التسامح الديني ونبذ العنف والإرهاب

الدكتور نوح علي سلمان

 

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

حديثي إليكم أيها الإخوة عن التسامح الديني ونبذ العنف والإرهاب، ولا بد في بداية الحديث أن نعرِّفَ التسامح والعنف والإرهاب.

أما التسامح الديني فهو عدم اضطهاد الناس بسبب دينهم، واتساع أبواب الدين لكل البشر كما أن التسامح يعني عدم إحراج أتباع الدين بالأحكام التي تشرع لهم، وأما العنف فهو استعمال القوة لتحقيق هدف ما، فإن كان الهدف مشروعا فالعنف مشروع، كالعنف الذي تستعمله قوات الأمن عند الضرورة لدفع شر المجرمين وإبطال عنفهم، وإن كان العنف لتحقيق هدف غير مشروع فهو عنف غير مشروع، كالعنف الذي يستخدمه المجرمون ضد الأبرياء لابتزاز أموالهم والسطو على أعراضهم.

ومثل هذا يقال في الإرهاب، فالإرهاب هو التخويف، فإن كان لتحقيق هدف مشروع فهو إرهاب مشروع، كإرهاب العدو كيلا يعتدي على بلادنا، وإرهاب المجرم كيلا يقدم على الجريمة، قال الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الأنفال/60

والذي نود توضيحه في هذه المحاضرة هو سماحة الدين الإسلامي، بمعنى سعة أفقه واستيعابه لكل شرائح المجتمع، إلى جانب رفع الحرج عن الناس في الأحكام التي يدعوهم إلى تطبيقها، ويلزمهم العمل بها، كما نبين موقفه من العنف والإرهاب.

وبيان ذلك أن هذا الدين أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وخاطب به كل البشر، قال الله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) إبراهيم/1، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) سبأ/28 ، فهو مؤهل ليستوعب كل الناس.

وهذه العالمية في الدعوة الإسلامية نراها نحن المسلمين أمرا عاديا؛ لأننا ألفناها وتعلمناها منذ الصغر، ولكنها تبرز بصورة مميزة إذا تذكرنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وَكَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً) متفق عليه، فبعض الديانات قومية لا تقبل غير القوم الذين أنزلت فيهم.

وهذه الميزة جعلت الإسلام يتسع لكل الشعوب على اختلاف طبقاتهم ولغاتهم وألوانهم، فرأينا الأمم المختلفة تدخل في هذا الدين ليصبحوا بعد ذلك إخوانا متحابين، فهو لا يميز طرفا على حساب طرف، ولا قوما على حساب آخرين، وكم رأينا من غير العرب من دخل في الإسلام ثم صار له موقع مميز بين المسلمين من عرب وعجم، سواء كان ذلك في مجال العلم والتقوى، أم في مجال السياسة والحكم، أم في مجال الاقتصاد والجهاد؛ لأن القاعدة التي يرجع إليها الجميع هي قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات/13.

ذلك أن التقوى لا يعلم حقيقتها إلا الله، فهو خبير بأحوال عباده الظاهرة والباطنة، وهذا التسامح مع كل الشعوب يعني أن من دخل في الإسلام لن يكون مواطنا من الدرجة الثانية، بل هو نظيرٌ لغيره من المسلمين، يقف معهم على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، وهذه أيضا ميزة شجعت على الدخول في الإسلام، ولا نعرف قدرها إلا إذا نظرنا إلى الكثير من الأنظمة والقوانين في العالم التي لا تجعل الوافد مساويا للمواطن مهما طالت مدة إقامته في البلد الذي هاجر إليه، ومهما كان إخلاصه للوطن الذي يعيش فيه، وإذا كان هذا الإجراء التنظيمي له مبررات أمنية واجتماعية نقدرها ولا نناقشها، فإن الإسلام فتح الباب للجميع ليقفوا بين يدي الله عبادا متساوين متحابين، فلا ينظر أحدهم إلى غيره شزرا وحقدا لأنه يخالفه في اللغة أو اللون، وإذا كانت الولايات المتحدة تتحدث عن رئيس أسود، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنا: (عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) رواه البخاري.

أما غير المسلمين الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي، فإن الشريعة الإسلامية تعتبرهم جزءا من هذا المجتمع، وهم في حماية جميع المسلمين، بل في حماية الله تعالى وحماية رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى كونهم أهل ذمة، أي في حماية الله ورسوله، لا يجوز الاعتداء عليهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) رواه البخاري.

وقد ترك لهم عقائدهم وما يتعلق بها من أحكام في طعامهم وشرابهم وحياتهم الأسرية، لكن يطبق عليهم النظام العام للمجتمع الإسلامي.

وكما لا يضطهدون في عقائدهم لا يسمح لهم أن يتدخلوا في الشؤون الدينية للمسلمين، وإذا حسن التعامل معهم، ورأوا من أخلاق المسلمين ما يجب أن يكون عليه كل مسلم سيدخلون في الإسلام طواعية، وهذا ما حصل في كثير من المجتمعات التي وصل إليها الإسلام، فرأي فيه غير المسلمين ما يوافق أصول دياناتهم ووصايا وتعاليم أنبيائهم، فلم يروا بعد ذلك داعيا لأن يظلوا بعيدين عن الإسلام، فانخرطوا في صفوف المسلمين ظاهرا وباطنا، وحسن إسلامهم، وخدموا الإسلام خدمات جليلة.

ومن مظاهر هذا التسامح:

1- احترام جميع الأنبياء " لا نفرق بين أحد من رسله "، (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة/136. مع ملاحظة أننا نؤمن بأصل الدين كما أنزل، لا بالتحريفات التي طرأت فيما بعد.

2- الأدب في الحوار مع الديانات: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) العنكبوت/46.

3- الرسول صلى الله عليه وسلم كان له جيران من اليهود، وكان يعاملهم بالحسنى لأنهم لم يكونوا محاربين، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يصلِّ في كنيسة القيامة كيلا تتخذ مسجدا بعد ذلك.

هذا من جانبنا، لكن ما فعله الآخرون؟

1- الحروب الصليبية، وما قتلوه من المسلمين في القدس.

2- محاكم التفتيش في الأندلس.

3- القتل على الهوية في البوسنة والهرسك.

4- العدوان على المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال والهند.

قال تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ . النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ . إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ) البروج/4-6.

إن التسامح والإنصاف يفتحان الأبواب المغلقة والقلوب المقفلة، حتى المسلم الذي انحدر من أبوين مسلمين إذا تدبر سماحة الإسلام تشبث به، وأصر عليه، وتبنى قضيته، ودعا بدعوته، وهذا الجانب الثاني من سماحة الإسلام، أعني التيسير في أحكام الشريعة الإسلامية.

وهنا نجد عددا كثيرا من آيات القرآن، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقواعد الفقه الإسلامي، تؤكد على هذا المعنى:

قال الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة/185

وقال جل جلاله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج/78

وقال صلى الله عليه وسلم: (يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا ، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا) متفق عليه.

واتفق الفقهاء على أن المشقة تجلب التيسير، ومن هنا جاز التيمم عند فقد الماء، وجاز للمريض أن يصلي قاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب، وجاز للمسافر أن يقصر الصلاة، وأن يفطر في رمضان، وغير هذا كثير من الأحكام التي شرعها الله لعباده تيسيرا وتخفيفا عليهم.

وليس معنى هذا الانفلات من الأحكام الشرعية، وأن يفعل الإنسان ما يريد، ويترك من الأحكام الشرعية ما يشاء بحجة التيسير، بل الرخص الشريعة لها أحكام وضوابط لا يعجز المسلم المهتم بأمر دينه المقبل على ربه عن تطبيقها، في أي ظرف من الظروف، ولهذا لا يجد المسلم حرجا في تطبيق أحكام الشريعة، كما لا يستطيع الانفلات من أحكامها الدقيقة.

وتسري هذه الروح السمحة إلى أخلاق المسلمين وهم يتعاملون فيما بينهم، ويتعاملون مع غيرهم. قال الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) الأعراف/199، وقال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آل عمران/134. وقال تبارك وتعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم/4، لينبه أمته جميعا، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم مثله الأعلى في الخلق الحسن.

وحتى في الظروف الحربية التي يتجاوز فيها الكثير من الناس حدود الأدب واللياقة والرحمة بالإنسان، نجد الإسلام يأمر المسلم بأن يكون منضبطا في تصرفاته، لا يتجاوز حدود الله في ساعات الغضب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ اللَّهُ) متفق عليه.

ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان، كما نهى عن التمثيل بقتلى الأعداء، ونهى عن الغدر، بل أمر بمعاملة نظيفة واضحة حتى مع الخصوم في الحرب، قال الله عز وجل: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) الأنفال/58، أي: أعلن لهم رفض المعاهدات التي بينك وبينهم، ليكون الأمر واضحا بعيدا عن الغدر.

لقد كلفت هذه الأحكام المسلمين الكثير في تعاملهم مع الآخرين، ولكنهم ظلوا المثل الأعلى والقدوة الحسنة في التعامل بين الناس في السلم والحرب، حتى قال عنهم خصومهم: ما عرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب. يعني: المسلمين الذي كان يقودهم العرب، ويعبرون عن حضارتهم باللغة العربية.

تلك هي مسيرتنا خلال التاريخ، تشريعٌ سمح، ومسلمون كرماء.

ثم جدَّت ظروف جعلت البعض يخرج عن هذا المنهج المعتدل، فحدث ما يسمى بالتطرف، وأخذ التطرف ينمو باتجاهين - ومنهما تولد العنف غير المشروع والإرهاب غير المشروع -:

الاتجاه الأول: التحلل من القيم الإسلامية والأحكام الشرعية، وانتهاج مناهج تخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بحجة التطور والتمدن ومقتضيات العصر ومتطلبات الحياة، وهذا التطرف لا يكاد يذكر عندما يتحدث الناس عن التطرف والإرهاب في المؤتمرات وغيرها، مع أنه سبب التطرف الثاني، فقد وجدنا من أبناء المسلمين من يريد من الأمة الإسلامية أن تلتحق بغيرها من الأمم، وأن تحيد عن شريعة الله لتكون تابعة لغيرها، بعد أن كانت متبوعة من قبل الشعوب والبلدان الإسلامية، حتى سمعنا مَن يتطاول على الإسلام والقرآن وشخص النبي صلى الله عليه وسلم، ويطعن بآل بيته الطيبين الطاهرين.

والحق أن هذا الفكر قد انحسر ولم يجد رواجا بين جماهير المسلمين، بل رأينا من أقطاب الدعاة إليه من عادوا إلى الله، تائبين مستغفرين من نزوات الشباب الذي جعلهم يجرون خلف سراب لم يجدوا فيه نفعا، ولم يجدوا فيه رفعة لأمتهم، ولا خروجا من مأزقهم.

وبقيت له عقابيل كعقابيل المرض، تتمثل في التحلل من الالتزامات الشرعية، والمجاهرة بالخروج عن أحكام الدين.

وهؤلاء أيضا نرى الكثير منهم يعودون إلى الله، ويلتزمون بأحكام الشريعة الإسلامية، ويتوبون عن مخالفاتهم التي عملوها، وقد كان للوعظ والإرشاد والتوجيه الديني في المؤسسات الرسمية من مساجد ومعاهد ومدارس وكليات أثر في هداية هؤلاء؛ لأن مادة الثقافة الإسلامية توليها المملكة الأردنية الهاشمية عناية خاصة في كل مجالات التعليم، إلى جانب وسائل الإعلام المتعددة التي تدعو المسلمين إلى الإسلام، وتذكره بحقائق دينهم.

والذي ينظر إلى الشارع الإسلامي في هذا البلد يجد الدليل على ما نقول، فالحجاب منتشر في الجامعات والمدارس، والمساجد ممتلئة بالمصلين من رجال ونساء وشباب وشيوخ، وإذا تذكرنا الأزمة السياسية التي توشك أن تطيح بحكومة منتخبة في بلد إسلامي بسبب الحجاب، عرفنا مدى أهمية هذا الحجاب كمظهر إسلامي يدل على عقيدة في القلب.

هذا إلى جانب مظاهر إسلامية أخرى في بلدنا العزيز.

وأنا لا أنكر وجود مظاهر مخالفة للإسلام تعد تطرفا سلبيا مزعجا، لكنها في نفس الوقت لا تشكل ظاهرة تدل على انصراف الأمة عن دينها، وندعو الله أن يهدينا جميعا سواء السبيل.

أما الاتجاه الثاني للتطرف - وهو الذي يتحدث عنه الناس في المؤتمرات -:

فهو التشدد والمغالاة في تطبيق الأحكام الشرعية، وفرض ولاية على الناس ليس لها سند شرعي ولا قانوني، بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولا شك أن الاتجاه الثاني يتغذى من وجود الاتجاه الأول، بمعنى أن استثارة الشعور الديني من خلال المخالفات الشريعة الصريحة يكون رد فعله الغلو والتشدد بأمر الدين، مع أن هذا ليس مبررا منطقيا للتشدد، فالدنيا من عهد آدم عليه السلام إلى قيام الساعة فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير، ونحن لا نتمنى السعير لأحد، لكنها حقيقة، والنجاة في التوسط لا في التطرف، سواء كان التطرف سلبا أم إيجابا، وقد قيل: (الحق لا إفراط ولا تفريط) بل اعتدال والتزام بالصراط المستقيم.

ويضاف إلى هذا الواقع المؤلم الذي تعيشه بعض الأقطار الإسلامية، وتنقله وسائل الإعلام التي طبقت الأرض في زماننا، ويطلع فيها الصغير والكبير والغني والفقير على مجريات الأحداث العالمية اليومية بالصوت والصورة، وهذه تجرح الشعور، وتجعل رد الفعل في بعض الأحيان غير منضبط لا شرعا ولا عقلا.

وقد أدى هذا التطرف إلى تكفير بعض المسلمين لبعض، وإراقة دمائهم، والتشفي من قتلاهم، وهو أمر مؤسف حقا، وحجم هذا التطرف كبير، وآثاره مزعجة، والسيطرة عليه ليست بالأمر اليسير، ولذا يجب أن نتعاون لإيجاد قناعة لدى هؤلاء الناس توقفهم عند حد الاعتدال،وتمنعهم برفق عن الخروج من الجادة إلى التطرف. وهذا ما تقوم به عدة مؤسسات.

ويمكن أن نلخص جهد التوجيه الديني في هذا المجال بما يلي:

1- الجهر بكلمة الحق، لكن بلطف وحكمة، دون تساهل في أحكام الشريعة، ولا تشديد على عباد الله، فإن بعض الفتاوى والمقولات المتساهلة التي يطلقها بعض الرموز الدينية الرسمية تؤدي إلى التطرف، ويقتضي الواجب أن ننهج المنهج القرآني في بيان الحق، وبيان عواقب الالتزام به والخروج عنه. قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف/29. ثم بين تعالى عاقبة الكافرين المؤلمة، وعاقبة المؤمنين السعيدة، وعلى الإنسان أن يتخير بعد ذلك، ولن نختار إلا الحق إن شاء الله.

2- بيان الفرق بين الأحكام الشرعية المتعلقة بالإنسان، فبعض الأمور يجب فعلها لأنها فرائض، وبعض الأمور من باب الفضائل، يفعلها من رغب في مزيد من الخير، وبعض الأمور محرمات لا يجوز فعلها، وبعضها مكروهات ويتنزه عنها النبلاء من المسلمين، وبعض الأعمال تعد كفرا، وهي قليلة جدا، وبعضها معاص لا يخرج صاحبها من الملة الإسلامية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنْ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رُخْصَةً لَكُمْ لَيْسَ بِنِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا) رواه البيهقي.

3- إن واقع الناس لا بد فيه من التنوع، ففيهم المسلم والكافر، والمؤمن والعاصي، ولا بد من بقاء هذه الأنواع مهما بذلنا من جهد، قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) الكهف/6، وقال عز وجل: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) فاطر/8، نحن لا نقر المعصية ولا نرضى بها، لكن لا ينبغي أن نكلف أنفسنا أكثر مما استطاعه الأنبياء عليهم السلام، فقد خرجوا من الدنيا وفيها الصالح والطالح والمؤمن والكافر.

4- بيان الفرق بين الأحكام الشرعية المتعلقة بشخص المسلم، وبين الأحكام الشرعية المتعلقة بالمجتمع الإسلامي.

أما ما يتعلق بشخص المسلم فيجب أن يطبقه كاملا ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

وأما ما يتعلق بالمجتمع فذلك مسؤولية ولاة الأمور، لا يكلف الفرد بتطبيقها، والنصوص والأحكام التي توضِّحُ هذا الفرق كثيرةٌ في المصادر الإسلامية.

5- بيان الفرق بين ما يجب في الظروف العادية، وما يجب في الظروف الاستثنائية، وشتان بين أمّةٍ مُتَّحِدةٍ قوية، وأمّةٍ غُلبت على دارها، وغاية جهدها أن لا تُغلب على عقيدتها، ومراعاة الفرق بين هذا وهذا تبطل الكثير من حجج الذين لا يراعون هذه الفروق.

6- من القواعد الشرعية أن الضرر الأخف يُرتكب تفاديًا للضرر الأشد، وسكوت المسلم على بعض الأمور لا يعني إقرارها، ولكن تفاديا لشرٍّ أعظم، ويجوز السكوت عن إنكار المنكر إذا ترتب على إنكاره منكرٌ أكبر.

7- بيان ما تغيَّرَ من أحوال المسلمين، وأنهم لا يعملون بمعزل عن بقية العالم، فالعالم اليوم مترابط، وتراعي كل دولة فيه الظروف الخارجية، سواء في القرار الداخلي والخارجي.

8- الحرص على تعليم الشريعة الإسلامية، ودعم المعاهد الدينية والكليات الشرعية الرسمية، لأن الذين سلكوا مسلك التطرف ما تَخَرَّجوا من هذه المعاهد التي تأخذ وقائع الحياة متكاملة، وإنما أخذوا مسائل ومواقف عن أشخاص ما تخرجوا من المعاهد الشرعية، ثم عمَّمُوا تلك المواقف، ووصل الأمر إلى ما وصل إليه، وإلا فأيُّ فقيهٍ من أصحاب المذاهب يفتي بقتل مجموعة من المسلمين، ليحاول قتل عدو واحد، وقد لا يقتله؟!

هذه الأمور متشابكة، والذي ذكرته قليل من كثير، ونحن نسعى من خلال وسائل الاتصال والإعلام الحديثة إلى نشر هذا الفكر الإسلامي الأصيل، وليس لنا على الناس إلزام، لكن نقول كلمة الحق معذرة إلى الله، وإبراءً للذمة من حق الأمة الإسلامية، وهذا ما نستطيع، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

ونرجو الله تعالى أن يوفقنا جميعا لحماية مجتمعنا وأمتنا من الغلو والتطرف بنوعيه، وأن يجمع كلمة المسلمين على ما يحبه ويرضاه، وأن يجعل بلدنا آمنا مطمئنا دار عدل وإحسان ووسطية واعتدال بقيادة صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم حفظه الله ورعاه، وسدد على طريق الخير خطاه، وفي ظل الراية الهاشمية الماجدة.

المصدر: http://aliftaa.jo/Article.aspx?ArticleId=122#.VGkVZTSUcwA

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك