إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فالتردي الذي تعانيه الأمة اليوم لم يعد موضع نزاع أو مجال نقاش، فهو واقعٌ يعاني من التخلف والانحطاط في كافة جوانبه، ووسط هذا الركام من الواقع البئيس الذي تعيشه الأمة تنادت الصيحات للإنقاذ في وقت فشلت فيه جميع التيارات والأطروحات للتغيير ليبقى المشروع الإسلامي هو وحده المؤهل للنهوض بالأمة وقيادتها، ولعل تهافت الكثير على طلاء مشاريعهم بالصبغة الإسلامية - وإن كان طلاءً خارجياً فقط - من أصدق الأدلة على أن المشروع الإسلامي هو وحده الذي يحمل المصداقية والتأهل للإنقاذ.
وبين ضغط هذا الواقع المرير والتفاؤل بالتغيير بدأت أصواتٌ ومناهج شتى داخل المشروع الإسلامي تتنافس في طرح برامجها والمراهنة على فشل كل مالا يتسق مع نظرتها وأطرها.
وتنوع الاجتهادات أمرٌ لا غبار عليه ولا مناص منه، بل هو مدعاةٌ للنضج وإثراء الساحة، لكن التسطيح والإغراق في السذاجة في توصيف الواقع، ومن ثم رسم خطوات العلاج ينبغي أن لا يجد له مكاناً داخل المشروع الإسلامي، وعقدة السبب الواحد والحل الواحد والبرنامج الواحد يجب تجاوزها إلى مرحلة أرحب وأوسع من التفكير والتحليل.
والأمة تعيش هذا العصر واقعاً فريداً ومرحلة ليست على مثالٍ سابق؛ فعصور التردي التي مرت بالأمة لم تصل إلى حد أن تسقط الحواجز بين الأمة وأعدائها فتصبح تابعة لهم مستوردة لمناهجهم، ولقد كان الحكم في تلك المراحل للشريعة - رغم الانحرافات في التطبيق - ولم تجرؤ الأمة على استبدال الشريعة وتنحيتها إلا في هذا العصر.
ومناهج التربية والإعلام الوافدة إنما هي نتاج هذا العصر والتي ساهمت مساهمة فعالة في تشكيل وصياغة عقلية مسلم هذا العصر ليخرج خليطاً متنافراً من ثقافات الشرق والغرب.
فالمشكلة التي تعانيها الأمة اليوم أبعد من أن تكون مجرد انتشار لمعاص ظاهرة، وإخلالاً بأحكام ظاهرة، وإن كان ذلك نذير خطر .
ومن ثم فالمشروع الإسلامي ما لم يأخذ على عاتقه إعادة صياغة متكاملة للفرد المسلم والمجتمعات الإسلامية، في التفكير والتصورات والقيم والموازين، فهو عاجز عن تحقيق الهدف الذي يسعى إليه.
وهذا التغيير وإعادة الصياغة يحتاجان جهداً تربوياً ضخماً؛ جهداً لتربية أدوات ووسائل التغيير من الدعاة والمصلحين، وجهداً لتربية مجتمعات المسلمين، ومن ثم كانت التربية الجادة ضرورة.
وحيث تتبوأ التربية هذه المنزلة وترقى إلى هذه الأهمية فهي تحتاج إلى المزيد من الدراسات والبحوث ومراجعة الأوضاع القائمة وغربلتها.
أما حين تكون مرحلة العواطف الجياشة والحماسة المتأججة نهاية المطاف ومنتهى الغايات، فتصاغ البرامج التربوية للوصول لها وتحقيقها فحسب فلن تحقق الدعوة غايتها.
محمد بن عبد الله الدويش
مفهوم التربية الجادة
إن أول تساؤل يفرض نفسه هو تحديد المقصود بالتربية الجادة؛ إذ يمثل تحديد المصطلحات أرضية مشتركة تضبط ميدان البحث والنقاش.
وبعيداً عن الجدل والتعقيد المنطقي حول التعريف نسعى في هذا المبحث إلى تحديد مفهوم لما نعنيه بهذا المصطلح، وهو لا يعدو أن يكون اصطلاحاً للكاتب يحدد فيه مقصود الفكرة التي يدعو إليها.
مفاهيم قاصرة للتربية الجادة:
ينصرف الذهن لدى بعض الناس حين نطلق التربية الجادة إلى بعض المفاهيم القاصرة ومنها:
• المفهوم الأول: قلة الضحك:
مما لاشك فيه أن كثرة الضحك تميت القلب، وأن المسلم الجاد يقتصد في المزاح والهزل، لكن هل ما نعنيه ونريده من التربية الجادة أن يكون المتربي قليل الضحك، لا يفتر ثغره عن ابتسامة إلا في الحول مرة أو مرتين؟!
قد يكون بعض الناس طريفاً بطبعه، فهل يكون مثل هذا النوع غير مؤهل للجدية؟! إليك هذين النموذجين من السلف:
• الشعبي:
كان مشهوراً بالدعابة والطرافة، أتاه رجلٌ يوماً وهو جالس مع امرأته فقال: أيكما الشعبي؟! فأشار إلى امرأته فقال: هذه، وسأله رجلٌ: ما اسم زوجة إبليس؟! فقال: ذاك عرسٌ لم نشهده.
ومع هذه الطرافة التي اشتهر بها قال عنه مكحول: "ما رأيت أحداً أعلم من الشعبي".
وقال هو عن نفسه: "ما مات ذو قرابة لي وعليه دين إلا وقضيت عنه، ولا ضربت مملوكاً لي قط، ولا حللت حبوتي إلى شيء مما ينظر إليه الناس". [انظر في هذه الأخبار: سير أعلام النبلاء 4/ 294].
• الأعمش:
كان صاحب طرفة مشهوراً بها كذلك، سأله رجل: كيف أمسيت البارحة فأحضر وسادة فاضطجع عليها وقال: هكذا.
وقال عيسى: "أتى الأعمش أضياف فأخرج إليهم رغيفين فأكلوهما، فدخل فأخرج لهم نصف حبل قتِّ فوضعه على الخوان، وقال: أكلتم قوت عيالي، فهذا قوت شاتي فكلوه".
وسأله أبو داود الحائك: "ما تقول يا أبا محمد في الصلاة خلف الحائك؟! فقال: لا بأس بها على غير وضوء، قال: وما تقول في شهادته؟! قال: تقبل مع عدلين".
ومع ذلك كان من أعبد الناس، قال عبد الله الخُرَيْبيُّ: ما خلف الأعمش أعبد منه.
وقال عنه أبو بكر بن عياش: "كان الأعمش يعرض القرآن فيمسكون عليه المصاحف فلا يخطئ في حرف".
وقال عنه يحيى القطان: "كان من النسَّاك، وكان محافظاً على الصلاة في جماعة، وعلى الصف الأول". [انظر في هذه الأخبار: سير أعلام النبلاء 6/ 226 فما بعدها].
إذاً فقد يكون المرء ذا طرافة مزَّاحاً لكنه جادٌ في موضع الجد، عاملٌ في موضع العمل.
• المفهوم الثاني: التحصيل العلمي:
وأحياناً ينصرف الذهن عند الحديث عن التربية الجادة إلى أنها تلك التي تعنى بالتحصيل العلمي وبذل الجهد فيه.
ولئن كان طلب العلم من أشرف الأعمال وخيرها، ويمثل ميداناً من أفضل ما يشغل به الشباب المسلم اليوم، ولا يجوز بحال التهوين من شأنه، أو إهماله بحجة الانشغالات الدعوية؛ إلا أن ذلك لن يجعل طلب العلم هو وحده المعيار الذي تقاس من خلاله الجدية.
ثمة طاقات منتجة، وفئات تتقد حماسة وتحمل غيرة وتبدي استعدادها لتقدم خيراً للمسلمين، لكنها لا تملك القدرة العقلية أو التهيؤ النفسي لطلب العلم والتقدم فيه، فهل يجوز أن تهمل جهود هؤلاء؟! أو أن يهمش دورهم ويشعرون أنه لا قيمة لهم ولا مجال ما داموا غير بارعين في الميدان العلمي؟!
إن هناك ميادين كثيرة من الخير والخدمة للدين ونصرة قضايا الأمة يمكن أن يقوم بها أمثال هؤلاء، كالميادين الإدارية والاجتماعية والإغاثية والتربوية وغيرها كثير، وهي لا تفتقر للحصيلة العلمية الواسعة، وهذا وإن كان لن ينقلهم إلى مصاف الدعاة المؤهلين المتصدرين للتعليم والإفتاء والتوجيه، إلا أنه لن يلغي دورهم.
• المفهوم الثالث: الحزم والقسوة:
بعض الناس تعني الجدية لديه القسوة والحزم، والتعامل مع الناس بمنطق لا يقبل العذر، ولا يعفو عن الزلة أو يقيل العثرة، إنه منطق أولئك الذين لا يجيدون التوازن بين المفاهيم النظرية المجردة وبين الواقع العملي، فيتطلعون إلى نموذج مثالي لا يتحقق في دنيا الواقع، حينها يشعر أحدهم أنه يجري ولا يجرى معه.
والمربي الناجح هو الذي يسير ويقود الناس وهم كنفتيه، فلا هو يخالف ما وُصِف به نبيه صلى الله عليه وسلّم: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ). [التوبة: 128]. وقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ). [آل عمران:159]. ولا هو يفهم الرفق فهماً مغلوطاً فيرى أنه يعني مسايرة الناس ومجاراتهم على ما هم عليه، والقعود عن الرقي بهم، فالذي نزلت عليه هذه الآيات، والذي أثنى على الرفق وحث عليه ودعا له هو الذي احمر وجهه حين جاءه شاب من أتباعه وأصحابه يطلب منه الدعاء بعد أن لقي من المشركين شدة، وهو الذي هجر ثلاثة من أصحابه ودعا المؤمنين إلى هجرهم.
مفهوم الجدية:
إن تلك الصور السابقة تملك قدراً من الجدية، لذا آثرنا التعبير عنها بمفاهيم قاصرة لا خاطئة، لكنها لا تمثل بالضرورة المفهوم الذي نريد.
إن الرجل الجاد هو صاحب الهدف الذي يسري في أعماقه وروحه، فهمُّه وجهده متوجه لهذا الدين، إنه الرجل صاحب العبادة الحقة لله سبحانه وتعالى ظاهراً وباطناً، مخلصاً مخبتاً راجياً خائفاً، كثير الذكر والصلاة والصيام والتلاوة، إنه الجاد في طلبه للعلم الشرعي والتأدب بآدابه، إنه الرجل الجاد في نفسه القادر على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، إنه الرجل الشجاع غير الهياب ولا الوجل، إنه باختصار الرجل العامل المنتج.
ولنقف وقفة حول العمل وقيمته، إذ هو صفة الرجل الجاد المتميزة.
العمل مطلب الجميع:
سنة الله سبحانه في الحياة أن لا يعيش فيها ولا يفلح إلا الرجل العامل، بل ولا يأكل رزقه إلا الرجل العامل، وحتى أصحاب الشهوات والمبادئ الأرضية لابد لهم من عمل يحصِّلون من خلاله ما يريدون، فكيف بالمسلم العابد لله.
إن صاحب المؤسسة الخاصة والعمل الشخصي لا يريد أن يوظف لديه إلا الرجل العامل المنتج، والتقارير ومعايير الكفاءة لديه مرتبطة بالعمل الذي يقدمه والإنتاج الذي يحققه.
ومدير الدائرة الرسمية يفترض أن لا يريد إلا الموظف العامل، ومعايير التقويم الرسمي وغير الرسمي لديه مرتبطة بعمل الموظف وما يقدمه.
وأحياناً نسمع أن المدير الفلاني للشركة والموظف الفلاني حين انتقل اختار بعض الموظفين لديه لينقلهم معه: لماذا؟! يجيب الجميع لأن هذا الموظف عامل ومنتج، إذاً فالعمل مطلب الجميع، ومعيار الجميع للتقويم
والأمم السابقة واللاحقة التي سطرت لها صفحات في التاريخ، إنما قامت وحققت إنجازها بالعمل دون الشعارات الفارغة والعيش على الأمجاد، وما فتح التاريخ صفحة لأمة من الكسالى والقاعدين.
• القرآن يدعو إلى العمل:
إننا حين نقرأ القرآن الكريم نجد أنه قد أولى هذا الأمر عناية وجعله مطلباً أساساً.
1- فالإيمان لابد من اقترانه بالعمل، فنقرأ في آيات القرآن الكريم عطف العمل الصالح على الإيمان في أكثر من خمسين موضعاً، مع أن الإيمان يدخل فيه العمل الصالح كما قال صلى الله عليه وسلّم: "الإيمان بضع وستون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شـعبة من الإيمان". [رواه البخاري 9، ومسلم 35]. إلا أن هذا كله تأكيد على قيمة العمل وأهميته.
2- والإيمان حين لا يصاحبه عمل يصبح دعوى فارغة يعاب الإنسان عليها: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). [الحجرات: 14- 15].
3- ويعلق الجزاء في الدنيا للأفراد والمجتمعات على العمل: (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). [العنكبوت:35].
والعمل الصالح يلقى المرء جزاءه في الدنيا بركة وسعة في الرزق: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ). [الأعراف:96].
إذاً فالجزاء بالإحسان أو العقوبة في دار الدنيا مرتبط بالعمل، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
4- والسؤال والحساب يوم القيامة إنما هو عن العمل: (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). [النحل: 93].
5- والثواب الأخروي وهو الأساس الذي شمر إليه المشمرون وسعى إليه العاملون وتنافس فيه الصالحون مرتبط بالعمل: (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). [الأعراف: 43].
6- والعقاب الأخروي في نار الجحيم مرتبطٌ بالعمل: (وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). [النمل: 90].
وحين يطلبون العودة إلى دار الدنيا - ولن يتحقق لهم فهم يسألونها ليعملوا: (فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ). [الأعراف:53]. قالوا ذلك وقد أدركوا قيمة العمل وعلو شأنه، وأن مصيرهم الذي صاروا إليه إنما هو نتيجة للعمل الذي عملوه.
7- والتفكر في آيات الله وما يتبعه من مشاعر لابد أن يتحول إلى رصيدٍ عملي: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ....). إلى أن قال عز وجل: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ). [آل عمران: 190-195]. فلم يجازهم سبحانه على مجرد التفكر أو الدعاء وحده - وإن كان ذلك أمراً يثاب عليه المسلم - وإنما ارتبط الجزاء بالعمل وهو يتضمن الإيمان وتحمل الأذى والقتال والقتل في سبيل الله.
8- وحتى الوعظ والتأثر به والخوف من الله تعالى لابد أن يتحول إلى رصيدٍ عملي، ففي وصف عباد الله الأبرار: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً* إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً). [الإنسان: 7- 10].
فالخوف من هذا اليوم وشدته لم يكن شعوراً داخلياً فحسب بل كان له أثر عملي ترتب عليه إطعام الطعام على حبه والإحسان للناس.
وفي وصف الملائكة وسائر عباد الله الساجدين له: (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ* يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). [النحل:49- 50].
9- ولقد مقت الشرع القول بغير عمل وذمه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ). [الصف:2- 3].
وأُتبعت هذه الآيات بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ). [الصف: 4]. فالله سبحانه وتعالى إنما يحب العاملين المجاهدين.
• وفي السنة النبوية دعوة إلى العمل:
فالعلم الذي هو من أعظم العبادات إن لم ينشأ عنه العمل فهو شرٌ يستعاذ بالله منه: "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع". [رواه الترمذي 3482 والنسائي 5442].
ووظيفة المسلم في الحياة هي العمل، ولذا فقد علمَّنا صلى الله عليه وسلّم أن ندعو للمريض بقولنا: "اللهم اشف عبدك فلاناً ينكأ لك عدواً أو يمشي إلى الصلاة". [رواه أبو داود 3107، والحاكم 1/ 344، 549].
وحين سأل النبيَ صلى الله عليه وسلّم رجل متى الساعة؟! قال له: "ماذا أعددت لها؟!" . [رواه البخاري 3688، ومسلم 2639].
أليس في هذا تربية لأصحابه على أن يكون همهم وشأنهم متجهاً إلى العمل؟!
وسيرته صلى الله عليه وسلّم خير شاهد على ذلك؛ فقد كان العمل هو همه صلى الله عليه وسلّم وشأنه وديدنه، فيدعو الأفراد والقبائل، ويعرض نفسه في المواسم، ويغشى قومه في المنتديات، ويرحل إلى الطائف، ويهاجر للمدينة، وتكون فيها الغزوات والسرايا والبعوث واستقبال الوفود، بل إننا حين نحتاج للاستدلال من سيرته صلى الله عليه وسلّم على هذا المبدأ فلابد أن نسطر كتاباً كاملاً في السيرة، إذ سيرته صلى الله عليه وسلّم كلها عمل.
• أهل العلم يدعون إلى العمل:
وأدرك أهل العلم هذه القضية فكانوا يدعون إلى العمل والاهتمام بشأنه من خلال أقوالهم وقواعدهم وأصولهم التي يؤصلونها.
1- فالعلم عندهم لابد أن يتبعه العمل، إذ تتابعوا وتوارثوا أن يوصوا الطالب بالعمل فيما علم فعقدوا فصولاً في كتب آداب العالم والمتعلم عن العمل بالعلم، وصنف الخطيب البغدادي جزءه المشهور: (اقتضاء العلم العمل).
وللحافظ ابن عساكر جزء في ذم من لا يعمل بعلمه.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال قد علمت فماذا عملت فيما علمت". [رواه الدارمي 263. وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله].
وقال أيضاً رضي الله عنه: "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه". [رواه الدارمي 262].
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "اعملوا ما شئتم بعد أن تعلموا، فلن يأجركم الله بالعلم حتى تعملوا". [رواه الدارمي 260، وابن عبد البر في الجامع 2/ 6].
وقال الحسن: "الذي يفوق الناس في العلم جدير بأن يفوقهم في العمل".
وقال عبد الملك بن إدريس الحزيري الوزير الكاتب:
والعلم ليس بنافع أربابه ** ما لم يفد عملاً وحسن تبصر
سيان عندي علم من لم يستفد **عملاً به وصلاة من لم يطهر
فاعمل بعلمك توفِ نفسك وزنها ** لا رض بالتضييع وزن المخسر.
[انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/ 4- 9].
2- والمسائل العلمية التي لا يترتب عليها ثمرة عملية قد تكون ترفاً فكرياً لا ينبغي الاشتغال به والالتفات إليه، أو أن يحفل به طالب العلم ويتجه له.
قال الشاطبي: "كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعاً، والدليل على ذلك استقراء الشريعة: فإنا قد رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملاً مكلفاً به" . [الموافقات 1/ 31].
وانظر ما قرره رحمه الله في المقدمة التاسعة في الموافقات حول صلب العلم ومُلحه. [انظر الموافقات 1/ 53- 61].
3- والعناية بتتبع الأسانيد وطرقها دون العناية بالمتون ليس من شأن طالب العلم الجاد الباحث عن العمل.
4- والسؤال حين لا يكون واقعياً ولا يتبعه عمل فهو مذموم مطروح لا يستحق صاحبه أن يجاب عليه.
استفتى رجلٌ أبي بن كعب -رضي الله عنه- فقال: يا أبا المنذر، ما تقول في كذا وكذا؟! قال: يا بني أكان الذي سألتني عنه؟! قال: لا، قال: إما لا فأجلني حتى يكون، فنعالج أنفسنا حتى نخبرك. [رواه الدارمي 149].
وسأل ميمون ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل أدركه رمضانان؟! فقال: أكان أولم يكن؟! قال: لم يكن بعد، قال: اترك بلية حتى تنزل. [رواه الدارمي 154].
وحتى أولئك الذين يجيبون السائل عما لم يقع، إنما يجيبونه لأنهم يرون أن ما سأل عنه قد يقع له فيما يستقبل من أمره فيعمل به.
5- وأما مواقفهم وتاريخهم العملي فهي خير شاهد على ذلك، فقد تصدوا لتعليم العلم الشرعي، وتصدوا لنفع الناس وقضاء حوائجهم والشفاعة بحقوقهم، وتصدوا لإنكار المنكرات العامة والخاصة، والاحتساب على الرعية والولاة، وكانوا في مقدم الصفوف في الجهاد وساحات الوغى، وفي تاريخهم شواهد لا تجهل.
لقد أفضنا في الحديث عن العمل وأهميته، ولعل هناك من يتساءل وما علاقة العمل بالتربية الجادة؟!
فنقول: إن العمل يعد من أهم محددات الجدية، وإن من أكبر مواصفات الرجل الجاد والمجتمع الجاد أنه عامل، بل لعلك لا تكاد تجد وصفاً دقيقاً للرجل الجاد غير هذا الوصف.
ومع ذلك فالعمل الذي نريده ليس أي عمل بل هو العمل المنتج الذي ترجى من ورائه ثمرةٌ لهذه الدعوة المباركة.
وليس كون العمل منتجاً فحسب كافياً لإدراج صاحبه ضمن قائمة الجادين، بل لابد أن يكون النتاج بالقدر اللائق؛ إذ هناك من يعمل أعمالاً منتجة فعلاً لكنها تُستقل ممن هو دونه بكثير فما بالك به.
وحين يكون من أولويات اهتمام المربين إعداد الجيل الجاد العامل، وضمن معايير تقويمهم للنجاح التربوي مدى العمل والإنتاجية؛ حينها نشعر فعلاً أن التربية في الأمة صارت منتجة ومحققةً لأهدافها.
مسوغات التربية الجادة
ثمة مسوغات واعتبارات تفرض على الصحوة أن تدرج الهمَّ التربوي في مرتبة متقدمة ضمن سلم اهتماماتها وأولوياتها، وأن تكون التربية الجادة صفة ملازمة لبرامجها التربوية ومن هذه المسوغات:
• المسوغ الأول: التربية الجادة طريق من سلف:
فهي طريق الأنبياء والعلماء من بعدهم، فوظيفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم التي وصفها الله سبحانه في غير ما موضع من كتابه (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). [الجمعة: 2]. (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ). [آل عمران: 164].
والإسلام إنما قام وانتشر على يد الرعيل الأول الذين رباهم محمد صلى الله عليه وسلّم، فهم القادة والمتقدمون في الصفوف في المعارك والولايات والقضاء والإمارة، وحين ارتدت الجزيرة بقي ذلك النشء ثابتاً على دينه، بل كان له الفضل بعد الله في إعادة الجزيرة إلى حظيرة الإسلام.
إن هذا الجيل الذي كان له الفضل على الأمة جميعاً خير دليل على أن التربية من وظائفه ورسالته صلى الله عليه وسلّم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
بل كان صلى الله عليه وسلّم يلقى جبريل فيدارسه القرآن: "فلرسول الله صلى الله عليه وسلّم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة". [جزء من حديث رواه البخاري 6، ومسلم 2308].
والأنبياء قدوة للناس والدعاة، لا في العبادة والسلوك الشخصي فحسب، بل في منهج الدعوة ووسائل التغيير.
وبعد الأنبياء سار أهل العلم على هذا المنهج فكانوا يوصون الطالب بصحبة العلماء ومجالستهم، حيث يرون أن دور الشيخ يأخذ مدىً يتجاوز مجرد كونه وسيلة لنقل المعلومات.
وما أجمل ما قاله ابن المبارك:
أيهـا الطالب علماً ائت حماد بن زيد
فاكتسـب حلماً وعلماً ثم قيده بقيد
ودع الفتنـة من آثار عمرو بن عبيد
وقال ابن سيرين: "كانوا يتعلمون الهَدْيَ كما يتعلمون العلم".
وقال الحسن: "إن كان الرجل ليخرج في أدب واحد السنة والسنتين".
وأوصى حبيب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال: "يا بني اصحب الفقهاء وتعلم منهم وخذ من أدبهم؛ فإنه أحب إلي من كثير من الحديث".
وكانوا يوصون الطالب في مقتبل الطلب أن يحفظ قصيدة القاضي الجرجاني. [انظر حلية طالب العلم للعلامة بكر أبو زيد 53]:
يقولون لي فيك انقباض وإنما ** رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما ** بدا طمعٌ صيرته لي سلما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة ** إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ** ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ** ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا ** محياه بالأطماع حتى تجهما
وعدَّ الشاطبي من أمارات العالم: "أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم وملازمته لهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك.
وهكذا كان شأن السلف الصالح، فأول ذلك ملازمة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وأخذهم بأقواله وأفعاله... وصار مثل ذلك أصلاً لمن بعدهم، فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلّم حتى فَقُهوا، ونالوا ذروة الكمال في الأمور الشرعية.
وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالماً اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائغة ولا أحدٌ مخالفٌ للسنة، إلا وهو مفارقٌ لهذا الوصف، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم". [الموافقات 1/ 66- 67].
إن هذه النقول وغيرها دليل على أن دور التربية كان يتم عن طريق أولئك العلماء ورثة الأنبياء، وأنه كان لا يقل شأناً وقدراً عن تلقي العلم وحفظ مسائله.
• المسوغ الثاني: نصوص القرآن:
نقرأ في القرآن الكريم نصوصاً عدة تخاطب المؤمنين بخطاب محصله: أن القضية قضيةٌ جادة، وحاسمة منها:
أ- قوله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً). [مريم: 12].
إنه خطاب لنبي الله يحيى عليه الصلاة والسلام: أن يأخذ الكتاب بقوة تتناسب مع عمق القضية التي يحملها والمنهج الذي يدعو إليه. ومثله قوله تعالى لموسى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ). [الأعراف: 154].
وأنبياء الله ورسله إخوة لعلات. [لفظ حديث رواه البخاري 3443، ومسلم 2365. وقد فسره صلى الله عليه وسلّم بقوله "أمهاتهم شتى ودينهم واحد". وأولاد العلّات: الإخوة من الأب.
قال ابن حجر في الفتح 6/ 605: "ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع، وقيل المراد أن أزمنتهم مختلفة". أهـ].
فالخطاب لهم خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلّم، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلّم خطاب لأمته.
ب- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً* إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً). [المزمل: 1- 5].
قال الحافظ ابن جرير: "اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً). [المزمل: 5]. فقال بعضهم: عني به إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً العمل به، وساق بإسناده إلى الحسن قال: العمل به، إن الرجل ليهذّ السورة ولكن العمل به ثقيل.
وعن قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده.
وقال آخرون: بل عنى بذلك أن القول عينه ثقيل محمله.
ثم قال بعد ذلك: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله وصفه بأنه قول ثقيل، فهو كما وصفه به ثقيل محمله، ثقيل العمل بحدوده وفرائضه". [جامع البيان عن تأويل آي القرآن 29/ 127-128].
وتأتي هذه الآيات للنبي صلى الله عليه وسلّم في مبدأ الرسالة واصفة هذا الكتاب الكريم بأنه ثقيل، ومن ثم فلن يحمله ويقوم به إلا الرجال الجادون.
ج- وينعى القرآن الكريم على الذين يظنون أنهم سيدخلون الجنة عبثاً دون عمل أو مجاهدة (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب). [البقرة: 214].
ويضعهم أمام هذا النموذج: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). [آل عمران: 146-147].
"هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته - سبحانه - في تربية عباده المختارين، والذين يكل إليهم رايته وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته.
وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم، وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة، إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه، من الرسول الموصول بالله والمؤمنين الذين آمنوا بالله، إن سؤالهم: متى نصر الله؟! ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة، ولن تكون إلا محنة فوق الوصف تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث ذلك السؤال المكروب: متى نصر الله؟!.
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة عندئذٍ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ). [البقرة: 214].
إنّ الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة، ويرفعها على ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقاً وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها..." . [في ظلال القرآن 1/ 218- 219].
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمَّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين). [آل عمران: 142].
د- ويحكي لنا القرآن الكريم صورة تخلف فيها مظهر التربية الجادة عند الذين يطالبون بالجهاد ولقاء العدو فحين فرض عليهم صارت لهم كلمة أخرى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً). [النساء: 77].
هـ- يأمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يصبر نفسه ويجاهدها مع طائفة جادة من المؤمنين: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). [الكهف: 28].
إن هذه النصوص على اختلاف دلالاتها وموضوعاتها، تشترك جميعاً في إطار واحد هو أن القضية جادة وحاسمة، فمن يسلك سبيل هذا الدين فلابد أن يكون جاداً، ومن باب أولى أن يكون الداعية إليه والحامل له إلى الناس جميعاً يملك قدراً من الجدية يتناسب مع جدية القضية وضخامة المنهج الذي يحمله.
• المسوغ الثالث: نصوص السنة:
ثمة نصوصٌ عدة من السنة النبوية تدل بمجملها على الجدية منها:
أ- قوله صلى الله عليه وسلّم: "استعن بالله ولا تعجز". [رواه مسلم 2664].
ب- قوله صلى الله عليه وسلّم: "حجبت النار بالشهوات، وحُجبت الجنة بالمكاره". [رواه البخاري 6487، ومسلم 2823].
وفي حديث آخر يفصل هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلّم: "لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها، فحفَّها بالمكاره فقال: اذهب فانظر إليها، ثم جاء فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، قال: ولما خلق الله النار قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفَّها بالشهوات، فقال اذهب فانظر إليها، فلما رجع قال: وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها". [رواه أبو داود 4744. والترمذي 2560 والنسائي 3763 وابن حبان والحاكم].
فالطريق للجنة لابد أن يكون عبر قطع قنطرة المكاره وتجاوزها، وهذه القنطرة لا يمكن أن يجتازها إلا رجلٌ جاد يتحمل المكاره ويتخلى عن الشهوات، أما طريق الشهوات واللذات فهو طريقٌ يسلكه اللاهون والعابثون لكن نهايته وخيمة.
ج- لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسوة فقد كان يقول كل يوم: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل". [رواه البخاري 6369، ومسلم 2706].
فهو صلى الله عليه وسلّم يستعيذ بالله من هذه الصفة المقيتة التي لعلك لا تجد للرجل غير الجاد وصفاً أدق منها وأبلغ: (عاجزٌ وكسول).
فهو الذي "لا يزال في حضيض طبعه محبوساً، وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدوداً منكوساً، قد أسام نفسه مع الأنعام راعياً مع الهمل، واستطاب لقيمات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل، لا كمن رفع له علم فشمر إليه، وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن سبيل يرافقه في سبيله". [مفتاح دار السعادة لابن قيم الجوزية 1/ 46].
• المسوغ الرابع: الجدية هي الأصل في الحياة:
فلا ينجح في الحياة ولا يثمر، ولا يحقق أهدافه إلا الرجل الجاد فيها أياً كانت أهدافه وفلسفته للحياة؛ فالتاجر لا ينجح في تجارته إلا حين يكون جاداً، فهو يقضي سحابة نهاره وشطر ليله في عمله الدءوب، قد وظف وقته وجهده وطاقته لتحقيق هذا العمل وحده، والسياسي لا يحقق هدفه إلا حين يكون كذلك، بل وحتى اللص وقاطع الطريق كذلك إن لم يتحمل ويخاطر ويقرر وينفذ - أي يكون جاداً في جريمته ! - فلن يستطيع أن ينجح في تنفيذ جرائمه.
أرأيت أصحاب المذاهب الأرضية والطرق الضالة كيف يبذل أحدهم ويضحي؟! وكيف يدفع حياته وراحته ثمناً لمبادئه؟!.
والأمم التي دخلت التاريخ، وسطرت منجزاتها، لم تكن لتحقق جزءاً مما حققت، ما لم تكن تملك قدراً من الجدية والتصميم؛ إنها سنة الله في الحياة أن لا ينجح إلا الرجل الجاد.
فهل نريد أن تكون لنا سنةٌ خاصة، وهل نظن أننا سننجح في تحقيق أهدافنا التي تتجاوز أهداف أولئك دون أن نملك قدراً من الجدية يفوق ما هم عليه؟!
وكم تتطلع الأمة المسلمة إلى احتلال موقع الريادة وتبوُّء التوجيه لأمم الأرض جميعاً، فهل يمكن أن تحقق تلك المكانة دون جدٍ أو عمل؟!
• المسوغ الخامس: العبادات الشرعية:
هناك أحكام شرعية، وعبادات تتطلب قدراً من الجدية والتحمل، قد أوجبها الله على عباده جميعاً، فالحج مثلاً - الركن الخامس من أركان الإسلام - يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلّم: "جهادٌ لا قتال فيه". [رواه ابن ماجه 2901 وأصله في الصحيحين].
ويتحمل المسلم في الحج ما يتحمل من المشاق والصعوبات، ومع ذلك فما دام مستطيعاً فإن هذه الصعوبات لا تسقط عنه هذه الفريضة، أليس في هذا تربية للأمة على الجدية؟!
والجهاد الذي فيه إراقة الدماء وبذل المهج والأرواح، أليس واجباً على مجموع الأمة؟! فهل هناك مشقةٌ تعدل مشقة الجهاد؟! إن المسلم أياً كان موقعه من سلم المشاركة في الأمة لابد أن يكون مهيئاً للجهاد أصلاً؛ ذلك أن من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق. [رواه مسلم 1910].
ومن يحدث نفسه بالغزو لابد أن يكون مؤهلاً لتحمل المشاق والصعاب، شجاعاً غير هياب، مقداماً لا يعرف التردد.
فهل تربيتنا تهيئ الجيل والنشء للجهاد؟!
وإذا لم تكن كذلك أليست بحاجة إلى مزيد مراجعة وتمحيص؟!
• المسوغ السادس: كيف ساد الرجال؟!:
لقد سطر التاريخ لنا نماذج من الذين ساهموا في صياغة مستقبل الأمة وصناعة حضارتها، فكيف تربى أولئك الرجال؟! لنفتح صفحة من تاريخهم:
فالسيرة تزخر بالمواقف التي مرَّ بها جيل خير القرون بدءاً بما تلقاه في دار الأرقم والفترة المكية، ثم ما بعد الهجرة من أحداث كان يتوالى على أثرها نزول القرآن الكريم: معقباً وموجهاً ومعاتباً، ومبيناً.
إن سنن الله في النصر والهزيمة، والصبر على اللأواء، وإصلاح ذات البين، والتثبت في القول والعمل، والاجتماع والائتلاف... وغيرها دروسٌ تلقاها الجيل الأول بعد بدر وأحد والمريسيع والأحزاب وتبوك وحنين، لقد تربى ذلك الجيل من خلال الأحداث والواقع، ولم تكن تلك المعاني العظيمة لتلقى عليه مجردة، وأنى لها أن تؤدي دورها وأثرها حين تكون كذلك.
وعلى المستوى الفردي كان خير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم يعيشون معه ما لا يعيشه غيرهم، فتقرأ كثيراً في السيرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر، مما يوحي بأن هناك إعداداً أخص لهذه النخبة، علاوة على ما يتلقاه سائر الصحابة رضوان الله عليهم.
وأهل العلم والفتيا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم إنما بلغوا هذه المنزلة بهجر الترفه والصبر والجلد، فابن عباس رضي الله عنهما يقول عن نفسه: "فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟! ألا أرسلت إلي فآتيك؟! فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث". [رواه الدارمي 570].
ولا يقف الأمر عند هذه الحقبة الزمنية، فترى ذلك من خلال سير أهل العلم والقيادة في الأمة على مدى تاريخها الواسع.
قال فضيل بن غزوان: "كنا نجلس أنا وابن شبرمة، والحارث بن يزيد العكلي، والمغيرة، والقعقاع بن يزيد بالليل نتذاكر الفقه، فربما لم نقم حتى نسمع النداء بالفجر". [سير أعلام النبلاء 6/ 348].
وقال أبو عبيد الآجري: سئل أبو داود: "أيهما أحفظ: وكيع أو عبد الرحمن بن مهدي؟! قال: وكيع أحفظ وعبد الرحمن أتقن، وقد التقيا بعد العشاء في المسجد الحرام، فتوافقا حتى سمعا أذان الصبح. [سير أعلام النبلاء 9/ 152].
قال أبو حاتم: سمعت أبي يقول: "أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ (4800 كم).
قال: ثم تركت العدد بعد ذلك، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشياً، ثم إلى الرملة ماشياً، ثم إلى دمشق، ثم أنطاكية وطرسوس، ثم رجعت إلى حمص، ثم إلى الرقة، ثم ركبت إلى العراق، كل هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة. [سير أعلام النبلاء 13/ 255 -256].
قال عبد الله ابن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: "كنت ربما أردت البكور في الحديث، فتأخذ أمي بثيابي وتقول: حتى يؤذن الناس أو يصبحوا، وكنت ربما بكرت إلى مجلس أبي عياش وغيره".
وقال يحيى بن سعيد القطان - وذكروا طلب الحديث -: "كنت أخرج من البيت قبل الغداة فلا أرجع إلا العتمة". [سير أعلام النبلاء 9/ 183].
وقال ابن المديني: إن شريكاً قال: صليت مع أبي إسحق ألف غداة. [انظر في هذه الأخبار الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/ 150].
وقال ابن أبي حاتم: "كنا بمصر سبعة أشهر، لم نأكل فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ ونقابل، فأتينا يوماً أنا ورفيق لي شيخاً فقالوا: هو عليل، فرأيت سمكة أعجبتنا فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت أن تنتن فأكلناها نيئة لم نتفرغ نشويها!.
ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد، وحين نطلب من الجيل الناشئ أن يكون جاداً فلسنا بالضرورة ندعوه لأن يأكل الطعام نيئاً، لكنها صورة مشرقة من جدية السلف تبقى منارةً يتطلع الجيل إليها ليقترب منها علَّ خفاً يقع على خف.
• المسوغ السابع: هكذا تنتصر الدعوات:
لقد مرت الأمة بمراحل من الضعف والهوان والذلة، فقيض الله لها من يجدد أمر دينها، فحين نقرأ في سير الدعوات التجديدية والإصلاحية ندرك تمام الإدراك أن هذه الدعوات لم تنجح عبثاً، وقد كان وراء نجاحها رصيدٌ هائلٌ من التضحيات الجسام.
والدور المنوط بالصحوة الآن لا يمكن أن يتم دون تربية جادة.
فالمجتمعات الإسلامية تعاني من بعثرة الأوراق التربوية، وتناقض الاهتمامات، والبعد عما يريده الله منها - خير أمة أخرجت للناس - ومن ثم فإن إعادة ترتيب أوراقها وصياغتها جهدٌ طموح، يأخذ على عاتقه إصلاح فساد توافر على صنعه أعداء الأمة خلال سنين عديدة، إنه يستهدف إعادة ترميم واسعة التكاليف، فقد مرت فترات ضعف ومرض على هذه الأمة وتجاوزتها بحمد الله، ولئن كانت قادرة دون شك على تجاوز المرحلة المعاصرة، إلا أن هذه المرحلة مرحلة فريدة في تاريخ الأمة، فالنهوض بها وقيام الصحوة بالأدوار المنوطة بها يحتاج لطاقات مؤهلة تربت تربية جادة يمكن الاعتماد عليها بعد الله.
• المسوغ الثامن: كثرة الفتن والمغريات:
يواجه الشباب المسلم في هذا الزمان تياراً جارفاً من الفتن والصوارف عن دين الله عز وجل: فتن الشبهات التي تشككه في دينه وعقيدته، وفتن الشهوات المحرمة التي قد تقوده إلى نارها ولأوائها.
ويصبح الشاب والفتاة ويمسيان والصورة المغرية والمشهد الساقط تلاحقهم في الشارع وعلى الشاشة وفي المجلات والأسواق، وحتى على مقاعد الدراسة في المدارس المختلطة.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلّم عن هذه الفتن بقوله: "ما تركت بعدي فتنةً هي أضر على الرجال من النساء". [رواه البخاري 5096، ومسلم 2740].
وإن التربية الجادة هي بإذن الله من أعظم ما يعين على تنشئة الشاب الذي يخاف الله عز وجل ويرهب المعصية ويحمل قوة الإيمان مع قوة الإرادة والعزيمة في مواجهة الفتن والانتصار عليها.
وفتنة المال هي الأخرى فتنة تواجه النشء المسلم وتحاصره، فيبدو بريق المال أو المنصب أو الشهرة أمام الداعية ثمناً للتخلي عن دعوته، والمساومة على منهجه، وربما لتسخير الدعوة، والمنهج لصالح فلان من الناس، إنها فتنة يصعب تجاوزها على من لم يدرك جدية القضية، ويصبر على الشظف واللأواء.، لقد قال صلى الله عليه وسلّم: "ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه". [رواه الترمذي 2376 وأحمد، والدارمي 2730، وقال الترمذي: حسن صحيح. وللحافظ ابن رجب رسالة قيمة حول شرح هذا الحديث].
والمتأمل في الساحة يرى على جنبات السبيل العديد ممن تنكبوا وأخذوا بنيات الطريق، فعاشوا صرعى هذه الفتن، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى.
أليس من عمق المخاطرة بالمنهج، والمراهنة على ضياع الدعوة، أن يسلك أولئك الذين لم يتربوا ويتأهلوا تأهلاً كافياً في ركاب القيادة، ويسلموا منصة التوجيه، والذين سرعان ما تتخطفهم فتنة أو يأسرهم بريق شهوة؟!.
• المسوغ التاسع: حاجة الأمة للشخصية المتكاملة:
ثمة معان كبيرة: الصبر، التأني، الكرم، الشجاعة، المبادرة، الثقة بالنفس، سعة الأفق، أدب الحوار.... هذه المعاني تعد مواصفات أساسه في الشخصية السوية، فضلاً عن شخصية المسلم، وهي لا يمكن أن تكتسب من خلال الطرح المعرفي المجرد، بل لابد من تربية عملية واقعية، والدعوة التي تعتمد على من يفقد هذه المعاني بنيان هش يوشك أن ينهار، وتصور تحقيقها بمجرد توجيهات عجلى إغراقٌ في السطحية، وجهل بالطبيعة الإنسانية.
• المسوغ العاشر: اتساع نطاق الصحوة:
لقد اتسعت بحمد الله هذه الصحوة المباركة، وامتدت خارطتها لتغطي مساحة واسعة على مستوى العالم الإسلامي، واتساع الصحوة يفترض العناية بالتربية وذلك:
أ- لزيادة قوافل التائبين، والعائدين إلى الله:
فيوماً نسمع عن فنان تائب، وتارة عن مروج للمخدرات، وأخرى عن رياضي... وهكذا تمتد الصحوة أفقياً بزيادة عدد المستجيبين يوماً بعد يوم.
وهذه الأفواج المتوافدة مهما كانت جديتها في التوبة، لا تزال تحمل رواسب تربوية تشربتها من خلال المراحل السابقة التي سلكتها، وهي خليط متنافر من سلوكيات تربوية لا يجمع بينها إلا أنها سيئة ومرفوضة، وقد انتقلت إلى الصف الإسلامي بكل ما تحمله من رواسب، وربما تبوأت مراكز قيادية في الساحة الإسلامية، أو صعدت منابر للتوجيه، وأقرب مثالٍ على ذلك إتاحة الفرص لهم للحديث في المجالس والمنابر الشرعية، وتوجيه الأسئلة لهم عما قد لا يجيدون فهمه فضلاً عن الحديث عنه، ونحن لا ندعو لرفض أولئك فرحمة الله تتسع لمن هو أسوأ حالاً منهم، وندرك أن حالهم ليست كحال غيرهم، لكن البديل لذلك ليس هو إتاحة المنابر الشرعية وتصديرهم.
وليس المقصد من الحديث هذه الطائفة قريبة الهداية لكنه مثال على إهمالنا لشأن التربية، فدون أولئك أفواج هائلة ممن لهم تاريخ مظلم في الفساد والانحراف فعادوا إلى الصف، فالتخلص من هذا الركام التربوي، والتجرد من تلك الرواسب لا يمكن أن يتم بمجرد التوبة، فلابد من تربية جادة تعطى مدىً زمنياً كافياً، تأخذ على عاتقها إزالة رواسب الماضي وإحلال المعايير التربوية الشرعية.
لقد صحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم قومٌ حدثاء عهد بجاهلية في حنين، فمروا بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط فتنادوا من جنبات الوادي: يا رسول الله اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط. [رواه أحمد 5/ 218 والترمذي 2180، وقال: حسن صحيح، وصححه الحافظ في الإصابة 4/ 216. وانظر: الدر النضيد في تخريج كتاب التوحيد 47- 48].
وحين نجا بنو إسرائيل من الغرق وأتوا على قوم يعكفون على أصنامٍ لهم قالوا: (يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة). [الأعراف: 138].
وأمر صلى الله عليه وسلّم من نسي من أصحابه فقال واللات والعزى أن يقول: لا إله إلا الله. [رواه البخاري 6650.، ومسلم 1647].
والمسلم الموحد لا يشك في بطلان ألوهية اللات والعزى فضلاً عن أن يعظمها ويحلف بها، لكنه قد اعتاد لسانه على ذلك في الجاهلية.
إن ذلك كله مما يشهد لما قررناه أنه لابد من تربية جادة لا لتغسل أوضار الماضي وتزيل رواسبه فحسب، بل لتؤسس بناءً قوياً يستحق أن تعقد عليه الآمال.
ب- اتساع نطاق الصحوة يفرض عليها احتلال مواقع جديدة:
والتوسع في فتح القنوات الدعوية، وهذا يعني مخاطبة المجتمع بكافة طبقاته وسائر فئاته، وأن يكون الخطاب الدعوي شاملاً لجوانب الحياة، ولمشكلات الناس جميعاً، وأن تأخذ الدعوة على عاتقها التصدي لمشكلات المجتمع، والمساهمة عملياً في حلِّها، وذلك كله يفترض تربية جادة تخرج من يحمل مسئولية المشاركة في هذه الميادين مع عزم وإصرار ليحقق إنجازاً أو يسد ثغرة.
ج- واتساع نطاق الصحوة يفرض التوسع في القيادات العلمية والفكرية والدعوية:
مما يعني عدم الاعتماد على الشخصيات الآسرة وحدها، فلابد من الاستعانة بالصفوف الثانية من هذه القيادات، من خلال طلبة للعلم الشرعي يأخذون على عاتقهم تعليم الناس وإزالة غشاوة الجهل عنهم، ووعاظ يحركون القلوب القاسية، ومربين يأخذون بيد الناشئة، وقراء يعلِّمون القرآن الكريم، وأصحاب قلوب رحيمة يعنون بالفقراء والمعوزين، وطائفة يحتسبون لإنكار المنكرات العامة.... وهكذا فهذه القائمة الطويلة لابد لها حتى تؤدي دورها المراد من جهد تربوي فعَّال.
د- واتساع نطاق الصحوة ساهم في تنوع المصادر وتناقضها، ووجود أصوات مأجورة ومرتزقة:
فأوقع بعض المنتمين لتيار الصحوة في دوامة وحيرة، وخلق لهم مآزق فكرية، ولم يعد بمقدور أحدٍ كائناً من كان أن يحاصر شيئاً من هذه المصادر، أو يحجب صوتها حتى لا يسمع، فلا سبيل لتجاوز هذه الفوضى الفكرية، وحسن التعامل معها إلا بالتربية العلمية الجادة، والتي تمنح صاحبها المعايير التي يستطيع من خلالها تقويم المدارس والآراء الفكرية والدعوية.
هـ- واتساع نطاق الصحوة أدى إلى بـروز مجالاتٍ ذاتِ نتائجَ عاجلة وبريقٍ لامع:
فساهم ذلك في توجه كثير من الطاقات إلى تلك المجالات، وإهمال الثغور التربوية والتي تمتاز ببطء النتاج وقلته العددية، في مقابل الوسائل الجماهيرية، بل أدى الأمر ببعضهم إلى المراهنة على فشل العمل التربوي، أو الزعم بأنه قد استنفذ أغراضه.
ولا يمكن أحداً الاعتراض على المساهمة في هذه المجالات فهي من الثغور المهمة، لكن اعتبارها المجال الوحيد، أو تصنيفها نداً ونقيضاً للعمل التربوي المنتج، ذلك مما لا يسوغ بحال.
من ثمرات التربية الجادة
إن التربية الجادة شجرةٌ مباركة لابد أن تؤتي ثماراً يانعة لعل من أهمها:
1- تحقيق العبودية لله:
إن الهدف الأسمى والأعلى للتربية الجادة هو إعداد النشء والرقي به لتحقيق الغاية الأساس من خلقه، ألا وهي عبودية الله سبحانه وتعالى والخلافة في الأرض، والعبودية معنى واسع يظلل برواقه جوانب الحياة المختلفة والمتعددة، وهي مراتب ومنازل متفاوتة، فكل جهد يقوم به المسلم في هذه الحياة من شعيرة من شعائر التعبد، أو تعلم علم أو تعليمه أو دعوة أو نفع للناس أو خدمة للأمة، إنما هو داخل هذه الدائرة، فهي كما قال شيخ الإسلام: "اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة".
إن العبودية لله تتضمن فعل أوامر قد تكون شاقة على النفس، وترك نواه قد تميل إليها النفس وتشتهيها، وكل ذلك يعسر القيام به على غير الجادين.
إذاً فالتربية الجادة تهيئ المسلم ليقوم بهذا العمل وهذه المهمة وليحقق الغاية التي من أجلها خلق وأوجد في هذه الحياة، وما يأتي بعد هذه الثمرة فلا يزيد على أن يكون فرعاً لهذه الثمرة الأساس.
2- العمل المستمر المثمر:
قد تجد كثيراً ممن يملك الاستعداد أن يعمل أعمالاً مثمرة ومضنية، لكنها جهود متقطعة، أما من يستمر على العمل ويدعو من خلال برنامج واضح المعالم والخطى فهم قليلٌ جداً، إن المتربي تربية جادة يدرك أن الدعوة قضية مصيرية، ويدرك أنها تستحق منه أن يرسم حياته على ضوئها، وأن تكون له خطا واضحة بعيدة، أما الأول فقد تدفعه حماسة فائرة أو انطلاقة لنفسه يوشك أن تخبو بعد ذلك وتزول.
وإن ضخامة الدور واتساع نطاقه الزمني يتطلب عدداً من أولئك الذين يديمون العمل، ويدركون أن أحبه إلى الله "أدومه وإن قلَّ".
وتستطيع من خلال خطبة أو محاضرة أو درس أن تؤجج عاطفة جمع غفير فيعملون أعمالاً وينتجون نتاجاً هائلاً، لكن أن تنتج واحداً يعمل على الدوام وعلى كافة الأحوال، فلا أظنك تملك بديلاً غير التربية الجادة.
ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل فقال: "سددوا وقاربوا واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل". [رواه البخاري 6464].
وحين سئل صلى الله عليه وسلّم: "أي الأعمال أحب إلى الله؟! قال: أدومها وإن قل".
وقال: "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون". [رواه البخاري 6465، ومسلم 782].
والنص أوسع من أن يكون قاصراً على أبواب الذكر والصلاة والصيام - وإن كانت أولى ما يدخل فيه - بل كل عمل يتقرب به العبد إلى الله فأحبه إليه أدومه وإن قل.
3- الجدية في التعامل مع الأوقات:
كثيراً ما نعاني من الإهدار الهائل للأوقات دون ثمرة، ويقع ذلك ممن يدرك قيمة الوقت ولا تخفى عليه بحال فضلاً عمن لا يدركها، وليس ثمة أقوى دافعٍ لتنظيم الوقت ورعايته من الشعور بجدية الهدف وسموه، فالنفس تعصف بها ريح الكسل والتسويف وحب الراحة، ولا يوقف هدير هذه العواصف العاتية إلا الجاد مع نفسه والحازم، ولعل مقارنة عاجلة بين صنفين من الناس: أحدهما عامل منتج، والآخر مهمل كثير الاعتذار، تريك الفرق الهائل والبون الشاسع في التعامل مع الوقت، ومن ثم القدرة على توفيره.
ولا نزال نسمع من الجميع والصغير والكبير الشكوى من ضيق الوقت وازدحام المشاغل، وهي شكوى تعكس عدم جدية أصحابها في تعاملهم مع أوقاتهم وعدم عنايتهم بها.
4- الجدية في الاهتمامات:
الرجل الجاد صاحب اهتمامات عالية، ونظرات طموحة تتجاوز الكثير مما يشغل الناس من اهتمامات فارغة تنم عن سطحية وسذاجة، ولعل موقف الرجل الجاد من المظاهر والإيغال فيها والعناية بها نتيجة من نتاج الجدية، فهو يتساءل أمام كل خطوة: ما النتيجة؟! وما الثمرة؟! ومن ثم يتحكم هذا التساؤل في محتوى ما يقدم وما يعمل.
إن هناك من ينفق جهداً ووقتاً ومالاً على مظاهر لا تقدم ولا تؤخر، بل لعلها قد تصنع بعض الغبش والضبابية - لدى بعض الشباب - حول الأهداف الحقيقية للعمل، أما إذا تجاوز العناية بالمظاهر ورعايتها الأحوال الفردية لتتسم بها الأنشطة الإسلامية فهذا مما لا يقبل بحال، وهذا المسلك مهما كانت مبرراته لابد أن يؤثر مع مرور الزمن تأثيراً سلبياً لا يرضاه الجميع؛ فيطغى على جدية الهدف، أو يأخذ وقتاً وجهداً وهمَّاً في غير ما طائل.
وحين نلقي نظرة فاحصة على الاهتمامات التي تسيطر على قطاع من جيل الصحوة، ندرك أننا بحاجة إلى إعادة النظر في اهتماماتنا.
والاهتمامات أبعد من أن تكون أمراً يتكلف، فهي لا تعدو أن تكون انعكاساً لشخصية صاحبها ومدى جديته.
5- التفكير العملي الجاد:
قد تجد من يحمل الهم الجاد، لكنه هم يختلج في النفس، وبالتربية الجادة يتجاوز ذلك ببرنامج عمل، أو اقتراح بناء، أو مشورة ثاقبة، أو عزيمة نافذة، أو ثبات على مبدأ.
ولا تزال النفوس الجادة المدركة لسمو الهدف وعظم الواجب تحوِّل الخواطر إلى فكرة مدروسة ورأي عملي منتج، وترفض أن تعطي وكالة للغير بالتفكير نيابة عنها، أو أن يكون دورها مجرد استيرادٍ للأفكار الجاهزة، ولعل تلك الفكرة التي طرحها أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم بحفر الخندق أو جمع المصاحف، تمثل شاهداً على التفكير العملي الجاد الذي يشعر صاحبه بضرورة المشاركة.
إن التفكير لا يكلف صاحبه وقتاً ولا جهداً، ولا تقارن ثمراته ونتائجه مع ما يبذله صاحبه من جهد ذهني، ومن هنا فإن أصحاب الهمم العالية الجادة لا يمكن أن يبخلوا على دعوتهم ومبدئهم باستثمار أوقات يضيعها غيرهم، باستثمارها بالتفكير الذي يكون نواة للعمل المثمر.
والتفكير الجاد الذي نطمح من جيل الصحوة أن يصل إليه لا يقف عند حد طرح فكرة جامدة أو ميتة، بل هو دراسة متأنية ومقترحاتٌ للتطبيق وبدائل وتوقعٌ للمشكلات وحلولها، مما يدفع من تُقدَّمُ له الفكرة إلى الشعور بجديتها وتأهلها للاعتبار والتنفيذ.
6- الاقتصاد في المزاح والهزل:
الإفراط في المزاح والتجاوز في الهزل مظهر يدل على انخفاض مستوى الجدية.
إن الرجل الجاد قد يهزل ويضحك، لكن ثمة خيطٌ يشده إلى حياة الجد ويأبى عليه التجاوز والتمادي، فالمزاح لديه مما يأتي عارضاً لا يستحق لدى صاحبه أن يوفر له لقاءات ويضيع من أجله أوقاتاً، فضلاً عن أن يسعى إليه ويستهدفه وهو يرى نصب عينيه قول الحق تبارك وتعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ). [الحديد: 16].
وقوله صلى الله عليه وسلّم: "لا تكثروا الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب". [رواه الترمذي 2305 وابن ماجه 4193. وقال في الزوائد: "إسناده صحيح، رجاله ثقات". وانظر السلسة الصحيحة 506].
ولعل نظرة عاجلة إلى بعض المناشط الإسلامية تطرح تساؤلاً على الرجل الجاد:
هل يسوغ أن تأخذ البرامج الفكاهية أو الألعاب ضمن برامج الناشئة هذا الوقت الذي تأخذه؟!.
وحين يصعد المسرح شابٌ مستقيم اختط العلم طريقاً له، وهدفه الأول الذي يسعى إليه ويقيِّمُه الجمهور على أساسه هو إضحاك المشاهدين، وقد بذل جهداً وفكراً في ذلك، وأخذ جزءاً من وقته في الإعداد والتدريب، وربما صار عمله إبداعاً يحفل به ويثنى عليه -حين يحصل ذلك فهو داءٌ ينخر فيما يملكه من جدية، ويؤخره عنها مراحل.
وأحسب أن هذه صورة تخالف ما نقل عنه صلى الله عليه وسلّم من مزاح ودعابة يأتي عرضاً، ولا يسعى إليه أو يحفل به ويقصد.
وعلى من يرفض الاعتراض على هذه الصورة أن يأتي بشاهد واحد من سيرته صلى الله عليه وسلّم أخذ فيه الضحك وقتاً للإعداد والتدريب والعناية.
7- تحمل البرامج الجادة:
إن هناك برامج ضرورية في بناء الشخص وإعداده وتأهيله، وهناك ارتباط طردي بين جدية هذه البرامج وعمق آثارها التربوية.
فطلب العلم الشرعي - مثلاً - مطلبٌ ضروري وملح لبناء الشباب، ولن نزال نقول بأعلى صوتنا إنه لابد وأن يقضي الشباب جزءاً من وقتهم في تحصيل العلم، ولابد أن تصاغ البرامج التربوية صياغة تخرج جيلاً يجعل الأساس والأهم من اهتماماته هو التحصيل العلمي.
إن التحصيل العلمي يتطلب نفساً جادة طموحه، تتحمل مشاقّ التعلم وتعب التحصيل ومعاناة الطلب، فحين يرسم برنامجٌ علميٌ طموحٌ للشاب فهل يستطيع احتماله حين يكون ذا تربية هزيلة؟! أليس من حقنا بعد ذلك القول بأن التربية الجادة ضرورة ملحة، وأنه لن يتحمل الشاب البرامج الطموحة إلا حين يتربى التربية الجادة.
وقل مثل ذلك في سائر التكاليف والبرامج الضرورية لبناء الشخصية المسلمة، والتي لا تحتملها إلا نفسٌ جادة.
8- تحمل المسئوليات:
تتطلب الدعوة إلى الله تعالى رجالاً من صنف خاص، يأخذون على عاتقهم مسئوليات وأمانة ثقيلة، كيف لا وهي أمانة حمل الدين وتبليغ الرسالة، وما كان لهذه الأمانة وما ينشأ عنها من تبعات ومسئوليات أن يتحملها إلا الأشداء من الرجال، الذين تربوا على الجدية والبذل والتضحية.
والتربية الجادة هي التي تنتج ذاك النوع من الناس الذي وصفه صلى الله عليه وسلّم بأنه آخذ بعنان فرسه في سبيل الله عز وجل، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة. [رواه البخاري 2887].
أو من وصفه صلى الله عليه وسلّم بقوله: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه، يبتغي القتل أو الموت مظانه". [رواه مسلم 1889].
وبقوله: "سيد الشهداء: حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".
والتربية الجادة هي التي بإذن الله تخرِّج الطائفة الموعودة، المنصورة إلى قيام الساعة: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون".
إن التربية الجادة هي القادرة بإذن الله على تخريج هذا الصنف الفريد من الناس أفراداً أو جماعات.
9- النقد الجاد العملي:
النقد ضرورة فطرية ومطلب شرعي تربوي، ولابد أن يوجد النقد فإن لم يكن بنَّاءً فهو هادم، وإن لم يكن جاداً فهو هازل، والمحصلة النهائية أن النقد لابد له من مساهمة إما في دفع عجلة الدعوة وتصحيح مسيرتها، أو في التعويق والتثبيط والتآكل الداخلي.
وإن من نتاج التربية الجادة أن يتربى الشاب على أن يكون جاداً في انتقاده، والنقد الجاد هو الذي يكون:
أ- موضوعياً وواقعياً، يأخذ في الحسبان الضعف والقصور البشري، ولا يحلق فيه صاحبه في المثاليات ويطلب من الناس العصمة.
ب- وسائراً في المسالك السليمة والطرق الصحيحة، موجهاً لمن يعنيه.
ج- عن علم وعدل، بعيداً عن التسرع والظنون وظلم الناس وبخسهم.
د- وهو الذي يشفع ببرامج للإصلاح، ومقترحات للتصحيح، مع استعداد تام للمشاركة والمساهمة العملية، فمجرد الانتقاد يجيده الجميع.
وهذا يعني بالضرورة أن الشاب الجاد:
1- لا يحتفل كثيراً بتلك الصور البئيسة من النقد المعوق، فهو يرفض أن تلاك الأعراض وتقوم الجهود في مجالس الفارغين ولقاءات البطالين باسم النقد والنصيحة، وكم هي كثيرة تلك المجالس التي تقدم فيها أوراق عمل عابثة يظن أصحابها أنهم يحسنون صنعاً في تسليط كل لسان بالنقد والجرح والتعديل إلا على أنفسهم ومن يوالون. [وهو مع ذلك قد ينتفع بهذا النقد والحق يقبل ممن جاء به أياً كان، لكن ذلك لا يرفع مثل هذه الصور الشاذة من النقد إلى مستوى النقد الجاد].
2- وهو لا يحتفل كثيراً بالنقد الصادر من الشخص المحترف له، والذي حين تنظر لسلوكه وعمله لا تجد فيه ما يسرك، فهو لا يقدم خطوة، ولا تلمس عليه مسحة من عملٍ أو مساهمة، وثمة عددٌ من هؤلاء في الصفوف لا حديث لهم إلا ذلك.
3- وهو لا يحتفل كثيراً بالنقد المثالي الذي يطلب من الناس أن يكونوا في درجة العصمة، ويحاسب على كل صغيرة وكبيرة.
4- وهو أيضاً لا يحتفل كثيراً بالنقد الذي يسلك فيه صاحبه تتبع العورات، ويرصد الأنفاس واللفظات ليعثر من خلال ذلك كله على خطأ أو هفوة.
إن جدية المرء كفيلة بضبط ميزان النقد حتى لا يطغى ويتجاوز، فيساهم في بعثرة الصفوف وخلط الأوراق، أو يضمر ويتخلف دوره فيساهم في وأد كل فكرة سليمة، واستعباد عقول الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
10 - المبادرة الذاتية:
إن من نتاج التربية السلبية السائدة في مجتمعاتنا: الاتكالية، وانعدام المبادرة، وحتى العاملون للإسلام أصاب بعضهم ما أصابه، فأصبح ينتظر الأمر، ولا يعمل إلا من خلال توجيه محدد، فتعطلت طاقات فعَّالة في الأمة، وصارت الصحوة تفكر من خلال عقول محددة، وكم هي الأفكار والأعمال والجهود التي لم تتجاوز نطاق تفكير صاحبها، والسبب أنه لم يعتد على المبادرة ولم يربَّ عليها.
وإن التربية الجادة تنتج فيما تنتج تنمية المبادرة الذاتية، فيعمل صاحبها ابتداءً دون انتظار التكليف أو التوجيه، ويرى أن جدية الهدف وصدق العمل يتطلب منه أن لا تكون الاستشارة والاستفادة من آراء الآخرين حاجزاً وهمياً وعائقاً دون أي عمل، فينطلق ويعمل، ويبادر ويفكر، محيطاً ذلك كله بأسوار الاستشارة، وجاعلاً إياه في دائرة الانضباط والالتزام.
11 - الحل الأمثل للمشكلات التربوية:
تظهر في الساحة الآن مشكلات تربوية يعاني منها كل من المربين والموجهين لجيل الصحوة والمتربين على حد سواء: (الفتور، الكسل عن الطاعة، ضعف العناية بطلب العلم الشرعي ودنو الهمة، الخور في القيام بأعباء الدعوة، ضعف القدرة في تحويل القول إلى عمل، المشكلات الأخلاقية، المشكلات السلوكية، التسويف...).
هذه مشكلات سلبية، وثمة مشكلات من نوع آخر: (التعالم، الكمال الزائف، والتمشيخ المبكر...).
إن هذه المشكلات وتلك تعود إلى محور واحد ومشكلة أساس ألا وهي ضعف التربية.
والتربية الجادة هي العلاج الأنجع بإذن الله من هذه الآفات، واختصار الطريق بالتربية ابتداءً خير من تفتيت هذه المشكلات وعلاجها على حده علاجاً قد ينشغل بالمظهر عن السبب الحقيقي، ويتوجه إلى العرض دون جوهر المشكلة.
12 - النتاج المادي وتقدم الأمة:
لاشك أن وظيفة الأمة الأساس هي قيامها بهذا الدين وإقامة هذه الملة، لكنها مع ذلك مطالبة بأن تقدم البديل الحضاري للحضارة المادية المعاصرة، فضلاً عن أن تكون أمة عصامية، أمة حياتها بيدها لا بيد أعدائها، فتتجاوز مرحلة تسول التقنية والانبهار المادي إلى مرحلة الإبداع والمساهمة الفعالة، وأي إغراق في السطحية والسذاجة فوق أن تتوهم الأمة أنها ستقاتل أعداءها بسلاح تستورده منهم، وتواجه الحرب المتطورة بأساليب بدائية وهي تقرأ التوجيه الرباني (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون). [الأنفال:60].
فكيف حين تكون متسولة على موائدهم، عاجزةً عن تحصيل الرغيف من غير طريقهم.
وإنها لنقلة هائلة تطمح إليها الأمة وتراد منها، فهل يمكن أن يتحقق ذلك إلا على أكتاف الطليعة الجادة؟!
صور من نتاج التربية الجادة
إن ما سبق حشده من المسوغات والمبررات لرفع الصوت بالمطالبة بالتربية الجادة كافٍ فيما أحسب أن يوجد لدينا الاقتناع بأهميتها وضرورتها.
لكن ذكر النماذج الواقعية يزيد اقتناعاً بإمكانية تحول المقررات العقلية إلى واقع عملي ملموس.
ومن ثم فهذه نماذج وصور من التاريخ القريب والبعيد، ناطقة وشاهدة بأن التربية الجادة شجرة مباركة تؤتي الثمار اليانعة بإذن الله عز وجل.
أ- في العبادة:
سأل سعد بن هشام بن عامر عائشة -رضي الله عنها-: "أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: ألست تقرأ يا أيها المزمل؟! قال: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة ...". [رواه مسلم 746].
وفي رواية: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم". [رواه النسائي 1601، وأبو داود 1342].
أما النبي صلى الله عليه وسلّم فقد سار على هذا المسلك، فعن المغيرة رضي الله عنه قال: "إن كان النبي صلى الله عليه وسلّم ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا". [رواه البخاري 1130، ومسلم 2819].
وتروي هذا المعنى أيضاً عائشة رضي الله عنها إذ تقول: "إن نبي الله صلى الله عليه وسلّم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً.
فلما كثر لحمه صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع". [رواه البخاري 4837، ومسلم 2820].
حين سأل علي بن أبي طالب وفاطمة -رضي الله عنهما- رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم خادماً أمرهما صلى الله عليه وسلّم بالتسبيح قبل النوم والتكبير والتحميد، قال علي رضي الله عنه: "فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قيل له: ولا ليلة صفين؟! قال: ولا ليلة صفين". [متفق عليه. والشاهد منه عند مسلم 2727].
إن النفوس الجادة الصادقة تدرك أن العبادة والصلة بالله تبارك وتعالى أمر لا غنى لها عنه، حتى في الأوقات التي يغفل فيها من يغفل، ويسهو من يسهو فإن هذه النفوس لا تنسى نصيبها من العبادة وصلتها بربها.
وها هو عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم إذا رأى رؤيا قصّها على النبي صلى الله عليه وسلّم، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلّم. وكنت غلاماً أعزب، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، فرأيت في المنام كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر فقال لي: لن تراع، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: نِعْمَ الرجلُ عبد الله لو كان يصلي بالليل. قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً". [رواه البخاري 3738- 3739].
ب- في العلم:
1- لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً:
حين قام موسى عليه السلام خطيباً في بني إسرائيل وسألوه عن أعلم أهل الأرض فلم يكن يعلم أن هناك في الأرض أعلم منه، قال عن نفسه إنه أعلم أهل الأرض، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، وصار له هذا الخبر الذي نقرؤه في سورة الكهف.
عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "قام موسى النبي خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟! فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: يا رب، وكيف به؟! فقيل له: احمل حوتا في مكتل فإذا فقدته فهو ثم ..." . [رواه البخاري 122، ومسلم 2380].
ويحكي لنا القرآن تصميم موسى وعزيمته حين قال: (ُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً). [الكهف:60]. ومضى حتى لقي النّصَب، ولم يجد مسّ النّصَب إلا حين فارق المكان الذي أُمر به.
لقد قام موسى بهذه الرحلة الشاقة من أجل أن يتعلم، فتعلم ثلاث مسائل، فهل نرى اليوم في أتباعه وأتباع محمد صلى الله عليه وسلّم من ينصب ويجتهد لتحصيل العلم؟!
2 - هل وجد لهم وقتاً؟!:
قال أبو حاتم عن القعنبي: "سألناه أن يقرأ علينا الموطأ فقال: تعالوا بالغداة، فقلنا: لنا مجلس عند حجاج بن منهال، قال فإذا فرغتم منه، قلنا نأتي حينئذ مسلم بن إبراهيم، قال فإذا فرغتم، قلنا: نأتي أبا حذيفة النهدي، قال فبعد العصر، قلنا نأتي عارماً أبا النعمان، قال فبعد المغرب، فكان يأتينا بالليل، فيخرج علينا وعليه كَبْلٌ. [كبل: بسكون الباء هو الفرو الكثير الصوف الثقيل. اللسان 11/ 581]. ما تحته شيء في الصيف فكان يقرأ علينا في الحر الشديد حينئذ. [سير أعلام النبلاء 10/ 260].
لقد كان هذا الموقف أثناء فصل الصيف، وكان لهم ثلاثة دروس وقت الضحى، ودرس بعد العصر، في ظل غياب وسائل التبريد وتخفيف حرارة الجو، ولست أدري من أي الموقفين العجب موقف الطلبة الذين احتملوا كل هذه المشقة، أو موقف الشيخ الذي استجاب لهم رغم اعتذاراتهم عن عدد من الفرص التي منحهم إياها.
إن الذي يحمل الاستعداد التام أن يتعلم في مثل هذه الظروف، أو يعلِّم في مثل هذه المشقة سيدرك قيمة العلم وما يوجبه على صاحبه من: قيام بحقه، ودعوة إليه، وصيانة للعلم عن الابتذال والاحتقار والإهانة.
ونتطلع حينئذٍ لجيل الصحوة الحاضر؟! كم منهم من يحمل الاستعداد نفسه، والروح إياها التي يملك أبو حاتم وأصحابه؟!
ج- في الامتثال لأوامر الله:
حين استنفر النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه في غزوة تبوك تخلف عن الغزوة من تخلف، وكان ممن تخلف من الصادقين: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وحين سألهم النبي صلى الله عليه وسلّم كما سأل غيرهم عن سبب تخلفهم عن الغزوة لم يكن لهم عذر يقبله صلى الله عليه وسلّم فأمر الناس أن لا يكلمهم أحد، وبقوا على هذه الحال يمشون في شوارع المدينة، ويجوبونها وكأنهم يتعاملون مع أشباح وصور، وحين بلغوا أربعين يوماً أمروا أن يعتزلوا زوجاتهم فكانت عزلة أكثر، وحصاراً أشد، حتى بلغ بهم الحال إلى ما وصفه الله سبحانه وتعالى في قوله: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). [التوبة: 118].
وفي هذه الحالة يجيء كعبَ بن مالك -رضي الله عنه- خطاب من ملك غسان يطلب منه أن يلحق به فيسجره في التنور، ويسلم أمره لله، فجاء الفرج بعد خمسين ليلة. [حديث كعب: رواه البخاري 4418، ومسلم 2769].
إنها صورة من صور التربية الجادة، والتي تربى عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم.
وكذلك المجتمع يعطي مثالاً في الجدية والانضباط، مما يعكس أثر التربية النبوية وهي في فترة النضج والتمام في العاشرة من الهجرة.
د- في الجهاد:
1- فليس مني:
سأل بنو إسرائيل نبياً لهم أن يُفرض عليهم الجهاد فيقاتلوا من أخرجوهم من ديارهم وأبنائهم فكتب الله عليهم القتال، وولى عليهم طالوت، فسار بمن استجاب منهم، وحين فصل بهم ابتلاهم الله بهذا الابتلاء: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ). [البقرة: 249].
إن الذي لا يستطيع أن يضبط نفسه ويثني رغبته، فيتخلى عن شرب الماء وهو متاحٌ أمامه لا يصلح أن يعتمد عليه في هذه المهمات، وبالمقابل فالذي يجتاز هذا الابتلاء تكون نفسه قد ارتفعت وسمت، وتطلعت إلى مرحلة عالية من الاستسلام والانضباط.
لقد كان الموقف يتطلب نفوساً عالية مهيأة لمثل هذا الدور، ومن هنا كانت هذه المواقف وسيلة لتنقية الصفوف من غير الجادين، حتى لم يبق إلا الذين وصفهم الله تبارك وتعالى بأنهم: (يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ). [البقرة: 249]. فيسّر الله على يديهم الفتح.
2 - لا يتبعني أحد من هؤلاء:
حين رفض بنو إسرائيل الدخول إلى الأرض المقدسة وتاهوا أربعين سنة، أرسل إليهم يوشع بن نون عليه السلام فرأى أنه لابد من الاستفادة من التجربة السابقة فخطبهم قائلاً: "لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها، ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر ولادها.
قال: فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها عليَّ شيئاً فحبست عليه حتى فتح الله عليه...". [رواه البخاري 3124 مسلم 1747].
إن القضية قضية جهاد لا يحتملها إلا الرجال الجادون الصادقون، فمن ينتظر متاعاً من متاع الدنيا، أو تعلقت نفسه برغبة فانية، أو يجعل القضية على هامش الاهتمامات، لا يصلح أن يعتمد عليه في هذه المهمة الشاقة: (تحرير الأرض المقدسة).
ولقد استطاع هذا الجيل الجاد، أن يحقق الهدف، فحرر الله على يديه الأرض المقدسة.
3- لو سرت بنا:
حين خرج النبي صلى الله عليه وسلّم بأصحابه لمواجهة المشركين في غزوة بدر، وكان أصحابه يظنون أنهم خرجوا للعير وفاتت العير ولم يبق إلا ذات الشوكة استشار صلى الله عليه وسلّم أصحابه كعادته، فتكلم أبو بكر -رضي الله عنه- فأعرض عنه، ثم تكلم عمر -رضي الله عنه- فأعرض عنه، فقال سعد بن عبادة -رضي الله عنه-: "إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا". [رواه مسلم 1779].
وفي رواية فقال بعض الأنصار: "إياكم يريد رسول الله يا معشر الأنصار.
فقال بعض الأنصار: يا رسول الله، إذاً لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ). [المائدة: 24]. ولكن والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك". [رواه أحمد. قال ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 288: "هذا إسناد ثلاثي على شرط الصحيح". وانظر السيرة النبوية الصحيحة لأكرم العمري 2/ 358-359. وهو من أحسن ما كُتب في السيرة].
لقد كان هذا الجيل الذي تربى تلك التربية أهلاً لأن يحقق تلك المنجزات والانتصارات والتي ليست بدر إلا فاتحتها، لقد كان يقول تلك الكلمة وهو في الميدان، وهو يدرك تماماً مسئوليتها، أما قبل ذلك فما أكثر من يقولها وحين يحين البأس تتحول اللهجة إلى: (وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ). [النساء: 77].
وتبدو العبرة هنا لا في هذه المقولة التي لا تصدر من غير الجادين، بل في استشارة النبي صلى الله عليه وسلّم لعامة أصحابه وتحميلهم المسئولية في ذلك، فالاستشارة تربية على الجدية والمسئولية الفردية، وهي في الوقت نفسه دليل على ثقة النبي صلى الله عليه وسلّم بهذا الجيل الذي رباه.
4 - كيف نسي الروم وساوس الشيطان؟!:
ومن صور نتاج التربية الجادة ما صنعه خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وذلك أن المسلمين صعب عليهم أمر مواجهة الروم، فكتبوا لأبي بكر - رضي الله عنه - فقال قولته المشهورة: "لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد".
روى الطبري في تاريخه أن كتاب أبي بكر وافى خالداً بالحيرة منصرفه من حجه: "أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك فإنهم قد شجّوا وأشجّوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجي من الناس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والخطوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل فإن الله له المن وهو ولي الجزاء". [تاريخ الطبري 3/ 385].
وسار خالد -رضي الله عنه- ورأى أنه بحاجة إلى طريق يتجنب فيه الروم، وأن الوقت يتطلب المبادرة فقال: كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم؟! فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين، فأجابوه: لا نعرف إلا طريقاً لا يحمل الجيوش، إنما يأخذه الفذ الراكب فإياك أن تغرر بالمسلمين، فعزم عليهم فلم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة الطائي على تهيب شديد، فقام خالد في أصحابه وقال: لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أن المعونة تأتي على قدر النية، والأجر قدر الحسبة، وأن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله، فكان رد أصحابه عليه: أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك. [تاريخ الطبري 3/ 408- 409].
فقال له رافع: استكثروا من الماء، من استطاع منكم أن يصرَّ أذن ناقته على ماء فليفعل فإنها المهالك، إلا ما دفع الله، أبغني عشرين جزوراً عظاماً سماناً مسانَّ.
فأتاه بهن خالد، فعمد إليهن رافع فظمأهن حتى إذا أجهدهن عطشاً أوردهن فشربن حتى إذا تملأن عمد إليهن فقطع مشافرهن، ثم كعمهن. [كعم البعير: يكعمه كعْما، فهو مكعوم وكعيم: شدّ فاه. اللسان 12/ 522]. لئلا يجتررن، ثم أخلى أدبارهن.
ثم قال لخالد: سر، فسار فغذَّاً بالخيول والأثقال فكلما نزل منزلاً افتض أربعاً من تلك الشوارف فأخذ ما في أكراشها فسقاه الخيل، ثم شرب الناس مما حملوا معهم من الماء، ثم وصل موطن الماء بعد خمسة أيام. [تاريخ الطبري 3/ 425. وانظر للاستزادة قادة فتح العراق والجزيرة, للواء محمود شيت خطاب، ص 121– 125].
لقد كانت محاولة جادة وجريئة، وفي الوقت نفسه هي الحل الوحيد.
أترى أنه يمكن أن يتخذ هذا القرار الحاسم رجلٌ غير جاد؟!.
وفي الوقت نفسه لك أن تتصور النتائج المرة والفرص التي تفوت لو لم يحسم الأمر بهذه الجدية.
والجدية لا تتمثل في موقف خالد - رضي الله عنه - فحسب، بل الجيش الذي سار معه كان يتمثل هذا المعنى.
هـ- في الدعوة:
ولعل خير مثال على ذلك سير أنبياء صلوات الله وسلامه عليهم الذين بذلوا أرواحهم ومهجهم وأموالهم في سبيل الله، وكانت الدعوة هي قضيتهم الأولى والأساس مع قومهم.
ويبدو هذا النموذج أيضاً في قصة أصحاب الأخدود وموقف الغلام حين أنجاه الله من القتل أول مرة، فعاد إلى أين؟! إلى الملك: "ثم أرسله في قرقور مرة أخرى فنجاه الله، فجاء يمشي إلى الملك، ثم رأى أنه لابد من إنقاذ الناس فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به". [رواه مسلم 3005].
لقد كان بإمكان الغلام حين نجاه الله أن يذهب في أرض الله ويختار مكاناً آخر، ولن يعلم عنه الملك وربما يظنّ أنه هلك، لكنه لم يفعل ويتكرر الأمر كذلك في المرة الثانية.
وكان بإمكانه أن يأتي مستخفياً إلى القرية، لكنه ذهب إلى الملك، ثم جاد بنفسه في سبيل الله عز وجل لينقذ الناس من الشرك والضلال، فهل نرى اليوم في أمة محمد من يحمل العزيمة نفسها؟!.
و- في العفة والبعد عن الشهوات:
ومن ثمار التربية الجادة الترفع عن اتباع الشهوات، والسمو بالنفس، ولعل من ألمع هذه الصور موقف يوسف عليه السلام فقد "ذكر الله عن يوسف الصديق صلى الله عليه وسلّم من العفاف أعظم ما يكون، فإن الداعي الذي اجتمع في حقه لم يجتمع في حق غيره، فإنه صلى الله عليه وسلّم كان شاباً والشباب مركب الشهوة، وكان عزباً ليس عنده ما يعوضه، وكان غريباً عن أهله ووطنه، والمقيم بين أهله وأصحابه يستحيي منهم أن يعلموا فيسقط من عيونهم، فإذا تغرب زال هذا المانع، وكان في صورة المملوك والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر، وكانت المرأة ذات منصب وجمال، والداعي مع ذلك أقوى من داعي من ليس كذلك، وكانت هي المطالبة فيزول بذلك كلفة تعرض الرجل وطلبه وخوفه من عدم الإجابة، وزادت مع الطلب الرغبة التامة والمراودة التي يزول معها ظن الامتحان والاختبار لتعلم عفافه من فجوره، وكانت في محل سلطانها وبيتها بحيث تعرف وقت الإمكان ومكانه الذي لا تناله العيون، وزادت مع ذلك تغليق الأبواب لتأمن هجوم الداخل على بغتة، وأتته بالرغبة والرهبة، ومع ذلك كله فعف لله ولم يطعها، وقدم حق الله وحق سيدها على ذلك كله، وهذا أمر لو ابتلي به سواه لم يعلم كيف تكون حاله". [روضة المحبين 325-326].
ز- للمرأة دور في الجدية:
حين نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلّم وأصابه ما أصابه من هول الموقف فرجع إلى خديجة -رضي الله عنها- يرجف فؤاده، حينئذ قالت له: "والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك تصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق".
ثم لم تكتف بهذا الأمر، بل ذهبت إلى ورقة، وسألته، واصطحبت معها زوجها صلى الله عليه وسلّم إليه. [رواه البخاري 3، ومسلم 160].
إنها صورة من صور التربية الجادة، لقد كان لهذه المرأة الجادة دورٌ مهمٌ وأساس في تثبيت صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلّم، وكانت له بمثابة خط الدفاع الخلفي، ولذا استحقت رضي الله عنها أن تبشر من عند خالق السموات والأرض بشرى ينقلها جبريل.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أتى جبريل - عليه السلام - إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت، ومعها إناء فيه إدام - أو طعام أو شراب - فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولانصب". [رواه البخاري 3820، ومسلم 2432].
إن هذا الموقف من خديجة رضي الله عنها ليسجل شهادة إدانة لبعض نساء المسلمين اللاتي تقف إحداهن عقبة في طريق زوجها الداعية إلى الله عز وجل، وتثقل كاهله بكثرة المطالب، والشكوى من الانقطاع والغياب وكأنه إنما خلق ليبقى في حضنها.
وحين قدم أحد رجالات الإسلام للمحنة في القول بخلق القرآن وهو بشر تأخذه عواطف البشر ومشاعرهم، حين قدِّم للمحنة تحركت لديه عاطفة الأبوة فتذكر بناته اللاتي خلفهن وراءه في بلاده.
وما لبث أن أتاه كتاب منهن يأمره بالثبات قائلات له: "والله لأن يأتينا خبر نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك قلت بخلق القرآن".
وهي كلمة لم تصدر اعتباطاً، وإنما هي تعكس التربية الجادة التي تلقتها هذه الفتيات حتى صار الحق لديهن ونصرة الدين بمنزلة أعلى من التمتع بالوالد في دار الدنيا، وحين يكون هناك مجال للمفاضلة والخيار فليكن في صالح الحق ونصرة الدين، وليهن نعي الوالد حينئذٍ.
وهكذا يجد الأب نتاج هذه التربية ويستفيد منها هو في دنياه؛ فتكون ثباتاً له بإذن الله؛ فالتربية الجادة شجرة مباركة تؤتي ثمارها كل حين، وكثيراً ما يجني المربي قبل غيره ثمرة هذه التربية.
فكم من شيخ وعظه تلميذه، أو أوقفه على خطأ، أو صحح له هفوة، أو أقاله من زلة، وما كان التلميذ ليبلغ هذه المنزلة لولا التربية التي تلقاها من شيخه، والجزاء من جنس العمل.
وليت المربين والأساتذة يدركون أن نضج التلميذ، واستقلال تفكيره، وتخلصه من أسر الرق الفكري والتبعية العمياء، أن ذلك خيرٌ لهم هم، وأنهم أول من يجني الثمرة.
حين يتخلف أثر التربية الجادة
وكما أن هناك ثماراً يانعة تنتجها التربية الجادة، ففي المقابل هناك ثمار سيئة تخلفها التربية الهزيلة، وليس إدراك ثمار التربية الجادة للتطلع لها، بأحق من إدراك ثمار التربية الهزيلة حتى تتلافى وتحذر.
ولستَ بحاجة إلى بذل جهد أو عناء لإدراك ذلك، فنظرة عاجلة لواقع الأمة التربوي تعطيك البرهان؛ إذ هذا الواقع لا يعدو أن يكون انعكاساً وثمرة للتربية الهزيلة.
وهذه بعض النماذج التي تخلفت فيها التربية الجادة:
1- اذهب أنت وربك فقاتلا:
لقد أمر الله موسى أن يدخل ببني إسرائيل الأرض المقدسة، وأخبرهم أنه سبحانه وتعالى قد كتبها لهم، فماذا كانت النتيجة؟!: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ{21} قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ). [المائدة: 21- 22].
وكان فيهم رجلان ممن أنعم الله عليهما: (قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). [المائدة: 23].
ومع ذلك لم تنجح هذه المحاولة فأعلنوها صريحة مدوية: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ). [المائدة: 24]. ولم يقولوا حتى: (ربنا) شعوراً منهم بأن القضية لا تعنيهم جملة وتفصيلاً، فهي تعني موسى وربه! أما هم فلهم شأن آخر، وغاية ما يقدمون أنهم مستعدون إن خرج القوم الجبارون أن يدخلوا الأرض المقدسة، وحتى هذا الاستعداد ربما يتخلف حين يأتي الأمر الواقع.
إن هذا المستوى الهزيل الذي صار إليه بنو إسرائيل وفي ذلك الموطن ليس المسئول عنه موسى عليه السلام، ولا يمكن لمسلم أن يتجرأ فيعتقد ذلك فموسى عليه السلام لم يأل جهداً في دعوتهم والسعي لإصلاحهم، وكيف يحدث منه ذلك وهو من أولي العزم من الرسل، والضعف التربوي ليس بالضرورة من مسئولية المربي؛ فالتربية تشمل منهجاً ومربياً ومتربياً، وحين يختل أحد هذه العناصر لن تؤتي التربية ثمارها، لكن معادنهم كانت لا تستجيب لأي جهد تربوي؛ إذ كانوا قد عاشوا مرحلة من الذل والهوان والاستعباد عند فرعون وتحت سلطانه لم يستطيعوا تجاوزها، ولهذا حين وصلوا إلى هذا القدر من الهوان تبرأ موسى منهم وقال: (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ). [المائدة: 25].
2- تولوا إلا قليلاً منهم:
ومع طائفة أخرى من بني إسرائيل، فقد سأل ملأ من بني إسرائيل نبياً لهم أن يكتب الله عليهم القتال، فأخبرهم نبي الله أنهم عرضة إن أتاهم أمر الله أن لا يستجيبوا له، فألحوا في مطلبهم، وحين كتب عليهم القتال وقع من أكثرهم ما خشيه نبيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ). [البقرة: 246].
وحتى أولئك الذين اجتازوا هذه المرحلة كان فيهم من لا يملك قدراً من الجدية تؤهله لأكثر منها، فحين اختار الله لهم طالوت ملكاً اعترضوا عليه، وقالوا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ). [البقرة: 247].
ثم ابتلاهم الله بالنهر فكان مرحلة ثالثة فشل في اجتيازها طائفة أخرى: (فشربوا منه إلا قيلاً منهم). [البقرة:249]. ثم كانت المرحلة الرابعة حين واجهوا الموقف، قال بعضهم: (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ). [البقرة: 249].
إن هذه القصة كما تعكس التربية الجادة لأولئك الذين يظنون أنهم ملاقو الله، فهي تعكس تخلف أثر التربية الجادة عند النفر الذين تتابعوا في التساقط.
3- ساعة العسرة:
غزوة تبوك كانت من آخر غزواته صلى الله عليه وسلّم وكانت امتحاناً صادقاً للجادين والصادقين، ونزلت بعدها سورة براءة تفضح ما كان عليه أولئك المنافقون من طوية سيئة، ونفوس هزيلة، ومن ذلك:
1- أن الله وصفهم بقوله: (َوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ). [التوبة: 42].
إنهم على أتم الاستعداد للخروج للجهاد والمشاركة حين يكون مأمون العواقب سريع النتائج: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ). [الفتح:15].
ويعرض عليهم الامتحان الذي يكشف نفوسهم: (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ). [الفتح: 16]. فالعدو شديدٌ بأسه، والقتال على الإسلام فلا غنيمة عاجلة فيه.
2- وحين تسابق أولئك في الاعتذار واختلاق الموانع من الجهاد، جاء أحدهم مرتدياً ثوب زور من الورع والعفة، فهو يخشى أن تفتنه نساء بني الأصفر لأنه رجل لا يصبر على النساء فجاء قائلاً: (ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي). [التوبة: 49].
ولئن كانت هذه الحيلة قد تنطوي على البشر، فإنها لا تخفى على من قال - عز وجل-: (أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ). [التوبة: 49].
ويقف المسلم الجاد الذي يخشى الله أمام هذه الآية وجلاً خائفاً، وهو يرى أن مجرد الاعتذار بخوف الفتنة ليس كافياً ليدرج صاحبه ضمن أهل الورع وتوقي الزلل، فنسأل الله الوقاية من شر الهوى والمخادعة للنفس.
إن هذه النماذج وإن كان أصحابها مغموصين بالنفاق وسوء الطوية أصلاً، إلا أنها أيضاً أمثلة لأولئك الذي لم ترق نفوسهم لمعالي الأمور، ولم يدركوا جديتها، وإن من لم يدرك جدية القضية قد يقع في أمثال ما وقعوا فيه.
4 - حادثة الردة:
حين لحق النبي صلى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى تسابقت فئام من الأعراب وحدثاء العهد بالإسلام في إعلان الردة والتمرد على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ولقد كان في أولئك بلا شك من أسلم رغبة في الدنيا، والنفاق مستقر في قلبه، لكن كان منهم فئات ليست بالقليلة ممن قال الله فيهم: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم). [الحجرات: 14].
ولقد كان أهل المدينة ومن حولها ممن قال الله فيهم: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ). [التوبة: 120].
كان أولئك من الثابتين على الإسلام، والردة إنما حصلت من حدثاء العهد بالإسلام الذين لما يتلقوا التربية الكافية بعد، أو كما قال الله: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ). [ الحجرات: 14].
وتشرب ضعاف الإيمان الدعوات الخادعة بنبوة مسيلمة وطليحة والأسود، وعادت تلك الموازين الجاهلية التي لم تمحَ جذورها بعد، عادت ليسود عند أولئك منطق: (كذّابُ ربيعة خيرٌ من صادق مضر). أو ليساوموا على فريضة الزكاة، ويربطوا موقفهم من الدين كله بهذه القضية.
5- يحسبون الأحزاب لم يذهبوا:
لقد كان من تمام تربية الرعيل الأول أن واجهته حوادث ومواقف بقدر ما فيها من تمحيص النخبة والارتفاع بهم فهي أداة كشفٍ للنفوس المريضة والنماذج الهزيلة، وتعريتها حين تصهر بنار الفتنة، ففي العام الخامس للهجرة النبوية كان الأمر قد بلغ عند أعداء الملة حداً لا يطاق، ليتفتق حقدهم عن مؤامرة تجمع الصفوف لاستئصال شأفة هذه البذرة الخيرة فيتحزب الأعداء ليزحفوا على المدينة بجيوش آلت على نفسها أن تبيد خضراءها وتحول تجربتها الجديدة إلى كارثة في ملف التاريخ.
ويصف القرآن الكريم الحال جراء هذه المؤامرة: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً). [الأحزاب: 10-11].
وحينئذ ترجف أفئدة ضعاف الإيمان وأهل النفاق ليتولد من ذلك: الشك في وعد الله ورسوله، وممارسة أسلوب التخذيل الجبان، والتسابق للاستئذان لحماية البيوت ظاهراً أما الباطن فهو الفرار والتخاذل.
ولو قدر لتلك الجموع الغازية أن تجوس الديار فهم لن يترددوا في إعلان الاستجابة للفتنة وركوب الغواية: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً* وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً* وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً). [الأحزاب: 12- 14].
إن ذكرنا للصور السلبية التي تعكس تخلف التربية الجادة يزيد من اقتناعنا بضرورتها، وبمدى عمق المشكلة التربوية الناتجة من جراء تخلفها.
من خوارم التربية الجادة
والآن لنفتح صفحات عاجلة من حاضرنا تنطق جميعها بفقد التربية الجادة، أو انخفاض مستوى الجدية، ولن نستطيع الإتيان على جميع هذه الصفحات، لكنها أمثلة عجلى تذكر بغيرها، وعلامات تدل على ما سواها من الأمراض التي نعاني منها، ومكمن الداء فيها هو افتقاد التربية الجادة، وقد تتداخل بعض هذه الصور، أو ترقى لتمثل وجهين لعملة واحدة، ونحن لسنا في قضية تأصيل منطقية أو جدل فلسفي، وغاية ما نريده ربط القارئ بالواقع المتكرر الذي يشاهده.
1- فمن خوارم التربية الجادة: الانشغال والمبالغة بالحديث عن المكاسب والمنجزات والأعمال والبرامج التي قدمت لخدمة دين الله، حديثاً تسوده لغة المبالغة، فيدرك القريب والبعيد أن ثمة هوة ساحقة بين هذا الحديث وبين الواقع العملي، وأن الرصيد من العمل يعجز عن الوفاء ببعض ما يقال، وقد امتدت العدوى وللأسف إلى بعض المناشط الإسلامية، ولعل قراءة تقرير ختامي أو حضور حفل اختتام نشاط معين تعطينا الدلالة على وجود هذه الظاهرة.
2- ومن خوارم التربية الجادة: لغة النقد التي يحترفها بعض الناس وتملأ مجالسه، فينتقد الأفراد والجماعات والدعاة والعلماء والكتاب والبرامج والمؤسسات الدعوية، نقداً صارخاً لا يبقى على الأخضر واليابس، بل ويكون النقد هدفاً يقرأ ويسمع لأجله، فهناك من وظف نفسه لهذه المهمة، وتطوع لخدمة أعداء الدعوة بالمجان فقضى سحابة نهاره وأشرف لياليه في الطعن والنقد والتصنيف والإثارة؟!.
وحين تتساءل عن حاله: ماذا قدم؟! وماذا عمل؟! هل وظف جزءاً من وقته في دعوة شاب منحرف؟! أو في إنكار منكرات عامة أو خاصة؟! أو دعوة غير مسلم للإسلام؟! أو سهر على محتاج أو أرملة؟! ترى البون الشاسع بين واقعه ومقاله!.
إن غالب هذا الصنف لا ترى له أثراً عملياً، بل لعل النقد وسيلة نفسية يتهرب بها من العمل، أليس هذا من عاجل العقوبة أن يحرم العمل حيث يعمل الناس، ويسلب بركة الإنتاج حيث يتسابق إليها الناس؟!.
3- ومن خوارم التربية الجادة: كثرة الشكوى من مشكلات الواقع ومشكلات العمل الإسلامي، ومشكلات الشباب والدعوة..... إلى نهاية هذه القائمة الطويلة، وهي غالباً ما تكون شكوى صادقة لكنها تأخذ مساحة من التفكير، وينطبع أثرها على السلوك والعمل فيصبح صاحبها محطم الآمال سريع اليأس، وقد يتخيل بعض الخيرين أن هذا دليل على جدية الاهتمام ومؤشر خير، لكن الرجل الجاد الذي أخذ على عاتقه هم العمل وشعر أنه هو الهدف والمطلب الأساس، يرى أن استطراده في اجترار المشكلات وكثرة الحديث عنها لا يجدي، فوق أنه يشغل عن العمل.
وهذا لا يعني رفض مناقشة المشكلات والسؤال عن حلولها، لكنه شيء آخر غير تلك الروح التي سيطرت على بعض الخيرين، فأصبح لا يجيد إلا هذه اللغة، ولا يتقن إلا هذا المنطق.
4- ومن خوارم التربية الجادة: الانهزام أمام أي مشكلة أو تعويق أو مضايقه، والتخلي بحجة عدم فتح المجال وعدم التأييد، إلى غير ذلك من الأعذار.
شاب يدرِّس في مدرسة، أو يعمل في مؤسسة، أو يَدْرس في جامعة في أي مكان على عرض العالم الإسلامي وطوله، فيحاصر نشاطه، وتوصد بعض الأبواب أمامه، فيقف مكتوف الأيدي بانتظار فتح تلك الأبواب، أو يطلب الانتقال من هذا المجال إلى مجال آخر، أي منطق يسيطر على تفكير هذا الصنف من الناس؟! وهل كان أنبياء الله أو الدعاة والمصلحون كذلك؟! بل ودعاة الطوائف وحملة المذاهب الأرضية يعانون ما يعانون، ومع ذلك يبذلون ما يطيقون، مع ضعف الثمرة وقلة النتاج، وسوء النية فوق ذلك كله.
فلم لا تأخذ التربية على عاتقها إعداد صنف من العاملين يعملون على كافة الأحوال وسائر الظروف والأوضاع؟! إن الجيل الذي لا يعمل إلا من خلال قنوات محددة، أو وسط ترحيب وعناية الآخرين ليس هو الجيل المؤهل للتغيير، ولن يرقى الجيل لذلك حتى يدرك أن من مسئوليته فتح الأبواب والبحث عن المجالات التي لا تقل مسئولية عن العمل ذاته.
5- ومن خوارم التربية الجادة: الاكتفاء بمجرد الانتماء لركب الصحوة والمصاحبة الخيرة دون أي جهد أو مشاركة، أو الاقتصار على حمل المشاعر المؤيدة للخير وأهله، وحضور المنتديات والدروس دون أدنى خطوة إيجابية أو مشاركة فعالة، ويتصور أن هذا غاية ما يمكن تقديمه، وأن الذهاب والإياب واللقاء مع الأخيار والتفاعل مع الأنشطة الإسلامية يكفي حتى يكون مندرجاً في قطار الدعاة إلى الله.
وكم يدور في مجالس المثقفين وأنصاف المتعلمين من الحديث المستفيض عن الدعوة، وعن جهود الدعاة، فليت الدعاة يصنعون كذا، وليتهم يقولون كذا، أو يتحفظون من هذا القول، ويتجنبون ذاك، وهي مقترحات جادة، وانتقادات منضبطة، لكنها تدار في هذه المجالس، والمتحدث يعبث بمسبحته، أو يهز يده، ويتوقف الأمر عند هذا الحد، دون خطوة عملية.
وتأمل في الساحة الإسلامية بالله عليك لترى كم نسبة أولئك الذين لا يؤهلهم للانتساب للصحوة إلا مجرد التفاعل مع بعض المناشط الإسلامية، والمشاركة في الحديث عن القضايا المطروحة في الساحة؟! أليس هذا الصنف مبعثاً على أزمة الطاقات والجفاف المدقع من العاملين الذي تعانيه المناشط الإسلامية؟!
وهذا المنطق والحديث يمثل تنفيساً عن الشعور المختلج في النفس بضرورة العمل للإسلام والمشاركة، وهو تنفيس غير طبيعي فنحن أحوج ما نكون إلى استجماع الطاقة لا تبديدها.
6- ومن خوارم التربية الجادة: الحديث المستفيض عن واقع المجتمع: نقداً وذكراً لصور الانحراف وقصص الفساد، ويأخذ الحديث ساعات طوالاً، دون أن يتمخض عن توصيات عملية، أو مقترحات فعالة توضع موضع التنفيذ، ويكفي أن تبدأ موضوعاً أو تشير إلى جانب من الجوانب الاجتماعية، ليتتابع الجميع في عرض الصور والمواقف والشواهد، وهو حديث يسيطر على كثير من مجالس الأخيار، ويستولي على أوقات ثمينة لهم، ويظن أصحابه أنه حديث إيجابي.
لكن تفكيراً متأنياً يقودنا إلى الاقتناع أنه ليس ثمة فائدة عملية من وراء ذلك الحديث، بل هناك نتائج سلبية، ليس أقلها خروج الجميع من مثل هذه المجالس بقدر من الإحباط، وسيطرة عبارة: (هلك الناس) على تفكيرهم ومقالهم، وهذا الشعور اليائس له دور بارز في تبديد كل طاقة للعمل، وتفتيت كل حماسة للإنتاج، وهذا ليس دعوة لإلغاء الحديث في انتقاد الواقع فهو أمر مطلوب ونوع من الإنكار، لكنه حين يكون حديثاً فقط فهو لا يزيد على امتصاص الحماسة والتنفيس عن معاناة نحن أحوج إلى استثمارها في عمل منتج.
7- ومن خوارم الجدية: الحديث عن المؤامرات التي تحاك ضد الإسلام والصحوة من الأعداء في الداخل والخارج، حديث المتشائم، حديث من يقول لسان حاله رويداً: (فالسيل لن تسده بعباءتك... لست وكيلاً لآدم على ذريته... لكم دينكم ولي دين) إلى آخر تلك القائمة الطويلة من المعاذير، بل الاعتراضات على أوامر الله.
إن الحديث عن الأعداء وتآمرهم مطلب، وإن الشعور بالمعركة أمر له أهميته، لكن هذا شيء آخر غير حديث هذا الصنف الذي لا يتبعه جهد ولا عمل.
أما حين يكون ذلك الحديث للمدارسة، وشحذ الهمم، وكشف الألاعيب، ووضوح سبيل المجرمين، فهذا جزء من الواجب.
8- ومن خوارم الجدية: تدافع المسؤوليات والأدوار، وإلقاء التبعات على الآخرين، قد يسوغ هذا السلوك لموظف في شركة أو عامل بناء يتمنى الخلاص من العمل ليتولاه غيره ويلقي التبعة على سواه، أما الذين يدركون قيمة العمل إذ هو مطلب لهم فنجاحه يهمهم، ومساهمتهم يعتبرون أنها فرصة سانحة يعد التخلف عنها تفويتاً دون مقابل، أولئك لهم شأن آخر وحال مغايرة.
نعم فتدافع الفتيا مثلاً أمرٌ مشروع، وتدافع الإمارة كان من هدي السلف، لكن ذلك في حدود من يتولى الأمر فلان أم فلان، أما بعد ذلك فلابد من البت وقطع الأمر، ولم نر أن ولاية للمسلمين عطلت، أو أن مستفتياً لم يجد من يفتيه.
9- ومن خوارم الجدية: التواضع المصطنع، وهو نموذج يتكرر كثيراً، وإجابة تسبق طلبك في أحايين ليست بالقليلة سوف تسمع: (لا أستطيع، لا أقدر، الله المستعان، ومتى كنا أهلاً لذلك، هناك من هو خير مني...). عبارات نسمعها من طائفة من الناس حين يدعون للخير، ويطلب منهم مشاركة في أمور الدعوة.
إن التواضع خلق شرعي، ومقت النفس وذمها هدي راتب من هدي السلف لا يسوغ الإخلال به، لكن أن يكون عائقاً عن العمل، ومثبطاً عن المشاركة فهذا شيء آخر، لقد كان من السلف من يتصدى لنشر العلم وللفتيا وللقضاء وللدعوة ولإنكار المنكر، مع كل هذا المقت لأنفسهم واستشعار أنها دون ما ينبغي أن تكون عليه، ومهما أوتي المرء فلن يكون أكثر منهم مقتاً لنفسه، وحتى أولئك الذين تركوا عملاً أو ميداناً من الميادين شغله غيرهم.
إن هناك طائفة يدفعهم شعور صادق، وإحساس بالقصور فعلاً - مع أن هذا ليس عذراً - لكن ثمة فئةٌ ليست بالقليلة لو كانوا واقعيين مع أنفسهم لوجدوا أن العذر الحقيقي العجز والكسل لا غير، وشاهد ذلك أنهم يرون العاملين في ميادين كثيرة دونهم في جميع المعايير، وتسمع منهم الانتقاد كثيراً والحديث عن الأخطاء، ولو كان أولئك جادين فعلاً، لدفعهم الانتقاد إلى الشعور بالحاجة، ومن ثم العمل بعد ذلك، لكن حين يعرف السبب يبطل العجب.
أليس هذا الصنف من التواضع المصطنع ثمرةٌ سيئة لتخلف التربية الجادة؟!
وما الفرق بين أن يسابق المرء لقيام الليل وصيام النفل، أو يسابق لميادين الدعوة إلى الله والمشاركة فيها؟!.
إنك تُدهش حين تتأمل واقع الأمة المرير، وحاجتها لكل طاقات أبنائها على اختلاف مستوياتهم وقدراتهم، وترى في المقابل واقع ذلك الصنف من الناس الذي يتخلى عن العمل، ويمتنع عن المشاركة بحجة أنه ليس أهلاً، ولن تستطيع تفسير هذه الظاهرة، أو حل هذا اللغز إلا أنه فقد الجدية.
10- ومن خوارم الجدية: سوء التعامل مع الوقت، والحديث عن أهمية الوقت وضرورة استغلاله أصبح أمراً يدركه الجميع ويتحدث عنه الكثير، لكن كيف يقضي كثير من المنتسبين لجيل الصحوة أوقاتهم؟!
إن الاعتذار بضيق الوقت يسبق كل تكليف، ويتقدم كل طلب للمشاركة أو دعوة للعمل، وهو ديباجة تقدم بين يدي المحاضرة، وفي مقدمة الكتاب، وبداية الدرس.
لكن ضيَّق الوقت هذا يمكن أن يجد فرصة بكل سهولة لحضور وليمة تستغرق ساعات طويلة، ويستطيع أن يقابل عدداً من الأصدقاء والزملاء في جلسات منوعة، لا يجمعها إلا أنها على غير نتيجة أو عمل ذي بال.
أليس الأولى أن تعكس الصورة فيُعتذر عن هذه ويُستجاب لتلك؟!
وهو مع ذلك يجد وقتاً واسعاً لكتابة بحث ترقية، أو تقديم رسالة علمية! أو مهمة رسمية تتطلب منه سفراً قد يطول وينأى، ولسنا نعترض على هذه المجالات، أو نحسد هؤلاء في أرزاقهم، لكن من يستطيع أن يجد لها وقتاً يستطيع لما سواها إذا كان جاداً.
ولعل من مقاييس اعتناء المرء بوقته كيفية قضائه لوقت الراحة والإجازة، ذلك أن العناية باستثمارها والحرص على استغلالها يحل كثيراً من المشكلات التي نعرضها حول ضيق الوقت واستثماره.
إن الرجل الجاد يدرك قيمة الوقت والتفرغ، ومن ثم فله نظرة أخرى لأوقات الراحة والإجازة، في حين يتعامل معها غيره بصورة أكثر إهمالاً وفوضى.
وليست هذه دعوة إلى إرهاق النفس وهضمها حقوقها، لكن ومع أن لنفس الإنسان حقاً عليه فلا يعني ذلك أن تضيع أوقاته النفيسة هدراً، فإذا كانت الإجازة للراحة، وحين تنتهي فهو منشغل بهموم عمله الرسمي وأمور منزله وأولاده، ووقته ضيق عن المشاركة أكثر في ميادين الدعوة، فمتى يجد الوقت المناسب يا ترى؟! الإجابة باختصار وبصراحة حين يكون جاداً يستطيع أن يجد الوقت المناسب.
11- ومن خوارم الجدية: الإغراق في قيل وقال؛ إذ تختار النفس هذا المسلك حين تنصرف عن الاهتمامات العالية الطموحة، فيسيطر ذلك على حديث المرء في الحديث عن الناس، وتقييمهم - والغالب في ذلك مجانبة العدل - والحديث عن أمور الدنيا، وآخر أخبار الناس، إلى آخر تلك القائمة الطويلة التي لا توصف بأصدق من قوله صلى الله عليه وسلّم: "إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال". [رواه البخاري 2408، ومسلم 593].
للأعلى
معوقات مفتعلة
يروق النموذج الجاد في التربية لكثير من الناس، ويرى أنه مثلٌ ينبغي أن يتطلع إليه، لكنه يبقى عند بعضهم صورةً مثاليةً لا يمكن أن تنزل إلى أرض الواقع، ومرحلة يتمنى الوصول إليها فيأسره الواقع الذي يعيشه، ويقارن بين النموذج المطروح والصنف الذي يتعامل معه، فيشعر أن هناك مسافة شاسعة لا يستطيع قطعها أو اختزالها.
وحينئذٍ يبدي عوائق ويحتج بمفاهيم مغلوطة يشغب بها على من يطالبه بهذا المستوى من التربية، وهو في ذلك قد ينطلق من مقدمات صحيحة في الجملة، لكنها وضعت في غير موضعها، ومن هذه المعوقات المفتعلة:
1- ساعة وساعة:
لقد قال صلى الله عليه وسلّم لحنظلة -رضي الله عنه-: "يا حنظلة ساعة وساعة". [رواه مسلم 2750]. فيتخذ بعض الناس هذا النص سلاحاً يشهره في وجه من يطالبه بالجدية.
إنه ليس هناك ما يمنع من وجود برامج الترويح، ومن التخفيف عن النفس والإمتاع لها، بل إن هذا يهيئ النفس لتستعيد جديتها مرة أخرى، وقد كان السلف لهم نصيب من ذلك.
وروى المصنفون في أدب الطلب طائفة من أخبارهم في ذلك، ومنهم الخطيب البغدادي في كتابه [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع]. فروى بإسناده عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "روحوا القلوب وابتغوا لها طرف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان".
وروى عن الزهري أنه كان يقول لأصحابه: "هاتوا من أشعاركم، هاتوا من حديثكم؛ فإن الأذن مجَّة، والقلب حَمِض".
وروى عن كثير بن أفلح أنه قال: "آخر مجلس جالَسْنا فيه زيد بن ثابت تناشدنا فيه الشعر". [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 129- 130].
لكن هذا شيء، وإعطاء الزخم للبرامج الترويحية شيء آخر، وحين نحتج بما فعله السلف فلا يسوغ أن ننظر بعين واحدة، فنهمل ما نشاء ونحتج بما نشاء، فليس من الجدية في التربية أن يصبح الشاب يتطلع إلى برامج الترويح، وتظل هي مقياسه وتطلعاته، وليس من التربية الجادة أن يفوق وقت برامج الترويح الوقت المخصص للدروس العلمية لئلا ينفر الشباب ! زعموا.ويدركك الأسى حين تنظر إلى الاهتمام البالغ ببرامج الترويح من خلال بعض الأنشطة الإسلامية، مما يخرج جيلاً يهتم بالتوافه ويعد الترويح من أهم متطلباته.
لقد حددت الشريعة ضوابط هامة تمنع أن يجنح الترويح عن هدفه فيتحول إلى غاية، ومن ذلك نهي الرسول صلى الله عليه وسلّم عن تتبع الصيد، والصيد في الأصل مباح، إلا أن إهدار الأوقات والأعمار الثمينة في البحث عنه ومطاردته من مكان لمكان هو المنهي عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "من بدا جفا، ومن تبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن". [رواه أحمد 2/ 440 وأبو داود 2859، والنسائي 4309، والترمذي 2256].
ومن ذلك أيضاً الشعر كنشاط من أنشطة الترويح والتسرية والترفيه، فهو مباحٌ في عمومه، ولكن حين يصبح هو الهم الأكبر للإنسان، ويصرف كل وقته له فهذا هو الممنوع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لأن يمتلئ جوف رجلٍ قيحاً حتى يريه خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً". [رواه البخاري 6155، ومسلم 2257]". أ.هـ. [الترويح التربوي، رؤية إسلامية، ص 66].
2- حدث الناس كل جمعة ولا تُمِلّهم:
لقد كان صلى الله عليه وسلّم يتخول الناس بالموعظة في الأيام كراهة السآمة عليهم. [رواه البخاري 68، ومسلم 2821].
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- لعكرمة: "حدّث الناس كل جمعة ولا تُمِلّهم". [رواه البخاري 6337].
وهذا صحيح ولاشك، لكن أليس هناك فرقٌ بين عامة الناس الذين يُذكَّرون ويوعظون باقتصاد، وتُنزل هذه النصوص عليهم، وبين الشباب الذين يعدون ليتسنموا ذروة القيادة، ودفة التوجيه؟! فهؤلاء يتطلبون قدراً عالياً من العلم ومن التربية التي تؤهلهم للتأهل لهذه المواقع، وإلا فماذا نصنع بحال السلف وأعاجيبهم في طلبهم للعلم وحفظهم للأوقات، وقد مضى نماذج من ذلك.
وثمة جانب آخر في الموضوع ألا وهو الفرق بين التعليم والإعداد وبين الوعظ الذي يتخول فيه الناس، بل حين يكثر ربما فقد أثره ودوره.
3- لكن الناس لا يتحملون:
يطرح بعض المربين إشكالاً من نوع آخر له وجاهته، وهو جدير بأن نقف عنده قليلاً وصورة هذا التساؤل: إن النموذج الجاد مطلبٌ سليم وأمنية غالية، لكن الشباب لا يتحملون البرامج الجادة، وقد تكون سبباً في خسارة كثير من الشباب ونفورهم، ويكاد يكون هذا الإشكال العائق الأهم لدى القطاع الأكبر من المربين.
وإننا نقدر هذا الحرص من إخواننا، وندرك تمام الإدراك أن أولئك يدفعهم لهذا التوجه النية الصادقة، والخوف على الشباب من أن يكونوا ضحيةً لهذه المثاليات، وأنهم يعانون الصراع بين الحرص والشفقة التي تتقد في نفوسهم، وبين الرغبة الطموحة في رقي هذا النشء مراتب أعلى في التربية، ورجحت الكفة لديهم للاعتبار الأول.
لكنهم أيضاً يوافقوننا أن الحرص وحده غير كافٍ في قياس الأعمال والجهود التربوية.
إننا نوافق أن هناك قطاعاً من الشباب قد لا يتحمل بعض البرامج الجادة، وقد تكون عائقاً له عن طريق الاستقامة أصلاً، لكن هذا شيء، وكون الشاب يصبح ضحية هذا الوجل والتخوف شيء آخر.
إننا لا نجد مبرراً أن يعد عمر الشاب التربوي بالسنوات، وتحجب عنه مع ذلك البرامج الجادة لئلا تكون عائقاً له، ثم ما عسى هذا الجيل الذي يعيش محروساً بهذا القلق والوجل، ويبقى على التأليف والترغيب سنين عدداً، ما عسى من يتخرج في مثل هذه الأجواء أن يصنع أو يواجه المشكلات التي أمامه، فضلاً عن أن تعتمد عليه الدعوة في مراحلها الحرجة؟!.
