المحاكاة في فكر نيتشه الشاب: مولد التراجيديا الإغريقية نموذجاً
بقلم: نادية عبد الجواد
“لقد ولَت كلَ الأنساق الفلسفيَة وهاهم الإغريق يضيئون دربنا وخاصَة منهم إغريق ما قبل سقراط”
لئن وضعت الفلسفة المعاصرة موضع السؤال كلَ البديهيات التي قامت عليها الحداثة -كمفهوم الذات الديكارتي أو الروح المطلق الهيجلي و غيرهما من “الأحكام المسبقة” التي قدَمت نفسها ك “حقيقة” ثابتة لا شكَ فيها و كمقولات بعيدة عن الريبة والظنَ – فإنها ذهبت إلى أبعد من ذلك بأن عادت عودة تسآليَة لمواضيع قديمة ظنَنا أنها قد نسيت وامحت باسم ابتسار أحديَ لا يرى في الفكر سوى تطوَرا مستمَرا راسما خطَا مسترسلا كأنما التاريخ كتلة واحدة لا انقطاع فيها ولا تشققَ.
وتجد هذه العودة ما يشَرع لها فيما قام به الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه عندما استرجع المسألة التراجيديَة الإغريقية استرجاعا قائما على الجمع بين العمل الفيلولوجي الصارم و التأويل الفلسفي و هو ما عبرَ عنه حول المسألة الهوميريَة سنة 1869 قائلا :
“إن كل نشاط فيلولوجيَ يجب أن يكون موَجها و مؤطَرا ضمن تصَور فلسفيّ للعالم”
بهذا القول يعلن نيتشه و هو لا يزال يمتهن الفيلولوجيا دخوله لرحاب الفلسفة مؤولا ومسائلا خاصَة وقد اجتمعت فيه المرجعيَة الفنيَة بعشقه الأوَل لفاغنر والمرجعيَة الأدبيَة الشعريَة بقراءته لهولدرلين و المرجعيَة الفلسفيَة بعودته لكانط و شوبنهاور وتضافرت جميعا لتؤدَي إلى قراءة التراجيديا الإغريقية قراءة تأويليَة ترتفع بالفكر اليوناني من مجرَد معطيات تاريخيَة إلى مستوى التصَور الفلسفي الفنيَ المثبَت في إطار الحنين إلى اليونان ذلك الحنان الذي يهدف إلى محاكاة أصل مفقود.
إن المحاكاة هنا ملتصقة بهاجسين أولَهما هاجس التأويل الذي يتمخَض عن رغبة في الفهم بعيدا عن المناهج الكلاسيكَية و ثانيهما هاجس الانصهار في الكلَ و العودة إلى الأصل وهو ما ترويه لنا قراءة نيتشه للتراجيديا الإغريقية في كتاب “مولد التراجيديا الإغريقية”الصادر سنة 1872.
يتعلَق الأمر إذن بالمحاكاة من جهة كونها عمليَة أمثلة لتاريخ اليونان ومن جهة تحقيقها للفنَ التراجيدي من خلال الدعوة “الديونيزوسيَة” للانسجام مع الطبيعة.
لا تعني المحاكاة عند نيتشه ما ألفناه في محاورات أفلاطون بما هي تقليد لمثال أو نموذج أصليَ ولاهي بالمعنى الأرسطي استكمالا للطبيعة و تقليدا لفضائله وإنما هي عند نيتشة رغبة و اندفاع و نزوع للأصل لا لغاية تقليده بل من أجل إحيائه وإعادة بنائه والسكن إليه. فنيتشة يستحضر روح التراجيديا تمثلا أي جاعلا من القدامة التاريخيَة الفعليَة قدامة مثاليَة ومفاد ذلك أن قراءة التراجيديا الاغريقيىة فلسفيَا اقتضى ضرورة تخيَلها وابتداعها إدراكا لجوهرها وإنصافا لها فكأنما نيتشة هنا يقول لنا “نحن لم نقرأ التراجيديا الاغريقيىة بعد” وهذا هو مجال التأويل بامتياز.
يعيد نيتشة كتابة القديم بحثا عن الأصل لا كمعطى بل كسياق لخلقه وكأنه الأساس الذي يتعلَق الأمر بتأسيسه باستمرار لذلك فاَن استعادة مسألة التراجيديا الإغريقية ليست بعودة لاهية أو عابثة بل هي خالقة و مستحدثة لقطعة موسيقيَة نعيد عزفها لننقذها من براثن النسيان و نخرجها من الأرشيف الذي دفنت فيه وكذا الأمر بالنسبة لثقافة بأكملها نحادثها ونستحدثها لأننا لا نفهم إلا ما أعدنا بناءه.
قرأ نيتشة التراجيديا الإغريقية بحدسين : حدس نقدي يسعى إلى نزع كلَ التشويهات التي طالت الثقافة اليونانيَة و التي حوَلتها إلى أرشيف من المعطيات التاريخيَة وحدس فلسفيَ فنيَ يرى في عناصر التراجيديا تآلفا و تناسقا عجيبين فالمسرح التراجيدي يقوم على عنصر العظمة وهو ما يٌلمح في شساعة الفضاء وامتداده بحيث يسع عشرون ألف متفرج وهو مؤثث بدمى عملاقة أما من جهة الزمان فالعظمة متجسَدة في طول المدَة الزمنيَة لدوام المسرحيَة وهو يوم بأكمله الأمر الذي يتجاوز الطاقة البشريَة ناهيك عن طول النصوص التي يحفظها الممثلَ والذي يقوم بمجهود جبَار ليتفاعل مع هذه العوامل المحيطة به.
ثمَة شيء عظيم يختفي خلف هذه العناصر المؤثثة للمسرح وهي التناسق الذي يجمع بينها إذ هو تناسق يحاكي التناسق الذي نجده في الطبيعة و لعلَ هذا السياق ليس إلا تمهيدا لا لخروج اليوناني من الابتذال اليومي واستغنائه عن رتابة النظر فحسب بل لانضمام المتفرج إلى جوَ فنيَ حارق يجمع بين المنشود والمجهول فالدخول إلى المسرح يشكل لحظة مغامرة جديدة يعيشها الأثيني من الممثل إلى المتفرَج. فالممثل الذي يتكبَد جهد الحفظ وتقمَص الدور نراه يتفاعل مع عناصر المسرح إلى أن تصير مألوفة و طبيعيَة كأنها تنبع منه ويقول في ذلك نيتشة:
« l’acteur qui dans son coutume figurait une élévation au-dessus de l’humanité commune , éprouve en soi un grandissement grâce auquel les paroles mélancoliques et pathétiques d’Echelle devenaient pour lui une langue naturelle »
“إن الممثل في هيأته المجاوزة لما اعتادت عليه الإنسانية يستشعر عظمة تجعل كلمات اسخيلوس المأساويَة و المثيرة للشفقة لغة مألوفة بالنسبة إليه”
يتماهى الممثل في لحظة أولى مع روح الشعر الذي ينطق به و كأنه يحاكي روح الشاعر نفسه و تعلو هذه المحاكاة لتلمس العنصر الذي قدَ منه الشعر والشاعر معا وهي الطبيعة والممثل لا يوهم المتفرَج بل هو يحاول أن يخرج عن ذاتيته وفرديَته ليلتحق بآخريَة مطلقة يتصَرف بموجبها وهي حسب نيتشة روح ديونيزوس الذي يجعل الممثل خادما له يتحَرك تحت إملائه و ينزع إلى الذوبان فيه .
ديونيزوس كما هو معلوم اله النشوة و السكرة أي هو رمز الإفلات من كلَ القيود و الإسراف في الملذات الجسديَة و لذلك فان كلَ من يحاكيه مآله الهلاك أي التوحَد مع الكلَ و الخروج المطلق عن الفرديَة و الشعور بحدود الجسد . إن المحاكاة بهذا المعنى تصطبغ بدلالة صوفيَة مفاتيحها التوَحد و الانصهار و الفناء و هذا بالضبط ما يقوله نيتشة :
« dans le phénomène Dionysiaque , l’artiste a déjà dépouillé sa subjectivité »
“يتجرَد الفناَن من ذاتيَته في الظاهرة الديونيزوسيَة”
يخرج الممثل عن طوره في جوَ كبير من الاحتفال ليصير عنصرا من عناصر الطبيعة إلى درجة ينجذب فيها اهتمام المتفرًج وروحه فيصير هو الآخر واقع تحت إشكالية المحاكاة لأنه اندمج في إيقاعية ديونيزوس . فالمحاكاة في الفن التراجيدي ذوبان في الأصل والتقاء وجدانيَ متجانس بين الأرواح : إنها حكاية باطنيَة تحاك بين المتفرَج والممثل والطبيعة. فالمتفرَج الذي يحضر التراجيديا بحرقة وتشوَق ينجذب مع الممثل إلى عنصر التماثل بينهما و يتم ذلك عبر مرحلتين : الإصغاء إلى ما يقوله الممثل لينصهر معه ثم الإصغاء إلى عين ما يصغي إليه الممثل أي إلى الصوت الأوَل أو إلى المعين الذي ينهل منه الممثَل.
ثمَة في فكر نيتشة في هذه اللحظة ما يثير الانتباه إذ في حديثه عن المحاكاة كانصهار في الطبيعة إشارة إلى مسألة أعمق وهي التذكر فكلَ العمليَة تتم بواسطة التذكر الذي نجده أولا كرغبة عند المتفرج في حضوره للمسرح التراجيدي و ثانيا كفعل تحقق عند الممثل الذي يحَن إلى أصله تذكرا واستحضارا و تذكيرا لغيره من المتفرجين ولذلك فان “كل فنًان إنما هو محاك” حسب قول نيتشة.
إن محاكاة الفنان للطبيعة عودة وسكن لأصل ما بل حياكة للنسيج الذي قدَ منه العالم والوحدة السابقة على كلَ قسمة و كلَ فرز والتي تشكل حسب نيتشة فضاء يتصالح فيه الأفراد فيما بينهم ومع الطبيعة التي“تزهر بلقائها الجديد مع ابنها المفقود”.
نخلص من هذا القول أن المحاكاة هي العنصر الرئيسي الذي يتحقق من خلاله هدف الفن التراجيدي و هي علاوة على ذلك فنَ إصغاء لعنصر الطبيعة الذي تتحرَك معه كلَ الحواس وترقص الروح. وتقودنا مسألة المحاكاة كدعوة ديونيزوسيَة إلى مسألة الطبيعة وخاصَة وأن نيتشة لا يتمثل التراجيديا الإغريقية بحدس ديونيزوس فحسب بل بحدس أبولون العاقل الواضع للحدود والراسم لملامح الفرد وهو يرمز إلى المدينة ويدخله نيتشة في المسرح التراجيدي من خلال الجوق الذي يشكل دعوة لإيقاف “سرح النظر” والحدَ من استرسال المتفرَج في غيبوبته. إن الجوق هو عنصر التفسير و يشبهه شليغل ب “المتفرَج المثالي” لأنه يتدخلَ لينقذ اليوناني من الهلاك و يحفظ له فرديَته فيرفع إلى الجهر كلَ سرَ ويسَطر حدود الخيال ويتلقى النظر على قدر الطاقة و بذلك يشكل لحظة أساسيَة لاكتمال التراجيديا الإغريقية فهي ليست شيئا آخر سوى وليدة الصراع الديونيزوسي/ الأبولوني إذ لابدَ للاتقاد الأقصى الديونيزوسي أن تأتيته سكينة أبولون.
تمثل المحاكاة في نظر نيتشة أساس التراجيديا الإغريقية لكنها محاكاة مزدوجة تعكس الإنسان في بعديه الأرضي والالاهي أو العقلي والجسدي وهي مما لاشك المسألة الأهم التي يدور حولها الفكر اليوناني.