التعليم وعصر الانفتاح

د.ابراهيم المطرودي

    من طبع الإنسان عند أبي عثمان الحاجظ، أحد أساتذة الأدب العربي، أنه يحب الإخبار والاستخبار، ومحبة الإخبار والاستخبار هي السبب الداعي إلى انفتاح الإنسان، واطلاعه على ما عند غيره، والإنسان _ حسب قول الجاحظ _ مدفوع بغريزة مُتَمكّنة، وخلة راسخة، لا يستطيع أن يقاوم أثرها، أو يدفع عن نفسه نداءها. ويقودني قول الجاحظ هذا، وتوصيفه لهذه الطبيعة، إلى أن أصم الإنسان المنغلق بأنه مضاد لفطرته، ومعاند لطبيعته، وأن أصف الإنسان المنفتح على غيره، والمخبر له والمستخبر منه، أنه الماضي على طريق فطرته، والساعي على الأصل في خِلقته، وبهذا يظهر لي شيء من معنى قوله _ تعالى _:{وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، ومن قول رسوله _ عليه الصلاة والسلام _:(كل مولود يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوّدانه، أو يُنّصرانه، أو يُمجسانه)!.

 

 

الانفتاح تحوَّل من عيب يُعاب عليه صاحبه إلى هدف يقصده الناس، ويدافعون عن ثقافته، وما كان لهذا التحول المهم أن يحدث لولا أن الدولة دفعت بثقلها في اتجاهه، وبذلت من جهودها في تحقيقه، فقد كان المنفتح قبل هذا يتخفى خلف آرائه، ويتوارى خوفاً من ألسنة الانغلاق الحداد

 

من طبع الإنسان أنه يُخبر (يرسل)، ويستخبر (يبحث عن الخبر، ويستقبله)، هذا هو الإنسان في طبيعته الأولى، قبل أن تجتاله شياطين الإنس والجن، وتُقنعه أن يكتفي بما عنده، ويستغني بما لديه، وليس من طبعه أن يتولى وظيفة الإرسال (الإخبار) وحدها، ويراها حقه الطبعي، ونصيبه الذي على الناس أن يقبلوه منه، ولا ينتظرون منه سواه، فمثل هذا الإنسان قد نزع رداء جِلبته، ونضا عنه ثوب فطرته.

ويمضي الحاجظ ( رسائل الجاحظ _ كتاب كتمان السر وحفظ اللسان) في البناء على فكرته هذه قائلا:" ولأن من طبع الإنسان محبة الإخبار والاستخبار، وبهذه الجبلة التي جُبِل عليها الناس نُقلت الأخبار عن الماضين إلى الباقين، وعن الغائب إلى الشاهد، وأحبّ الناس أن يُنقل عنهم، ونقشوا خواطرهم في الصخور، واحتالوا لنشر كلامهم بصنوف الحيل، وبذلك تثبت حجة الله على من لم يشاهد مخارج الأنبياء، ولم يحضر آيات الرسل". لقد اتّخذ الجاحظ من هذه الفطرة الإنسانية، التي فطر الله الناس عليها، وشاهدوها في أنفسهم، ووجدوها في غيرهم، حجة له على لزوم بحث الإنسان عن الدين، وتحريه في طلبه، وجعل هذه الخصلة حجة من حجج الله _ تعالى _ على البشر!؛ إذ من غير المقبول أن تُخبر عمّا عندك، وتستخبر عمّا عند الناس، ثم تدع دين الله _ عز وجل _ وقد بلغك حين استخبارك؛ فلا تبحث عنه، ولا تبذل جهدك فيه.

ويُؤكد الجاحظ مرة أخرى أن هذه الفطرة (محبة الإخبار والاستخبار) في الإنسان حجة لله _ تعالى _ عليه قائلاً:"وكذلك حُبّب إليه أن يُخبر بالحق النافع، ويَسْتخبر عنه، وجُعلت فيه استطاعة هذا وذاك، فاختار الهوى على الرأي" وبهذا يظهر أن الانفتاح هو الأصل المتوقع أن يكون الناس عليه، والفطرة التي خُلق الناس بها، ولا يضره بعد ذلك أن يكون تأريخ الإنسان خلافه، وعلى عدم الوفاق معه؛ فهو فطرة استطاع كثير من الناس أن يحجب شطرا منها، ويحتال عليها، ويستغل جانباً واحداً فيها، هو الإخبار عما عنده، والإرسال مما بين يديه، وليس له في الشطر الآخر (الاستخبار) حاجة؛ فهو المحَكّم دون العالمين في كل شيء، وإليه يرجع الأمر كله في كل شأن!.

تعيش المجتمعات المنغلقة، وكذلك هو حال الأفراد، على وظيفة الإخبار وحده، أي على شطر واحد من طبع الإنسان؛ كما يقول الجاحظ، وتبني أذهان أبنائها عليه، وتُشعرهم أن هذا ما يُطلب منهم فقط، فيعيشون ناقصي الفطرة، معوجي الجبلة؛ فينتهي بهم الحال؛ كما هو عند كثير من المنغلقين عندنا، إلى أن يروا الحوار، وهو معتمد على الإخبار والاستخبار، خطراً يُهدد المسلم، ويُزعزع عقيدته، ويروا في الانفتاح، وهدفه الأساس الاستخبار (طلب ما عند الناس)، بلاء يخترم العقول، ويفسد الألباب.

والانفتاح أو الاستخبار شيء جديد في مجتمعنا، لم يكن لنا به عهد! وأريد بذلك الانفتاح والدعوة إليه والتسويق لثقافته، والتأسيس لها؛ فهو شيء نهضت مؤخراً به الدولة، واهتمت به، وجعلته من أولوياتها، وفاضت في الصحف أخباره، فأصبح حوار العالمين هدفاً لها،

ومقصداً مهماً من مقاصدها، واعتنت بالحوار مع مختلف أطياف مجتمعها، وتحمّس له المسؤولون في كثير من مؤسساتها؛ لأنهم يدركون أن الانغلاق معاناة لا علاج لها، ولا تقليص لأثرها؛ إلا بالانفتاح وثقافته!.

وأقصد أيضاً أن الانفتاح تحول من عيب يعاب عليه صاحبه إلى هدف يقصده الناس، ويدافعون عن ثقافته، وما كان لهذا التحول المهم أن يحدث لولا أن الدولة دفعت بثقلها في اتجاهه، وبذلت من جهودها في تحقيقه، فقد كان المنفتح قبل هذا يتخفى خلف آرائه، ويتوارى خوفاً من ألسنة الانغلاق الحداد، هذه في ظني خلاصة تأريخنا مع الانغلاق؛ لقد كان المنفتح يُواجه قوى الانغلاق وحده، وأصبح اليوم يجد له من الدولة ناصراً، ومن المسؤولين معيناً، وبهذا التلاقي الذي نشهده هذه الأيام بين الدولة وأبنائها المنفتحين سيتحوّل حالنا، وتتبدل ثقافتنا، ونبدأ من جديد في تأسيس إطار انفتاحي، نبني عليه مشاريعنا التعليمية، ونقيم عليه أهدافنا التربوية.

وللرجال الأفذاذ في هذا المجتمع تجربة مرّة، تُوضح أن الانغلاق كان الخطاب السائد، والإطار المنتشر، وتُظهر تجربتهم لنا اليوم كيف كانت حال مجتمعنا قبل عقود قريبة، لا بعيدة. مَنْ منّا لا يذكر أستاذ الجيل غازي القصيبي _ رحمه الله رحمة واسعة _ حين الحديث عن مناهضة الانغلاق، وتقزيم رموزه، وفضح ثقافته؟

لقد كان في قصة هذا الرجل الشجاع في زمن الخوف عبرة، وأي عبرة؛ لقد كان يقف وحده في مواجهة دعاة الانغلاق، ويكتب الردود عليهم واحداً واحداً، وظل يُقاوم هذه الجحافل والكتائب حتى وافاه الأجل، وفارق هذه الدار. إن هذه القصة، وأمثالها من قصص رواد الانفتاح، تكشف الغربة التي كان يعيشها المنفتح، والعزلة التي كان يحياها بين الناس، وتُرينا هيمنة الانغلاق، وسيادة الصوت الواحد.

لا أظن أحداً يُنكر أن مجتمعنا كانت قوى الانغلاق وثقافته (وحسب عبارة الجاحظ قوى الإخبار وثقافته) تهيمن عليه، وتبسط نفوذه على أرجائه، ولا أحسب أحداً ينكر أن تلك الهيمنة كانت تجد من الناس ترحيباً كثيراً، وتلقى منهم تأييداً عظيماً، ومن طبائع الأشياء أن يقود المجتمع أقرب الناس إلى ثقافته، وألصقهم بإطاره الذهني، وهذا عندي هو تفسير ما جرى في الحقبة التعليمية السابقة؛ لكن ما كان في الماضي ليس سوى مرحلة من مراحل هذا المجتمع، وليس شيئاً مؤبداً، عليه أن يعيش بقية عمره فيه، ويقضي مستقبل أيامه بين أيدي أصحابه، وهو إلى هذا مرحلة كان كثير من المواطنين يعيشون فترته بعيداً عن فطرتهم، وفي مكان قصي عن أصل طبيعتهم.

نحن اليوم في ظرف تأريخي مختلف، ومرحلة زمنية مغايرة، ومجتمعنا كغيره من المجتمعات، ينتقل من طور إلى طور، وهو في هذه الحقبة يعيش طور الانفتاح، وزمن الحوار (الإخبار والاستخبار)، هو في هذه الأوانة يعيش على طبيعته الأصلية، وفطرته التي خلقه الله _ تعالى _ عليها {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا؛ ومن الإحسان إلى هذا الطور الجديد، والتمكين لثقافته، أن تتم صياغة الخطط التعليمية وفق وحيه، وتحت تأثيره؛ لأن التعليم هو أيسر الطرق إلى نشر ثقافة الانفتاح والحوار، وتعميم مبادئهما، وما لم نقم بهذا الدور، ونعزم عليه؛ فلربما بقي سياق الانغلاق حاضراً، وممارسة وظيفة إخبار الناس وحيدة عندنا، وعاش مجتمعنا مرة أخرى بعيداً عن فطرته، وفي مكان ناءٍ عن أصل من أصول خلقته.

وأخيراً فقد كانت الخطة التعليمية في السنوات الماضية مبنية على الظروف التأريخية التي يعيشها مجتمعنا في علاقة أفراده، بعضهم ببعض، وعلاقة مجتمعه بغيره من المجتمعات، وعاكسة لتلك الظروف، وقد جرى لنا في السنوات الأخيرة تغير كبير في علاقة الناس بعضهم ببعض داخل المجتمع، وفي علاقة مجتمعنا بغيره من المجتمعات؛ فالمنتظر من الخطط التعليمية أن تعكس هذا التطور، وتُنْبئُ عنه، وتنبني عليه، وتساعد في ترسيخه.

http://www.alriyadh.com/943149

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك