تعبيرات الحوار

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه

 

في الفترة الماضية القريبة، جرى مؤتمر الحوار في مكة المكرمة، وهو محاولة لوضع الأسس المنهجية الصحيحة، في طريقة وأسلوب الحوار مع أتباع الديانات الأخرى، وقد كان إسلاميا خالصا؛ وإذ لم يكن لكثير من المتخصصين في حقل العقيدة والأديان والفرق -أمثالي-، فرصة المشاركة بالكلمة، أو الحضور والاستماع، فإني لم أرد أن أفوت المشاركة بالمقالة والقلم، وهو أضعف الإيمان.

"الحوار مع غير المسلمين" أو لنقل بالتعبير المتداول في الإعلام: "حوار الحضارات" ، وإذا أردنا أن نضع النقاط على الحروف فليكن القول: "حوار المؤمنين مع الكافرين" .

هي تعبيرات بعضها دعوية، والأخرى سياسية، والثالثة عقدية، ولكل مقام مقال.

فلا ضير من استعمال هذا التعبير أو ذاك، بشرط سلامة المنهج والتزام الأصل بقوة:

- "خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون" .[البقرة:63].

- "يا يحيى خذ الكتاب بقوة.." .[مريم:12].

ففي حال الدعوة إلى الإسلام بإيضاح حقائقه، وملاءمتها للإنسان والبشر عموما، فمن المفيد استعمال مصطلح "الحوار مع غير المسلمين"، والاستظلال بظله، فهذا المقام لا يصلح فيه دمغ المخالف في الدين بالكفر، هكذا صراحة؛ فذلك في الغالب مانع من مضي الحوار.. دافع لاتخاذ المواقف المتصلبة المعاندة، لا لشيء سوى أن هذا المخالف يعز عليه، أن يوصم –في موقف حوار- بكونه على دين باطل نشأة، وحياة، ومعاشا، أو أن يقر بذلك تحت وطأة التكفير، والتضليل، والتجهيل.. هو قد لا يبالي بذلك كثيرا، لو أنه عرف ذلك من طريق ألطف وأرفق.

ومعلوم كذلك، أنه قد يدفعه ذلك إلى سب وشتم الإسلام، انتصارا لدينه، والله تعالى يقول:

- "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم" .[الأنعام:108].

فنعت الكافرين بالكفر، وانتقاصهم به، أو سب آلهتهم وإن كان بيانا، لكن فعله في مواطن يرجع بالأثر السيئ، وموطن الحوار من هذا. والأنسب استعمال الطريقة القرآنية: - "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".

وفي الحالة السياسية، يكون المقصد كسب المواقف السياسية، المتضمنة المبادرة إلى التقارب والسلم والتعايش والوفاق، والبُدُوّ في صورة المحب للعدل والسلام والحرية.

وفي هذا المقام يحسن استعمال مصطلح "حوار الحضارات"، للأثر الذي يترتب عليه، من كف شر القوى الجامحة، المتطلعة إلى العدوان على الضعيف، فهذا الضعيف قد لا يكون في يده من حيلة سوى ذاك، وبه تبطل المبررات التي يستند إليها المتهور، ويتعلل بها في عدوانه، وأبرزها وصم هذا المسكين أنه لا يحب السلم ويحب الحرب، ولا يجنح إلى العدالة ولا الحرية.

حتى لو لم تنفعه هذه الحيلة في دفع عدوانه، فإنه سيجد الأكثر متعاطفا معه في قضيته، وهذا قد يفتح باب أمل للخلاص من تسلط المعتدي، والمؤمن مطالب باتخاذ كافة التدابير للتحوط في حال عجزه عن الرد بالمثل. ومن التحوط كسب الأصوات، أو تحييدها.

إن الله تعالى يقول:

- "قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون" .[سبأ:24].

ومعلوم من المجرم، ومن الذي ضل، فحاشا نبينا صلى الله عليه وسلم شيء من ذلك، لكنه مقام التنزل واللين، وترك المصارحة حينا؛ لتتسنى إقامة الحجة، وكف الشر، ليس مقاما آخر.

وهكذا لا ضير في استعمال مختلف الأساليب في الحوار مع غير المسلمين، مما يندرج تحت مصطلحات: المداراة، والحكمة، والسياسة، والتورية، والتلطف ونحوها، إذا كان المحاور المسلم معتقدا صحة الإسلام وبطلان ما سواه من الأديان، والحوار قائم على أساس البحث عن الحقيقة بتجرد، وذلك لا يكون إلا إذا أظهر كل طرف، أنه يبحث عن الحقيقة، وأن الحوار كفيل به.

ومصطلح الحوار يقابله في القرآن الكريم "الجدل"، يقول تعالى: 

- "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" .[النحل:125]. 

- "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.." .[العنكبوت:46].

فالحكمة يمكن أن يندرج تحتها التعبير السياسي: "حوار الحضارات"، ولكن بشرطه الآنف. 

والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، منها استعمال التعبير الدعوي: "الحوار مع غير المسلمين". وأين التعبير العقدي: "حوار المؤمنين مع الكافرين" إذن؟.

هذا في الحقيقة لا مكان له ظاهر في حوار الديانات؛ لأنه حسم مبكر، والحوار لا يصلح فيه هذا الحسم، إنما الحسم يأتي بعد مجادلات، ومطارحات، ونقاشات متعددة؛ أي إنما يأتي في النتائج، لا في مقدمات الحوار.

كذلك لا يتلاءم هذا التعبير ومفهوم الحوار؛ لأنه يصد ويبعد، ولا يجذب ولا يقرب، ومكانه في هذه الحالة، الخاصة لا المطلقة، الضمير والاعتقاد، فهذا لا مندوحة منه، وهو من الخطوط الحمراء في نظام الإسلام، فأي خلل في اعتقاد علو الإسلام، خلل في الدين نفسه، في أصله، فلا يسع المسلم إلا أن يعتقد: أن من ابتغى غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين. كما تقرر الآية.

هذا المعنى يفرض نفسه على كل مسلم، ويفترض به أن يستحضره في كل حوار مع المخالفين في الديانة، سواء كان في طريقته متبعا الأسلوب الدعوي، أو السياسي. 

دع عن الثقافي، فالثقافي هو المزلّة، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا؛ إذ ينظر إلى الأديان على قدم المساواة في التوقير والصحة، دون اعتبار الفرق بين دين منزل ووضعي، وما بين دين محفوظ وآخر محرف.

واستحضار ذلك المعنى، المتقدم الأصل الآنف ذكره، في الحوار مفيد في الإقناع؛ إذ الدخول في الحوارات من مبدأ الاستعلاء المتأدب، والثقة الكبيرة، والإيمان العميق يفيد في تهيئة الخصم، وإعداده لتقبل مبادئ الإسلام، والدخول في دائرتها.

واستعمال أسلوب الندية، وإن وجده بعض الناس مفيدا، وحلا مثاليا في إنجاح الحوار، إلا أنه في الحقيقة تضمن الإشارة إلى التساوي، وهذا خطأ وخلل.. نعم استعماله في الظاهر لا بد منه؛ لأن الحوار لا ينجح ما لم يظهر كل فريق تساويه مع الآخر، لما تقدم. غير مقصود

الاستعلاء بالإسلام هو الاستعلاء به في الاعتقاد والضمير، واستصحابه أثناء الحوار خصوصا.

وأما أسلوب الغالب والمغلوب فهو الأسوأ، وهكذا هي الحوارات مع الغرب، سواء كانت دينية، أو سياسية، أو ثقافية، وحقها أن تسمى: إملاءات، وأوامر، ووصايا، وتوجيهات. يتلوها الغالب على المغلوب، فهو قهر وإذلال، لكن بأسلوب مهذب، متمدن، ديمقراطي، ليس بأساليب الهمجية والتخلف، والاستبداد.

ولا يفوت هنا التنبيه إلى: أنه ثمة حالة لحوار عقدي يستعمل فيه المصطلح الصريح، والذي يضع النقاط على الحروف، بكل وضوح، حينما تشتد الخصومة، ويسفر الشر عن وجهه، ويقصد إلى إبطال الحق بكل وسيلة، فإذا أسفر صراحة وعمد إلى التشويه والفرية، هنا يَحِلُّ كل ذلك.

الإسلام أول من دعا إلى الحوار بأسس صحيحة، فرضي لأتباعه أن ينزلوا أنفسهم منزلة المخالفين في طلب الحق، كما تقدمت الآيات، ومعه اشترط شرطا مهما، هو عدم التنازل عن شيء من الحق، والحذر من ذلك كل الحذر، قال تعالى:

- "ودوا لو تدهن فيدهنون" .[القلم:9].

- "لا أعبد ما تعبدون" .[الكافرون:2].

- "ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين" .[الحاقة:44-45].

- "وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لاتجد لك علينا نصيرا" .[الحاقة: 73-75].

- "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك..." .[المائدة: 49].

فالاعتقاد بصحة الإسلام وعلوه، وبطلان ما سواه، وما يترتب على ذلك، من الحكم -عموما- على من مات مسلما بالجنة، ومن مات على الكفر بالنار، أمور حاسمة، ليست محل تأويل، ولا تبديل، ولا تحريف، وهي فتوى إلهية، لا تتغير بتغير الزمان، ولا المكان، وهو أصل قام عليه الإسلام، وأي حوار لا يستصحب هذا في الضمير، فليس حوارا بل فتنة، ومداهنة، وتقوّل على الله تعالى، وهو موجب لعذاب الحياة والممات، والإعراض عن ولاية الله تعالى.

وإذا ما حقق المحاورون هذا الاعتقاد، فلا يضرهم بعد استعمال المصطلح الدعوي اللين، أو السياسي الألين؛ لأن العقيدة المستقرة والثقة بالإسلام ستترك أثرها في ذلك، أسلوبا، وكلمة، وتأثيرا.

ثم إنه وبحسب تصريحات من شارك في مؤتمرات للحوار سابقة، فإنها لا ترتقي إلى مبدأ الحوار؛ ذلك لأن الطرف المبادر به هو الغرب، وقد عرف عنه أنه يأتي المؤتمرات، وقد حدّ حدوده، وأغلق دائرته، وكتب على الناس ما يفعلونه، وكيف يكون حوارهم، وعلى أي أساس، هكذا منفردا ؟!!.

وهكذا يبطل الحوار، ويحل محله فرض الرأي، والاستبداد، وهي مصطلحات مناقضة تماما لمبدأ الحوار، فلا فائدة ترجى، وكان على المشاركين من المسلمين أن ينأوا عنه، ولا يكرروا المشاركة. والأحسن والأحرى مبادرتهم هم به، وطرح أسسه ومبادئه، وطريقته وشروطه، فالمسلمون أوفر الناس حظا به، لإنجاحه والإفادة منه؛ ذلك أنهم يتبعون فيه الأصول والقواعد القرآنية، وفيها ما يجتمع عليه الموافق والمخالف، فقد بالغ الإسلام في الإنصاف، حتى رضي لأتباعه أن يهضموا مقامهم وينزلوا من أنفسهم منزلة الخصم، كما قد تبين؛ لإنجاح الحوار، لكنه لم يفوت التنويه بالشرط: التمسك بمبدأ علو الإسلام.

المصدر: https://uqu.edu.sa/lmkhojah/ar/56761

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك