إسلام الخوارج في مواجهة إسلام المسلمين
محمد بن علي المحمود
إن قدرة المذهب الخارجي على التسلل إلينا من بوابة التشدد ؛ وكأنه محض تشدد فروعي لا علاقة له بالرؤية العقدية الحرورية ، هو الخطر الحقيقي والقاتل . إنه خطر سيدمرنا عاجلاً أو آجلاً وسيقضي على وجودنا ؛ إذا لم يتم تدارك الأمر بخطوات عملية عاجلة من شأنها أن تفضح كل ما يتماس مع عقيدة الخوارج الأولين ، الذين يشتمهم خوارجنا بألسنتهم ؛ وهم عن إلهامهم يصدرون .
لا أزال أتذكر بوضوح ردود أفعال التيار المتشدد ( = تيار الخوارج : الحركيين والقعديين ) إبان التفجيرات التي قامت بها كوادرهم ؛ المدربة فكرياً على مقولاتهم ، والمدربة عسكريا على برامج التدريب القاعدية التي كانت تستقبل بكل حفاوة خريجي مدرسة المتشددين . قبل سبع سنوات ، عندما صدمت التفجيرات العقل الجمعي للمجتمع ؛ أحس نشطاء التيار المتشدد بأن كل أصابع الاتهام تتوجه نحوهم ، أحسوا بما يحس به قادة عصابة ما ؛ عندما يتم القبض على أحد كوادرهم ، أو تقع بعض الأدلة في يد رجال البوليس . لقد أحسوا بأن كثيرا من الأوراق السرية ستكون معروفة للجميع . وهي أوراق ، رغم اعتزازهم بها داخل المنظومة ، إلا أنهم كانوا يعرفون أن المجتمع سيتلقاها بنفور شديد ، نفور يصل بها إلى درجة التجريم .
كان سدنة الخطاب المتشدد يعرفون أن هناك من الأصول التقليدية التي لايستطيعون تنزيلها علانية على الدولة والمجتمع ؛ مع أنه في السر ينزلونها ويحكمون من خلالها بكفر الدولة وكفر المجتمع . بعضهم صّرح بالتكفير ، ولكنه قال بكفر الدولة صراحة ؛ عندما أعلن أن دولة طالبان هي الدولة الوحيدة المسلمة وهي الوحيدة التي تحكم بشرع الله ، بينما سكت عن حكم المجتمع في سياق تكفير دولة هذا المجتمع . إنه يعرف أن المجتمع ، بما في ذلك بعض شرائحه التي تجنح للغلو ، لن يقبل أن تقول له بصراحة : أنت مجتمع كافر . لن يقبل ذلك صراحة ؛ مع أنه يتفاعل مع بعض التقليديين الذين تحكم منظومتهم الاعتقادية على المجتمع بالكفر الصريح .
من الغريب ، وهو الأمر الذي لا يتنبّه له كثير من المعنيين بخطاب التكفير ؛ فضلا عن البسطاء المخدوعين به ، أن هذا الذي حكم بأن طالبان هي الدولة الإسلامية الوحيدة ، والذي أشاد بأولئك الذين كان يفتون للإرهابيين بجواز المواجهة المسلحة ، وقتل كل من يعترضهم ، لم يتم فضحه ولا التصدي لمقولاته المشيدة بالخوارج ؛ حتى من قِبَل أولئك الذين كانوا يردون على مقولات الإرهابيين من داخل المنظومة التقليدية . من الواضح أنه كان هناك نوع من التواطؤ ؛ وإلا لكان هذا التكفيري مفضوحا للجميع . وأنا هنا لا أتحدث عن الذي صمتوا عن الإرهاب ، ورفضوا الإدلاء بأي تصريح ضده ، بل أتحدث عن الذين امتهنوا التحذير من الإرهاب ، بل وصرّحوا بأنه ضلال .
