اللغات وفضاءآتها

عبدالرحمن الصباغ
 
للبيئة الجغرافية الأثر الكبير في تطور ونمو اللغات ,فمنها من يحد ذلك التطور والنمو وربما يشله فتبقى اللغة في أطوار مراحلها الأولى لفترة طويلة تزيد أو تقصر مالم يطرأ عامل خارجي مؤثر أو تغيرفي البيئة ذاتها, الشيئ الذي يجعل هذه اللغة عرضة للمخاطر والهلاك أحيانا شأنها شأن الكائنات الحية القاصرة النمو أو الضعيفة والتي تصبح فريسة سهلة. وعلى العكس من ذلك ترى ان بعض البيئات أدت الى تطور وتوسع وانتشار هذه اللغة أوتلك . وبشكل عام فان أهم هذه الفضاءآت الجغرافية هي الجزرية,والمقصود حصرا بالجزر البحرية النائية , والغابية والجبلية والسهلية والبحرية, فأما الثلاثة الأول فأنها بأمتياز تنتمي للفضاءآت التي تحد وتعطل من التطور والأنتشار اللغوي في حين ان البيئتين السهلية والبحرية تسهله وتشجعه .فالجزر البحرية النائية أو المناطق الجبلية الوعرة والغابية الكثيفة مع ما توفره لساكنيها من حماية طبيعية وأمان ووفرة غذائية أحيانا أو أكتفاءا ذاتيا ألا أنها بنفس الوقت تعزلهم عن المحيط الخارجي المتوسط والبعيد وربما حتى القريب ,فهذا الأكتفاء الذاتي المحلي مثلا هو الذي أدى الى ظهور الكثير من اللغات واللهجات على رقعة قليلة الأتساع نسبيا كما هو الحال في العديد من الدول الأفريقية تحت خط الصحراء المطلة على المحيطين الهندي والأطلسي أو ما نراه من انتشار مئات اللغات المحلية في الهند أو غابات أمريكا الجنوبية وغيرها وكذلك الحال في الجزر المعتدلة الطقس والغنية بنباتها وأحيائها البرية والمائية وطيورها المتنوعة .ونفس الشيئ يمكن قوله بالنسبة للوديان الجبلية النائية والخصبة نسبيا والتي تفصلها عن بعضها البعض جبال وعرة كما في قرى جبال زاكروس والأطلس أو الهملايا مثلا والتي يصل فيها الأمر أحيانا أن القرى تختلف في لهجاتها ولغاتها بالرغم من تجاورها على الخارطة . ويبدو واضحا بأن القاسم المشترك في كل هذه المناطق يتمثل بصعوبة الأتصال والتواصل سواء كانت تلك الصعاب مائية أو تضاريسية وعرة أم غابية صعبة الولوج . وعدم الأتصال بالعالم الخارجي معناه الجمود والأنغلاق اللغوي فتجد أن الكثير من هذه اللغات المحلية بقيت على حالها من التأخر لقرون عديدة ولم تتمكن حتى من تطوير أبجدية فأصبحت هامشية ليومنا هذا وتعدى ذلك الى انها لم تستطع أن تؤسس لكيان سياسي مستقل بها كدولة , بل أن بعضها اندثر وغبر أو التهم من قبل لغات أخرى .في حين أن المناطق السهلية وعلى الرغم من أنها لاتوفر الأمان المطلق أمام القوى الطامعة كونها مفتوحة, وربما تكون أيضا لاتتمتع بالوفرة الغذائية الدائمية كونها خاضعة للأحوال الموسمية والمناخية بشكل عام فأنها بالرغم من كل ذلك تتسم بالتواصل كصفة عامة في دواخلها الرحبة ومع المحيط الخارجي وبكل أشكاله من الأنشطة التجارية الى الرعوية والهجرة السلمية البطيئة وصولا للهيمنة العسكرية والأستيطانية الكثيفة والتي غالبا ما كان لتقلبات المناخ عامل الحسم الرئيسي فيها . واللغة كما نعرف تنتقل تجاريا بأنتقال الأدوات والتقنيات والثفافات بشكلها المكتوب والشفاهي وكذلك نتيجة التنقل الموسمي أوالتواصل المستمر و بالهجرات ومن ثم التمازج والتزاوج بين الأشخاص والثقافات وخصوصا اذا ما كانت هذه الثقافات متقاربة ومتناغمة أصلا. كل هذا سيؤدي بالنتيجة الى حث وتنشيط مستمر أو متقطع يجعل اللغة المتلقية المتفاعلة مفعمة بالحيوية مما يساعد على تطورها وأتساع آفاقها لتشمل مفردات ومصطلحات أكثر تؤدي الى تطويرقدرات ومدارك من يمارسها وتوسع من دائرة أعداد متكلميها أكثر فأكثر لتصبح لغة موحدة نسبيا تغطي مناطق واسعة جغرافيا . ان هذه التربة الخصبة التي توفرها المناطق السهلية للأنتشار اللغوي ظهرت وبدت واضحة لمرات عديدة على مر العصور في مناطق مختلفة من العالم وغالبا ما كانت مرتبطة بموجات الهجرة لبعض الشعوب أو القبائل, ولكن أهم انتشارين هو ذلك الذي حصل للغتين محددتين بالذات وهما اللغة العربية بشكل خاص في فضائها الرحب بين الهضبة الأيرانية وشواطئ الخليج العربي وبحر العرب شرقا حتى شواطئ المغرب وموريتانيا على الأطلسي غربا ,وتليها بالدرجة اللغة التركية بلهجاتها والتي أمتد فضاءها ولايزال من شرق سيبريا الى غربها عند الأورال ومن آسيا الوسطى الى غرب تركيا في وسط أوربا .وليس في العالم مثالين يضاهيان هاتين اللغتين في الأنتشار البري للغات وعلى مساحات من الأرض شاسعة بهذا الحجم .والعربية كان لها الحظ الأكبر بالتطور كونها كانت حتى قبل انتشار الأسلام في العالم لغة واضحة المعالم قوية ومكتوبة ولها جذورها الممتدة بعيدا في عمق التاريخ والجغرافيا . ولعل أهم فارق بين الحالتين هو ان اللغة العربية لم تنتشر فقط كون ان هناك سيطرة أو هيمنة سياسية فعلية على الأرض وأنما أيضا لأرتباطها بالدعوة الأسلامية التي يؤلف القرآن نواتها الأساسية والذي يوحد كل اللهجات العربية في لغة فصحى موحدة اعتبرت لغة العرب الأولى وهي المثال الوحيد ولحد اليوم الذي تنتشر فيها لغة في العالم وبهذا الأتساع الجغرافي على أساس فكري أو ثقافي مكتوب .ويرجع الفضل للعربية وللقرآن أيضا في توسع وأنتشار اللغة التركية أثناء المرحلة العثمانية ذلك أنهم أعتمدوا الحروف العربية كأبجدية لكتابة لغتهم والأسلام كدين رسمي للدولة فخصبت لغتهم بالعشرات من المفردات والمصطلحات العربية الشيئ الذي جعلها أكثر مرونة وحيوية وأنفتاحا وساعد على أنتشارها . البحار أيضا تعتبر عامل مهم لأنتشار وتوسع وتطور اللغات فهي تسهل الأتصال اذا ما أتخذت الوسائل الكفيلة لذلك من سفن متينة وكبيرة وغيرها وهي أيضا تشجع التجارة والتواصل وهذا ما حصل مع الفينيقيين وانتشار لغتهم في مواقع عديدة من المتوسط , في مالطا و المغرب وتونس وأسبانيا وفرنسا وأخذ عنهم الأغريق وانتشرت لغتهم عبر مستعمراتهم في المتوسط ثم جاء الرومان وأنتشرت اللاتينية عن نفس الطريق وبواسطة التجارة والحرب والأستيطان الفعلي . وفي بداية القرن السادس عشر وبالضبط عند أفول آخر ممالك الطوائف العربية الأسلامية في الأندلس و ببداية مرحلة الأستكشافات الجغرافية مع كريستوف كولومبوس وماجلان وفاسكودي كاما بدأت دولا كانت لغاتها الى حد ذلك التاريخ هامشية محلية وغير معروفة عبر التاريخ بالظهور واالتعاظم بتعاظم ممارساتها في النهب والحروب التي شنتها على الكثير من شعوب ومناطق العالم بواسطة أساطيلها االتجارية والحربية ,والتي رافقتها احتلالات لمواقع وموانئ ومدن بحرية لتصبح جسورا ومواطئ قدم لهم في تلك البلاد بهدف التغلغل والأستعمار بل أنهم هيئوا أساطيلا للقراصنة تدعمها الحكومات مباشرة في الأغارة على بعضهم البعض وعلى البلدان الآمنة وقد رافق كل ذلك نشاط تجارة العبيد وأستخدامهم في أستثمار واستعمار تلك المناطق ,فظهرت البرتغال وأسبانيا كقوتين بحريتين ثم تبعهم في أنشطتهم المحمومة كل من فرنسا وانكلترا وهولندا.وهكذا تم تجميع وتخزين أكبرقدر ممكن من الذهب والفضة في خزائن هذه الدول وعلى مدى قرون من النهب المنظم لتلك الشعوب وتلك البلدان والتي تحولت رويدا رويدا الى مستعمرات لهم ولأبنائهم من بعدهم ولم يكتفوا بذلك بل فرضوا لغاتهم على السكان المحليين بعد أن همشوا لغاتهم ومنعوا ممارستها . لذلك نشاهد اليوم انتشار لغة الغربيين المستعمرين القدماء في تلك المستعمرات التي تحررت لاحقا والتي تتواجد في مناطق تبعد آلاف الأميال عن الغرب الأوربي الموطن الأم لتلك اللغات .



الفضاء الجديد

وفي أثناء النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت سلسلة من الحلقات والأحداث تتوالى دون الأعلان عن نفسها فلقد تلازم التوسع في مناجم الفحم الحجري في أوربا بظهور أنظمة المكننة الصناعية الحديثة واستخدامات المحرك البخاري ,تلك التي التي دفعت بالتدريج الى التقلبل من الأعتماد على عضلات الحيوانات والبشر ومن ثم ظهور التشريعات التي تحرم العبودية الرسمية والتي أعقبها تزايد الطلب على الطاقة الشيىء الذي شجع التحري والكشف عن مواقع ومكامن واسعة للنفط في العالم وخصوصا في الشرق الأوسط . فبفعل الطاقة العالية التي ينتجها النفط ومرونته في الخزن والنقل والأستعمال مقارنة بالفحم الحجري ومخلفاته فقد فتح آفاقا رحبة على أكثر من صعيد وأيضا سهل وجعل بالأمكان من اخراج بعض المبتكرات و التطبيقات المختبرية الى حيز الواقع كالمحرك الأنفجاري واستعماله في السيارات والمحطات الحرارية لتوليد الطاقة الكهربائية. والكهرباء فتح الباب بدوره أمام استخدامات أخرى لم تكن لتظهر للوجود من دونه فبدأت الدول الصناعية والغربية منها بشكل خاص خطوات عملاقة نحو الأمام في مجال التقنيات الحديثة وبوتائر سريعة لم يشهدها العالم من قبل والفضل كل الفضل فيها يعود الى تلك الطاقة الرخيصة القادمة من المستعمرات أي النفط . ورويدا رويدا ومع اطلالة القرن العشرين بدا العديد من المكتشفات كالتلفون واللاسلكي والمصباح الكهربائي والكراموفون والسيارة والقطار والراديو والطائرة وغيرها يأخذ مكانه ويكتسي أهمية كبيرة ولم يعد بالأمكان الأستغناء عنها. هاهنا بدأت بوادر ظهور فضاء جديد للغة لم يكن ليخطر ببال أحد من قبل فلم يعد هنالك حاجة للأنتقال شخصيا أو بواسطة شخص آخر أو بأستخدام واسطة نقل لأيصال الخبر أو المعلومة كما كان معهودا من قبل, ولا الوقت الذي يتطلبه كل ذلك بل أصبح التواصل سريعا وشبه آني تقريبا من مدينة لأخرى أو من مقاطعة لأخرى .ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية النصف الثاني من القرن العشرين بدأ أنتشار التلفزيون وأعقب ذلك ارسال الأقمار الصناعية للفضاء الخارجي وظهور الفضائيات الدولية التي تعتمد عليها ثم بدأ الحاسوب في نهاية القرن يغزو العالم ويعقبه التلفون المحمول . وما أن أطل القرن الحالي الا والشبكة العالمية للأنترنيت تتكثف أكثر فأكثر لتتشابك و لتشبه الجملة العصبية في الدماغ بخلاياها العنكبوتية لتغطي بالنهاية العالم كله أوتكاد . أصبح الفضاء الذي يحيط بكل الأرض اليوم وبكل معنى العبارة فضاءا رحبا للتبادل والتواصل اللغوي والثقافي والمعرفي والفني والمعلوماتي ... فبدأنا حقبة جديدة سوف تشهد تحولا عالميا وجذريا في شأن اللغة وأحوالها . الكثير من الدول المهيمنة لغويا تحاول الأستمرار في استخدام هذه الوسائل لصالحها لتحقيق أغراض سياسية وأقتصادية توسعية وهو ما يسمى اليوم بحروب الفضائيات والموجات في حين أن دولا أقل شأنا تريد هي أيضا أيصال صوتها الى أقاصي الأرض , ولكن هل ستكون الفرص عادلة بالنسبة للجميع الصغير والكبير , الغني والفقير ؟. في النهاية المشكلة الأساسية تبقى بالنسبة للكل هي كيفية افهام المتلقي رسالتهم وبأي لسان.. وكيف تجعل الجميع يفهموك دون الأضطرار للتحدث بكل لغات الأرض والتي تناهز الستة آلاف لغة بل أكثر .

المصدر: http://www.atida.org/forums/showthread.php?t=4865

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك