سفيد
الانحراف ليس موقفًا، وليس حالة يمر بها الشخص بل هي طبيعة يُصنع عليها ويكبر. قد تكون كلمة الإنحراف ثقيلة على النفس، فمن يخوّلك أن تسمي فلانًا منحرفًا أم لا؟ من نصبك قاضيًا أو نبيًا يوحى إليه بحقائق الناس؟ حسنًا، مثل هذه الأسئلة صحيحة لكنها أيضًا ليست مطلقة. الانحراف صناعة يتم فيها نحت فكر الفرد، وصناعة شخصيته بحيث تعود كالمنخل لا يمر منه إلا ما يناسب المعايير المنحرفة التي زُوّد بها. لست بحاجة لأن تكون نبيًا أو قاضيًا حتى تحكم بانحراف شيء ما، فإن الحسن والقبح يدركهما العقل، كما يدرك تمامًا أنّ التعدي على ما هو حق للآخرين قبيح وأن الإصرار عليه انحراف، يدرك أنّ الأمانة – وهي قيمة مطلقة لا تتغير بتغيّر الزمان أو المكان – أمر حسن وأن الإصرار عليها هو سلامة في العقل والنفس. إن صناعة الانحراف تحاول تبرير انحرافها بأن تصور لك انعدام الحقيقة، بطرح صعوبة الوصول إليها أولاً، ثم تساوي كل الحقائق وتشكك فيها حتى تصل معك إلى أن الحقيقة هي ما تريده أو تشتهيه فيصبح معيار الصحة والسلامة نفسك وما تهواه وأما كل المعايير الخارجية فهي مجموعة أكاذيب لا واقعية لها، تحاربها بشدة.
لا يمكنك الحكم على نيّات الناس، لكن يمكنك محاكمة أفعالهم ومواقفهم وإن الخلط بين الاثنين لتخويف الآخر من ممارسة هذا الأمر العقلاني يعود في جذوره إلى الرغبة بعدم بيان خطا الانحراف. تراه سليط اللسان بالنقد والاتهام لكل ما لا يعجبه لكن ما أن تشير لخطئه في النقد وفقدان مقدماته تتملكه الثورة فيبدأ سيل اتهاماته بالتحجر والتخلف والجهل ومعاداة العقل! رغم أن العقل كقوة مدركة يحكم بوجود معايير خارجية تميّز الصحيح من الخطأ، لكن العقل كمصدر معرفي متوهم مثل الذي يدعون إليه يقول لك بأن الصحة منفعتك والخطأ هو إيقاف منفعتك لأجل الآخر، يضع لك المقاصد ويطلب منك أن تحوّر كل شيء وفقها، فهو عقل نفساني (سيكولوجي) محكوم بالرغبات والحاجات ومسيطر عليه بالمنافع والغايات. قد تضع رجلك أمام أحدهم وليس بنيّتك إهانته لكن فعل الإهانة قد تحقق بغض النظر عن النيّة، وتكرار الفعل يكشف عن نية ما لبثت أن تترجم نفسها لسلوكٍ دائم ومستمر. إن أكبر مورد لانتشار الدجالين وقبولهم بين الناس هو هذا التهوين والعبث بالحقائق وموازينها ونسف مقدماتها، بحيث يصبح لكل راية ضلال أتباع[1].
لكن ما هو منشأ هذا الانحراف؟ في القرآن الكريم التفاتات ظاهرية لطيفة جدًا، فهناك حقيقة قرآنية ملفتة للنظر هي أنّ الناس يؤمنون بدعوات الأنبياء بعد جهد جهيد وصراع مرير ولكنهم سرعان ما ينقلبون على أعقابهم بعد رحيلهم أو غيابهم، وفي الغالب الأعم – إن لم يكن الكل – لا يكون ذلك الانقلاب إلا بعد العلم والمعرفة وليس ناشئًا من جهل {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}[2]لكن العلم ليس هو السبب في الضلالة والانحراف كما قد يندفع الذهن لاستظهار ذلك إنما هو بمنطوق الآية (البغي) وهو شيء يتعلق بذات النفس الإنسانية لا بشيء آخر.
صحيح أن العلم والمعرفة يمتلكان القدرة على إنشاء هويّة متفردة للإنسان بين الباقين فيصبح ذاك مميزًا بالعلم أو عالمًا وذاك عارفًا لكن هذه الهويات لتعلقها بالإنسان تبيتُ وهي لها جانب شخصي يتعلق بصاحبها ويتبعه، وهذا الجانب الشخصي يتمثل في إعادة تفسير ذلك العلم ليناسب الهوى الذي يعارض حقيقة العلم {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}[3] وهذا العلم المُلّفق دائمًا ما يكون منطبعًا بالهوى {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}[4] لكن هذا الخطاب لمن؟
يظهر أنه متعلّق بعقلية المجتمع التي ترفض التنازل عن موروثاتها لأنها تعتبر ذلك الموروث هويتها {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[5] فمهما تعددت الهويّات المصنوعة من العلم فإنها تخضع بالنهاية للطبيعة الإنسانية المصطبغة بالهوى والرغبة والإتباع والانتماء لفئة وإرثٍ ما، وهذه الهويّة الموروثة تنشا من عاملين مودعين في النفس {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[6] ورغم أن الاختلاف والتباين بين الناس يتمظهر بصورة خلاف هويات في العادة، إلا انّ الاختلاف والتباين حقيقته ليس صراع هويات إنما صراع النفس الإنسانية ذاتها في داخلها وينعكس على الخارج بصورة خلاف هويات وأيدلوجيات، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[7] أي أنّه ما دام الإنسان إنسانًا يتنازع في داخله هذين العاملين سيستمر الخلاف ما بقي، فصراع الحق والباطل، الخير والشر، هو صراع الإنسان اليومي مع نزعة الفجور فيه ونزعة التقوى، لكن لأنهما داخليان وساحتهما النفس الباطنة فهو يرشحان للخارج بصورة هويات أو اعتقادات ما تلبث أن تحاول الانتشار وهي أسوأ أنواع الانحراف، لأنها تسوّق لك أهواء المنحرفين ورغباتهم بالتسلط على أنها حقائق يقينية وهي ليست سوى ظنون وهمية لا تملك قطميرًا من القبول العلمي.
لكن كيف تكون صناعة الانحراف؟ تتميّز صناعة الانحراف بأنها صناعة اجتماعية تقوم على تشويه المعرفة، ونقض أسسها، وتحطيم كل ما له علاقة بضبط ميزان العقل تجاه الحكم على القضايا. تبدأ بتغذية نزعة التشكيك من خلال التركيز على التناقضات لكنها أبدًا لا تعود للجذور لتوضيح السبب في نشوء التناقضات إنما تكتفي بأخذ ظواهرها[8]، وتتميز صناعة الانحراف بأنها لا تقدم علاجًا لهذه القضايا إنما تعمد إلى خلق وضع بديل بحيث ترمى كل المساوئ على الوضع الأول وتصور الحلول محصورة بالوضع الثاني. وهي تنزع إلى تبرير كافة الأخطاء وتسوّق لكافة الانحرافات حتى لا يكون هناك معيار واضح يمكن استخدامه في الاشارة إلى واقع هذا الانحراف المصطنع. وهذه علامة مميزة لصُناع الانحراف فإنهم لا يتعلمون العلوم للوصول إلى اليقين إنما لضرب بعضها ببعض لابقاء حالة التشكيك[9] لأنه في مثل هذه الحالة، يكون استقبال أي فكرة أو دعوى ترتكز على نسف كل معرفة وعلوم عقلائية معتبرة، في مورد القبول!
غير أنّ لُبّ سر صناعة الانحراف يكمن هنا، في أن العقل البشري غير قادر على تنقية ذاته بذاته، فهو كالآلة يعتمد على ما تغذيه به من معطيات[10] وعقلاً يتغذى المغالطات يتصور أن التفكير المنطقي السليم هو خطأ وعدوٌّ له، ومن ثم فإن المتلاعبين به ليس عليهم أن يشيروا له لمواضع الانحراف حتى يقبلها ويسير بخطاها بل سيتجه بنفسه بفعل ما ينتجه عقله من أفكار منحرفة إلى توليدها واتباعها فتبدأ ظواهر الانحراف تطفو على السطح من نكران البديهيات إلى كسر كل المحظورات الأخلاقية والإنسانية لتصل حتى إلى شرعنة المثلية والنفعية! وليس ذلك بسرّ، فإن أفكارًا كالنازية أو مذاهبًا كالخوارج أو سلوكيات كما كانت عند الحشاشين مات مُنّظروها منذ سنوات وقرون، لا يزال متبعوها يتكاثرون ويتوالدون لأن المنظومة الفكرية التي أخرجت هذه الأفكار المتصارعة والمتناقضة التي صيغت في بدايتها لخدمة أهداف معينة عند أصحابها في طلب القوة والسلطة لها خاصية العدوى كعدوى الجراثيم، سرعان ما تلتهم العقل وتخضع كافة قواه لسيطرتها وتعود قادرة على التكاثر بنفسها وتوليد ذاتها كالميكروبات في طول السلسلة البشرية، وحينها قد لا تعجب أن ترى بروفيسورًا في الطب يقدّس بقرة فإنّ بديهة المعرفة التي ترفض ذلك قد طمست بفعل ما آمن به من نكران المعرفة الحقيقية القائمة على البديهيات اليقينية فتراه لا يمانع أن يؤمن باجتماع الظلمة والنور في بقعة واحدة وزمنٍ واحد!
إن هذه العالم ليس بعالم الملائكة بل هو أقرب لعالم الأباليس، وكان إبليس أول من صاغ معرفة تقوم على تفضيل الذات على أساس انها الحقيقة المطلقة {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[11]وعلى دربه يسير سُرّاق المعرفة وصُنّاع الانحراف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[2] آل عمران / 19
[3] البقرة / 145
[4] البقرة / 145
[5] يونس / 78
[6] الشمس / 8
[7] هود / 118
[8] إننا نرى الأفعى سامة والسم قاتل لنا، فنتصور ذلك شر من صنع الله – عز وجل – ولكن الواقع أنه ليس شرًّا بل بهذا السم تحيى الأفعى حياتها، فهو خير لها، وأن ميزان الأمور العدل وليس المساواة فكما زُوّدنا بما نحتاجه للحياة التي نحياها زُوّدت هي بما تحتاج للحياة التي تحياها في بيئتها ومحيطها. دون الرجوع إلى جذر المسألة وهو بيان مدى الاستعدادات والقابليات والطبائع فإن وجود السم عند الأفعى وانعدامه عندنا يمثل تناقضًا في نظام الوجود الخيّر بينما هو ليس كذلك!
[9] "فالشك ما هو إلا قنطرة ووسيلة ومقدمة لتمحيص الحقائق والمعتقدات، فإما أن يصل الإنسان بعد البحث والتحقيق إلى حالة الإذعان بالنفي أو الإذعان بالثبوت، وأما بقاؤه مرابطًا في منطقة الشك مع كفاية ما يصلح للاستدلال على الحقيقة فإنها حالة مرَضيّة غير طبيعية، فإن حالة الشك عبارة عن تذبذب واضطراب وتحيّر في النفس من جانب القوى العمليّة في انصياعها للقوى الإدراكية ومن ثم أرشدت الشريعة ونهت عن البقاء في حالة الشك وعن جعل اليقين شكًا..." انظر: بحوث في قراءة النص الديني، الشيخ محمد السند، ص 30 وما بعدها.
[10] وهنا البحث في افتراق العقل الذي هو قوة مدركة عن الفطرة أو العلم البديهي "النفس-أمري" كما يُصطلح عليه، فإن الأول يعمل عمل الآلة بينما الثانية تعمل عمل الوجدان وهي صوت التذكير بوجود الخطأ الذي قد يخرسه السخام الناتج عن الآلة (العقل).
[11] ص / 76
المصدر: http://safeed.blogspot.com/