أسطورة الثوابت الليبرالية
تمثل الثوابت لأي عقيدة أو دين أو حتى فكرة وضعية القاعدة الصلبة لوجوده, والعمود الفقري لخصائصه ومميزاته, والعلامة الفارقة لكيانه, فأي عقيدة بلا ثوابت هي عقيدة باطلة وزائلة, كما أن أي فكرة أو مذهب بلا ثوابت هي في الحقيقة والواقع مجرد أوهام وآراء ليس لها أي تأثير في حاضر الناس ومستقبلهم, اللهم إلا الاختلاف واتباع الأهواء.
وإذا كانت الثوابت الإسلامية المتمثلة بأحكام الإسلام في جميع مجالات الحياة, الثابتة بدليل قطعي الثبوت والدلالة أو بإجماع الأمة إجماعاً صحيحاً قائماً على الدليل وليس العُرف, هي الحصن المنيع لحفظ الدين وخصائص الإنسان, إذ لولاها لأصبح الدين مائعا هلاميا تشكله الأهواء وتعبث به الانحرافات, فإن المذاهب الوضعية الغربية –وعلى رأسها الليبرالية- خالية من أي نوع من الثوابت وإن ادعت عكس ذلك و زعمت أن فيها أسس وثوابت.
وهنا لا بد من بيان نقطة في غاية الأهمية, فوصف الثوابت والمتغيرات في الإسلام إنما هو للأحكام المأخوذة من الأدلة مباشرة أو استنباطاً، وليس للنصوص الشرعية، لأنها ثابتة لا يجوز تغييرها ولا تبديلها ولا التحريف فيها حتى ولو كانت ظنية، فالنصوص الشرعية الظنية في الدلالة والثبوت أو في أحدهما نصوص ثابتة خالدة, ولكن التجديد والتغيير ينحصر في إمكانية إعادة النظر فيها من حيث ترجيح حكم مستنبط منها على حكم آخر، أو استنباط حكم جديد منها، أو نحو ذلك.
لقد كان الهجوم على الإسلام من قبل ألد أعدائه -اليهود و الصليبيين– يركز منذ زمن بعيد على الثوابت من هذا الدين, ورغم محاولاته المحمومة لتشويه صورة هذه الثوابت, وعمله الدؤوب للانتقاص منها حتى يصل إلى نقطة إيجاد دين "بلا ثوابت", إلا أنه فشل في ذلك فشلا ذريعا نظرا لرسوخ هذه الثوابت في القرآن والسنة المحفوظة بحفظ الله لها من التبديل والتحريف.
فمنذ فجر نور الإسلام وسهام الغرب على ثوابت هذا الدين ورموزه لم تهدأ لحظة واحدة, بدءا من سموم المستشرقين في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وافتراءاتهم على الوحي والقرآن والسنة, وصولا إلى العصر الحديث الذي ازدادت فيه حملات الإساءة لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم, عبر الرسوم الدنماركية والنرويجية والفرنسية والسويدية والإسبانية المسيئة, ناهيك عن الأفلام التي تصور في هذه الأيام للمساس برموز وثوابت الإسلام.
وحين استيأس أعداء الإسلام من إمكانية نسف ثوابت هذا الدين, لجؤوا إلى مكيدة من نوع آخر تتمثل في زعزعة إيمان المسلمين بتلك الثوابت, من خلال التشكيك بكونها من ثوابت هذا الدين, إضافة لمحاولتهم تسويق "اللادينية" الليبرالية كبديل عن الإسلام الصحيح, والزعم بأن لهذه الليبرالية ثوابت تناسب العصر الحديث, وتعتبر البديل الحضاري في القرن الحادي والعشرين.
إن أقوى الأدلة على أن الليبرالية الحديثة لا يوجد فيها أي ثوابت هو كونها في الأصل قائمة على نفي الثوابت والمحكمات, بل إن الفكر الغربي الحديث يفتخر بعدم اعترافه بوجود الثوابت في الحياة, فضلا عن أن يكون هناك ثوابت في فكره ومعتقداته, اللهم إلا إن كان المقصود أن ثوابتهم تفيد "أن لا ثوابت عندهم".
ومع ذلك فسوف نحاول مناقشة ما يدعي الغرب أنه من ثوابت فكره الليبرالي من خلال أهمها عند الليبرالية الحديثة:
1- الحرية الفردية: التي تصل إلى درجة التقديس عند رموز ومنظري الفكر الليبرالي, ويعتبرونها الفكرة الأم والأساس المتين والثابت الذي لا يتغير عندهم, إلا أن الحقيقة غير ذلك, فقد طرأ على هذه الفكرة -التي تعتبر من أهم ثوابتهم كما يزعمون– تغيير وتبديل, ناهيك عن التناقضات العملية الكثيرة عند التطبيق.
لقد طرأ على هذه الفكرة الكثير من التغيير من عصر رواد الليبرالية إلى العصر الحاضر, فبينما كان للفكرة قداسة وبعدا دينيا –وإن كان محرفا– وذلك من خلال اقتباس تلك الحرية من قصة آدم عليه السلام وسبب خروجه من الجنة, حيث يزعم رواد الليبرالية أن الله حرم على آدم أن يأكل من شجرة (المعرفة), لا لأن ذلك يضر بآدم, بل لأن ذلك يؤدي إلى التساوي بينه وبين الإله في المعرفة, ولكن آدم اختار المعرفة على البقاء في الحضرة الإلهية, ولهذا ظلت حرية الإنسان في الأرض مقدسة, لأنه أخذها بثمن باهظ وهو ترك الجنة والابتعاد عن الحضرة الإلهية.
وبناء على ما سبق فإن إعمال آدم عليه السلام لعقله وأكله من الشجرة –وإن كانت خطيئة حملها عن البشرية المسيح كما يدعي النصارى– إلا أنها ترسخ الحرية في إعمال العقل ولو خارج الإرادة الإلهية, الأمر الذي ينتج عنه التعددية نظرا لاختلاف العقول وتنوعها.
لقد نزع الليبراليون المعاصرون القداسة الدينية عن هذه الفكرة –وإن كانت محرفة-, وأضافوا عليها قداسة دنيوية مادية, وذلك من خلال تقديس العقل البشري وحرية الإنسان في اعتقاد وفعل ما يشاء.
وإذا ما تحدثنا عن التناقض العملي في هذا الحرية الفردية -التي تعتبر من أثبت ثوابت الليبرالية كما يزعمون- فإنها تظهر بوضوح في الممارسة العملية, فبينما تكون محترمة الجانب في الغرب إذا ما مورست ضمن إطارها المرسوم لها دنيويا وماديا, وذلك من خلال إطلاق الشهوات والأهواء الإنسانية, وكل ما يتعلق بالمادية والنفعية, نجدها على عكس ذلك إذا تعلق الأمر بالمسلمين هناك, فلا حرية لهم على الإطلاق في ممارسة أي شعائر دينية أو أخلاقية, بدعوى أنها تتعارض مع الحرية الفردية التي خصصوها للأمور المادية الدنيوية.
بل إن الليبرالية تناقض وتحارب أي حرية لا تأتي على هواها, أو لا تنسجم مع فكرها ومعتقداتها, ولذلك فهناك تناقض واضح بين الحرية التي تطبق نسبيا في دولها وعواصمها, وبين القمع وتقييد الحريات الممارس تجاه العرب والمسلمين.
2- نسبية الحقيقة والأخلاق: فالعقل الليبرالي مقتنع ومؤمن بأنه لا يوجد في مجال العقائد والشرائع والأخلاق حقائق فكرية, وإنما هناك آراء وقناعات شخصية فردية أو جماعية, كما أنه يعتقد بأن العقل البشري عاجز عن تحديد المعنى الصحيح لمفاهيم الحرية والعدالة, وبالتالي فلا يوجد عند أحد الحقيقة الكاملة أو العقيدة الصحيحة, وعلى الجميع أن يقول: هذا رأيي وليست هذه هي الحقيقة, لأن الحقيقة لا يمتلكها أحد كما يزعمون.
ومن أهم نتائج هذا الفكر الليبرالي أن العقائد والأخلاق هي في الحقيقة مجرد قناعات شخصية فردية أو جماعية, وأنه لا دليل عليها في العقل الليبرالي, وبالتالي فلا مكان لمفهوم الحلال والحرام في الفكر الليبرالي, وقد انعكس ذلك على الأخلاق, فلا وجود للفضيلة المطلقة أو الحسن والقبح المطلقين, فما يكون قبيحا في زمان ومكان قد يكون حسنا في زمان آخر ومكان آخر, والعكس صحيح أيضا فما كان قبيحا عند الآباء والأجداد قد يكون حسنا في العصر الحديث.
وكمثال على هذه النسبية الليبرالية يقول الدكتور عبد العزيز كامل: "إن العدالة مثلا بصفتها قيمة أخلاقية هي شيء نسبي يرجع إلى فهم كل إنسان أو مجتمع للعدل الذي يوصله إلى مصلحته, فهي وسيلة إلى غاية وهي المصالح, فالعدالة في الفكر الليبرالي ينبغي أن تعني ضمان الحرية الفردية والملكية الخاصة لأنهما المقدسان في حياة الإنسان, وأن التفريط فيهما مناقض للعدالة". معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية /84
ولعل أول ما يؤكد أن هذه الفكرة ليست من الثوابت الليبرالية في شيء, وإنما هي إثبات على أن لا ثوابت في الليبرالية, وأنها مجرد ذريعة ووسيلة اتخذها الليبراليون للوصول إلى أغراضهم وأهدافهم النفعية فحسب, وأنهم لم يتمسكوا أو يعملوا بها يوما فضلا عن أن يمنحوها للآخرين, هو مناقضة الفكرة لذاتها, إذ كيف يمكن أن تكون النسبية ثابتا أو أساسا لفكرة أو مذهب, وهي تنفي في الحقيقة ذاتها وكينونتها وجوهرها!!
فمن خصائص الثابت أنه لا يتغير بتغير الزمان والمكان, كما أنه لا يمكن أن يكون هلاميا زئبقيا كما هو الحال في فكرة النسبية الأخلاقية الليبرالية, التي من الممكن أن تتغير أثناء كتابة هذه السطور.
كما أن هناك شيء آخر ينفي صفة الثبات على فكرة النسبية الأخلاقية هذه وجميع ما يزعم الليبراليون أنه من ثوابتهم الفكرية, ألا وهو الاختراق اليهودي المتطرف عقائديا لأصل الليبرالية الحديثة, فمن المعلوم أن "بولس" الذي أفسد العقيدة النصرانية كان يهوديا, كما أن "مارتن لوثر" الذي قرب اليهود من الكنيسة الكاثولوكية كان ذا ميول يهودية مشبوهة, ناهيك عن "كارل ماركس" الذي اخترق الكنيسة الأرثوذكسية وحول أتباعها إلى ملاحدة كان يهوديا أيضا.
فكيف يمكن أن تكون فكرة "نسبية الحقيقة" من ثوابت الليبرالية وهي صنيعة فكر متطرف عقائديا وأيديولوجيا؟ّ!!
3- حتمية الصراع لضمان التطور والارتقاء: وهي فكرة ليبرالية طرأ عليها الكثير من التبديل والتغيير, مما ينفي عنها صفة الثبات الذي يدعيه الليبراليون المعاصرون.
ولعل جوهر هذا التغيير هو نزع صفة القداسة عن هذه الفكرة, مع الإبقاء على جوهرها المتعلق بالشكل المادي النفعي الدنيوي, فأصل الفكرة مأخوذ من العقيدة البروتستانية, ومفادها أن الخالق يختار من البشر في كل حقبة زمنية جماعة يقدسها ويؤيدها ويجري لمصلحتها أحداث التاريخ, بينما بقية البشر مطالبون بالخضوع لهم, وقد كانت أول جماعة بشرية مختارة هي جماعة نوح, ثم أتباع موسى عليه السلام, ثم أتباع عيسى عليه السلام "الكاثوليك", فلما تغيرت ديانة عيسى عليه السلام اختار الرب "البروتستانت", ثم اختار الرب -كما يزعمون– (البيورتان) أو البريطان "بريطانيا", ثم ادعى الأمريكان حديثا أنهم المختارون بعد البريطان الذين غضب الله عليهم لاضطهادهم "البيورتان" أو "التطهريين".
ولعل تطبيق الغرب لهذه الفكرة في العصر الحديث من منطلق أيديولوجي عقائدي أكثر منه ليبرالي, وذلك من خلال اعتماد مصطلحات "محور الشر" و "محور الخير" و "صراع الحضارات أو الديانات", بدلا من مفهوم حتمية الصراع المسمى "القانون الطبيعي", حيث يستمر الصراع -حسب هذا المفهوم– حتى يسود النمط الليبرالي الحياة ليسدل الستار على تاريخ البشرية, من أبرز الأدلة على أنه ليس في الليبرالية ثوابت, وإنما هي أدوات تستخدم لأغراض مادية نفعية عند البعض, وعقائدية أيديولوجية عند البعض الآخر.
كما أن فكرة التطور والتغير في حد ذاتها تنافي الثبات, فكيف يمكن لهم بعد ذلك أن يزعموا أن هذه الفكرة إحدى ثوابتهم؟!!
إن الحقيقة التي لا بد أن تدركها البشرية جمعاء فضلا عن الليبراليين, أن الثابت في مجال الحقيقة والعقائد والأخلاق... لا يمكن أن يأتي به إلا الخالق سبحانه وتعالى, إذ لا يمكن لأحد أن يعلم ما يصلح الإنسان وما يفسده إلا الله, وبالتالي فلا يمكن لفكر بشري أن يخترق الزمان والمكان ليضع تلك الثوابت.
وبالتالي فإن ما يطلق عليه الفكر الليبرالي "ثوابت" ما هي في الحقيقة إلا أساطير!!
ـــــــ
أهم مراجع التقرير:
معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية / الدكتور عبد العزيز كامل
العلمانية تحارب الإسلام / عيد الدويهيس
التطاول الغربي على الثوابت الإسلامية ..رؤية مستقبلية / د . محمد يسري
المصدر: http://www.taseel.com/display/pub/default.aspx?id=4083&mot=1