تاريخ لا يعرفه أحد . أين تقع مدينة الدماء ؟
العراق صرة العالم ومنه انطلقت الهجرات الأولى لتُشيد اولى المستوطنات البشرية على الأرض من جنوب العراق (أور) انطلقت الحضارة ومن وسطه انطلقت الثقافة ومن جنوبه كانت اولى الرحلات الاستكشافية للعالم .
قدم الجنوب العراقي كل ما من شأنه ان ينهض بحضارة البشرية. في الجنوب كتبوا الشعر منذ ستة آلاف عام (كلكامش) في ملحمته فكانت اول مسرح على وجدان البشر ، وفي الجنوب ابدعوا في صناعة القيثارات الذهبية المطعمة بالجواهر ليُغنوا لكلكامش ملحمته . ثم قدم الجنوب العجلة التي لازالت إلى هذا اليوم تجري بالبشرية نحو الرقي والحضارة .
وفي بابل قدموا اروع التصاميم الهندسية التي استحقت وبجدارة ان تكون احد عجائب الدنيا السبع واقدمها على الاطلاق مسلة حمورابي عربون حبه لزوجته، وفي بابل وسومر ونيبور شُيدت الزقورات والمكتبات العامرة الزاخرة بانواع الفنون والعلوم ، ومن الجنوب تم اكتشاف الفضاء وبناء الابراج العالية للصعود للسماء.
ماذا اقول عن الجنوب العراقي الذي قيل عنه بجدارة انه ( مهد الحضارات). وعنه تفتقت الألسنة واللغات.
ولازال الجنوب معطاءا باخلاقه وقيمه وفضائله وتسامحه وكرمه الذي فاق الحدود حيث يسحب ثرواته من تحت قدميه ويقدمها لمن يذبحه ويقتله ويتنكر له .
ولا يزال الجنوب متسامحا على الرغم من كل المجازر التي تطاله وتسحق شبابه يوميا، فيُقدم المبادرات تلو المبادرات من اجل ان يُحافظ على الوحدة والوئام .
ولا زال قادة الجنوب يضربون اروع الأمثلة بالتسامح والايثار من خلال نداءات الوحدة والتآلف والتآخي والتحابب .
اتذكر يومها جاء الكثير من الوجهاء والسياسيين إلى سيّد مراجع الشيعة بعد أن اوجعتهم واثكلتهم ضربات الحاقدين قتلا وذبحا وتفجيرا وشتما ، طالبين منه ان يعطيهم فتوى يُدافعون بها عن انفسهم ، فرفع عينيه المثقلتين بهموم الإسلام الكبير وقال لهم قولته المشهورة التي نال على ضوئها تكريم العالم كله فأصبح رائد السلام بحق ، فقال : ( لو ابيدت مدينة شيعية بكاملها لا أعطي فتوى بالجهاد وانصحكم لا تقولوا لأهل السنة اخواننا بل قولوا انفسنا) .
يالله وللتاريخ هل تسجل الاقلام الشريفة هذه المآثر للجنوب ؟ نعم لقد حفر التاريخ بأحرف من ذهب على صفحاة الظمائر الحية قصة الجنوب العراقي ومآثره الخالدة.
وكم جميل ان يقول خبير سياسي غربي : (لقد نشأ الشيعة في جنة عدن التي غرسها الله في جنوب العراق ) في اشارة منه إلى النص التوراتي الذي يقول ان نهرين من الجنة في العراق هما دخلة والفرات .
إذن إذا كان الجنوب المعطاء مدينة السلام ،
فأين هي مدينة الدماء والقتل.
مدينة الدماء .
وبالمقابل فإنه من المعروف ان الطبيعة تترك اثرها على طبيعة الانسان ايضا فتخلق حضارته وسلوكه تجاه جيرانه. فالطبيعة الجبيلة القاسية والصحراء القاحلة الموحشة تترك اثرا على سلوك الساكن فيها .
نينوى وسهل نينوى الممتد حتى حدود بغداد ويشمل اربيل والموصل وتكريت والرمادي وجزئ من ديالى وكركوك منطقة لم يعرفها التاريخ إلا بإسم (مدينة الدماء) مدينة القتل وقطع الرؤوس وقطع الألسنة وفقأ العيون وخلع الاكتاف .
من هي مدينة الدماء التي تنبأ عنها (ناحوم) في سفره فوصفها بأبشع الأوصاف منذ اكثر من خمسة آلاف عام؟ فقال : ((ويلٌ لمدينة الدماء. كلها ملآنة كذبا وخطفا. لا يزول الافتراس... لهيب السيف وبريق الرمح، وكثرة جرحى، ووفرة قتلى، ولا نهاية للجثث، يعثرون بجثثهم)). (1)
هذا السهل الذي ترك ورائه مآثره المرعبة المخيفة على جدران قصوره والتي تشهد على وحشية سكان هذه المناطق وهمجيتهم ولا أدري ماذا اقول لمن يرى رسوما تُمجد بكل أعمال الارهاب والوحشية ومنذ آلاف السنين وإلى هذا اليوم .
فعيونك ستطالع على جدارن هذه المناطق شخصا يُعذب شخصا أخر وهو مقيد فينتزع لسانه ويستله من قفاه . وتتبجح بعض الكتابات والمدونات لهذه المناطق بأن شعبهم يقتاد الناس بالحبال في رؤوسها كلاليب وخطاطيف حادة معلقة بأنوف الناس او شفاههم . ، مارأيك بطرق سكان هذه المناطق الوحشية وتفننهم بالتعذيب ، وانت ترى على جدارن قصورهم يصورون انفسهم وهم يقتلون الآباء والامهات ويُعلقون رؤوس اطفالهم في اعناقهم كالقلائد. ولا يزال هؤلاء إلى اليوم يُصورون جرائمهم البشعة وينشروها على الملأ العام.
سأترك التعليق للعالم الأثري ( آرتشِبولد هنري سايس). (2) الذي وصف اعمال سكان هذه المنطاق بانها اعمال بربرية خصوصا في استيلائهم على المدن قائلا : (( لقد امتلأت الطرقات التي سلكها هؤلاء باكوام من الرؤوس البشرية؛ أُحرقوا الفتيان والفتيات أحياء ، ووضعوا الرجال على الخوازيق، سلخوا جلودهم ، أعميت عيونهم، وبترت اطرافهم وجدعت آذانهم وانوفهم)).
فأنظر إلى هذين الحضارتين ماذا قدمت للبشرية في الماضي وماذا تقدم في الحاضر. وانظر إلى (حِجر) الحضارة التي نشأوا فيها ، حضارة السهل المنبسط الأخضر الجميل المطرز بالنخيل، وحضارة الجبال والصخور والصحارى والجحور ، وكم جميلٌ هوقول الشاعر :
هي الأخلاق تنبت كالنباتِ .. إذا سقيت بماء المكرمـاتِ
تقوم إذا تعهدهـا المربـي .. على ساق الفضيلة مثمراتِ
فكيف تظن بالأبناء خيـرا .. إذا نشأوا بحضن السافلاتِ
وهل يرجى لأطفال كمـالٍ .. إذا رضعوا حليب الناقصاتِ
فليس ربيب عالية المزايـا .. كمثل ربيب سافلة الصفاتِ
المراجع .
1- سفر ناحوم 3: 1
2- القس هنري Sayce أرشيبالد (1846 - 1933)البريطاني واللغوي، وأستاذ الآشوريات في جامعة أوكسفورد 1891-1919.زار المنطقة الغربية وتعجب كثيرا من قساوة سكانها وتخلفهم وكتب عنهم في كتابه الاشوريين.
- See more at: http://www.alnoor.se/article.asp?id=252132#sthash.hcAYNom4.dpuf