لقد كان المشهد غريبا . فالتكفيري الذي كتب ( بوصفه أبا روحيا ) مقدمات لكتب التكفيريين تشيد بها وبما فيها من آراء تكفيرية ، والذي كان يعلن أنه لا توجد دولة إسلامية إلا طالبان ، والذي دعا الشباب صراحة إلى الذهاب إلى أفغانستان للقتال مع طالبان ضد الهجوم الأمريكي ، والذي أشاد به وبمواقفه ابن لادن ، يسكت عنه ( وبمؤامرة صمت واضحة ) كل من تحدث عن الإرهاب من أتباع المنظومة التقليدية ؛ أولئك الذين كانوا يشتمون الإرهابيين الذين نزلوا بالسلاح إلى الميدان ، بينما يسكتون عن ( مفتي الإرهابيين ) الهالك .
التقليديون الذين تحدثوا عن الإرهاب كثيرا ، وسكتوا عن هذا وأمثاله ، لم يفعلوا ذلك عن جهل . إنهم يدركون أنهم إن فضحوا هذا التكفيري الذي يلتقي معهم على عقائد التقليدية ؛ فسيفضحون التقليدية التي يقفون عليها . أي أنهم في النهاية سيفضحون أنفسهم . ولهذا لم يكن هجومهم على الإرهاب كراهية للإرهاب ؛ بقدر ما كان دخولا على الخط ؛ لإنقاذ سمعة التيار التقليدي المتشدد ، الذي كان الإرهابيون بتهورهم بمارسون فضحه وتعرية مقولاته بتطبيقها تكفيرا وتفجيرا وتقتيلا في الميدان . لقد كنت على يقين أن أولئك التقليديين المتشددين الذين تبرعوا ! ؛ فهاجموا الإرهابيين ؛ كانوا يمارسون سياسة التضحية ببعض كوادر الإرهاب من أجل إنقاذ منظومة الإرهاب ككل ؛ إذ هي الأهم في نظرهم ، فالكوادر يمكن التعويض عنها بكوادر أخرى ولو بعد حين . لكن ، عندما تتعرى المنظومة التقليدية وتفتضح ؛ فالخسارة ستكون كبيرة بحجم استشراء مقولات التقليدية والتهامها لعقول وقلوب كثير من الدهماء .
صحيح أن التيار المتشدد كان يريد تحقيق بعض المكاسب في مجال الهيمنة الاجتماعية ؛ بواسطة الضغط بورقة الإرهاب صراحة ، وتوظيف الحدث لممارسة ابتزاز من نوع ما ؛ بحيث يتقدم بالإرهاب فكريا خطوة إلى الأمام ، بدرجة ما يتراجع عسكريا إلى الخلف . لكن ، هذا كان في البداية ؛ عندما كانت التفجيرات تنتقي أهدافا يسهل تبريرها لدى جماهير المتعاطفين مع متشددي التقليدية . أما بعد تفجير ( مبنى المرور ) فقد أحس اتيار المتشدد بحجم الفضيحة ، وأن أي تبرير لا ينهض بالتهوين من حجم التفجير . وهنا نرى بوضوح كيف انقسم تسار الخوارج ( = التيار المتشدد داخل المدرسة التقليدية ) إلى قسمين :
الأول : سارع بالإدانة والتجريم . وعنده أنه يستطيع خداع المجتمع بتجريم الأفعال ، بينما يمارس السكوت عن الخلفية الفكرية لهذا الأفعال داخل المنظومة التقليدية ؛ كما سكت عن بعض الأشخاص التي لها اعتبارها في ميدان التشدد .
ورغم أنه لم يقف موقفا حقيقيا ؛ واضحا وصارما من الإرهاب ، إلا التيار الليبرالي بأطيافه المتنوعة ؛ إلا أن هؤلاء الذين يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه من سمعة المذهب الخارجي ، زايدوا على موقف التيار الليبرالي من ناحية ، وحاولوا تهميشه وتشويهه من ناحية أخرى ؛ لإدراكهم أنه ( وطبعا ، أقصد : المخلصين من أبنائه ، وإلا فهو كبقية التيارات ، فيه كثير من المرتزقة والباحثين عن النفع الخاص على حساب النفع العام ) التيار الوحيد القادر على فضحهم وتعرية مقولاتهم ، أي أنه الوحيد القادر على فضح خطاب الإرهاب بكل علائقه التاريخية ؛ دونما اعتبار لأي أحد ؛ مهما كان ، ومهما تقلبت الأحوال .
الثاني : لاذ بالصمت . فهو لا يستطيع فضح زملائه السابقين وتلاميذه المخلصين ، ولا تسمح نفسه أيضا بهدم التنظيم الحركي في العلن ، بعد أن مكث عقودا يؤسس له في السر ، وأنفق في سبيله أجمل سنوات العمر الجميل !. هذا القسم الصامت راقب الأحداث الإرهابية دون أن يقدم أية إدانة ؛ حتى ولو خافتة ، بل كثيرا ما كان يتقدم بالتفسير المتذاكي الذي يستبطن كثيرا من التبرير . لكن ، هذا القسم الصامت بقدر ما صمت عن الظاهرة الإرهابية صمتا مطبقا ، وكأنها ليست موجودة ، بقدر ما أعلن مواقفه المنحازة لأية فكرة متشددة متطرفة في الساحة ، باعتبار فقهيات التشدد هي المقدمة الأولى والمشرع العقلي والوجداني للتطرف ، ومن ثمَّ ، للإرهاب . ولهذا كانت البيانات تلو البيانات تخرج من هؤلاء الخوارج الصامتين ؛ لتؤيد أي رأي متشدد ، وفي الوقت نفسه ، لمحاربة أية رؤية انفتاحية قد تشكل خطرا حقيقيا على فقهيات التشدد ، تلك الفقهيات التي هي المؤسس الحقيقي لخطاب الإرهاب .
هذا هو الموقف الذي تعاطى به التيار المتشدد مع المجتمع المصدوم بخروج هؤلاء الإرهابيين من تحت عباءات هؤلاء المتشددين . طبعا ، هذه كانت محاولة يائسة من تيار الخوارج لامتصاص الصدمة التي كانت مفاجئة لجماهير المتدينين الذين لم يعرفوا أبعاد لعب الإرهاب . كثير من أبناء المجتمع كان يعرف بوجود متشددين ، بل وبوجود التكفيريين ، ولكن لم يكن معظمهم يتصور ، ولا حتى في الأحلام ، أن يخرج علينا أناس من أبنائنا بالأسلحة في ضوء النهار ؛ معلنين علينا الجهاد بوصفنا كفارا. كثير من أبناء المجتمع يحسن الظن بالتيار التقليدي المتشدد ؛ لأنه لم يستوعب بشكل صحيح الأسس الحقيقية ( = التاريخية ) التي تنهض عليها التقليدية. إنه يرى الأمر مجرد تشدد واحتياط . لكن ، أن يصل الأمر إلى استباحة الدماء والأعراض والأموال ، فهذا لم يكن يدر بخلد كثير من الطيبين . ولهذا كانت الصدمة كبيرة ؛ بقدر ما هي غير مفهمومة . وعدم الفهم هنا راجع إلى كون كثيرين لا يعون حقيقة أن التيار المتشدد لدينا ليس مجرد تيار تشدد ورعي ، بل هو تيار خارجي على مستوى العقائد الكلية ، من حيث هو وبصراحة تصل حد الهلوسة هذه الأيام يمارس تكفير أو تفسيق الأغلبية الساحقة من المسلمين ؛ بدعوى أنهم حسب اعتقاده الخارجي الخاص يُبيحون ما حرم الله !. وكأنه يجب على 99% أو 98% من المسلمين أن يتبعوا رأي 1% أو 2% من الخوارج المارقين ؛ ليتبرع لهم هؤلاء الخوارج بالإعفاء من التكفير .
ربما كان الشيء الوحيد ( ولكنه الخطير ) الذي نجح فيه تيار الخوارج التكفيريين بجدارة ؛ إبان فضيحته بالإرهاب ، هو أنه استطاع أن يفلت من توصيف المجتمع له بأنه خارجي ، أي بأن عقيدته هي محض عقيدة الخوارج الأولين . تأمل ؛ وستلاحظ أن هذا التيار الخارجي رضي أن يوصف بالتشدد والانغلاق على مضض ، ولكنه لم يرض بهذا ؛ إلا ليفلت من أن يضعه الوعي الجماهيري في خانة الخوارج المارقين . ولو لم ينجح الخوارج لدينا إلا في هذا ؛ وخاصة بعد الوضع الحرج الذي وجدوا أنفسهم فيه بعد هزيمة الإرهاب عسكريا ؛ لكانوا قد حققوا النجاح الكبير .
إن قدرة المذهب الخارجي على التسلل إلينا من بوابة التشدد ؛ وكأنه محض تشدد فروعي لا علاقة له بالرؤية العقدية الحرورية ، هو الخطر الحقيقي والقاتل . إنه خطر سيدمرنا عاجلا أو آجلا وسيقضي على وجودنا ؛ إذا لم يتم تدارك الأمر بخطوات عملية عاجلة من شأنها أن تفضح كل ما يتماس مع عقيدة الخوارج الأولين ، الذين يشتمهم خوارجنا بألسنتهم ؛ وهم عن إلهامهم يصدرون .
إنني ، ولهذا السبب ، أكرر دائماً ، ومن زوايا مختلفة ، وسأظل كذلك ، كاشفا حقيقة التشدد الحروري ، وأن ليس مجرد تشدد فروعي ، بحيث يتقاطع به مع بعض المذاهب الإسلامية المنتشرة على امتداد العالم الإسلامي ، بل هو تشدد حروري ينتمي ( وبخيوط يصعب الإفصاح عنها هنا ) إلى عقيدة الخوارج التكفيريين . أي أنه ليس اختيارا للرأي الأشد ؛ اعتقاد بصوابيته فحسب ، وإنما هو اختيار للأشد ؛ مع الاعتقاد الجازم بفسق أوضلال أو كفر المخالفين لهذا الاختيار الفرعي الخاص .
إن من يتأمل الآراء ( الآراء ، ولا أقول : الفتاوى ، فما يطرحه هؤلاء مجرد تخمينات وجدانية حول بعض المواقف ، لا علاقة بها بالفتوى ) التي يفرزها هذا التيار ؛ سيجد أنه ينقل الفروع إلى الأصول ( كما هو حال الخوارج ) ؛ ليخرج بما يشكل مذهبا عقديا خاصا . تأمل ، وسترى بوضوح أن هذا التيار لا يختار رؤى التشدد ولا الرؤى الإنغلاقية فحسب ، بل يبني على اختياره هذا ( وهذا هو الأهم ) تضليل وتفسيق وتبديع وتكفير المخالفين . لاحظ ، وستجد الدلائل واضحة ، بحيث تكشف لك أن لدى هذا التيار شهوة عارمة للتفسيق والتضليل والتكفير ، وأن هذا التفسيق والتضليل يمكن أن يصبه هؤلاء الخوارج على مخالفيهم ولو في مسألة هامشية اختلف فيها الأولون قبل الآخرين .
ولكي ترى الصورة بوضوح أكثر ، انظر إلى التيارات الدينية المتشددة في كل العالم الإسلامي ، والتي تشتكي مجتمعاتها من تشددها ، واسمع رأي التيار المتشدد لدينا فيها . ستفاجأ عندما تعلم أنه لا ينجذب إليها كثيرا ، لا لأنها متشددة ، وإنما لأنها في تصوره لا تتشدد بما يكفي لتزكيتها . إنه يصفها بأنها ( متساهلة ) وأن بعضها لديه ( مرونة ) في التعاطي مع واقعه ، أي أنها ليست صارمة في تقليديتها بما يكفي . بل انظر إلى مثال بسيط : لباس المرأة المحتشمة جدا ، بل المتزمتة ، في كل مكان في العالم الإسلامي ، ستجد أن المتشددين لدينا لا يرونه لباس حشمة ، بل لباس تبرج وسفور ، بل وفجور . وهذا يعني أن التيار التقليدي المتشدد له مذهبه الخاص ؛ رغم انكاره لذلك ، وأنه فاق بتطرفه المتطرفين كافة ؛ مع دعواه العريضة الكاذبة بأنه من دعاة الاعتدال .
المصدر: http://al7ewar.net/forum/showthread.php?22814-%C5%D3%E1%C7%E3-%C7%E1%CE%...