إننا نرى الشاب حين يسلك بإذن الله طريق الهداية تتحول حياته رأساً على عقب، وينتقل نقلةً هائلةً في جوانب شتى من حياته، فنتساءل حينئذ أيهما أطول مسافة: تلك التي قطعها حين استقام، فتقبل كثيراً من الأعراف، وتخلى عن كثيرٍ من الرغبات، أو النقلة التي نريده أن يصل إليها؟!.
إن تلك النقلة الهائلة التي ينتقلها الشاب حين استقامته، تعطينا دلالة على أن الشاب قادر أن ينتقل نقلة أخرى إلى مستويات عالية من الجدية، لقد كان غاية همه في السابق الرياضة واللهو، وكان لا يفارق الأزقة وأماكن اللعب، فاستبدل الخير بالذي هو أدنى، وصارت طموحاته وأمنياته أعلى وأسمى، أفلا يستطيع وقد انتقل هذه النقلة أن ينتقل نقلة أخرى؟!
وها هو مصعب بن عمير -رضي الله عنه- كان أعطر فتيان مكة وأنعمهم وأشدهم ثراءً، ومع ذلك مات وليس له إلا بردة إن غطي بها رأسه بدت قدماه، وإن غطيت قدماه بدا رأسه، وعاش هذه الحال راضياً مطمئناً، لقد نقلته التربية النبوية إلى مراتب من الجدية والحزم مع النفس تجاوز معها ما اعتاده في جاهليته من ثراء وترف.
لقد كانت تُتَصور هذه الحالة من غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم ممن كان يعيش حالة متواضعة، لكن أن يكون مصعبُ -رضي الله عنه- كذلك فهذا خير دليل على أن التربية الجادة قادرة على أن تنقل الرجال مراحل أقوى مما قد نظن.
4- ضريبة التربية الجماعية:
قد يجتاز بعض المربين العقبة السابقة، ويوافق أن الشاب قادر على أن يرتقي إلى مراتب تربوية أعلى، لكنه جزء من منظومة، والتربية الجماعية ضرورة ملحة، ومن ثم فلابد لها من ضحايا، فنحن إما أن نرتقي بهذا الشاب وهذا يعني أن نضحي بمن هو دونه ممن لا يطيق التفاعل مع هذه البرامج، أو أن نقبل بوجود من هو دونه ولو أدى ذلك إلى النزول بالمستوى التربوي له فهو الآن لا يمثل نفسه، وليس هو المقياس الوحيد لمدى ملاءمة البرامج التربوية.
وهي صورة تتكرر كثيراً، فتحجب مراتب تربوية عمن يستحقها لأنه ضحية ارتباطه في صف دراسي، أو برنامج تربوي بمن لا يتحمل، ويصبح الضعيف حينئذٍ أميرَ الركب والناس من ورائه تبعاً له.
ومع تقديرنا للرفق بالضعيف، وتجنب القفزات المحطمة معه، نتساءل:
ما ذنب غيره ممن سار مراحل، ويحمل مواهب وقدرات؟!.
ألا نملك عقولاً ناضجة، وتفكيراً مستقلاً يدعونا إلى حل هذه المشكلات؟!.
ولست أدري: لماذا تظل الأوضاع التربوية القائمة والوسائل الموروثة سوراً لا يجوز تسلقه ولا ينبغي تخطّيه؟!.
اعتدنا في مجتمعاتنا الإسلامية أن يسير ثلاثون طالباً في فصل واحد وفيهم النابغ واللبيب الذي تفهمه الإشارة، ومن دون ذلك، والضعيف، ومع ذلك يبذل لهم جهد واحد، ومدرس واحد، ومنهج واحد لسنوات عدة.
وقل مثل ذلك في سائر البرامج التربوية، ولئن كان الوضع الدراسي يحول دون تحويره عقبات كثيرة، ويحتاج لتغيير في البنية التعليمية، وقد يصطدم بآراء، ووجهات نظر، لئن كان هو كذلك فالبرامج التربوية الأخرى دونه بكثير.
وجيل الصحوة مدعو للمراجعة الجادة لوسائله وأن لا تكون هذه الوسائل حاجزاً وعائقاً دون تحقيق أهداف طموحة يسعى إليها، وأن تنطلق الوسائل، وتحكم بالاقتناعات والمناهج التربوية، لا أن يكون العكس فتصبح المناهج خاضعة لها.
ونستطيع أن نحافظ على البنية الجماعية في البرامج التربوية، مع الارتقاء بها إلى قدر أعلى، ثم مع ذلك نبذل جهداً آخر لفئة تحمل الطموح والتطلع.
ولن يكون الغرب الذي يخصص مدارس ومناهج وبرامج خاصة للموهوبين والنابغين، لن يكون أحرص منا على نشئنا وجيلنا.
وسائل مقترحة للتربية الجادة
إن الحديث عن المشكلات ينبغي أن يتجاوز النظرة السطحية الساذجة ويأخذ بعداً رأسياً أعمق، يتمثل في التحليل الهادئ للمشكلة ودراسة أبعادها وطرح حلولها الواقعية.
وكما أن التحليل المبسط للمشكلات من خلال عقدة السبب الواحد والحل الواحد، أو الانخداع بمظاهر المشكلات دون حقيقتها، كما أن هذا التناول المفرط في السطحية منهج مرفوض، فالجانب الآخر المفرط في افتعال أسباب وحلول لا يزيد على أن يكون مجرد صرف عن حقيقة الحل وجوهره، وإزعاج لذهن القارئ.
وبناء عليه فنرى أن التربية الجادة هي مستوى معين من التربية ينبغي أن يرتقى إليه، ومن ثم فليس من مسؤولية من يطالب بها افتراض الأسباب، وطرح العلاج في نقاط مرقمة، فغاية ما يؤديه أن يقول: إنكم تقفون في مرحلة متأخرة فتقدموا قليلاً، والقائمون على التربية أياً كانت مستوياتهم وثقافتهم يدركون بوضوح معنى هذا المصطلح وحقيقة هذا المطلب، وأن ما ينتظر من الأمة أفراداً ومجتمعات أكبر بكثير مما هم عليه، وإن التربية المعاصرة -حتى داخل قطاع الصحوة- بحاجة إلى مراجعة وارتفاع مستوى الجدية.
إن كثيراً من القراء يتساءل عن البرامج المقترحة، والوسائل التي تسهم في النقلة الجادة، وهو تساؤل له قيمته وأهميته، لكني أشعر أنه إنما يأتي بعد الاقتناع التام بأن التربية الجادة ضرورة، وحينها فلن يعجز جيل الصحوة المبارك، والذي نرى ثمراته ونتاجه يوماً بعد يوم، لن يعجز هذا الجيل عن ابتكار الوسائل والأساليب والحلول.
وقضية التربية تستحق من جيل الصحوة أن يبذل لها جهداً في رسم المناهج، واكتشاف الوسائل، وتصحيح الأوضاع.
وهو جهد أكبر بكثير من جهد كاتب واحد مأسور بجهله وضعفه وقصوره.
وأعتقد أن كثيراً من الأساتذة والمربين يستطيع وبما يملكه الآن من وسائل وبرامج أن ينتقل خطوات واسعة، ويرتقي مراتب عالية في سلم التربية الجادة.
وها هي مقترحات ينبئ اسمها عن مسماها، لعلها أن تضع بعض المعالم حول الطريق.
وقد قمت بتقسيم هذه الوسائل تقسيماً فنياً إلى وسائل معرفية يمكن أن تمارس من خلال الحديث والطرح المعرفي، وسائل عملية تتم من خلال الممارسة الواقعية، والتقسيم والفصل لا يعدو أن يكون فنياً، وإلا فبينهما من التلازم والتداخل ما لا يخفى.
أ- وسائل معرفية:
1- العناية بالحديث حول الوضع:
كثيرة هي القضايا التي تملأ مجالسنا في الحديث، وتأخذ أوقاتاً طويلة ونفيسة من أعمارنا، وكثير مما يطرح لا يعدو أن يكون قضايا هامشية، أو نقاشاً عقيماً لا يوصل إلى نتيجة عملية، ولو ألقينا نظرة سريعة على حجم هذه اللقاءات والأحاديث التي تطرح في مجالسنا لرأينا ضرورة استثمارها والاستفادة منها.
وحين تكون قضية التربية الجادة قضية نعنى بها في مجالسنا ومنتدياتنا، ويتحدث عنها الخطباء والكتاب والمفكرون، وتدار فيها حلقات النقاش، فإننا سنصل بإذن الله إلى نتائج عملية، وستولد هذه المناقشات والمداولات رأياً عاماً يدرك أهمية التربية الجادة وقيمتها.
2- إدراك سير الجادين:
تترك النماذج والقدوات العملية أثرها البالغ في النفوس، وتبقى شواهد حية على مدى تأهل المعاني النظرية لأن تتحول إلى واقع ملموس وإلى أن تترجم هذه المشاعر والاقتناعات إلى عمل ومواقف في جوانب الحياة المختلفة، والتاريخ مليء بهذه الشواهد والنماذج.
وإبراز النماذج والقدوات أسلوب تربوي عني به القرآن الكريم، وعني به صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلّم في تربيته لأصحابه.
ففي كتاب الله تبارك وتعالى يأتي الحديث كثيراً عن قصص السابقين وفي مقدمتهم الأنبياء وأتباعهم، يأتي آمراً بالتأسي والاعتبار والاتعاظ.
فيورد القرآن أمام محمد صلى الله عليه وسلّم - وهو يأمره بالصبر - هذا النموذج الجاد ليتأسى به: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم). [الأحقاف:25].
وحين تحدث القرآن عما أصاب النبي صلى الله عليه وسلّم من تكذيب وصد ذكره بما أصاب إخوانه الأنبياء السابقين: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ). [الأنعام: 34].
ويأتي الحديث كثيراً في القرآن المكي عن قصة سحرة فرعون وصبرهم على طغيانه وتضحيتهم بأرواحهم في سبيل الله، ليكون نموذجاً بارزاً أمام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم الذين أصابهم ما أصابهم في مكة.
وبعد غزوة أحد أبرز القرآن أمام المسلمين هذا النموذج الجاد: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). [آل عمران:146-147].
وهكذا يأتي عرض النموذج الجاد في القرآن الكريم كثيراً.
ويتبع النبي صلى الله عليه وسلّم هذا المنهج في تربيته لأصحابه، فحين أتاه خباب -رضي الله عنه- شاكياً له ما أصابه من المشركين وضعه صلى الله عليه وسلّم أمام نموذج جاد وقدوة عملية ليعتبر ويتعظ فقال له: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". [رواه البخاري 3612].
3- إدراك بذل الأعداء وجهدهم:
إن من يتأمل في واقع الأعداء يرى عجباً من التضحية لمبادئهم الباطلة والبذل في سبيلها، وتحمل الشدائد والأهوال، ولعل واقع المنصرين اليوم أكبر شاهد على ذلك، كل ذلك يتم مع نتاج بطيء الثمرة محفوف بالمخاطر.
وحين يرى المسلم الجاد ما يبذله هؤلاء يتساءل:
إذا كان هذا شأن أهل الباطل والضلال، فكيف بأهل الحق والبصيرة؟!.
كيف بمن يعلم أنه يؤجر على كل خطوة يخطوها في سبيل الله ولو لم تؤت ثمارها العاجلة؟!.
قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ). [التوبة:120-121].
وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في التعقيب على غزوة أحد:
(وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ). [النساء: 104].
(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ). [آل عمران: 140].
4- إدراك تحديات الواقع:
إنك حين تأخذ في الحديث عن جانب واحد من جوانب واقع الأمة المسلمة اليوم ستشعر أن ما هو متاح لك من الوقت لن يسعفك مهما كان، ولئن كانت الفترات السابقة التي مرت على الأمة من الهوان والضعف تمثل جانباً من الجوانب، فهي اليوم غير ذلك.
ويشعر المصلحون اليوم أن الجهود المبذولة لو صرفت لإصلاح الجانب الأخلاقي والسلوكي، أو الجانب العلمي، أو تصحيح مفاهيم الدين التي علاها الغبش، أو غير ذلك -لو صرفت لجانب واحد فقط - لاستوعبها، فكيف حين يراد سد جميع الثغرات، وعلاج مشكلات الأمة.
إن الجيل حين يدرك ضخامة التحدي يعلم أنه لن يصل لمستوى ذلك إلا حين يتربى تربية جادة، ومن ثم فإن إبراز التحديات الحقيقية أمام جيل الصحوة أولى من أن نصور للناس أن الدعوة قضية سهلة يمكن أن يقوم بها الإنسان وهو في رحلة أو نزهة، فيلقي كلمة هنا، ويهدي كتاباً هناك، ويطرح برنامجاً في هذا المكان أو ذاك. [لا اعتراض على ذلك لكن حين نصور للناس أن هذا مفهوم الدعوة فقط، تتحول الدعوة إلى هذه الجهود المبعثرة فتقصر عن أداء دورها التغييري المرتقب].
5- الثقة بتحقق الهدف:
إن الشعور بمشكلات الواقع - رغم أهميته - ينبغي أن يربط به التفاؤل بتحقيق الهدف والثقة بنصر الله عز وجل وإلا أصبح مبعثاً على التشاؤم والإحباط، وهي اللغة التي تسيطر اليوم على تفكير فئام من المسلمين فيرون أن الواقع وتحدياته أضخم من أن يقوم بأعبائه بشر، وليس للأمة إلا أن تنتظر ما يأتي به القدر دون أن تعمل وتبذل.
لقد وعد الله تبارك وتعالى أن دينه سيظهر ويعلو: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً). [الفتح: 28].
ووعد تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالتمكين والنصر: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً). [النور: 55].
ويخبر صلى الله عليه وسلّم بوعد صادق أن هذا الدين سيعم أرجاء المعمورة، فعن تميم الداري - رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: "ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزّاً يعزّ الله به الإسلام، وذلّاً يذلّ الله به الكفر". [رواه أحمد 4/ 103 والحاكم 4/ 430 بمعناه، وابن مندة في الإيمان 1085، والطبراني كما في المجمع 6/ 14].
إن إدراك هذا المعنى وإبرازه أمام الأمة يبعث على العمل والجد؛ إذ أن الواثق بتحقق هدفه هو وحده الذي يستطيع أن يعمل.
6- إدراك حقيقة الدنيا وزوالها:
إن كثيراً مما يعيق الناس عن العمل الصالح لدين الله سيطرة النظرة للدنيا، فهو يريد المال أو الجاه، أو تجنب المخاطر التي قد تلحقه في دنياه، أو الراحة والسلامة، وكلها مطالب دنيوية.
وحين يدرك المرء قيمة الدنيا وأنها لا تعدو أن تكون متاعاً زائلاً، تتزين لدى مريدها وتبدو فاتنة ساحرة ثم ما تلبث أن تتحول إلى جحيم لا يطاق، إن ثلاثين سنة من عمر الإنسان في شباب وصبوة، وحين يجاوز الستين تحاصره هموم الشيخوخة، فلا يتبقى له مما يستلذ به في دنياه إلا ثلاثون سنة يذهب ثلثها في الراحة والنوم، وثلثها في العمل والتحصيل لها، فلن يتبقى له بعد إلا سنوات عشر هي حقيقة عمره الذي يتمتع به في لذائذ الدنيا، هذا كله إذا سلم من الحوادث وما أكثرها.
وهب أنها تضاعفت أضعافاً ماذا عساها تغني صاحبها؟! إذ بعدها - مهما طالت - الحياة الآخرة الأبدية السرمدية.
هل تأملت يوماً في الأرض وقت الربيع وجمالها الفاتن، ثم عدت لها بعد أيام لتراها غدت قفراً يباباً؟! فهكذا الدنيا (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون). [يونس: 24].
لقد ربى صلى الله عليه وسلّم أصحابه على هذا المعنى حين كان يصور لهم الدنيا بهذا التصوير.
فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مر بالسوق داخلاً من بعض العالية والناس كنفته، فمر بجديٍ أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟!.
فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء! وما نصنع به؟!.
قال: أتحبون أنه لكم؟!.
قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟!.
فقال: فوالله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم". [رواه مسلم 2957].
وحين يستقر هذا المعنى في النفوس تتجه للعمل الجاد المثمر، والنظر إلى الدار الآخرة، والاستهانة بما يلاقي المرء في هذه الدار من نصب وشقاء.
ب- وسائل عملية:
1- العبادات الشرعية:
إن العبادات الشرعية مع ما فيها من تحقيق الأجر والثواب ورفعة الدرجات، فهي تربي المسلم على البذل والتحمل في سبيل الله، وتوجد لديه العزيمة الصادقة، ولهذا رتب الشرع مزيداً من الفضائل على ما يشق على المسلم أداؤه من العبادات، كما قال صلى الله عليه وسلّم لعائشة -رضي الله عنها-: "أجرك على قدر نصبك".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟!.
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: إسباغ الوضوء على المكارة، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط" . [رواه مسلم 251].
إنّ إسباغ الوضوء عبادة فاضلة، لكنه على المكارة والمشقة يصبح أفضل وأكثر رفعة في الدرجات.
وهكذا الصيام والقيام والحج وسائر العبادات فهي تعوِّد صاحبها على البذل والتحمل في سبيل الله ومجاوزة الرغبات والأهواء.
2- القدوة:
ليس ثمّة أعمق تأثيراً في النفس وأقوى دافعاً من القدوة المرئية، ولاسيما في مثل المعاني الفضفاضة التي قد يختلف الناس في تفسيرها وتحديد ضوابطها، فلعلك أن ترى بعضاً ممن يفرط في حسن الظن بعمله يتصور أنه يقف في مرتبة متقدمة من الجدية، بل ربما رأى أنه متطرفٌ ومبالغ، وأنه يشق على من معه ويحتاج لمزيد من الرفق والراحة.
قد تطالب الناس أن يكونوا جادين في تناولهم للقضايا، في نقدهم، في نقاشهم، وتنجح في تحقيق بعض ما تسعى إليه منهم، لكن هذا النجاح الذي تحققه لن يكون حتماً بالدرجة نفسها التي يحققها من يطالبهم من خلال منهج عملي وقدوة منظورة، فهو يعتذر بأدب عن الدخول أو الاستمرار في نقاشٍ غير جاد، ولا يرضى أن يضيع وقته بالإنصات لنقد غير جاد، ويحسب الحساب لوقته أن لا يضيع هدراً، ويرفض الاستجابة لمطلب يخل بجديته، فهو حين يراه الناس يرون النموذج الجاد فعلاً.
وكم يساهم الأستاذ والأب والموجه في تأخير الناس مراحل عن المنزلة التي ينبغي أن يصلوها من خلال القدوة السيئة، بل كم يمارس هؤلاء في خلق الإحباط عند الجادين ووأد البذرة الجادة لدى من يريد أن يضع قدمه في أول الطريق.
فهل يا ترى ينجح المربون في أن يكونوا قدوة حسنة لمن تحت أيديهم في الجدية والعملية؟! وإلا صاروا أولى أن يطالبوا هم بأن يتربوا تربية جادة تؤهلهم للانتصار على أنفسهم.
3- الوسط الجاد:
مما يمكن أن يلحق بالقدوة ويدرج ضمن إطارها: الوسط الجاد، فكما أن الطالب يلمس القدوة من أستاذه وشيخه، فهو أيضاً لا يمكنه الانخلاع من التأثر بصورة أو أخرى بأقرانه وزملائه من الطلاب.
وتأثر الشاب بالوسط الذي يعيشه لا يزال أهم عامل وراء النقلة الهائلة التي يقطعها الشاب نحو طريق الاستقامة.
ومن ثم فإن الوسط الجاد ضرورة لا غنى عنها، ومطلب ملح للوصول إلى التربية الجادة، ومن التكليف بما لا يطاق أن يراد من الموهوب والنابغ أن يصل لما ينتظر منه وهو لا يزال يعيش في أوساط غير جادة.
أفلا يمكن التفكير في خلق أجواء وأوساط أكثر جدية لبعض العناصر الجادة - ولو كان ذلك بصورة جزئية - أم أن الأوضاع التعليمية والتربوية الموروثة قد صارت سوراً منيعاً لا يسوغ تسلقه أو تجاوزه؟!.
وحين نقدم البرامج التربوية بصورة جماعية فهل يعني ذلك أن نشكل الجميع في قالب واحد غير ملقين أي اعتبار للفروق الفردية والاستعدادات الشخصية؟!.
ولا نزال نرى العديد من الشباب ممن يحمل همَّةً وتطلعاً للعلم والارتقاء التربوي يبقي ضحية الوسط الذي يعاشره، وبأي معيار استواء من هو في أول الطريق مع من قطع فيه مراحل.
ألا يمكن أن نستمد من تاريخنا وخبرتنا التربوية وسائل تسعفنا في تجاوز أو تخفيف أثر الوسط على تلك العناصر المتميزة دون إخلال بجماعية البرامج؟!.
5- الجرأة على تجاوز الأعراف الخاطئة:
تترسخ لدى الناس أعراف وعادات تكبلهم بأسرها وقيودها، وتعوقهم كثيراً عن العمل المنتج، لذا فمن يريد أن يكون جاداً منتجاً في حياته لابد له أن يختار أحد البديلين الخضوع المستمر للأعراف والعوائد وخسارة الحياة الجادة، أو تجاوزها والجرأة على مخالفتها.
إن المجاملات والمناسبات الاجتماعية، وأنماط التعامل مع الأوقات نماذج للأعراف التي تمثل فيروساً للشخصيات الجادة، فتعيش مع الناس وهي تعاني الحرقة والألم.
وحين تكون مشاعر بعض الناس وخواطرهم أغلى علينا من أوقاتنا وأعمالنا فسوف نمارس هدراً بلا حدود لكثير من أوقاتنا وجهودنا، فحين نريد أن نكون جادين فلنملك الجرأة على الخروج على الأعراف الخاطئة، وربما التضحية بمشاعر بعض الناس، وهي مرحلة تمهد بعد ذلك لأن يستوعبنا الناس، ويتعاملون معنا على هذا الأساس.
6- الواقعية والتدرج:
يولِّد الحديث حول الجدية ومناقشتها لدى كثير من الخيرين طموحاً وحماسة نحو حياة عالية من الجد والعمل، وحين يسعى بعضهم لتحويل هذا الشعور إلى ميدان الواقع يصطدمون بقدراتهم وعاداتهم ومَن حولهم، وقد يتولد من هذه الصدمة شعور بالإحباط والفشل.
ومن ثم فالواقعية والتدرج، والشعور بأن النقلة لا يمكن أن تتم في لحظات، كل ذلك يقوم بدوره في ضبط النفس لتتجنب القفزات المحطمة.
وهو منهج يجب أن نمارسه في تربيتنا لأنفسنا، وفي تربيتنا لمن تحت أيدينا، وندرك أن الفترة الطويلة التي قضاها الناس في البطالة والخمول لا يمكن أن تزول آثارها بين عشية وضحاها.
وبهذا وجه النبي صلى الله عليه وسلّم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لن ينجي أحداً منكم عمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟!.
قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة. سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا" . [رواه البخاري 6463، ومسلم 2816 بنحوه].
7- مراعاة الميدان المناسب:
سنة الله تبارك وتعالى في الناس أنهم يتفاوتون، فمن يصلح في ميدان قد لا يصلح في سواه.
قال معاوية - رضي الله عنه - لصعصعة بن صوحان: "صف لي الناس. فقال: خلق الناس أصنافاً: فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة فيما بين ذلك، يكدرون الماء، ويغلون السعر، ويضيقون الطريق".
وها هو خالد بن الوليد سيف الله -رضي الله عنه- يقول: "منعني الجهاد كثيراً من القراءة". [رواه أبو يعلى، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح].
ونبّه الحافظ ابن القيم من يربي ابنه لهذا المعنى فقال: "ومما ينبغي أن يتعمّد حال الصبي، وما هو مستعدٌ له من الأعمال، ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوقٌ له، فلا يحمله على غيره، ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعدٌ له لم يفلح، وفاته ما هو مهيأ له". [تحفة المودود، ص 243].
وقال رحمه الله: "فإذا علم هذا، فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعلم، قد وفّر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق ويفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته.
قال تعالى: (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ). [النساء: 100].
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر.
ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعدٌ لها أظلم عليه وقته، وضاق صدره.
ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقاً إلى ربه.
ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير قلبه وساءت حاله، ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده.
ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه، ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار.
ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة...". ثم ذكر من جمع بين تلك الطرق كلها.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي حول قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً). [التوبة: 122]: "وفي هذه الآية أيضاً دليل وإرشادٌ وتنبيه لطيفٌ لفائدة مهمة، وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة والقصد واحد، وهذه من الحكمة النافعة في جميع الأمور". [تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن 3/ 315].
فما صلة ذلك بالتربية الجادة؟!:
إن كثيراً من الناشئة يتطلعون إلى ميدان من ميادين الخير، كطلب العلم، أو مجال من مجالات الدعوة مما هم غير مهيئين له أصلاً، فلا يبلغون ما يتطلعون إليه، فيشعرون أو يشعر من يريبهم أنهم صنف غير جاد، بينما لو سلك فيه الميدان المناسب له لأمكن أن يستثمر جهده، ويفتح له باب من العمل الصالح.
9- التعويد على المشاركة والعمل:
اعتاد كثير من ناشئة المسلمين اليوم أن يُكفى كل شيء، فهو في المنزل يقدم له الطعام والشراب، ويتولى أهله تنظيم غرفته وغسل ملابسه، فساهم ذلك في توليد جيل كسول لا يعرف العمل والمسئولية.
وفي المدرسة وميادين التعليم اعتاد التلاميذ الكسل الفكري، وصار دورهم مجرد تلقي المعلومات جاهزة دون أي جهد، وحتى حين يطلب منهم بحث أو مقالة فلابد أن تحدد لهم المراجع، وبأرقام الصفحات، وقل مثل ذلك في كثير من المحاضن التربوية.
إننا حين نريد تخريج الجيل الجاد فلابد من تعويده من البداية على المشاركة وتحمل المسئولية: في المنزل بأن يتولى شؤونه الخاصة، وفي المدرسة بأن يبذل جهداً في التعلم.
وعلى القائمين اليوم على المحاضن التربوية أن يأخذوا بأيدي تلامذتهم، وأن يسعوا إلى أن يتجاوزوا - في برامجهم التي يقدمونها - القوالب الجاهزة، وأن يدركوا أن من حسن تربية الناشئة أن يمارسوا المسئولية، وألا يبقوا كلاً على غيرهم في كل شيء، فينبغي أن يكون لهم دور ورأي في البرامج التي يتلقونها.
وحين نعود لسيرة المربي الأول سنرى نماذج من رعاية هذا الجانب، فهو صلى الله عليه وسلّم يعلم الناس أن يتحملوا المسئولية أجمع تجاه مجتمعهم، فليست المسئولية لفرد أو فردين.
فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: "مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به، فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك؟! قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم". [رواه البخاري 2686].
ومن ذلك أيضاً استشارته صلى الله عليه وسلّم لأصحابه في كثير من المواطن، بل لا تكاد تخلو غزوة أو موقف مشهور في السيرة من ذلك.
وفي الاستشارة تعويد وتربية لهم، وفيها غرس للثقة، وفيها إشعار لهم بالمسئولية، ولو عاش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم على خلاف ذلك، أتراهم كانوا سيقفون المواقف المشهودة في حرب أهل الردة وفتوحات فارس والروم؟!.
وعلى المستوى الفردي كان النبي صلى الله عليه وسلّم يولي أصحابه المهام، من قيادة للجيش وإمارة ودعوة وقضاء وتعليم، فأرسل رسله للملوك، وبعث معاذاً إلى اليمن، وأمَّر أبا بكر على الحج.
بل كان يؤمر الشباب مع وجود غيرهم، فأمر أسامة على سرية إلى الحرقات من جهينة. [رواه البخاري 4269، ومسلم 96]. ثم أمره على جيش يغزو الروم. [رواه البخاري 4469، ومسلم 2426].
وولى عثمان بن أبي العاص إمامة قومه. [رواه مسلم 468].
... وهكذا فالسيرة تزخر بهذه المواقف.
فما أجدر الدعاة والمربين اليوم أن يسيروا على المنهج نفسه ليخرج لنا بإذن الله جيل جاد يحمل المسئولية ويعطيها قدرها.
10- المشاركة العملية من المربي:
اعتاد بعض المربين أن يكون دورهم قاصراً على إعطاء الأوامر ومراقبة التنفيذ، وهو مسلك مخالف لمنهج المربي الأول صلى الله عليه وسلّم، الذي كان يعيش مع أصحابه ويشاركهم أعمالهم وهمومهم.
• فشاركهم في بناء المسجد:
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلّم فيهم أربع عشرة ليلة... وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلّم معهم وهو يقول اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة". [رواه البخاري 428، ومسلم 524].
• وشاركهم في حفر الخندق:
فعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الخندق، وهو يحفر ونحن ننقل التراب، ويمر بنا فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة". [رواه البخاري 6414، ومسلم 1804].
• وكان يشاركهم في الفزع للصوت:
فعن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلّم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلّم وقد استبرأ الخبر، وهو على فرس لأبي طلحة عريّ، وفي عنقه السيف، وهو يقول: م تراعوا، لم تراعوا. ثم قال: وجدناه بحراً، أو قال إنه لبحر". [رواه البخاري 2908، ومسلم 2307].
• وأما مشاركته لهم في الجهاد:
فقد خرج صلى الله عليه وسلّم في (19) غزوة. [رواه البخاري 3949، ومسلم 1254].
بل قال عن نفسه: "ولولا أن أشقّ على أمتي ما قعدت خلف سرية". [رواه البخاري 36، ومسلم 1876].
وهي مشاركة لا تلغي دورهم وتحولهم إلى مجرد آلات صماء، بل هي تدفع للتوازن بين هذا وبين تعويدهم على العمل والمشاركة.
التربية الجادة مراتب
لعل بعض القراء يتساءل: بعد هذا الزخم ورفع الصوت بالمطالبة بالتربية الجادة: هل تريدون أن يصب الجميع في قالبٍ واحد ويسار بهم على وتيرة محددة؟! ثم أين الناس ومستوياتهم والضعف والقوة والنشاط والكسل؟! وهو سؤال يفرض نفسه، وله وجاهته وما يؤيده.
إن الجدية مطلوبة من الجميع وبكافة مستوياتهم، وإن التربية على اختلاف طبقاتها ومستوياتها لابد أن تكون جادة.
فتعليق أهداف واهتمامات الأمة بالرياضة واللهو والمتعة الحرام، مظهر من مظاهر عدم الجدية في التربية، وكون الأمة تسير وراء المادة وتحصيلها وهي التي تحكم موازينها وقيمها، مظهر من مظاهر عدم الجدية.
فالتربية الجادة للأمة تتطلب أن تعلق بقضايا تليق بمكانتها كأمة من الأمم، وفوق ذلك أمة تحمل الرسالة للبشرية، فنحن بحاجة للتربية الجادة على مستوى الأمة بكافة طبقاتها.
والطلبة والطالبات وهم فئة أخص، ويفترض فيهم مستوى من الجدية أعلى من عامة أفراد المجتمع، حين يعلقون بالشهادة والحصول عليها، وتصاغ التربية المدرسية بما يؤصل هذا المعنى، بل يقضي على ما يزاحمه، إن هذا الخرق والخلل التربوي مناقض للتربية الجادة، وانتهاك صارخ لغاية التعليم، وهو مسئول عن كثير من مظاهر ضعف التحصيل، والتربية الجادة تتطلب أن تتعلق اهتمامات الدارسين والدارسات بأهداف أسمى وأعلى قدراً من الوظيفة والشهادة.
والأستاذ المربي الذي يعد نفسه موظفاً لا غير لدى وزارة التربية يتلقى أجره ثمناً لما يلقيه على طلابه في الفصل، ينتظر الإجازة ونهاية الدوام على أحر من الجمر، يحتاج لتربية جادة تعده ليكون مربياً حقاً.
والأب الذي تشغله الدنيا ومتاعها عن الرعاية والتربية، بحاجة إلى التربية الجادة.
والأم التي تعنى بالمظهر والموضة، وتستهلك اللقاءات والمكالمات الخاصة جزءاً ثميناً من وقتها على حساب الوظيفة الأساس والدور الرئيس: رعاية المنزل والقيام بشؤون الأسرة، هي الأخرى بحاجة للتربية الجادة.
وأصحاب الوظائف الشرعية في المجتمعات الإسلامية حين يسيطر عليهم همُّ العلاوة والمرتب، وحين تخلق أجواء العمل الرسمي أمامهم سياجاً لا ينظرون ولا يتحركون إلا من خلاله يصبحون غير جادين في أداء دورهم المنوط بهم، والتربية الجادة تتطلب أن تتمحض نوايا هؤلاء وتتحرر من الأغراض العاجلة، وأن تأخذ جهودهم ونتاجهم مدى أبعد من السياج والإطار الوظيفي.
وجيل الصحوة حين يكون على الواقع الذي هو عليه الآن فهذا يعني أنه بحاجة لتربية جادة تنهض به ويرتفع إلى المستوى اللائق، إذ هو حامل للواء، وحارس للخندق الأول، ومرابط في ثغور الحماية للأمة أجمع.
وهكذا فالتربية الجادة مطلب للجميع على المستويات العامة والفردية، واختلاف مستوى التربية بين طبقة وأخرى أو فرد وآخر ليس إلا ناشئاً عن اختلاف الموقع والدور والمنزلة.
وبهذا نستطيع الإجابة الواضحة على ذلك التساؤل.
لقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلّم بتخيير نسائه بين البقاء معه أو متاع الدنيا وزينتها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً* وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً). [الأحزاب: 28- 29].
إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم يطلب منهن قدراً من الجدية ليس لغيرهن من النساء حتى من الصحابيات، فيحق للمرأة أن تطالب بالنفقة بالمعروف، وأن تتمتع بما يتمتع به سائر النساء، أما نساء النبي صلى الله عليه وسلّم فلهن شأن آخر، وينبغي أن يعلمن أن مقام أمهات المؤمنين يجب أن يتجاوز ذلك كله، وفعلاً كن -رضوان الله عليهن- على هذا المستوى اللائق حين خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين الدنيا والبقاء معه، فاخترن جميعاً الأخرى والأبقى.
وقد بايع صلى الله عليه وسلّم بعض أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم يسقط سوطه فلا يطلب من أحد أن يرفعه إليه. [رواه مسلم 1043].
وهذا القدر من الجدية لا يطلب من سواهم من سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، وإن كانت الجدية عموماً مطلوبة من الجميع.
وحين لقي النبي صلى الله عليه وسلّم المتخلفين بعد غزوة تبوك قبل عذرهم، وَوَكَلَ سرائرهم إلى الله، عدا الثلاثة المخلفين، فصار لهم شأن آخر، لأن الجديّة المطلوبة منهم ليست كغيرهم.
إذاً فالجميع يجب أن يبقى داخل إطار الجدية، ويعيش في أجوائها، وينقل إليها، لكنها تتفاوت بحسب المرء وموقعه ومستواه، وبحسب المجتمعات.
الخاتمة
وأخيراً:
وبعد هذه الجولة مع ورقات هذا الكتاب نتساءل:
هل اقتنعنا أن التربية الجادة ضرورة؟!.
قد تكون الحقائق والمناقشات والأفكار التي عرضت في هذا الكتاب كلها تدور حول تحقيق هذه الغاية وتحصيل هذه النتيجة: أن ندرك أن التربية الجادة ضرورة.
ألا "يوجد في كل حاضرة من حواضر الإسلام دعاة أهل نزوع إلى الجد، يترجمون بصمت ما في ثنايا فقه الدعوة من اقتراحات إلى ارتباطات وخطط واقعية؟!". [المسار لمحمد الراشد، ص 9].
إنها دعوة للمراجعة، والمصارحة مع النفس لكن ما نخشاه أن يقعد التقليد والموروث ببعض الإخوة عن المراجعة والتمحيص، فخرق سياج الموروث لدى هؤلاء من الموبقات، ومخالفة رأي فلان انحراف وزيغ عن المنهج.
"كما أن همم البعض قد تقصر فيرى بعض الذي ذهبنا إليه أحلاماً، وإنها كذلك عند من لم يصعد عزمه إلى مستوى الأحداث، ولكننا ندري من أنفسنا أننا لم نجنح لخيال أو هذر، ولم نوجب ما هو فوق طاقة البشر، وإن الذي أتينا به ليس هو غير استجابة لنداء الواقع، إنها أفكار واقتراحات موضوعة للعزائم العالية دون الهابطة، وللقلوب الحرة لا القلوب الواجفة، ولطلاب الآخرة لا المخلطين". [المسار، ص 10]. وللجادين لا الهازلين.
وإني أدرك مع ذلكمصدر: كله أن كثيراً من القراء يتجاوب مع ما يطرح، ويشعر معنا بعمق المشكلة والمعاناة.
وأدرك أن بعض من قد انتقدنا أوضاعه التربوية هو خيرٌ منّا وأبرّ عند الله، وأنه لا يفتقد النية الصالحة، ولسنا أكثر غيرة منه على جيل الصحوة المباركة، بل إن كثيراً من العوائق التي تعوقهم عن الارتقاء إلى المستوى الذي يُطمح إليه من الجدية هي من دافع الغيرة والخوف من النتائج المعاكسة.
لكني أخشى أن يقعد بشخص اختلافه في رأي، أو وجهة نظر في بعض ما يطرح، أن يقعد به ذلك عن موافقتنا على الأصل، ومسايرتنا على الهدف.
وأجزم أن وعي القارئ الكريم ينقله إلى مستوى التفريق بين خطأ أو ملحظ، أو وجهة نظر في أسلوب من أساليب المعالجة، أو مثال من الأمثلة، وبين الفكرة الأساس ومحور الموضوع؛ إذ ليس بالضرورة أن يكون قبول الفكرة مرتبطاً بالاقتناع من سائر تفاصيلها واستطراداتها، فينبغي أن نجعل الاختلاف في مناطه الطبيعي، فنرفض ما لا نوافق عليه، ونقبل ما نوافق عليه.
وأجزم بإذن الله أن آصرة التواصل ومبدأ المناصحة ستقود القارئ الكريم للمراسلة تأييداً وتشجيعاً واستدراكاً وتصحيحاً ومناصحة.
وفي ختام المطاف أشكر إخوتي الأكارم الذي تفضلوا بمراجعة مسودة الكتاب فأفادوني بملحوظاتهم وآرائهم، وإني بانتظار المزيد.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
|