الإسلام والقانون الدولي الإنساني

الدكتور نوح علي سلمان

 

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأحكام الإسلامية سابقة للقانون؛ ولذا لا بد من استعراض الأحكام الإسلامية فيما تناوله القانون الدولي الإنساني.

يتلخص القانون الدولي الإنساني:بأن العمليات الحربية لا يجوز أن تستهدف غير المقاتلين فعلاً (سواء في هذا الأشخاص المقاتلون والمعدات القتالية) أما غير المقاتلين أصلاً (كالأطفال والذين خرجوا من ساحة القتال بسبب الأسر أو المرض) فلا يجوز استهدافهم، بل يجب الإحسان إليهم، ومعاملتهم بما يليق بكرامة الإنسان.

وحتى في الوسائل القتالية يجب تجنب الوسائل التي تزيد عن الحاجة إلى إبطال قوة العدو المقاتل؛ كالتعذيب، وأسلحة الدمار الشامل، والحرب الجرثومية.

ويتضمن القانون أيضاً الوسائل اللازمة لتنفيذه، والوسائل اللازمة لمراقبة التقيد به.

فلنستعرض بعض ما جاء في الأحكام الشرعية المتعلقة بموضوع القتال:

أولاً:الأصل في العلاقات بين الناس في الشريعة الإسلامية أنها علاقات أُخوَّة ومحبة، وتعاون وتنافس في خدمة المجموع؛ وذلك بما يكفل تحقيق سعادتهم على الأرض، وسعادتهم عندما ينتقلون إلى الدار الآخرة، قال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات/13. فهم إخوة يجب أن يكون بينهم ما بين الإخوة من محبة وتعاون، والتقوى هي الالتزام بشريعة الله التي تتلخص بعبادته ونفع عباده؛ ولذلك قيل: أمران لا تقربهما: الشرك بالله، وإيذاء الناس.

ثانياً: تحقيق هذه الغاية - أي سعادة الدنيا والآخرة - يقتضي العمل بالشرائع التي أنزلها الله على رسله في كل جيل بما يناسبه؛ ولهذا قال الله تعالى لأبينا آدم وأُمِّنا حواء - والخطاب لأبنائهما من بعدهما -:(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه/ 123-124.

ثالثاً: المبادئ التي جاء بها الرسل آمن بها كثيرون في كل العصور، وسعدوا بذلك، لكن المشكلة في أمرين: أولهما: وقوف المستفيدين من الكفر في وجه دعاة الإيمان. وثانيهما: وقوع نزاع بسبب سوء التفاهم بين الجماعات المؤمنة.

رابعاً: مهما يكن من أمر فالحروب بين البشر واقعٌ لا يُنكَر، وضرورة في بعض الأحيان لا بد منها. قال الله تعالى:(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) الحج/ 39-40، فالمسلمون كانوا قد مُنعوا من القتال، ثم صار لا بد منه بعد الهجرة إلى المدينة المنورة وقيام الدولة الإسلامية.

خامساً: القاعدة في التشريع الإسلامي أن (الضرورات تبيح المحظورات) و(الضرورات تُقدَّر بقدرها)، وإذا كانت الحرب ضرورة لا بد منها فيجب مراعاة ما يلي:

1.أن تكون الخيار الأخير وقبلها الدعوة والمهادنة.

2.لا يُقاتَل إلا من قاتل من الأعداء، قال الله تعالى:(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين) البقرة/190، وهذا نص عام يشمل الدولة والأشخاص.

3.عدم قتال من لا يُقاتِل كالنساء والصبيان والعجزة؛ فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(وُجِدَت امْرأةٌ مَقْتُولَةً في بَعْضِ مَغازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَهى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ)، وقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه بعض جيوشه - وهو يودعهم - فقال:(لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوا ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيراً إلا مأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له...).

4.لا يجوز إشراك أطفال المسلمين في القتال، ولا إشراك النساء، إلا في حالات ضيقة، كما لا يُطلب الجهاد من أصحاب العاهات البدنية كالأعرج والمريض، وفي هذا حماية لهم من نتائج الحرب.

5.قَبول السلام الذي يؤمِّن الحقوق الشرعية، قال الله تعالى:(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الأنفال/61، أما مع الظلم فلا سلام، قال الله تعالى:(وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) البقرة/191.

6.عدم جواز الغدر، قال تعالى:(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) الأنفال/58، وعدم الغدر يحمي الأرواح.

سادساً:عدم استخدام الوسائل البشعة في القتال، فإذا ورد في حق الحيوان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم؛ فأحسنوا الذبحة، وليُحِدَّ أحدكم شفرته، وليُرح ذبيحته) رواه مسلم، فمن باب أولى أن يُحترم الإنسان حتى في وسيلة قتله.

سابعاً: يجب بناء القوة الرادعة للعدو عن الإقدام على الحرب، قال الله تعالى:(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) الأنفال/60، فقوله تعالى:(من قوة) يشمل قوة الإيمان، وقوة الاتحاد والكلمة، وقوة السلاح، وقوة العلم، وكل قوة، وإذا حصلت القوة لم يُفكِّر العدو في القتال، فيسلم الطرفان.

ثامناً:العفو التام عمن أسلم من المحاربين، قال الله تعالى:(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) الأنفال/38، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يجبُّ ما قبله) رواه أحمد، وقد عفا  رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وحشي، قاتل عمه حمزة بن عبد المطلب.

تاسعاً: الإحسان إلى الأسرى، قال تعالى:(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) الإنسان/ 8-9، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(اسْتَوْصُوا بِالأسارى خَيْراً) رواه الطبراني.

عاشراً: الرفق بالنساء خاصة، ومن ذلك إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لابنة حاتم الطائي، وكان ذلك سبباً في إسلام أخيها عدي، وإكرامه لصفية بنت حيي حيث جعلها من أمهات المؤمنين، وإكرامه لزوجة عكرمة بنت أبي جهل.

حادي عشر: عدم معاقبة أحد بذنب غيره، قال الله تعالى:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الأنعام/164. ومن ذلك عفو النبي صلى الله عليه وسلم عمن بقرت بطن حمزة رضي الله عنه، وإكرام صلاح الدين للصليبيين عندما فتح بيت المقدس مع ما فعله سلفهم عند فتح بيت المقدس قبل تسعين سنة.

ثاني عشر:عدم إتلاف الممتلكات إلا لحاجة، قال تعالى:(وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) البقرة/205، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَتَلَ عصفوراً فما فوقها بغير حقها؛ سأله الله عز وجل عنها يوم القيامة) رواه النسائي.

ثالث عشر:كل مسلم له الحق أن يعطي الأمان لأي مقاتل من الأعداء إذا ترك القتال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِماً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً) رواه البخاري.

رابع عشر: يجب على المسلمين تخليص أسراهم ولو بدفع فدية للعدو أو مبادلة الأسرى، وهذا يخفف معاناة الأسرى من الطرفين.

هذه الأحكام طبقها المسلمون منذ فجر الإسلام قبل أربعة عشر قرناً؛ لأنها حكم الله الذي لا يجوز التفلت منه، بينما القانون الدولي الإنساني لم يمض عليه قرن واحد، وتطبيقه لم يتم بالصورة المُرضية، فارتكبت الفظائع رغم وجوده، وما زال بعض من انتهكه طليقاً لم يحاكم، كما أن القانون فيه بعض الثغرات في شروط تجريم مخالفيه، بينما أحكام الشريعة الإسلامية يطبقها كل مسلم؛ لأنه يعتقد صادقاً بأن الله تعالى يراقبه، وهو الذي سيجازيه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

وعلى كل حال فمجمل القانون الإنساني الدولي لا يخرج عن نطاق الأحكام الشرعية كما ذكرت، ولا مانع من الموافقة عليه، ووجوده ضروري، والتقيد به ضروري في هذا الزمن الذي تطورت فيه أسلحة القتال، وينبغي أن يكون نهجنا العسكري قول القائل: "ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب".

المصدر: http://aliftaa.jo/Article.aspx?ArticleId=154#.VGfR9zSUcwA

الأكثر مشاركة في الفيس بوك