المبادئ العامة للنظام السياسي الإسلامي "مقاربة نقدية "
إن المتأمل في الخطاب القرآني عامة يجده إما خطابا تفصيليا وإما خطابا كليا، وإما خطبا منهجيا، وذلك عندما يكون الأمر متعلقا بالمعاني المجردة أو الكون والطبيعة، وذلك لدفع العقل للتأمل والتدبر.
ومصطلح (الكليات) عموماً، يُقصد به المعاني والقواعد العامة المجردة، التي تشكل أساساً لما ينبثق منها، وينبني عليها من الجزئيات؛ وعليه فإن مصطلح (الكليات) هو المصطلح المقابل لمصطلح (الجزئيات)، حيث إن الجزئيات كل ما يأتي تفصيلاً وتطبيقاً للكليات، سواء أكان ذلك منصوصاً عليه، أم مجتهداً فيه تنـزيلاً وتطبيقاً.
والمقصود بالكليات عموما في القرآن الكريم، هي تلك الآيات التي تتحدث عن أمور كلية، تتعلق بجانب التصور والاعتقاد والأخلاق والسلوك والمقاصد، أو بعبارة أخرى: هي المعاني والمبادئ والقواعد العامة المجردة، التي تشكل أساساً ومنبعاً لما ينبثق عنها، وينبني عليها من تشريعات تفصيلية، وتكاليف عملية، وأحكام وضوابط تطبيقية.
وقد جاءت (كليات القرآن) كي تحدد القيم والمثل، وتنشئ تصوراً عاماً للكون والحياة، وتبين الغايات والمقاصد العامة التي يسعى التشريع لتحقيقها في حياة الناس، وفي الوقت نفسه، وضحت تلك الآيات أمهات المفاسد، وأصول الانحرافات التي تهدد حياة الإنسان، من عقدية وفكرية ونفسية وسلوكية(1).
ومما ينبغي الإشارة إليه هنا، أن كثيراً من (كليات القرآن) قد قررتها الكتب السابقة عليه، ولا غرابة في ذلك، فما دام المصدر واحداً، وهو الله، ومادام المتلقي واحداً، وهو الإنسان، فمن الطبيعي أن تكون هذه الكليات من الأمور المشتركة بين شرائع السماء، يقول ابن تيمية: "وقرر -القرآن- ما في الكتاب الأول من أصول الدين وشرائعه الجامعة، التي اتفقت عليها الرسل؛ كالوصايا المذكورة في آخر الأنعام، وأول الأعراف، وسورة سبحان، ونحوها من السور المكية.."(2)، وهذا هو ما تشير إليه الآية الكريمة {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}(الشورى13)، فالآية تدل على أن ما شُرع في دين الإسلام من الأصول والكليات هو نفسه الذي شُرع في شرائع الأنبياء السابقين.
إن (الكليات القرآنية) قد تكفلت بإرساء الأساس النظري والإطار المرجعي، الذي ينبثق منه التشريع الإسلامي عامة بما يحتويه من جانب سياسي، فالشريعة الإسلامية قد تفصَّلت فروعها بعدما تأصلت كلياتها (3)
وقد تعددت اجتهادات الفقهاء والقانونيين والمفكرين الإسلاميين في تبيان وتعداد تلك الكليات والمبادئ والقواعد العامة المتعلقة بالنظام السياسي الإسلامي.
ومن ذلك ما ذكره الدكتور عطية عدلان(4)، حيث عددها وحصرها في الأسس العامة الآتية:
1- السيادة للشرع.
2- السلطان للأمة، والأمة مصدر السلطات.
3- الشورى منهج الحكم.
4- التكامل أساس العلاقة بين الحكام والمحكوم.
5- إقامة العدل وحراسة الحريات ورعاية المبادئ وحقوق الإنسان.
6- وحدة الأمة وواحدية الإمام.
و قد اجتهد الدكتور محمد سليم العوا أيضا (5) في تحديد عدد من المبادئ العامة للنظام السياسي في الإسلام، ورغم أني أخالفه في بعض أطروحاته التي عرضها في هذا الكتاب - من مثل: اعتباره أن النظام السياسي عند المسلمين يوجد به مبادئ عامة من دون وجود نظام سياسي محدد للدولة في الإسلام ! - إلا أن اجتهاده عندي في تحديده منظومة القيم السياسية الإسلامية هو اجتهاد طيب وذلك بعيدا عما رتبه هو وغيره على تحديده تلك المبادئ من أنه ليس في الشريعة الإسلامية نظاما للحكم!(6)
وقد عرض تلك المبادئ في مبحثين:
المبحث الأول: وهو فيما تفردت به الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع الوضعية: "الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر" فالأمر بالمعروف عنده هو الأمر بكل ما ينبغي فعله أو قوله طبقا للشريعة، والنهي عن المنكر هو النهي عن كل ما ينبغي اجتنابه في الشريعة من قول أو فعل.
المبحث الثاني: "في أهم المبادئ الدستورية الإسلامية"، وهذه المبادئ هي التي يراها واجبة على الأمة والدولة أن تحرص وتحافظ عليها وتعمل بها، وهي عنده كما يلي: "الشورى، العدل، الحرية، المساواة، حق مساءلة الحكام مع وجوب طاعتهم في غير معصية".
وهناك من اعتبر أن هذه المبادئ العامة هي: (الشورى، العدل، المساواة أمام القانون، حسن معاملة الأقليات الدينية والسياسية)(7)
و هناك من اعتبرها: (الشورى، العدالة، المساواة، الحرية، مسؤولية أولي الأمر) (8)
وهناك من اعتبرها: (الشورى، والعدالة، والجهاد في سبيل الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (9)
وقد ذكر الأستاذ محمد إبراهيم مبروك أن النظام السياسي الإسلامي يقوم على قواعد خمسة، وهي: الحرية، المرجعية، المساواة والعدل، الشورى، الاختصاص.(10)
ولقد ادّعى بعض الإسلاميين المعاصرين من المتأثرين بما يسمى بالليبرالية الإسلامية أن "النظام السياسي في الإسلام جاء بمبادئ وكلِّيَّات عامة ولم يأت بأحكام وتشريعات محدَّدة، فالواجب هو تطبيق المبادئ العامة: من العدل والحرية والشورى والمساواة، وأما كيفية ذلك، فهذا مما يُختلَف في تقديره كل عصر، وهذا تصوُّر لذيذ جداً للفكرة العلمانية؛ لأن مشكلتهم مع بعض الأحكام والتفصيلات الشرعية، وأما المبادئ والكليات فمن خاصيتها أنها واسعة ومرنة؛ يمكن الدخول والخروج منها بكلِّ اطمئنان، وحين نقول: إن الإسلام جاء بمبادئ ولم يأتِ بتشريعات، فنهاية هذا الكلام: أن الإسلام لم يأتِ في النظام السياسي بشيء؛ لأن هذه الكليات موجودة عند كل الأمم والحضارات، ولا يوجد أحد في الدنيا لا يأخذ بهذه المبادئ، غير أن لكلِّ ثقافة تفاصيلها ومحدِّداتها لهذه المفاهيم، وحين نلغي الأحكام الشرعية المفصَّلة لهذه المبادئ فإننا في الحقيقة قد ألغينا الحكم الإسلامي...؛ فالكليات معنى ذهنيٌّ تجريديٌّ لا يقوم بدون تفصيلات وتفريعات...وحين تبتعد الفروع والجزئيات فإن الكليات والمقاصد التي يؤتى بها تكون مقاصد وكليات أخرى ليست هي الكليات والمقاصد الشرعية؛ فالمقصد الشرعي والكلي الشرعي معتمَد ومفسَّر بجزئياته وفروعه الشرعية "(11)
والحقيقة أنه لا يُعلم على وجه التحديد أول من قال بأنه لا يوجد أي نظام سياسي محدد في الإسلام، وأن غاية ما هناك وجود بعض المبادئ السياسية العامة في الإسلام التي يمكن ضبط أي نظام غربي بها، وإن كان الشيخ محمد شاكر الشريف يرى أن "جذور مثل ذلك الكلام تعود إلى كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق، وذلك لأنه قال عن نظام الحكم أيام النبي – صلى الله عليه وسلم – (ص45، 46):(إنه كان موضع غموض وإبهام وخفاء ولبس)، لكنه لما اضطرته السيرة النبوية بما فيها من نظام الحكم الذي أقامه الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى الحديث عن أمور واضحة وليست مبهمة، حاول أن يتلاعب بالألفاظ ليخرج من هذا المأزق الذي يبطل دعواه، فقال (ص79): (لا يربنك هذا الذي ترى أحيانا من سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – فيبدو لك كأنه عمل حكومي، ومظهر للملك والدولة، فإنك إذا تأملته لم تجده كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي كان عليه – صلى الله عليه وسلم – أن يلجأ إليها تثبيتا للدين وتأييدا للدعوة)" (12).
فالتناظر بين الجديد والقديم واضح، فقولهم (ليس في الإسلام نظام سياسي محدد) يناظر قول علي عبد الرازق (كان نظام الحكم موضع غموض وإبهام وخفاء ولبس)، واعترافهم بوجود بعض المبادئ العامة يناظر اعترافه بوجود بعض مظاهر الملك والدولة، وإن كان هو قد فسرها على إنها وسائل لتثبيت الدين، فإن بعض المعاصرين قد بينوا مرادهم بالمبادئ العامة، بما يجعلها كلمة لا قيمة لها؛ لأنهم وكما يظهر من كلامهم يرون أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ومن بعده الصحابة لم يطبقوا هذه المبادئ العامة، وذلك لازم من اعتقادهم عدم وجود نظام سياسي أصلا!، إن هؤلاء يرون أن " تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالإمامة والقضاء كلها قضايا مصلحة دنيوية ليست تشريعاً من السماء، فالشؤون الدستورية والسياسية هي من المصالح المتغيرة، وما جاء فيها من أحكام فهو لأجل الاستفادة منها والبناء على أصولها ومناهجها القائمة على اعتبار المصالح وليس لأجل الالتزام بها.
ومعنى هذا الكلام أنه لا وجود لتشريعات ملزمة في النظام السياسي الإسلامي، وما وجد سابقاً هو مرحلة تاريخية ليس إلا! "(13)
إننا "حين نمسك خيوط لوازم هذا القول فلن نصل إلى نهايتها إلا بعد أن نكون قد نكثنا الغزل عن رسالة الإسلام بالكلية؛ لأن بإمكان أي أحد أن يلغي أي حكم شرعي أراد بسبب أن هذا الحكم كان مرتبطاً بظرف زمني قد انتهى، بل حتى الصلاة والزكاة والصيام والحج يمكن أن يقال: إنها عبادات نشأت في ظرف زمني كان الناس فيه بحاجة إلى التعبد بطريقة معيَّنة"(14)
يقول الدكتور محمد سليم العوا: "ترك الرسول تحديد تفاصيل نظام الحكم ليقرر فيه المسلمون حسب مصالحهم، ما ينسب متطلبات الزمان والمكان والظروف المتغيرة غير مقيدين إلا بالقواعد العامة للشريعة الإسلامية، وبالقواعد والمثل الأخلاقية العليا التي ضربها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خلال سنيّ حكمه" (15)، ويقول أيضا: "جاء القرآن الكريم – مصدر الأحكام الأول – في المجال السياسي، أو في مجال الشؤون الدستورية ببعض المبادئ العامة الأساسية التي لا يمكن إهمالها في أي نظام حكم صالح، وتركت التفاصيل والجزئيات دون إشارة إليها في القرآن الكريم" (16)
وكان من الممكن أن نعتبر دعوى وجود المبادئ العامة للنظام السياسي الإسلامي تنصب على عدم إلزام المسلمين على مر العصور بطرق عملية ووسائل وآليات معينة، لولا تلك الأقوال عنده التي تنفى وجود نظام سياسي من أصله، فقط الذي جاء في الإسلام – في رأيه ورأي غيره من أصحاب هذا الفكر – مجرد مبادئ سياسية عامة ليس إلا.
يقول الدكتور العوا: " إن الصحيح هو أن القرآن الكريم والسنة النبوية لا يتضمنان نظام حكم محدد المعالم والتفاصيل يجب على المسلمين في كل العصور الالتزام به والوقوف عند حدوده" (17)
والدكتور العوا يحاول إيجاد حل للمشكلة التي ارتآها وهي وجود مبادئ عامة في الإسلام بلا نظام سياسي محدد، وبدأ عرض حله من ذكره للرؤى المغايرة لما يراه وموقفه منها، فيعرض (18) لمنهجين لبعض المعاصرين للمواءمة بين تعاليم الإسلام وحاجات العصر.
الأول: جامد متوقف على آراء الأولين.
والثاني: يتجاوزها إلا أنها أصل يدور حوله ويعتبر فتاواهم ملزمة إلا عند الضرورة وفى أضيق الحدود.
ثم يوضح موقفه من المنهجين وهو الرفض أو التحفظ عليهما، فهما في رأيه يفتقران إلى نقطة البدء السليم، إذ يجب أن ينطلق البحث من حقيقتين:
الأولى: أن تفاصيل النظام السياسي للدولة الإسلامية – بكل ما تشمله هذه العبارة من معان – تركت أصلا لكي يختار فيها المسلمون ما يوائم العصور المختلفة والظروف المختلفة، فليس في أي من مسائل هذه التفاصيل نص ملزم يجب على المسلمين اتباعه مهما اختلفت الظروف أو تباعدت الأزمان...
الثانية: أن قواعد هذا النظام العامة التي نزل بها القرآن والسنة ملزمة للأمة في كل عصر، فمثلا ً في الشورى النظام ملزم بها دون إلزام بطريقة معينة لإدارتها.. أو للمسائل التي تطرح أو غير ذلك من فرعياتها.. وعليه فإن الدكتور العوا يرى أننا يجب أن نفرق بين ما يعتبر من(أصول) النظام السياسي وما يعتبر من (تاريخه).
ومثل هذا الطرح لفكرة النظام السياسي الإسلامي من الدكتور العوّا له ما له وعليه ما عليه، فليس مقبولا أن يتجمد ويتوقف البعض على كل وسائل وآليات الأولين في نظامهم السياسي، وليس مقبولا أيضا أن يرى البعض أيضا أن الفتاوى التي فرق العلماء بينها وبين الحكم الشرعي الثابت في أنه من طبيعتها التغيير - بضوابط (19) - بتغير الزمان والمكان، يجب أن تكون ملزمة لكل الأزمان التالية لزمن الفتوى.
ولكن في نفس الوقت يجب ألا نهمل جهود وفتاوى السابقين لمجرد أنهم سابقين؛ فإن كان عندهم ما ينفعنا أو ما زال صالحا لزمننا من وسائل لا تتعارض مع القواعد العامة والأصول، فيمكننا الأخذ به أو تطويره وتعديله.
فإن لم نفعل فإننا في الحقيقة نعيد اكتشاف ما تم اكتشافه مسبقا من جديد!
لأننا إذا شرعنا في وضع نظم سياسية للدولة الإسلامية بطريق الوضع الإنشائي الاستقلالي الحديث متجاوزين كل اجتهادات السابقين غير آبهين بها، متوهمين أننا إذا التفتنا لها أو انطلقنا منها سنكون دائرين حول أصل آرائهم!، ومعتمدين في ذلك على أننا نطبق القواعد العامة التي نزل بها القرآن ملزمة في كل زمان ومكان، إذا فعلنا ذلك فسنكون قد ظننا أن المسلمين الأوائل أيضا قاموا بوضع نظم سياسية اخترعوها للدولة الإسلامية بطريق الوضع الإنشائي الاستقلالي من عند ذوات أنفسهم، ووفق مقاييسهم العقلية وتصوراتهم الشخصية أو خبراتهم التاريخية، وهذا ما لم يحدث؛ لأن النظام السياسي نظام شرعي، استمد أصوله وفروعه من الشرع: فأصول هذا النظام وفروعه، أو قواعده وجزئياته،أو هيئاته ومؤسساته إنما ترجع إلى الشرع وتستند إليه، ويستدل عليها بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة النبوية.
إننا إذا رجعنا إلى أقوال عدد من القائلين بأن الذي جاء به الإسلام في نظامه السياسي هو مبادئ وقواعد عامة فقط بدون أية معالم كـ(المؤسسات السياسية أو الدولة)، سنصل من تلك الأقوال إلى أن أصحاب هذه الأفكار، لهم طريقان في هذا الفهم:
"أولهما: أن هذه المبادئ والقواعد العامة جاءت في القرآن بدون أية تفصيلات ولا أحكام جزئية، أما ما جاء في السنة من بيان وتفصيلات فهي نصوص غير ملزمة وهي موقوتة بزمن التشريع ولا يلزمهم منها إلا المبادئ وفقط، وبالتالي فيمكن الاستعانة بالنظم الغربية، وتقديمها أنها التفصيل الشرعي لهذه المبادئ، والقواعد العامة.
وثانيهما: أن هذه المبادئ والقواعد العامة جاءت شديدة العمومية، وإن التفصيلات والأحكام الجزئية التي تندرج تحت تلك المبادئ والقواعد لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الجهد البشري البحت، وبالتالي فليس هناك حكم إسلامي من الأصل، وإنما هو حكم بشري، وكل ما يمكن أخذه من الدين هو روح هذه المبادئ فقط!، وهو فهم ينفي عن الشريعة كلها الصبغة الإلهية في علمانية واضحة وصريحة لا يقول بها ولا يعلنها إلا من تمرد على الإسلام وشريعته" (20)
إن محاولة اعتبار ما جاء في كلام أهل العلم عما أسموه (بالقواعد الكلية) هو نفس ما جاء من كلام المعاصرين عن المبادئ والقواعد العامة للنظام السياسي، لهو نوع من الخلط العجيب!
وهناك تفرقة دقيقة بين مصطلح (المبادئ العامة) كما يفهمه أهل العلم القائلين باحتواء الإسلام على نظام سياسي واضح المعالم، وبين الذين يرون الإسلام لم يأت بأي نظام سياسي بل ما جاء إلا بمجرد مبادئ عامة فقط.
يقول الإمام ابن تيمية عن مفهومه للقواعد الكلية: "وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ هَذِهِ مَا فِيهَا آيَةٌ وَلَا حَدِيثٌ: فَهَذَا مِنْ جَهْلِهِ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ فِيهِمَا كَلِمَاتٌ جَامِعَةٌ هِيَ قَوَاعِدُ عَامَّةٌ وَقَضَايَا كُلِّيَّةٌ، تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا دَخَلَ فِيهَا وَكُلُّ مَا دَخَلَ فِيهَا فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِاسْمِهِ الْعَامِّ وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ ذِكْرُ كُلِّ شَيْءٍ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ" (21) ويقول أيضا: "الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النُّصُوصَ وَافِيَةٌ بِجُمْهُورِ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا وَافِيَةٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مَعَانِيَ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَالُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشُمُولُهَا لِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ وَقَاعِدَةٌ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً وَتِلْكَ الْأَنْوَاعُ تَتَنَاوَلُ أَعْيَانًا لَا تُحْصَى فَبِهَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ النُّصُوصُ مُحِيطَةً بِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ" (22)
وقد ألف ابن تيمية كتابه المشهور(السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) بناء على تلك القواعد الكلية في آيتي (سورة النساء 59، 60)؛ فالخطاب في الآية الأولى للولاة والحكام، والخطاب في الآية الثانية للرعية المؤمنين.
ويقول الإمام القرافي أيضا في معرض تعريفه لأصول الشريعة: "قواعد كلية فقهية كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحكمه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف، وتتضح مناهج الفتوى وتكشف" (23)
ومما سبق يظهر بأن الفرق بين مراد أهل العلم (بالقواعد العامة) ومراد غيرهم بتلك القواعد العامة، أن أهل العلم يرون أن القرآن الكريم وإن لم يتعرض إلا للمبادئ دون التفصيلات، لكن هذه التفصيلات متضمنة في تلك المبادئ.
ولو كان القائلون بأن للإسلام مبادئ سياسية عامة من دون أن يكون له نظام سياسي واضح المعالم، يقصدون أن ما حدث من ممارسات سياسية على عهد الرسول وبعد وفاته من الصحابة الكرام كان تطبيقا عمليا لتك المبادئ يناسب بيئتهم فقط، فإننا نقول ألا دليل لديهم على ذلك، ثم نقول: لماذا كان ذلك في الأمر السياسي فقط، لماذا لا يكون أيضا في القضاء والاقتصاد ونحو ذلك، والجواب: أنهم إذا قالوا بذلك، فكأنما يدعون أن الإسلام لم يجيء بأي نظام واضح في أي شيء، بل كل ما جاء به هي مجرد مبادئ عامة وفقط، وبالتأكيد هم لا يقولون بذلك!
وأخيرا فإننا لم نجد كثيرا من المعاصرين الذين قصروا النظام السياسي الإسلامي على مجرد المبادئ-دون المعالم-، ذكر مبدأ هاما جدا في تلك المبادئ بل هو من أدلة إسلاميتها، ألا وهو مبدأ (السيادة للشرع)؛ حيث إن الحكم لله وحده، وهو ما يعرف لفظيا بمبدأ (السيادة لله)، ولذلك فإن مثل هذا القول عن وجود المبادئ السياسية العامة من دون وجود معالم لنظام سياسي إسلامي، يحمل في طيات ذاته عوامل هدمه.
إننا إذا أردنا أن تكون تلك المبادئ العامة محددة لفظيا، فيمكن أن نحصرها في أمرين، ذكرهما المستشار عبد القادر عودة –رحمه الله-؛ فقد تحدث عن دعامتيْن لنظام الحكم في الإسلام قائلا: "إن نظام الحكم الوحيد الذي يعرفه الإسلام هو الحكم القائم على دعامتين: إحداهما طاعة الله واجتناب نواهيه، والثانية: الشورى، أي أن يكون أمر الناس شورى بينهم، فإذا قام الحكم على هاتين الدعامتين فهو حكم إسلامي خالص، وليُسمَّ بعد ذلك: الخلافة والإمامة، فكل هذه تسميات لا غبار عليها، أما إذا قام على غير هاتين الدعامتين فهو حكم لا ينسب للإسلام" (24)
والحقيقة أننا إذا أمعنا النظر نجد أن هاتيْن الدعامتيْن متسعتيْن بحيث إنهما تشملان القرآن الكريم، فدعامة الشورى هي منهج للحكم قد تم النص عليه بوضوح في القرآن الكريم وتركت تفاصيل وسائله وكيفيته لاجتهاد العلماء، وأما دعامة طاعة الله بتنفيذ أوامره واجتناب نواهييه، فهي منبثقة من مبدأ (السيادة لله)-فلا يُطاع إلا السيد-، ويندرج تحتها المبادئ العامة التي يظهر منها أنها خاصة بنظم الحكم والسياسة، كالعدل، والجهاد، والوحدة –مثلا-، وكذلك المبادئ العامة التي تنتمي في الأصل لمنظومة القيم الإسلامية أو الإنسانية عامة، والتي تلزم لأي نظام سياسي راشد، كالحرية والمساواة وغير ذلك.
وبالتالي فيمكننا القول ونحن مطمئنين أن المبادئ العامة للنظام السياسي الإسلامي، ليست محصورة في عدد معين، وأنها تتسع لتشمل كل ما يمكن استنباطه -بالطرق المعروفة في أصول الفقه- من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية –حديثا وسيرة-، وسيرة الخلفاء الراشدين، حسبما يفتح الله لعباده من أهل العلم من فيوضات تنير بصائرهم.
ويمكننا القول أيضا: إن الكليات والمبادئ العامة للنظام السياسي الإسلامي هي نسق فكري عام نابع من القرآن والسنة، تكفّل بإرساء الأساس النظري والإطار المرجعي، الذي ينبثق منه النظام السياسي الإسلامي، بحيث تفصَّلت فروعه بعدما تأصلت كلياته.
وعلى أية حال، تكمن فائدة تلك الكليات أو القواعد والمبادئ العامة للنظام السياسي الإسلامي في أنها شكلت أساسا لبعض معالم هذا النظام في عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفي عهد الراشدين، كما أنها شكلت سابقا ويمكن أن تشكل لاحقا أساساً لما يمكن أن ينبثق منها، وينبني عليها من اجتهادات المسلمين عبر العصور وحسب حاجاتهم في وسائل وكيفيات وآليات معالم النظام السياسي الإسلامي.
وهنا يثور سؤال: إذا كان النظام السياسي الإسلامي لا يحتوى على المبادئ والكليات العامة فقط؛ فما هي محتوياته الأخرى التي تشكل المعالم الرئيسة المحددة له؟
والجواب: ليس من شرط كون النظام السياسي الإسلامي مدلولا عليه بأدلة الشرع أن يكون الدليل الدال عليه على شكل نص صريح خاص بذلك، إذ أن الدلالة الدالة على النظام السياسي الإسلامي قد يُدل عليها إما بصريح صيغتها ووضعها، مثل: (الأمر والنهي والعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والظاهر) وإما بغير صريح الصيغة والوضع، مثل: (دلالة الاقتضاء ودلالة التنبيه والإيماء ودلالة الإشارة والمفهوم)(25)، وفي كلا الحالتيْن يأتي دور العلماء والمختصيْن لتبيان هذا النظام.
وبناء على ذلك يمكننا القول:
إن النظام السياسي الإسلامي، يتكون من المعالم الرئيسة الآتية:
1- كليات المبادئ العامة.
2- مؤسسات النظام السياسي الإسلامي ومعالمها.
3- الدولة الإسلامية ومكوناتها.
ولعلنا في مقالات قادمة بإذن الله نستعرض مؤسسات النظام السياسي الإسلامي ومعالمها، وكذلك الدولة الإسلامية ومكونتها، بحيث نبيّن ما بُني فيهما على النصوص الشرعية الصريحة، وما بُني فيهما على المبادئ والقواعد العامة للنظام السياسي الإسلامي المستنبطة بطرق الاستنباط –المعروفة- من القرآن الكريم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يُنظر: د. أحمد الريسوني (الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية) دار الأمان بالرباط، دار السلام بالقاهرة، ط1/ 2010م.
(2) أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) دار العاصمة بالرياض، ط1/ 1414هـ (1/ 64)
(3) انظر: د. أحمد الريسوني (الكليات الأساسية) مرجع سابق.
(4) د. عطية عدلان (الأحكام الشرعية للنوازل السياسية ) الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح، ط1 / 2011م (ص68: 116)، والمقصود بالنوازل: هو القضايا والوقائع الجديدة.
(5) محمد سليم العوا (فى النظام السياسي للدولة الإسلامية) دار الشروق، ط 8 / 1426هـ، 2007م (الفصل الرابع)
(6) من العجيب أن تتسرب تلك الأقوال لبعض من كان له دور رئيس في مقاومة العلمانية والرد عليها بلغة تناسب أصحاب الفكري الغربي، مثل الدكتور محمد عمارة، في كتابه( الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية) دار الشروق، ط1/ 1409هـ، 1988م ( ص 53)، حيث يقول: " الإسلام كدين لم يُحدد للمسلمين نظاما محددا للحكم " !!!
فإن كان قصده، أنه لا يوجد في الإسلام إلزام بكيفية معينة لاختيار الحاكم، فهو كلام سليم، و إن كان قصده أنه لا يوجد في الإسلام أي معالم محددة للحكم، فهذا هو موضع الخلاف معه.
