ثقافتنا ومستقبل لغتنا

إبراهيم بن سليمان المطرودي

    

لم نفكر في طريقة تعليمنا، ولا في مقرراته، ولا في أنفسنا، ولم نضع الوعي الذي قام عليه التعليم أولا محل أسئلتنا، كل ذلك تجاوزناه، وصرنا نسأل: ما دور الاستعمار في ضعف العرب في لغتهم؟ وما دور العولمة؟ وما دور فشو العامية في ضعفهم؟ كل ذلك وغيره كان، ومن يتحدث عن التحديات القريبة _ فهو كما قال المتنبي _ كصالح في ثمود!

 

 

تعوّدت ثقافتنا العربية أن تبحث عن عللها، وأسباب تأخرها خارج حدودها، وأضحى هذا منهجاً، لم يعد من السهل التعافي منه، ولا الاستعانة بغيره في معظم الأحيان، وانتقلت هذه الطريقة من النظر إلى عموم الحياة، واستطاعت الثقافة ورجالها أن يعمموا هذا النموذج من التحليل عبر كثرة توظيفه، فصرنا نستخدمه حين الحديث عن التحديات التي تواجه أمة الإسلام، ونلجأ إليه حين الحوار حول ما يقف في طريق العرب من تحديات، ولم نكتف بذلك بل اصطحبناه حين تحدثنا عن أحوالنا القريبة، فصار جزءا من مشكلات تعليمنا _كقضية العربية مثلا _ تحدياتها تنبع من الخارج، أو من الداخل البعيد عنا، نعم صرنا نتحدث عن أثر الاستعمار، مع أنه قد ولّى، ونتحدت عن العامية وتسلطها على الناس، وكأننا لا نستطيع أن نهيئ للناس تعلم اللسان العربي إلا إذا تمّ إبعاد العامية، والقضاء عليها.

لم نفكر في طريقة تعليمنا، ولا في مقرراته، ولا في أنفسنا، ولم نضع الوعي الذي قام عليه التعليم أولا محل أسئلتنا، كل ذلك تجاوزناه، وصرنا نسأل: ما دور الاستعمار في ضعف العرب في لغتهم؟ وما دور العولمة؟ وما دور فشو العامية في ضعفهم؟

كل ذلك وغيره كان، ومن يتحدث عن التحديات القريبة _ فهو كما قال المتنبي _ كصالح في ثمود!.

وحين تُطْبِق علينا رؤية التحديات الخارجية، وتأخذ الدروب علينا، نضحي يائسين عاجزين، فمن ذا الذي في مقدوره مثلا أن يكون كأمريكا في صناعة العلم والفكر والثقافة والأشياء، صناع هذه الأشياء يُمكنون للغتهم، والأدهى أنهم يمكنون لإنسانهم، فتظهر صورته بجوار ثقافتهم، ويفتحون لهما الأبواب ليلجأ كل مجتمع، فمكانتك ومكانة لغتك حسب قدراتك وثمارها، وهكذا نعود من المقارنة بيننا وبين أهل هذا العصر بخيبة كبرى، تنطبع على تصورنا للغتنا ومستقبلها، فنحن نعيش في يأس، أظهر قلة حيلتنا، وضخامة عجزنا.

ذاك كان تحدي الواقع اليوم، وثمة تحد آخر ماثل في أذهاننا عن ماضينا ورجاله، فالماضي تحكمنا مثالياته دينا وفصاحة وأدبا، وأحاديث المجتمع عن السوبرمان الغابر في تدينه وورعه وفصاحته وبلاغته جلية واضحة، فالمشكلة العويصة أن الرعيل الأول من بناة التعليم عندنا كانوا ممن خيّم في أذهانهم إعادة السوبرمان القديم، وإعادة إنتاج الموسوعي! وكلتاهما فكرة مكذوبة في الأصل؛ إذ تُعدّ أمثلة هذين النموذجين من الشاذ الذي لا يُقاس عليه، فكيف يبنى التعليم من وحيه؟

بُني التعليم على وقع إعادة ما كان من الشاذ في الماضي، لكننا للأسف لم نخرج من هذا التعليم، بعد مضي قرابة قرن من الزمان لا بالموسوعي ولا بغيره، إنها المثالية التي طبعها في رؤوسنا تصورنا للتراث، وصورة رجاله، فبنينا تعليمنا حتى نعيد صورة العالم القديم، والشاعر القديم، والأديب القديم، والخطيب القديم، وهذا يلفت انتباهنا إلى أن تصورنا للتراث ليس تصورا حياديا، بل يؤثر علينا في تشكيل مستقبلنا، ورسم أهدافنا؛ فنحن حين نرى الماضي بلغ الغاية في كل شيء، فلن نهنأ بنوم حتى نُعيد تلك الصورة، فهو يندمج في عقلية المجتمع، ويبدأ الناس بالتنظير لحياتهم وفق تلك الصورة، لعلها أن تعود.

إذن التحدي الأكبر _ حسب ما أرى _ هو أننا نعيش في ثقافة، تُجللها مبالغات عن الماضين كبيرة، وتقودها الشواذ في رسم مستقبلها، نريد أن يكثر في أوساطنا أمثال أبي بكر _ رضي الله عنه _، ويتعدد فيها أشكال قس بن ساعدة، وستظل هذه القضية شغلنا الشاغل ما لم نُغيّر موقفنا منها، ونُعيد تصورنا لها.

نحن نقف بين مشهدين صعبين؛ غربٍ أهله علينا متفوقون، وماضٍ أهله لنا سابقون، إننا محاصرون من أمامنا ومن خلفنا، فأين لنا المفر؟

نحن نقف بين قامتين كبيرتين، وتحدٍّ من جهتين؛ فما نحن صانعون؟ وما في مقدورنا الآن مجاراة ما فهمناه عن الأولين في اللغة؛ لاختلاف الزمان وشروط العيش، وذا شيء كشفه لنا واقع التعليم اليوم، ولا بنا طاقة لمجاراة المعاصرين، من الشعوب المتقدمة، فبيننا وبينهم مفاوز بعيدة أطرافها، إننا مضطرون، إن أردنا الحياة، أن نصنع لنا نموذجا آخر، ونُعبّد لنا دربا جديدا، نصطنعه بعقولنا، تكون بدايته من تصوراتنا الأولية، التي عششت في ثقافتنا، وجعلتنا كالصغير الذي يقف بين مصارعين جلدين، مرة يسير وفق رغبة هذا، وتارة وفق ما يريده منه الآخر! ولم يستطع أن يخطو خطوته الأولى التي يُبلورها واقعه، فهو يجري وفق الماضي تارة، وعلى خُطى حاضر الأمم المحيطة تارة، يعيش حالة إرضاء، إما للماضي ورجاله، وإما لهذه الأمم المعاصرة، وهذا ما جعل أفراد الأمة يحسبون للناس ألف حساب قبل اتخاذ أي قرار، يخصهم هم، ترى الإنسان يعتني بما يقول الآخرون، قبل أن ينظر في حاجاته هو، وهذا في ظني التحدي الثقافي التي تعيش فيه الأمة اليوم، ويقبع الفرد تحت رحمته؛ إذ الفرد نسخة للثقافة الذائعة، وكيف يحل إنسان كهذا التحديات، ويُواجه الصعوبات، وهو من البدء لم يمتلك الحرية التي يزرعها فيه شعوره باختلافه عن الأولين والآخرين؟

كم أمة تعيش في هذا العالم تُشبه أمتنا؟ كم أمة لها ماض زاهر، وتُحاط بأمم تتقدمها اليوم؟ أمم كثيرة تُشبهنا، فهل يشعرون بمثل ما نشعر به؟ وهل دفعهم شعورهم إلى أن قدّوا من ماضيهم صورة مثالية، أرادوا إعادتها كما كانت؟

إن الإنسان حين تستقطب ذهنَه صورة، لا يستطيع أن يؤسس حياته بعيدا عنها، فمَنْ يدْمن سماع خطاب الوعظ الديني، الذي يدعو إلى مثالية معدومة، سيُتعبه _ إن صدق مع معارفه _ ما يحمله في دماغه، وسيكون رضاه عن نفسه، وعمن يُحيط به، مرهونا بتلك الصورة، وهكذا فستظل أمتنا، ونظل نحن أيضا، تُعاني نوبات اليأس؛ لأنها وضعت لها خُطة، لم تكن يوما من الأيام، خطة لم يتحملها القديم بعمومه مع جلالته عندنا! فكيف يستطيعها المتأخر الذي ما برحنا نسخر منه، ونحتقر طاقاته، ونهزأ بأحلامه؟

http://www.alriyadh.com/939291

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك