أدب الحوار في الإسلام

دكتور/ حسن خليل

باحث شرعي بمشيخة الأزهر الشريف

 

أحمد الله تبارك وتعالى، وأصلي وأسلم على رسوله وخيرته من خلقه، ومصطفاه من رسله، سيدنا ونبينا محمد رسول الله، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجعلنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الحوار والجدال كلمتان لهما معناهما في اللغة ويقوم أحدهما مقام الآخر.

الحوار من المحاورة وهي: المراجعة في الكلام، والجدال من: جدل الحبل إذا فتله، الجدال في أصله كان ينبغي أن يكون ممنوعاً، وفي أصل اللغة كان يستعمل لمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق، ووضوح الصواب، ثم استغني في مقابلة الأدلة بظهور أرجحها؛ بمعنى أن تقابل فيما بينها حتى يتبين الأرجح منها.

والحوار والجدال كلمتان ذواتا دلالة واحدة، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] .

ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس مناقشةٌ بين طرفين، أو أطرافٍ يُقصدُ بها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، ورد الفاسد من القول والرأي.

 غاية الحوار

إن الغاية من الحوار إقامة الحجة، ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي.

إذاً: هو تعاون بين المتناظرين على معرفة الحقيقة والتوصل إليها؛ ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق.

يقول الحافظ الذهبي: إنما وُضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأذكى في العلم لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف.

هذه هي الغاية الأصلية، وهي جلية بيِّنة كما تلاحظون، وثمت غايات وأهداف فرعية، أو ممهدة لهذه الغاية منها:

1/ إيجاد حل وسط يرضي الأطراف.

2/ التعرف على وجهات نظر الطرف الآخر، أو الأطراف الأخرى .

3/ التنقيب والبحث من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرؤى والتصورات المتاحة من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمكن.

إذاً: هذا هو الحوار في تعريفه وغايته.

أصول الحوار:

الأصل الأول: سلوك الطرق العلمية والتزامها

عندما يدخل المتحاوران في الحوار فإنهما يلتزمان بالطرق العلمية، من هذه الطرق مثلاً: تقديم الأدلة المثبتة، بمعنى: أن كل طرف يُقدِّم أدلته المثبتة أو المرجحة للدعوى، أما أن يكون كلاماً في هواء، وكلاماً هباءً، فهذا معلوم أنه بعيد عن الحوار، فمن أصول الحوار أن تأتي بأمر واضح بيِّن في نفسك إما بجلاء عباراته، أو بجلاء دليله.

ثانياً: صحة النقل في الأمور المنقولة لا بد منها، وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة: إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مُدَّعياً فالدليل.

هذه قضية لا يجوز أن يدخل المتحاوران إلا وقد تسلحا بها، لأن المادة التي معهما أو يريدان أن يطرحاها فيما بينهما لا بد أن تكون مُدعمة بدليل إن كانت قضايا عقلية، وإذا كانت أخباراً لا بد أن تكون مثبتة، وفي التنزيل جاء قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] وقد جاء ذلك في أكثر من آية، وجاء قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبياء:24] وجاء في آية أخرى في بني إسرائيل: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93] هذا هو الأصل الأول.

الأصل الثاني: سلامة كلام المناظر ودليله من التناقض

لا بد في المتناظرين أن يكون كلامهما وأدلتهما سالمةً من التناقض، فالمتناقض ساقطٌ بداهةً، ومن أمثلة ذلك: وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:38-39] وهو وصف قاله الكفار لكثير من الأنبياء بما فيه كفار الجاهلية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فوصفوه بالوصفين: ساحر ومجنون، وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان؛ لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء، أما المجنون فلا عقل معه البتة، وهذا منه تهافتٌ ظاهر، وتناقض بيِّن، ومثله أيضاً فيما ذكر بعض المفسرين، وقد تكون مسألة تحتاج إلى نظر، لكني سآتي بها للتمثيل فقط، نعت كفار قريش لآيات محمد صلى الله عليه وسلم بأنها سحر مستمر في قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1-2] .

قال بعض المفسرين: وهو تناقض، فالسحر لا يكون مستمراً، والمستمر لا يكون سحراً.

