مصر وتونس.. المقارنة الظالمة
يميل تيار كبير من الباحثين والمحللين السياسيين للمقارنة بين مساري الثورتين التونسية والمصرية بعد نحو أربع سنوات من قيام الثورتين، وما شهدته مصر من انقلاب عسكري في الثالث من يوليو/تموز 2013، في الوقت الذي شهدت فيه تونس انتخابات برلمانية اعتبرها البعض مرحلة فارقة في تاريخ تونس، وانتقالا سلسا من الثورة إلى الدولة، وهو ما يعني نجاحا للثورة التونسية مقارنة بشقيقتها الثورة المصرية، التي تعثرت تحت أقدام العسكر وقوى الثورة المضادة في الداخل والخارج.
واتجه البعض إلى الربط بين النجاح النسبي للثورة في تونس بالحديث عن العقلانية والبراغماتية السياسية التي يتمتع بها حزب النهضة التونسي ذي المرجعية الإسلامية، والمحسوب على الإخوان المسلمين، بينما يتم الربط بين تعثر الثورة في مصر وعدم قدرة جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسية (حزب الحرية والعدالة) على إدارة توازنات ما بعد الثورة، وعدم القدرة على الحفاظ على وحدة الصف الثوري، وربط نجاح الانقلاب في مصر بفشل الإخوان المسلمين في إدراك حجم التهديد وبالتالي عدم القدرة على التعاطي معه.
وهنا تبرز عدة ملاحظات، لا بد من التأكيد عليها حتى تتضح أبعاد القصور في مثل هذا التحليل وذلك التصور:
الملاحظة الأولى: من الأخطاء الشائعة في التحليل السياسي، أحادية التفسير، أي القول بسبب وحيد لنجاح أو فشل الظواهر السياسية، سواء الداخلية أو الخارجية، وهو ما يستحيل في العلوم الإنسانية بصفة عامة، والعلوم السياسية بصفة خاصة، فقد يكون هناك عامل ذو تأثير أكبر، ولكنه ليس الوحيد، لأن الظواهر السياسية في تطوراتها وتحولاتها هي محصلة للعديد من العوامل التي تتفاعل فيما بينها للتأثير في هذه التطورات وتلك التحولات.
الملاحظة الثانية: أن أحد مناهج التحليل السياسي، التي يتم تجاهلها من جانب عدد كبير من الباحثين، منهج الارتباط (أو الركيزتين)، والذي يقوم على أن هناك تداخلا شديدا بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية في تشكيل التحولات والظواهر السياسية، وأن هذه التحولات تأتي انعكاسا لعمليات التفاعل المتبادل بين السياسات والقوى والجماعات الداخلية من ناحية، ومعطيات ومتطلبات البيئة الخارجية وما تفرزه من تداعيات من ناحية أخرى.
فما يحدث على مستوى يؤثر على الآخر، ويمكن أن يظهر هذا التأثير في عدد من المخرجات والمطالب التي يفرزها كل مستوى، فالسياسات والأوضاع والقوى الداخلية تؤثر في تحديد أهداف الدولة، داخليا وخارجيا، وبالتالي في صياغة الإستراتيجيات التي تتبناها هذه الدولة لتحقيق أهدافها، وهو ما ينعكس في التحليل الأخير على وضع الدولة وطبيعة علاقاتها وتفاعلاتها الدولية من ناحية، وما تشهده من تحولات داخلية من ناحية ثانية.
وفي إطار هاتين الملاحظتين، يمكن القول إن هناك العديد من العوامل والاعتبارات التي حكمت التحول السياسي في التجربة التونسية، وكانت مساعدة للنجاح النسبي الذي شهدته هذه التجربة مقارنة بالتجربة المصرية، واستنادا لمنهج الارتباط يمكن التمييز في إطار هذه العوامل بين مجموعتين أساسيتين من العوامل:
المجموعة الأولى: العوامل النابعة من البيئة التونسية، ومن بينها (وليس حصرا لها):
1- موقع المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية في العملية السياسية: فالمؤسسات العسكرية والأمنية التونسية محدودة الحجم والتأثير مقارنة بما تتمتع به تلك المؤسسات في مصر، حيث تهيمن المؤسسة العسكرية في مصر على أكثر من 40% من الاقتصاد المصري، وتهيمن على العديد من مقدرات الدولة وثرواتها وتحتكر العديد من القطاعات الاقتصادية، كما أن دورها السياسي مهيمن على الحياة السياسية في مصر منذ 1952 وحتى الآن، بدليل أن كل رؤساء مصر قبل ثورة 2011، هم من أبناء هذه المؤسسة، ناهيك عن الهيمنة على عدد من المناصب القيادية في العديد من القطاعات السيادية في الدولة حتى في القطاعات المدنية منها.
2- طبيعة وتكوين المجتمع المدني التونسي ومؤسساته وهيئاته، والتي اتسمت بالاستقلالية والقدرة على الحشد والتعبئة مثل النقابات العمالية، خلافا لتبعية مثل هذه المنظمات للسلطة الحاكمة في مصر طوال عهد مبارك، ولم يتحرر سوى عدد محدود منها في السنوات الخمس الأخيرة من عهده، وهو ما انعكس على دورها في ثورة يناير.
3- نمط الثقافة السياسية السائد في المجتمع التونسي: والذي يتميز بدرجة عالية من الانفتاح بحكم الارتباط الكبير بالقارة الأوروبية وخاصة فرنسا، مقارنة بوجود قطاع عريض في المجتمع المصري تهيمن عليه الثقافة القبلية والفكرية المنغلقة، والتي يكون لها تأثيرها فيما يتعلق بالقدرة على إدارة الحوار والتسامح السياسي، وبناء التوافقات والتحالفات السياسية.
4- درجة التجانس العرقي والثقافي والديني في المجتمع التونسي، مقارنة بغيره من المجتمعات العربية وتحديدا المجتمع المصري الذي توجد به أقلية دينية فاعلة، ممثلة في الأقباط، وأقلية عرقية مؤثرة ممثلة في أهل النوبة، وكذلك التفاوت الحضري الكبير في مصر مقارنة بتونس.
5- البراغماتية السياسية للقوى السياسية ذات المرجعية الإسلامية ممثلة في حزب النهضة التونسي، فقد أعلن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي أن حزبه مستعد لتشكيل حكومة ائتلافية، وأنه لن يعارض أن يكون ضمنها مسؤولون من حكومة الرئيس السابق زين العابدين بن علي. مؤكدا أن تونس تشهد مرحلة انتقالية ويجب أن تحكم بتوافق الآراء.
وهناك العديد من الاعتبارات التي تفسر هذه البراغماتية لعل في مقدمتها مسار الثورة المصرية والذي كان بمثابة نقطة تحول بالنسبة للغنوشي وقراءته للحقائق المحلية والعربية الأكبر، كما أدرك الغنوشي أن المشهد السياسي في تونس يتحرك، ولا يتوقع أن يثبت في المستقبل القريب، وكذلك يدرك الغنوشي أن الانتصار على أساس الأرقام وحدها لا يمكنه أن يضمن الاستقرار السياسي في البلاد، فالأرقام وحدها لا تقيس العملية السياسية، ولكن ذلك يعتمد على رغبة جميع الأطراف في التعاون والتفاعل لتحقيق سياسات جديدة في مواجهة هذه الأطراف. والمحصلة لهذه البراغماتية نجاح حزب النهضة في الخروج بأقل الخسائر في مواجهة الثورة المضادة التونسية والإقليمية والدولية.
6- الخبرة السياسية للقوى والتيارات السياسية التونسية في بناء التحالفات حتى قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011، ممثلة في "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات"، وهي إطار عمل سياسي تم تشكيله عام 2005 من عدة أحزاب وشخصيات تونسية معارضة للرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، وأخذت اسمها من "18 أكتوبر/تشرين الأول 2005" تاريخ بداية إضراب قام به عدد من المعارضين التونسيين الذين ينتمون إلى تيارات سياسية متعددة قبيل القمة الدولية للمعلوماتية التي نظمتها تونس في أكتوبر/تشرين الأول 2005.
وضمت الهيئة أغلب الأحزاب والحركات المعارضة للرئيس زين العابدين بن علي، وأنشأت الهيئة داخلها "منتدى 18 أكتوبر للحوار" للبت في المواضيع الخلافية خصوصا بين العلمانيين والإسلاميين، وقد أدّت النقاشات إلى إصدار سلسلة من الإعلانات "في العلاقة بين الدولة والدين" و"حول حرية الضمير والمعتقد" و"حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين".
وشكلت الهيئة تجربة متميزة للعمل السياسي المنسّق ومخبرا للحوار بين القوى السياسية المختلفة، ونجحت في خلق نوع من الاتفاق حول أسس النظام الديمقراطيّ البديل، والتقدّم في صياغة عهد ديمقراطي، كان مقدمة للتأسيس لفعل سياسيّ موحد يبني الكتلة التاريخيّة التي تحتاجها البلاد للانتقال إلى الديمقراطيّة، وهو ما ترسخ في المرحلة الانتقالية لثورة 14 يناير 2011.
7- نمط القيادة السياسية التي توفرت في المرحلة الانتقالية للثورة التونسية والتي تولت عبء الدفاع عن الثورة وإدارة عملية الانتقال السياسي وبناء التوافقات السياسية، سواء في المناضل والمفكر منصف المرزوقي أو في رئيس حزب النهضة راشد الغنوشي، وغيرهما من قيادات العمل الثوري التونسي، والذين نجحوا من خلال عدد من التفاهمات والتوافقات وبما يمتلكانه من خبرات؛ في إدارة المشهد. وتحقيق هذا النجاح النسبي في التجربة التونسية مقارنة بالثورة المصرية التي لم تتوفر لها قيادة موحدة، بل إن رموزها سرعان ما تساقطوا على طريق الثورة، ونجحت قوى الثورة المضادة في تمزيق نموذجهم الوحدوي الذي تجسد خلال الأيام الأولى للثورة بين 25 يناير/كانون الثاني و11 فبراير/شباط 2011.
8- مستوى التعليم ومعدلاته بين المواطنين التونسيين وانعكاسه على درجة الوعي وحجم المشاركة السياسية: حيث تبلغ نسبة الأمية في تونس (وفق تقديرات 2012) نحو 38%، بينما بلغت تقديراتها في مصر نحو 63.8%، وهذه الفجوة الكبيرة تترك تأثيراتها على درجة الوعي السياسي وبالتبعية على حجم المشاركة السياسية، سواء في الانتخابات أو الفعاليات والممارسات السياسية المختلفة.
المجموعة الثانية: العوامل النابعة من البيئة الخارجية (الإقليمية والدولية)، ومن بينها (ليس حصرا لها):
1- الدور الإقليمي والمكانة السياسية التي تتمتع بها تونس في محيطها الإقليمي والدولي، وتأثير التغيير فيها على حجم ونطاق التأثير على معدلات التغيير في المنطقة.
2- موقع تونس من المحاور الإقليمية المتصارعة في المنطقة، وخاصة بين المحور الداعم للثورات المضادة والانقلابات العسكرية والرافض للتغيير الثوري (والذي تقوده المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة)، والمحور الداعم للثورات الشعبية والحاضن لعمليات التغيير الثوري في المنطقة (والذي تقوده قطر وتركيا).
3- موقع تونس الجغرافي من إسرائيل، فدول الطوق المجاورة للكيان الإسرائيلي يكون التغيير فيها (حجما ونطاقا ونجاحا أو فشلا) مرتبط بتأثيره على أمن واستقرار الكيان الإسرائيلي، فكلما كنت أكثر قربا من هذا الكيان، يكون نجاحك رهنُ بأمنه واستقراره والعكس صحيح.
4- تأثير القوى الدولية على عملية التحول السياسي في تونس، وهنا يبرز دور كل من فرنسا (باعتبارها صاحبة دور تاريخي في تونس) والولايات المتحدة (باعتبارها الفاعل الأول في العلاقات الدولية في المرحلة الراهنة ومنذ نهاية الحرب الباردة 1991). وهذان الدوران نجد تأثيرهما محدودا أمام تركيز فرنسا اهتمامها على الأوضاع في ليبيا ومالي وسوريا، وتركيز الولايات المتحدة اهتمامها بما يحدث في سوريا والعراق وكذلك في مصر وليبيا، ومن هنا كانت حرية حركة الأطراف الداخلية في تونس أكثر وأوسع بعيدا عن ضغوط وتأثيرات القوى الدولية مقارنة بمصر، حيث التأثير الفاعل بل الحاسم للولايات المتحدة الأميركية في إدارة التغيير في الداخل المصري، سواء في إسقاط نظام الرئيس مرسي أو ترسيخ نظام السيسي.
5- أولوية التحولات السياسية في تونس مقارنة بالتحولات والتطورات الإقليمية في المنطقة، فمع أهمية وتأثير ما تشهده تونس من تحولات يمكن أن تكون لها تأثيراتها على العديد من الدول العربية، فإن هذه الأهمية وذلك التأثير يمكن أن يتراجعا مقارنة بالتحولات والتطورات التي يشهدها العراق وسوريا، أو تلك التي يشهدها اليمن، وتلك التي تشهدها مصر، وكذلك التي تشهدها ليبيا. ومع هذا التراجع تكون حرية حركة الأطراف السياسية التونسية أعلى مقارنة بغيرها من الدول ومنها مصر، والتي تقع تحت ضغط كثافة الاهتمام الإعلامي والسياسي الإقليمي والدولي.
وأمام هاتين المجموعتين من العوامل، يمكن القول إن النجاح النسبي (على الأقل حتى الآن) للثورة التونسية، من غير المنطقي القول إنه كان نتيجة عامل أحادي فقط، بل نتيجة مجمل هذه العوامل، وأنه رغم هذا النجاح يبقى الخطر قائما بل كبيرا على التجربة التونسية برمتها، ولعل في مقدمة مصادر هذا الخطر:
1- الدور الإقليمي الداعم لحزب "نداء تونس" الذي يمثل أنصار وبقايا نظام بن علي، هذا الدور الذي تقوده دول عربية في مواجهة شاملة مع جماعة الإخوان المسلمين.
2- خطر العائدين من سوريا والعراق، من المجاهدين التونسيين الذين انخرطوا في غمار الجماعات الجهادية في هاتين الدولتين في مواجهة نظام المالكي في العراق ونظام بشار في سوريا.
3- خطر المال السياسي الذي يمكن أن يعبث بالاستقرار السياسي في تونس عبر شراء بعض الأحزاب أو الشخصيات أو وسائل الإعلام وتوجيهها ضد الثورة التونسية ومنجزاتها.
4- امتداد التأثيرات السلبية لتطورات الأوضاع في ليبيا إلى الأراضي التونسية، والتي تحتضن على أراضيها أكثر من مليون لاجئ ليبي، يمكن أن يشكلوا أحد أوراق الضغط السياسي والأمني على النظام التونسي، ويمكن استغلالهم من بعض الأطراف الخارجية لتحقيق أدوار في الداخل التونسي.
5- المواقف الدولية المتغيرة، التي يمكن أن تعمل على تفجير الأوضاع في تونس إذا وجدت أن محصلة الاستقرار السياسي على المدى البعيد يمكن أن تكون لصالح حزب النهضة، وهو ما ترفضه معظم -إن لم تكن كل- الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية.
وأمام هذه المخاطر يبقى الرهان دائما لنجاح الثورة التونسية -وكما هو الحال في كل الثورات الشعبية- على إرادة الشعب التونسي وقدرته على توحيد صفوفه دفاعا عن ثورته، دفاعا عن استقلال إرادته، دفاعا عن عزته وكرامته.
المصدر: http://www.taseel.com/display/pub/default.aspx?id=8779&mot=1