(7) د. سليمان الطماوي (السلطات الثلاث في الدساتير العربية المعاصرة وفي الفكر السياسي الإسلامي) دار الفكر العربي، ط3/ 1974م (ص462، 463)
(8) د/ عبد الحميد متولي (مبادئ نظام الحكم) دار المعارف، ط1/ 1966م (ص240)
(9) محمد محمد علي محمد (الفكر السياسي عند الإمام الشوكاني، دراسة مقارنة) رسالة علمية لنيل(الماجستير) بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، 1993م، بإشراف، د.السيد رزق الحجر، نقلا عن موقع الألوكة، 3/7/2010م، على الرابط: http://www.alukah.net/library/10787/23251/
(10) محمد إبراهيم مبروك (الإسلام الليبرالي بين الإخوان المسلمين والوسطيين والعلمانيين) مركز الحضارة العربية، بالجيزة، ط1/ 2012م (ص91: 95)
(11) فهد بن صالح العجلان (قصة العلمانية المؤسلمة) مجلة البيان، شوال 1433هـ، أغسطس 2012م، (العدد 302)
(12) محمد شاكر الشريف ( تحطيم الصنم العلماني ) دار البيارق، ط1/ 1421هـ، 2000م (ص25)
(13) فهد بن صالح العجلان،(قصة العلمانية المؤسلمة)، مرجع سابق.
(14) المرجع السابق.
(15) محمد سليم العوا، (فى النظام السياسي للدولة الإسلامية) مرجع سابق (ص66).
(16) المرجع السابق (ص147).
(17) المرجع السابق (ص 183)
(18) المرجع السابق (ص240)
(19) " يجب أن يُعلم أن عملية تغير الفتوى بتغير الزمان و المكان و الشخص؛ إنما هي عملية تهدف إلى إبقاء الأمور تحت حكم الشريعة، وإن تغيرت صورتها الظاهرة، فهي ليست خروجاً على الأحكام الشريعة الثابتة و ليست استحدثاً لأحكام جديدة، و من الضوابط التي يجب مراعتها عند اختلاف الفتوى، ما يلي:
اختلاف العوائد والأعراف، وجود السبب وتحقق الشرط وانتفاء المانع أو عدم بعض ذلك، الضرورة الملجئة، تغير الأوصاف أو الأسماء، تدافع المأمورات أو المنهيات، وجود العارض وزواله، تغير الآلات والوسائل ".[محمد شاكر الشريف (ثبات الأحكام الشرعية وضوابط تغيُّر الفتوى)، بتاريخ 3/1/ 2013م على الرابط التالي:
http://www.saaid.net/Doat/alsharef/3.htm
(20) محمد شاكر الشريف (تحطيم الصنم العلماني) مرجع سابق (ص178: 189) بتصرف
(21) ابن تيمية (مجموع الفتاوى)، مرجع سابق (34/206، 207):
(22) المرجع السابق (19/280)
(23) أبو العباس القرافي (أنوار البروق في أنواء الفروق) دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ - 1998م ( 1 / 2: 3)
(24) عبد القادر عودة (الإسلام وأوضاعنا السياسية) مؤسسة، بيروت، لبنان، 1401هـ، 1981م (ص 94)
وأحب أن يكون واضحا أنني أوافق المستشار عبد القادر عودة، فيما ذكره من تنظير لفظي للمبادئ العامة للنظام السياسي الإسلامي، وكذلك في عدم الإلزام بإطلاق لفظ الخليفة على الحاكم، دون أن أوافقه فيما يبدو من بعض كلامه، أنه من الذين يقصرون النظام السياسي الإسلامي على مجرد المبادئ العامة، حيث قال في (ص93) من هذا المرجع: " والخلافة والإمامة والملك لا يقصد منها في نصوص القرآن إلا الرئاسة بمعناها العام، ولا يقصد منها الدلالة على نظام معين من أنظمة الحكم ".
(25) انظر: محمد شاكر الشريف (تحطيم الصنم العلماني )مرجع سابق (ص62)
المصدر: http://www.taseel.com/display/pub/default.aspx?id=8815&mot=1