الجيل المؤمن، الذي يستطيع فيما بعـد أن يحمل عبء الدعوة وتكاليف الجهاد، وكان القرآن نفسه يعنى قبل كل شيء بتصحيح العقيدة وتثبيتها في النفس والحياة، أقوالاً وأعمالاً، قبل أن يعنى بالتشريعات والتفصيلات، ولهذا بدأ الإسلام أولاً بالدعوة إلى التوحيد وتثبيت العقيدة السليمة، ثم كان التشريع شيئاً فشيئاً. وفي هذا المعنى تقـول أم المؤمنين السيِّدة عائشة -رضي الله عنها- واصفة تـدرج التشريع ونزول القرآن بقـولها: "...إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلامِ نَزَلَ الْحَلالُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لا تَزْنُوا لَقَالُوا لا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا..."[44]، وكان صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتمد أسلوب التدرج فكان يقدم الأهم على المهم ويعلِّم شيئاً فشيئاً، ليكون أقرب تناولاً، وأثبت على الفؤاد حفظاً وفهماً.
روى ابن ماجة عن جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ r وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ[45] فَتَعَلَّمْنَا الإيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا"[46]
وروى البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ t حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: "إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ"[47]
من فوائد هذا الحديث الكثيرة: البدء بالأهم ثم المهم، إذ المطالبة بجميع الشرائع مرة واحدة توجب التنفير، وكذا إلقاء جميع العلوم على المتعلِّم دفعةً واحدةً يؤدي إلى تضييع الكل[48]، وفي الحوار الذي دار بين عمر بن عبد العزيز وولده الصالح عبد الملك ما يعد نموذجاً طيباً يقـدم للدعاة، ذلك أنه حين أراد هذا الخليفة الزاهد أن يعود بالحياة إلى هدي الخلفاء الأربعة بعد أن يتمكن ويمسك الخيوط في يديه، اعترض على ذلك ابنه عبد الملك الذي أنكر على أبيه عدم إسراعه في إزالة كل بقايا الانحراف والمظالم، فقال لأبيه: "يا أبتِ مالك لا تَنْفُذُ في الأمور؟ فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القـدور" ، فكان جواب الأب الفقيه المؤمن: "لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة" ، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه، وتكون فتنة"[49]، فما بالنا نستعجل استجابة الناس بعد أوَّل لقاء أو أوَّل تعارُف، وما بالنا نحكم عليهم دون أن نخـالطهم أو نصبر عليهم ؟!، وقد بين لنا المولى U الطريق الصحيح لدعوة الكبار والصغار إلى عبادته تعالى، وهو طريق الحكمة من خلال التدرج بهم، ومن الحكمة أن يفهم القائم بعملية الإقناع ماذا يريد، ويحدد هدفه، كما يحدد الوسيلة التي تناسب طبيعة جمهوره ، وهذا يعني وضع الشيء في موضعه الصحيح. والدعوة أولى من غيرها للعمل بالحكمة، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"[50]
وإذا كان للوقت دور مهم في إحراز النجاح لإقناع الناس، فإن للصبر أثره الفعال في تحقيق هذا الهدف.
في ضوء ما تقدم نستطيع القول أنه طالما أن التدرج سنة إلهية فلقد وجب إتباعها في مخاطبة الناس حتى لا يقعوا في المحظور وهو العجلة، وفي ذلك يقول عز من قائل: " ويََدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ َوَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولاً"[51]
وهكذا نرى أن كمال الدين، وتمام النعمة يتحققان بمنهج التدرج الذي نزل به، ولو نزل دفعة واحدة لشق الأمر على الخلق وصعب عليهم امتثال أحكامه، وفي هذا درس بليغ للالتزام بمنــهج الـتـدرج في مخاطـبة الناس، وقد تنبه السلف الصالح لهذه الحقيقة حين ساروا على نهج التدرج في مختلف الأمور حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه.
.المبحث الثاني
الأهداف والغايات التي يستهدفها منهج الإقناع
أولا:- التعريف الصحيح بالإسلام عقيدة وشريعة وتوضيح القيم البناءة التي يؤكد
عليها.
إن الغرض الأساسي من عملية الإقناع، هو إحداث تغيير في البيئة، أو في الآخرين، فالمقنع يقصد من قيامه بعمله التأثير فيمن يريد إقناعهم، من هنا فإنَّ القائمين بعمليَّة الإقناع سيرتقون بالمقتنعين ويأخذون بأيديهم إلى الطريق الصحيح، إذا التزموا بمعطيات هذا الدين واستمسكوا بأصوله، ذلك لأن القول بدون تطبيق لا يثمر ولا يجدي.
قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُون * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ"[52]
قال الإمام القرطبي: "استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله. أما في الماضي فيكون كذبا، وأما في المستقبل فيكون خلفا، وكلاهما مذموم"[53]. وهل يجني الذين يقولون ما لايفعلون، ويعظون ولا يتعظون ويرشدون ولا يسترشدون إلا سخرية العباد وسخط رب العباد، يخسرون دينهم ودنياهم وذلك هو الخسران المبين[54]
ذلك أن عقوبة من كان عالما بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه وإنما ذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله تعالى ومستخف بأحكامه وهو ممن لا ينتفع بعلمه، والتوبيخ إنما هو بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوما كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها وبخهم به توبيخا يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال تعالى: " أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ"[55]
وفي الحديث عن أسامة بن زيد t قال: سمعت رسول الله r يقول: يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه[56] في النار فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه"[57]
.ثانيا:- تأكيد المبادئ النبيلة التي يحث عليها الإسلام.
فإنَّ التأكيد عليها سيسهم في الارتقاء بأذواق المقتنعين وملكاتهم الفكرية والوجدانية، كما ستحقق لهم السعادة والاستقرار والراحة النفسية، فالفرائض التي ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه، عبارة عن تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بها ، وأن يظل مستمسكاً بها ما دام حيَّاً .
وكتاب الله Uوسنَّة النبي r يكشفان عن هذه الحقائق، فالصلاة عندما أمر الله U بها أبان الهدف من إقامتها، فقال عزَّ من قائل:"...وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر..."[58]
وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله e قال الله U إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ولم يستطل على خلقي ولم يبت مصرا على معصيتي وقطع النهار في ذكري ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ورحم المصاب ذلك نوره كنور الشمس أكلؤه بعزتي وأستحفظه ملائكتي أجعل له في الظلمة نورا وفي الجهالة حلما ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة"[59]
والزكاة إنما هي لغرس مشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين مختلف الطبقات، وقد نص القرآن الكريم على الغاية من إخراج الزكاة، فقال تعالى: "...خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا... "[60]
ومن أجل ذلك وسَّع النبي r في دلالة كلمة الصدقة التي ينبغي أن يبذلها المسلم، فعن أبي ذر t قال: قال رسول الله e "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة"[61]
وكذلك شرع الإسلام الصوم ليكون خطوة على طريق تحرر النفس من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكورة .قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"[62]
وإقراراً لهذا المعنى قال رسول الله e "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"[63]، وقال e "إن الصيام ليس من الأكل والشرب فقط إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم"[64]
والحج هدفه ليس إلا من صميم ما تقدم، قال تعالى: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ"[65]
فأركان الإسلام هي مدارج الكمال المنشود، وروافد التطهر الذي يصون الحياة ويعلي شأنها، ولهذا أعطيت منزلة كبيرة في دين الله، فإذا لم يستفد الإنسان منها ما يزكي قلبه، وينقي لبه، ويهذب بالله وبالناس صلته فقد هوى[66] قال الله تعالى :" إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى* وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى* جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى"[67]
..ثالثاً:- نشر ثقافة الإقناع وفنون الحوار وفن الاستماع وتقمص شخصية الآخر في محاولة
لفهم دوافعه ومواقفه…،.
ذلك أن هناك من يخاطب الناس على أنهم فئة واحدة، أو أن لديهم القناعات نفسها التي لديه، هذا الصنف تراه في نهاية المطاف يخاطب نفسه، وفي الوقت نفسه استطاع العديد من القائمين بعمليَّة الإقناع أن يصل الواحد منهم إلى شريحة كبيرة من الناس بسبب حرصه على مراعاة الفروق الفرديَّة التي ربما تكون عند البعض فطرية وعند الآخرين تحتاج إلى تنمية، كيف لا؟! وقد كان r شديد المراعاة للفروق الفرديَّة، فكان يخاطب كل واحد بقدر فهمه وبما يلائم منزلته.
عن أَنَسِ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ r وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ يَا مُعَاذُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلاثًا قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ إِذًا يَتَّكِلُوا ..."[68]
رابعاً:- تصحيح الصورة الذهنية الخاطئة التي بالتأكيد تتكون عند بعض الناس عن المسلمين. والتي ينبغي أن تكون في أولويات العمل الإقناعي الذي يجب أن يوجه إلى أولئك الناس، ويتم ذلك عن طريق تقديم الصورة الصحيحة للسلوك الإسلامي، وشرح أبعاده بطريقة موضوعية، وتوعية المسلمين في بلاد العالم المختلفة بدورهم الحـــاسم فـي هـذا الصدد عن طريـق التصدي للدعايات المغرضة، التي يحاول أعداء الإسلام الترويج لها.
خامساً:- تغيير استجابات الجماهير.
يحدث هذا عندما يحاول القائمون بعملية الإقناع التأثير على الجمهور ليغير موقفه في قضية معينة من الإيجاب أو السلب أو الحياد إلى موقف آخر، وقد يحاول القائمون بعملية الإقناع أنفسهم في بعض الأحيان التأثير على الجمهور ليتبنى موقفاً جديداً يختلف تماماً عن مواقفه السابقة وهذا أصعب أنواع الإقناع، لأنه يتطلب من الجماهير تغيير طريقة تفكيرها أو تغيير سلوكها كلية، ولكي يتسنَّى هذا للذي يقوم بعملية الإقناع لابد له أن يفهم أصول الاتجاه الإنساني وهي ثلاثة:-
أولاً:- العقيدة التي يؤمن بها الإنسان:-
وفي هذا إشارة إلى أنّ السلوك الإنساني لا يتبدل إلاّ بتبدل الاتجاه الداخلي للفرد، فالفرد لا يسلك سلوكاً مختلفاً ما لم تؤثر عليه قوة فكرية عظيمة تستطيع أن تصل إلى قرارة نفسه وأعماق وجدانه، فتغير اتجاهه الذاتي نحو العقائد والأفكار، وعندها فقط يتبدل سلوكه الشخصي أو الاجتماعي
ثانياً:- القضايا العاطفية المرصوصة بين لبنات تلك العقيدة:-
وهنا لابد من الإشارة إلى أنّ إيجابية طرح الأفكار المُقنِعة يؤدي إلى إيجابية القبول والاقتناع، ومثال ذلك، لو أن داعيةً حاول إقناع الآخرين بتطبيق أحكام الشريعة الإسلاميَّة عن طريق عرض العقوبات والجزاء الرادع مجرّداً من أي إشارة إلى الرحمة الإلهية والمغفرة والثواب الأخروي، فان ذلك الطرح لن يشجع المدعوين على الاقتناع بتلك الأفكار ما لم يلازمه طرح مواز للعفو والغفران الإلهي.
ثالثاً:- النية والقدرة على الاستجابة للمحفزات الخارجية:-
وقد ألمحنا سابقاً إلى أنَّه لا يمكن إقناع أحدٍ بأي حجة مهما كانت واضحة ومنطقية ما لم يكن طالبا للاقتناع راغباً فيه.
المبحث الثالث
فن الإقناع
في الوقت الذي يمتلئ فيه القرآن الكريم والسنة النبوية بالحوار بين الحق والباطل، يظلّ الاستمرار فيه والتأدب بآدابه مطلباً أساسياً، مع أنَّه ليس أمراً محتوماً أن يصل الطرفان إلى إقناع أحدهما الآخر، غير أنَّه يكفي من الحوار بيان الحجَّة. والمتأمل لعدد من الحوارات في القرآن الكريم، يجد أنَّها تصل للإقناع أحياناً وتصل إلى دحض الحجَّة أحياناً أخرى، مثل الحوار الذي دار بين إبراهيم عليه السلام والنمرود، فما آمن النمرود جراء الحوار، بل استمر على طغيانه وكبره، ولكنه بُهت واندحر، قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"[69] وقد يصل الحوار إلى تبيّن الجمهور لضلال الطرف الذي يوالونه فيتخلون عنه كما تخلى السحرة عن فرعون بعد حوار موسى عليه السلام له، قال تعالى:
"قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى* قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى* فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى* قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى* وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى فَأُلْقِيَ* السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى* "[70]
أمَّا ملكة سبأ، فنفعها الحوار وسلّمت لسليمان عليه السلام، وآمنت بالله ربّ العالمين.. قال تعالى: "قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"[71]
وفي كلّ هذه الأمثلة من الحوار تكون الوصية بالأدب، قال تعالى:" فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى"[72]، وقال تعالى: "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"[73].
وفي هذه الظروف التي تمرّ بها أمتنا ضعفاً وهواناً، نكون أشدّ حاجة إلى فهم أسس الإقناع، ونجد أنفسنا ملزمين بالحوار، لا لنتنازل عن مبادئنا ونتقارب معه كما هو مطلب الطرف الآخر، ولكن لنبين موقفنا وحجتنا للآخرين ونحقق الدعوة إلى ديننا، سواء لمن نحاورهم أو لمن يستمعون إلى حوارنا، وقد يحدث لهم ما حدث لسحرة فرعون..، وعلى أيّ حال إن لم يحصل هذا ولا ذاك، فليعلم المخالف أننا وإن كان لدينا ضعف تقني ونحوه من مظاهر الحضارة المادية فلسنا منهزمين فكرياً.
من هنا فإن مخاطبة العقول والقلوب فن لا يجيده إلا من يمتلك أدواته، وإذا اجتمعت مع مناسبة الظرف الزماني والمكاني أثرت تأثيراً بالغاً، ووصلت الفكرة بسرعة البرق. وهكذا كانت طريقة القرآن الكريم في تلمس حاجات الوجدان، وهكذا أيضاً كانت طريقة الأنبياء والمرسلين – صلوات الله وسلامه عليهم - وما عليك إلا أن تتأمل في أحاديث الرسول r لتستلهم منها كنوزاً في إقناع النَّاس، وإليك نموذجاً نبوياً يتعلق بهذا الشأن.
عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَأَخَذَ مِنْهَا غُصْنًا يَابِسًا فَهَزَّهُ حَتَّى تَحَاتَّ وَرَقُهُ ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا عُثْمَانَ أَلا تَسْأَلُنِي لِمَ أَفْعَلُ هَذَا قُلْتُ وَلِمَ تَفْعَلُهُ فَقَالَ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ r وَأَنَا مَعَهُ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَأَخَذَ مِنْهَا غُصْنًا يَابِسًا فَهَزَّهُ حَتَّى تَحَاتَّ وَرَقُهُ فَقَالَ يَا سَلْمَانُ أَلا تَسْأَلُنِي لِمَ أَفْعَلُ هَذَا فَقُلْتُ وَلِمَ تَفْعَلُهُ قَالَ إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ هَذَا الْوَرَقُ[74] وَقَالَ: "وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ"[75]
إن تعلم تعبيرات الوجه والعناية بنظرات العين والاهتمام بالمظهر ربما يمثل نصف الطريق نحو إقناع الآخرين.
يمكنك أن تحظى بالنجاح في إقناع الطرف الآخر إلى الدرجة التي تستطيع فيها أن تمرر أفكارك إليه، فاعلم أن الذات لديه تشبه الحارس الذي يقف عند مدخل عقله الباطن، فلو قمت بإيقاظ الذات لديه، أو أثرتها أكثر مما ينبغي، فإن ذاته –ببساطة- لن تسمح لأفكارك بالمرور، إن هذا الأمر يشكل أهم نقطة في الموضوع كله، وعليك أن تضع ذلك في حسبانك وأنت تقوم بمهمتك في إقناع الآخرين، وفيما يلي إضاءات تعينك فيما تبغي الوصول إليه استخدمها بعد أن تسأل الله الإعانة والتوفيق وأن يشرح صدر صاحبك للحق وأن يرزقك الإخلاص في قولك وعملك.
أولاً:- لابد أن تكون مقتنعا جداً من الفكرة التي تسعى لنشرها، لأن أي مستوى من التذبذب سيكون كفيلاً أن يحول بينك وبين إيصال الفكرة لغيرك[76].
ثانياً:- استخدم الكلمات ذات المعاني المحصورة والمحددة مثل: بما أن ، إذن ، وحينما يكون .. الخ، فهذه الألفاظ فيها شيء من حصر المعنى وتحديد الفكرة، ولتحذر كل الحذر من التعميمات البراقة التي لا تفهم أو ذات معانٍ واسعة، يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير:" قبل أن أناقش أي شيء معك عليك أن تحدد ألفاظك"[77].
ثالثاً:-أترك الجدل العقيم الذي يقود إلى الخصام، فإنك إذا أردت أن تكون موطأ الأكناف ودوداً تألف وتؤلف لطيف المدخل إلى النفوس، فلا تقحم نفسك في الجدل وإلا فأنت الخاسر، فإنك إن أقمت الحجة وكسبت الجولة وأفحمت الطرف الآخر فإنه لن يكون سعيداً بذلك وسيسرها في نفسه وبذلك تخسر صديقاً أو تخسر اكتساب صديق، أيضا سوف يتجنبك الآخرون خشية النتيجة نفسها.
رابعاً:- حلل حوارك إلى عنصرين أساسيين هما:-
1- المقدمات المنطقية:- وهي تلك البيانات أو الحقائق أو الأسباب التي تستند إليها النتيجة
وتفضي إليها.[78]
2- النتيجة:- وهي:- ما تفضي إليه مقدمات الحكم[79]، وهي ما يرمي المُقْنِعُ الوصول إليها.
خامساً:- التـزم القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، قال تعالى:"وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً"[80] لأن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف، ومن الأدب، تحاشي استخدام ضمير المتكلم إفراداً أو جمعاً عند المناقشة والحوار، ومنه، ألا يفترض في صاحبه الذكاء المفرط، كما لا يفترض فيه الغباء المطبق وإنما يأخذه بحسب عقله ومداركه .
سادساً:- احرص على ربط بداية حديثك بنهاية حديث المتلقي لأن هذا سيشعره بأهمية كلامه لديك وأنك تحترمه وتهتم بكلامه، ثم بعد ذلك قدم له الحقائق والأرقام التي تشعره كذلك بقوة معلوماتك وأهميتها وواقعية حديثك ومصداقيته، كذلك قدِّم له الأدلَّة المثبتة أو المرجحة للدعوى، لقوله تعالى:"… قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"[81] ولذا قال العلماء: إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مدعياً فالدليل.
سابعاً:- أظهر فرحك الحقيقي – غير المصطنع – بكل حق يظهر على لسان الطرف الآخر، وأظهر له بحثك عن الحقيقة لأن ردك لحقائق ظاهرة ناصعة يشعر الطرف الآخر أنك تبحث عن الجدل وانتصارك لنفسك.
ثامناً:- اسمح للطرف الآخر بالحفاظ على ماء الوجه.
إن المهرة من القادرين على الإقناع، هم من يتركون الباب مفتوحاً حتى يتمكن الطرف الآخر من الهروب من موقفه السابق دون إراقةٍ لماء وجه، إنهم يتركون " فتحه " يستطيع الطرف الآخر أن يمر من خلالها وإلا فإنه سيجد نفسه وقد أصبح أسيراً لمنطقك، أنه لن يستطيع الإفلات من موقفه السابق، إنك إن قمت بإقناع شخص آخر، فلا تكتفي بإقناعه فحسب، بل لزاماً عليك أن تعرف أيضاً كيف تنقذه من منطق نقاشه نفسه.[82]
تاسعاً:– تحدث من خلال شخص ثالث.
إن التحدث من خلال شخص أو طرف ثالث له قيمته خصوصاً عندما يظهر خلاف في الرأي وترغب أنت من الطرف الآخر أن يؤمن على طريقتك ويتبنى رؤيتك، ولسبب ما فإن الناس يتشككون عادة فيك عندما تحكي عن أشياء كلها من صنعك ولمصلحتك، لذلك فإن ما يقوله الطرف الثالث لن يؤدي إلى إثارة " الذات " لدى الطرف الآخر بالقدر الذي يحدثه ما تقوله أنت ، ويمكن للإحصائيات وللتاريخ وللمقتطفات المقتبسة من أقوال المشهورين أن تقوم كلها مقام الشخص أو الطرف الثالث .
عاشراً:- الإنصات للآخرين.
لا تقاطعه، ودعه يعرض قضيته، وتذكر سحر "الإنصات"، إنك إن قاطعته أثناء عرضه فلن تقوم بجرح ذاته وصده فحسب، بل إنك تدخل فيما يسميه علماء النفس "الجهاز العقلي"، إن الشخص الذي يحمل شيئا في صدره تجد أنه يوجه كل جهازه العقلي صوب التكلم والتحدث، وإن لم ينته من ترديد مقطوعته، فإن جهازه العقلي لن يتحول إليك لكي ينصت إلى أفكارك، وإن كنت تريد لأفكارك أن تسمع ويصغى لها، فعليك أن تتعلم أولا أن تنصت إلى الطرف الآخر، فكما تتحدث باهتمام أنصت باهتمام وهذا مما يساعد المتحدث على الكلام ومتابعة كلامه بدقة ويشعر بتفاعلك معه واهتمامك به وعدم مقاطعته فقد كان رسول الله r لا يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه، ومن جاهد نفسه على هذا أحبه الناس وأعجبوا به بعكس الآخر كثير الثرثرة والمقاطعة، واسمع لهذا الخلق العجيب.
قال ابن إسحاق:("... حدِّثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا، قال يومًا وهو في نادي قريش، ورسول الله r جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة t ورأوا أصحاب رسول الله r يكثرون ويزيدون"، فقالوا: "بلى، يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه"، فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول الله r ، فقال: "يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَةِ[83] في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها"، قال: فقال رسول r: "قل يا أبا الوليد أسمع".
قال: "يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه" حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟" قال: "نعم"، قال: "فاسمع منى"، قال: "أفعل"، فقال: " بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ"[84] ثم مضى رسول الله فيها، يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما، يسمع منه، ثم انتهى رسول الله r إلى السجدة منها فسجد ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك".
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: "نحلف بالله لقد جاءكم أبوالوليد بغير الوجه الذي ذهب به" فلما جلس إليهم قالوا: "ما وراءك يا أبا الوليد"؟ قال: "ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به"، قالوا: "سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم").[85]
وإليك بعض إشارات الاهتمام:-
1- المحافظة على الاتصال البصري مع المتحدث، فنظراتك تحكم على اهتمامك.
2- الاعتراف والموافقة، وذلك بهز الرأس والابتسامة أحياناً، وهذا يبين أنك مخلص للمتكلم وبأنك منصت له[86].
3- الانتباه الكامل، وذلك بالابتعاد عن كل ما يشتت الذهن من العبث بالأقلام والمفاتيح أو النظر إلى الساعة وغيرها من إشارات عدم الانتباه[87].
4- سؤاله أن يعيد بعض النقاط المهمة.
إن سؤال الطرف الآخر أن يعيد بعض النقاط المهمة له قيمته أيضا، ذلك أنه عندما يأتي إليك أحدهم وقد فاض به الغضب والانفعال، فبمجرد أن تسمح له بإخراج ما في صدره فإن هذا السماح يعمل كثيرا على التقليل من شعوره العدائي المتحفز، وإن استطعت أن تقنعه بأن يعيد إدارة "شريط" شكواه لمدة دقيقتين أو ثلاث، فإن ذلك سيسحب بالفعل كل انفعالاته منه أو يستنزف البخار المغلي الكامن في صدره.
يذكر الدكتور/ علي الحمادي هذه الطريقة الرائعة في كسب الآخرين تحت عنوان (لا تفعل شيئا) فيقول: "لا تفعل شيئاً.. لا تتعجب كثيراً من هذه الطريقة فإنها طريقة ناجحة ومجربة وقد تم دراستها فوجدوا لها الأثر العظيم في توطيد العلاقات مع الآخرين، نعم لا تفعل شيئا كل ما عليك أن تنصت للآخرين وتستمع إليهم وتترك لهم الفرصة في الحديث والكلام واستفراغ ما في صدورهم والتنفيس عما في نفوسهم
قال الشاعر:
تكلَّم وسدد ما استطعت، فإنَّما كلامك حي والسكوت جماد
فإن لم تجد قولاً سديداً تقوله فصمتك من غير السداد سداد"[88]
0
0حادي عشر:- إدراك أسباب الكراهية.
من أساسيات الأقوياء، القادرين على إقناع الآخرين والاتصال بهم أنهم يدركون إدراكًا واضحًا أسباب تولد الكراهية عند الآخرين، والتي من أهمها: جرح الاعتبار الذاتي.
ما هو الاعتبار الذاتي؟
هو عاطفة من عواطفنا القوية، وهو موجود في كل واحد منا مهما تدنت منزلته الاجتماعية وقدراته العقلية، وعندما تجرح الاعتبار الذاتي لشخص ما فمن المرجَّح أن ذلك يستوجب غضبه السري والعلني، ويؤدي ذلك غالبًا إلى خسران أو تقليل أي شعور طيب نحوك.
صور من جرح الاعتبار الذاتي:-
هناك صور عدة لجرح الاعتبار الذاتي نمارسها في حياتنا اليومية دون أن نشعر، أو ربما نشعر ثم نستغرب لماذا يكرهنا الآخرون، أو يصعب علينا كسبهم! ومن هذه الصور التي يمارسها البعض في جرح الاعتبار الذاتي التقليل أوالتسفيه من آراء الآخرين[89].
الأقوياء يدركون تمامًا هذا السبب الرئيس في نشوء الكراهية، لذلك يتحاشونه، ويستبدلون به أطيب الكلام وأجمل العبارات امتثالاً لقول الله- تعالى-: "وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ لشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا"[90] ، وقول النبيr : ". . والكلمة الطيبة صدقة"[91]، ومتى ما أرادوا الانتقاد لما يرونه من أخطاء، فإنهم يقدمون بين يدي هذا الانتقاد:-
1 - مديحًا لخصال الخير في المقابل.
2 - عبارات أخلاقية مثل: "مع احترامي لرأيك"، أو "مع حبي وتقديري لك "، أو "رأيك هذا مع
ما فيه من وجاهة ويؤيدك فيه جمع من العلماء.. إلا أنه....".
3 - عدم تسفيه رأيه مباشرة أو سبه وشتمه، أو إظهار سوء نيته.
4 - ذكر نقاط الالتقاء والاتفاق مع الآخر.
5 - الابتسامة الآسرة.
والابتسامة لها رونق وجمال، وتعابير تضفي على وجه صاحبها الراحة والسرور، وهي أسرع سهم تملك به القلوب، وهي مع ذلك عبادة وصدقة، بل لقد رتب النبي r أجراً عليها، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ..."[92] وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ قَالَ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r "[93] وقد جمَّع الإمام البخاري رحمه الله أحاديث كثيرة للرسول r وبوَّب لها باباً سمَّاه: (باب التبسم والضحك)[94] دليل على الابتسامة التي كان يحرص عليها الرسول r، وللإمام مسلم في صحيحه كذلك أحاديث بوب لها رحمه الله باباً سمَّاه.. (باب تبسمه r وحسن عشرته)[95]
وهكذا كان الصحابة y فقد قيل لعمر t هل كان أصحاب رسول الله r يضحكون؟ قال: نعم والإيمان والله اثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي[96] .
فالأقوياء الذين يملكون قوة إقناع الآخرين وكسبهم لا يقتصرون على تجنب جرح الاعتبار الذاتي فحسب، بل إنهم يتعودون على إرسال رسالة مبكرة لمن يريدون الاتصال به قبل الكلام، رسالة من أقوى رسائل لغة الجسد تقول للمقابل: إنني أقبلك وأريد فتح باب للمحبة والصداقة معك، وما تلك الرسالة إلا "الابتسامة" التي تأسر القلوب قبل الأجساد، وتسقط الحواجز وكل المواقف السلبية المسبقة، ولذلك ارتقت إلى مرتبة الصدقة، كما أخبر نبينا r عندما قال: "...وتبسُّمكَ في وجهِ أخيكَ صدَقَة..."[97]
إنهم يبحثون عن الجوانب الطيبة فيمن يريدون كسبه، ولا يخلو إنسان من خصلة خير، إنما المشكلة فينا نحن عندما نعجز عن اصطياد هذه الخصلة.
فإذا كان الشخص الذي يراد كسبه اسمه "صالح" وجدوا المدخل في هذا الاسم الجميل: إنه اسم نبي من الأنبياء، ومعنًى من معاني الاستقامة والأمانة، والتقوى والإيمان، أو يبحثون في تاريخ عائلته، فربما يوجد أحد الصالحين أو العلماء أو المنفقين أو الأدباء أو القادة ممن يمكن الثناء عليه وتحفيز من يراد كسبه من خلال ذلك، وإذا ما عثروا على ذلك الجانب الطيب أثنوا عليه وشكروه على تلك المواقف النبيلة التي وقفها يومًا من الأيام، ومع ذلك فهم يغضون- عند البداية- النظر عن النواقص والعيوب، ويبتعدون عن الجدل والمراء وإبداء الخلاف، إنهم يدخلون في قلوب الناس قسرًا بما يقومون به من تقدير لمن يريدون كسبه، حتى نجد ذلك فيهم طبعًا لا يتكلفونه، وينتقون أجمل العبارات والكلمات الترحيبية، فإذا دخل من يريدون كسبه إلى المجلس يقول أحدهم: "مرحبًا" بصوت مرتفع: "أهلاً بأبي فلان" "نورت المجلس بقدومك" ثم يوسع له في المجلس، أو يقال له: "مرحبًا بالحبيب" وتأكيد ذلك بمعانقته مثلاً، هكذا يكسب هؤلاء الأقوياء الآخرين ليزدادوا قوة إلى قوتهم.
خاتمة البحث
النتائج والتوصيات والاقتراحات
أولاً:- النتائج:-
في خاتمة بحثنا هذا نسجل النتائج التالية:-
1- التعامل مع الإنسان من أخطر أنواع التعامل، لذا فإن التعامل معه يجب أن يكون حضاريَّاً ذلك أنه إذا ترتب على فساد القلب فساد الجسد كله، فإن في فساد الإنسان فساد للحياة، ليس إلا لأن الله تجلَّت قدرته إنما خلق الإنسان لعمارة الأرض، فكيف يعمِّرها إذاً وهو فاقد لهذا الإعمار؟ وهل فاقد الشيء يعطيه؟!
2- أثبتت الوقائع أنَّ الأهداف السامية، والغايات النبيلة، وفي مقدمتها دعوة الناس إلى دين الله، لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق الرفق واللين، لأن التحدٍّي ولو بالحجة الدامغة يبغِّضُ صاحبه للآخرين، والأصل أن تكون لغة الحوار شدواً نتبادله لا صخراً نتقاذفه.
3- الإقناع باعتباره أهم وسيلة من وسائل الدعوة إلى دين الله U فمن المؤكد أنَّه يحقق بإذن الله تعالى فوائد جمَّة إذا االتزم القائم به الأسس المنهجيَّة تجاه المدعويين من جهة، وتجاه نفسه من جهة أخرى، إذ أنه يرتقي بطريقته في التفكير والأداء، الأمر الذي يجعله مقبولاً من الآخرين بدرجةٍ أكبر، ويجعل احتمال اقتناعهم بأفكاره أكبر أيضاً.
4- القائم بعملية الإقناع غير الخطيب، وغير المدرس والمحاضر، ذلك أن المدرس والخطيب والمحاضر يأتيهم الناس ليستمعوا إليهم، هذا يعني أن أجواء الحوار ينبغي أن يغلب عليها الهدوء وبرودة الأعصاب، وعدم التشنج، والتعصب، الأمر الذي يجعل فرص الإقناع والاقتناع أوسع وأرحب.
ثانياً:- التوصيات:-
يوصي الباحث بما يلي:-
1- تكثيف الجانب الروحي والتهذيب النفسي للقائمين بهذه العملية – عمليَّة الإقناع -، فالعالم اليوم رغم تقدمه المادي، بل بسبب هذا التقدم متشوق إلى الصفاء الروحي والتنّزه عن الماديات، ولا بد من الاعتراف بأنّ مظاهر الكثير من العلماء لا توحي بهذا..
لا أقول إنّ القائم بهذه المهمَّة يجب أن يترك متعة الحياة الدنيا، فإنّ الإسلام يرفض الرهبانية، بل أقول أنّ نمو الوضع المادي المحيط بالإنسان يجب أن يرافقه نمو في الجانب الروحي لكي لا ينجرف، وهذا ما نطالب به بإلحاح..
2 - إن الدورات التي تتناول مهارات الاتصال وفنون الحوار والإقناع وطرق التأثير متوفرة على شكل كتب أو أشرطة سمعية ومرئية، لذا يوصي الباحث المربين والدعاة أن يوجهوا اهتماماتهم إليها ويعنوا بتقوية الخير والعلم الذي يحملونه بهذه المهارات البالغة التأثير على القلوب.
3 - إن ما سبق ذكره ، وما تم عرضه وبيانه ، يعد نماذج موجزة لموضوع الإقناع ، صادرة من ذهن مكدود ، وفكر قاصر ، وإن التفكير المتواصل والعمل الدؤوب قد ينبثق منهما أساليب كثيرة ، ووسائل عديدة ، تفوق ما سبق ذكره بمراحل ، فعليك أخي المسلم أن تبذل قصارى جهدك وتستفرغ وسعك في سبيل ابتكار وسائل جديدة لمجابهة ما يصنعه الأعداء من وسائل ، وما يعملوه من أساليب ، فهم على الرغم من الإمكانات الهائلة التي يملكونها ، من أموال طائلة وإعلام مؤثر ، وطاقات بشرية كبيرة ، إلا أن الحق يعلو ولا يعلى عليه ، وهو المنتصر في نهاية المطاف ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وهذا الصراع المتواصل بين الحق والباطل ، يتطلب منك أخي الداعية بل من الدعاة جميعًا أن يجعلوا الدعوة وهمّها نصب أعينهم ، بل تجري في دمائهم وتسري في عروقهم ، فلا يعطونها بقايا الأزمنة ، وفضول الأوقات ، وفتات الدقائق والساعات .
أخي القائم بعملية الإقناع:-
إن حماسك المتواصل والمتتابع، في سبيل إعلاء راية الحق لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، قد يجابه بقوة فتغلق في وجهك المنافذ والأبواب ، وتوصد دونك الأبواب، بابًا إثر باب ، فاصبر ولا تيأس ، فإن الصبر عنوان الظفر ، وكلما أغلق باب يسر الله من الخير أبواباً . قال تعالى:- "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً " [98]
ثالثاً:- الاقتراحات.
يقترح الباحث ما يلي:-
1 - إنشاء مراكز ثقافية تقدم دورات في فن التأثير على الآخرين وفن الخطابة وأصول الحوار
ووسائل الإقناع وفن التعامل مع المخالف.
2 - إقامة دورات في فن كتابة المقال الإقناعي وهكذا، على أن تكون هذه الدورات مجانية أو برسوم رمزية وتكون متاحة على مدار العام ويستفيد منها المهتمون بأمور الدعوة من خطباء ومحاضرين، ومن خلالها أيضاً تدفع المراكز إلى الساحة شباباً مثقفاً يبادر إلى ابتكار وسائل جديدة لإيصال العقيدة والعلم والفكر الصحيح إلى جمهور الناس على اختلاف شرائحهم.
3 – القيام بدراسات لمعرفة أكثر الأساليب تأثيراً على الشباب الذين هم بحاجة إلى من يجيبهم على كثير من الأسئلة الملحة التي تواجههم بطريقة تناسب تفكيرهم وتتعامل بشكل صحيح مع المنطلقات الفكرية التي تربوا عليها.
4 - إعداد موسوعة شاملة تجمع كل ما نشر من أبحاث ومؤلفات ذات علاقة بموضوع البحث لما يترتب على ذلك من سد للفراغ في المكتبة الإسلامية.
المصادر والمراجع
[1] - الإسراء: 70
[2] - الذاريات: 56
[3] - http:www. Aahm assaf@yahoo.com
[4] - قاله غوبلز وزير الإعلام الألماني في الحرب العالمية الثانية، انظر:
http://www.arabtimes.com/osama-all-2/doc2.html
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=19529
[5] - يوسف: 87
[6] - النحل: 125
[7] - البقرة: 256
[8] - يونس: 99
[9]- انظر الحوار في القرآن ص 29،30-37، محمد حسين فضل الله، - ط5،1407هـ1987م
دار التعارف، بيروت.
[10] - النمل: 14
[11]- الحجر: 45 - 49
[12]- الكهف: 31
[13]- يس: 55 - 57
[14]- الحجر: 50
[15]- الكهف: 29
[16]- هود: 106 ، 107
[17] - البقرة: 185
[18] - النحل: 89
[19] - سنن أبي داود، 4/250: 4788 ، الإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني
الأردي 202-275هـ، راجعه محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء التراث
العربي، بيروت - لبنان .
[20] - صحيح مسلم، 2 / 1020:1401، الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري
النيسابوري 206-261هـ ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت – لبنان
1403هـ-1983م
[21] - العنكبوت: 50 ، 51
[22] - العنكبوت: 20
[23] - يوسف: 108
[24] - انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ص 468، 469، محمد فؤاد عبد الباقي، دار
الفكر، بيروت
[25] - المصدر السابق، ص644
[26] - المصدر نفسه، ص722
[27] - الفرقان: 44
[28]- البداية والنهاية 4/ 272، الحافظ بن كثير، الطبعة الرابعة، 1402هـ- 1982م، مكتبة
المعارف، بيروت.
[29] - المائدة: 90
[30] - سنن ابن ماجة، 1 / 81 : 222، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، 207 – 275هـ،
تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، 1372هـ - 1957م
و سنن الترمذي، 4/ 153: 2823، الإمام محمد بن عيسى الترمذي، دار الفكر، الطبعة
الثانية، 1403هـ- 1983م، قال الإمام الترمذي:" هذا حديث غريب، ولا نعرفه إلا من هذا
الوجه، من حديث الوليد بن مسلم.
[31] - آل عمران: 159
[32] - البقرة: 269
[33] - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 2/479 ابن قيِّم الجوزيَّة، تحقيق محمد
حامد الفقي دار الرشاد الحديثة ، الدار البيضاء- المغرب.
[34] - النحل: 125
[35]- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 399، أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل
سعدي، 1307- 1376هـ، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، 1423هـ- 2002م
[36] - إبراهيم: 4
[37] - النحل: 125
[38] - يوسف: 108
[39] - المؤمنون: 12 - 14
[40] - الروم: 54
[41] - الإسراء: 106
[42] -فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1 / 464 : 350، للإمام الحافظ أحمد بن حجر
العسقلاني 773-852هـ، دار المعرفة، بيروت – لبنان، وصحيح مسلم1 / 478: 685
[43] -المائدة:91
[44] - فتح الباري 9 / 39.
[45] - جمع حزور، وهو الذي قارب البلوغ، انظر لسان العرب، مادة حزر 4 / 187، للإمام أبي
الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر بيروت.
[46] - سنن ابن ماجة 1 / 23: 60 ، في الزوائد: إسناد هذا الحديث صحيح، رجاله ثقات.
[47] - فتح الباري 3 / 357: 1496 ، و صحيح مسلم1 / 50, 51: 29
[48] - انظر الرسول المعلم وأساليبه في التعليم، هامش ص 77، عبد الفتاح أبوغدَّة، الطبعة
الثانية،1417هـ- 1997م دار البشائر الإسلاميَّة، بيروت
[49] - انظر العقد الفريد 1 / 39، الفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، ت: 328هـ،
تحقيق د. مفيد محمد قمبحة دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 1407هـ 1987م.
[50] - النحل:125
[51] - الإسراء:11
[52]- الصف: 2 - 3
[53] - الجامع لأحكام القرآن، 18 / 80، الإمام أبي عبد الله محمد الأنصاري القرطبي
[54] - مشكلات الدعوة والداعية، ص 69، فتحي يكن، مؤسسة الرسالة – بيروت، ط، 3 ،
1394هـ-1947م.
[55] - البقرة:44
[56] - الأقتاب:- الأمعاء، واحدها قِتب، انظر اللسان 1 / 661، ومعنى فتندلق فتخرج بسرعة،
انظر المصدر السابق 10 / 102
[57] - فتح الباري، شرح صحيح البخاري، 6 /331: 3267، صحيح مسلم، 4 /2290: 2989 .
[58] - العنكبوت:45
[59] - الترغيب والترهيب 1/204، عبد العظيم المنذري، 581- 656هـ، تحقيق إبراهيم شمس الدين، بيروت دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1417هـ
[60] - التوبة: 103
[61] - سنن الترمذي، 3/ 228: 2022.
[62] - البقرة:183
[63] - مسند الإمام أحمد بن حنبل، 2 / 452، دار الفكر.
[64] - صحيح بن حبان 8/255، محمد بن حبان، ت: 254هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة
الرسالة- بيروت، الطبعة الثانية، 1993م.
[65] - البقرة:197
[66] - انظر خلق المسلم، ص7– 10، محمد الغزالي، ط- دار القلم، دمشق 1400هـ- 1980م.
[67] - طـه: 74-76
[68] - فتح الباري، 1 / 225: 125، ومسلم، كتاب الإيمان، 1 / 240: 47
[69] - البقرة: 258
[70] - طه: 65 - 70
[71] - النمل: 44
[72] - طه: 44
[73] - النحل: 125
[74] - مجمع الزوائد، 1 / 297، علي ابن أبي بكر الهيثمي توفي سنة 807هـ، دار الريان
القاهرة 14074هـ.
[75] - هود: 114.
[76] - انظر تحكَّم في سلوكك الشخصي تحقق التميُّز والنجاح ص185، وفاء محمد مصطفى دار
ابن حزم
[77] - المصدر السابق.
[78] - انظر الإشارات والتنبيهات 1 / 460 وما بعدها، لأبي علي بن سينا، تحقيق الدكتور سليمان
دنيا، مؤسسة النعمان، بيروت، طبعة 1413هـ- 1992م، وانظر كذلك البرهان السينوي،
ص 24، 25 تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي، القاهرة 1954.
[79] - انظر معجم لغة الفقهاء، ص 475 أ.د. محمد روَّاس قلعةجي، د. حامد صادق قنيبي، ، دار
النفائس، الطبعة الأولى 1405هـ - 1985.
[80] - البقرة: من الآية83
[81] - البقرة: 111
[82] -انظر كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس ، ص 231، 232، دايل كارنيجي، مكتبة
مدبولي، 2002 م ، وانظر كذلك الدليل الدائم للنجاح مع الناس، ص 213، جيمس فان فليت
مكتبة جرير، الرياض، ط 1/ 2000.
[83] - المكانة.
[84] - فصلت:1- 5
[85] - سيرة ابن هشام 1 / 294، 293، ط2، 1375هـ، مصطفى البابي الحلبي وشركاه،
وجزء منه في المعجم الصغير للطبراني 1 / 265، ط 1403هـ، دار الكتب العلمية بيروت.
[86] - انظر المهارات الحياتيَّة، د. تغريد عمر وأخريات، ص 25 ، مكتبة زهراء الشرق،
ط 1 / 2000
[87] - انظر أسرار النجاح ومنطلقات التميز، محمد أحمد عبد الجواد، ص73، دار البشير
[88] - أمسك عليك هذا، ص84 د. علي الحمَّادي ، ط.1، 1997م.
[89] - انظر كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس، ص 142، 143، وانظر كذلك الدليل الدائم
للنجاح مع الناس، ص213.
[90] - الإسراء: 53
[91] - فتح الباري6 / 132 :2989 ، وصحيح مسلم 2 / 699: 1009.
[92] - سنن الترمذي، 3 / 228: 2022،
[93] - سنن الترمذي، 5 / 262: 3721
[94] - فتح الباري، 10/ 502
[95]- صحيح مسلم، 4 /1810
[96] - القيادة على ضوء المبادئ، ص94-99، إعداد الدكتور/ عبد اللطيف الخياط.
[97] - سبق تخريجه.
[98] - الطلاق: 2 ، 3
المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/59379