الأصل الثالث: ألا يكون الدليل هو عين الدعوى

لأنه إذا كان كذلك لم يكن دليلاً، ولكنه إعادة للدعوة بألفاظ وصيغ أخرى، وعند بعض المحاورين من البراعة في تزيين الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليلاً، وواقع الحال أنه إعادة للدعوى بلفظ مغاير، وهذا تحايل في أصول الحوار باطل، بل هو حيدةٌ عن طلب الحق وسبيلٌ لإطالة النقاش من غير فائدة.

الأول مثلاً: لو أن أحداً عنده ولدان سعد وسعيد، فأعطى سعداً ولم يُعطِ سعيداً، فقيل له: لماذا أعطيت سعداً؟ قال: لأنه ولدي، وهذا تعليل ساقط؛ لأنه سيقال له: وسعيد أيضاً ولدك، فمثل هذا التعليل غير مقبول.

الأصل الرابع: الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مسلمة

وهذا الأصل مهم جداً، وهو الذي أشرت إليه في مقدمة الحديث: وهو الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة، أو بعبارة أصح: لا يجوز الخوض في المسلمات، نقول: هذه المسلمات والثوابت قد يكون مرجعها العقل، أي: أنها عقلية بحتة لا تقبل البحث عند العقلاء متجلية، مثلاً: حسن الصدق، أن يكون الصدق حسناً متفقٌ عليه، قبح الكذب، شكر المحسن، معاقبة المذنب، هذه قضايا لا يختلف عليها أحد.

الأصل الخامس: التجرد وقصد الحق والبعد عن التعصب والالتزام بأدب الحوار

إن اتباع الحق والسعي للوصول إليه، والحرص على الالتزام به هو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء، ويحول دون الانسياق وراء الهوى سواء كان هوى النفس، أو هوى الجمهور، أو هوى الأتباع، والعاقل -فضلاً عن المسلم الصادق- طالب حق، باحث عن الحقيقة ينشد الصواب، ويتجنب الخطأ، يقول أبو حامد الغزالي: التعاون على طلب الحق من الدين، ولكن له شروط وعلامات:

منها: أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده، أو على يد معاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهره له.

ومن مقولات الإمام الشافعي رحمه الله المحفوظة: ما كلَّمتُ أحداً قط إلا أحببت أن يُوفق ويُسدد ويُعان وتكون عليه رعاية الله وحفظه، وما ناظرني فباليت أظهرت الحجة على لساني أو على لسانه.

الأصل السادس: أهلية المحاور

إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه، فمن الحق ألا يُعطى هذا الحق لمن لا يستحق، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفواً.

من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل، وهذا ما يفعله كثيرٌ من المستشرقين، يظنون أنفسهم أنهم مدافعون عن الإسلام، ومن هنا جاءت الزلات من المستغربين حينما تبعوا آثار المستشرقين.

الأصل الثامن: الرضا والقبول بالنتائج

الأخير: الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون، والالتزام الجاد بها وبما يترتب عليها، فهذا الأصل لا بد أن يكون متفقاً عليه بينهما وهو الرضا والقبول بالنتائج، وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء.

يقول ابن عقيل الحنبلي في كتابه فن الجدل وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة، فإنه أنبل لقدره، وأعون على إدراك الحق، وسلوك سبيل الصدق.

قال الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجة إلا عظمُ في عيني، ولا ردها إلا سقط من عيني.

هذه إلمامة وإلماحة إلى أصول الحوار دخل بعضها في بعض، وإلا فإن المتتبع لكتب آداب البحث وأنواره سوف يجد أموراً أخرى لم توجد هنا، ولكن ذكرت ما يسمح به المقام، وما أرجو أن ما في إشاراته ما يغني عن كثير من العبارات.

آداب الحوار

هذه آداب الحوار وهي ليست أصولاً تقدم بمعنى قواعد، لكنها آداب إذا لم يتسلح بها المتحاورون، فغالباً يطول نقاشهم، وتسوء صدورهم، وتضيق قلوبهم.

الأول: التزام القول الحسن وتجنب منهج التحدي والإفحام

إن من أهم ما يتوجه إليه المحاور في حواره هو التزام الحسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ، وقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] .

فحق العاقل اللبيب الطالب للحق أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والتهزئة والسخرية وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.

ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: الانصراف عن التعنيف في الرد على أهل الباطل حيث قال الله لنبيه: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:68-69]

الثاني: توضيح عبارات المحاور

من غاية الأدب واللباقة بالقول، وعبارة الحوار: ألاَّ يفترض في صاحبه الذكاء المفرط، فيكلمه بعبارات مختزلة، أو إشارات بعيدة، ومِنْ ثمَّ فلا يفهم، كما لا يظن فيه الغباء والسذاجة، أو الجهل المطبق، فيبالغ في شرح ما لا يحتاج إلى شرح، وتبسيط ما لا يحتاج إلى تبسيط، ولا شك أن الناس بين ذلك درجات في عقولهم وفهمهم، فهذا عقله متسعٌ بنفسٍ رحبة، وهذا ضيِّق العقل، وآخر يميل إلى الأحوط في جانب التضييق، وآخر يميل إلى التوسع، وهذه العقليات والمدارك تُؤثر في فهم ما يُقال، فذو العقل اللماح يستوعب ويفهم حرفية النص وفحواه ومراد المتكلم وما بين السطور، وآخر دون ذلك بمسافات، ولقد قال أبو جعفر المنصور للإمام مالك لما أراد تصنيف الموطأ: تجنب شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

الثالث: الالتزام بموقف محدد في الكلام

ومن الآداب: الالتزام بموقف محدد في الكلام فينبغي أن يستقر في ذهن المحاور ألا يستأثر بالكلام، ويستطيل في الحديث، ويسترسل بما يخرج عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع، يقول ابن عقيل في كتابه فن الجدل: وليتناوبا الكلام مناوبةً لا مناهبةً بحيث ينصت المعترض للمستدل حتى يفرغ من تقريره للدليل، ثم المستدل للمعترض حتى يُقرر اعتراضه، ولا يقطع أحدٌ منهما على الآخر كلامه، وإن فهما مقصوده من بعضه.

قال ابن عقيل: وبعض الناس يفعل هذا - أي: يقطع الكلام - تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه.

قال ابن عقيل: وهذا ليس فضيلة، إذ المعاني بعضها مرتبطٌ ببعض.

ليس شطارة منك أن تفهم ماذا قال؟ المعاني يدل بعضها على بعض، إذ المعاني بعضها مرتبط ببعض، وبعضها دليل على بعض، وليس ذلك علم غيب، أو زجر صادق، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به، والطول والاعتدال في الحديث يختلف من ظرف إلى ظرف، ومن حال إلى حال، فالندوات والمؤتمرات تحدد فيها فرص الكلام من قبل رئيس الجلسة، أو مدير الندوة، فينبغي الالتزام بذلك، والندوات واللقاءات في المعسكرات والمتنزهات قد تقبل الإطالة أكثر من غيرها لتهيؤ المستمعين، وقد يختلف ظرف المسجد عن الجامعة والمدرسة وعن دور التعليم الأخرى.

ومن المفيد أن تعلم أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام، ومقاطعة أحاديث الرجال يرجع إلى ما يلي:

أولاً: إعجاب المرء بنفسه.

الثاني: حب الشهرة والثناء.

الثالث: ظن المتحدث أن ما يأتي به جديدٌ على الناس.

رابعاً: قلة اللامبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم.

والذي يبدو أن واحداً من هذه الأربعة إذا استقر في نفوس السامعين، كافٍ في صرفهم وصدودهم ومللهم واستثقالهم لمحدثيهم.

الرابع: الإخلاص

الأدب الأخير هو الإخلاص:

هذه الخصلة من الأدب متممة لما ذُكِرَ، من أصل التجرد في طلب الحق إلى آخره، ومن أجلى المظاهر في ذلك أن يُدافع المناظر والمتحاور عن نفسه حب الظهور، والتميز على الأقران، وإظهار البراعة، وعمق الثقافة والتعالي عن النظراء والأنداد.

إن قصد انتزاع الإعجاب والثناء واستجلاب المديح مفسدٌ للأمر، صارف عن الغاية.

 

وأكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

المصدر: http://islam.ahram.org.eg/NewsQ/3104.aspx

الأكثر مشاركة في الفيس بوك