قراءة في كتاب: (في شرعية الاختلاف)
الكتاب:(في شرعية الاختلاف)
المؤلف: على أومليل
دار النشر: دار الطليعة للطباعة والنشر - بيروت - لبنان
الطبعة: الأولى:منشورات المجلس القومي للثقافة العربية – الرباط (1991)
قضية الكتاب وإشكاله
انطلق الكاتب من إشكال مهم بنا عليه دراسته في هذا المؤلف، هو كيف تعامل مفكرونا القدامى مع الآخر المخالف المباين لهم في الرأي والفكر؟ وهل تحصل مما تركوه من مؤلفات ما يدل على إيمانهم بالمخالف والاعتراف بوجوده؟ .... وفي هذا يقول: " وهل تحصل من هذا كله رصيد يمكن أن يسند دعوانا الآن إلى مشروعية الاختلاف في الرأي، وإلى ترسيخ قواعد الحوار وتقاليده؟"
وللإجابة على الإشكال حسب المؤلف لا بد من النظر إلى قضية شرعية الاختلاف، داخل المعتقد الواحد، وخارجه، في الدولة الإسلامية، أي في حالة الجدال والمناظرة التي دارت بين أصحاب المرجعية الواحدة، حيث الاختلاف بينهم كان على مستوى التأويل للنصوص، وبين الجدال والمناظرة التي ضارت بين مفكري الإسلام وغيرهم من المخالفين في المعتقد.
وهناك خلاف لم يغفله المؤلف وهو الخلاف خارج الديانات السماوية، وأخذ نموذجا لذلك وهو المناظرات التي دارت بين المعتزلة والمانوية، وما استعمله كل من الفريقين من "رصيد ثقافي غني...، في طرق الجدل الفلسفي العالي للدفاع عن عقيدتهما" حيث كان هم المعتزلة إقناع النخبة المثقفة، بالثقافة الأجنبية عن الفكر الإسلامي، واعتمدوا في ذلك قانونا علميا في جدالهم ومناظراتهم، إلا أن فكر وخطاب المعتزلة حسب المؤلف كان خطابا للنخبة "فكرا دينيا نخبويا"، لم يتوسع ليكون خطابا وفكرا لعامة المسلمين.
لكن حسب الكاتب الأمر يختلف إذا تعلق الأمر بمناظرة المسلمين لغيرهم وهم في حكم المغلوب عليهم، ويطرح للقراء نموذج "وضعية الموريسكيين أولئك العرب المسلمون الذين أدركهم اكتساح الدولة الاسبانية المسيحية لمواطنهم" وقد ابتكر الموريسكيون حسب الكاتب منهجا خاصا ولغة خاصة في الحوار والجدل، ناسبت وضعهم وحال من يحاورونهم.
ويؤكد الكاتب أن دفاعه عن الحق في الاختلاف ليس لإضفاء الشرعية على ما أنتجه الاختلاف من سلبيات التمزق والتشتت إقليميا وعالميا، بل الغرض هو التأسيس لتقاليد الحوار، وثقافة الوفاق، كما أن الحق في الاختلاف "أساس النظام الديمقراطي الذي هو في حقيقته نظام تعددي يسعى باستمرار إلى التوصل إلى وفاقات عامة أو الحفاظ عليها"
فكانت غايته والإشكال الذي يبحث الكاتب على معالجته من خلال هذه الدراسة، هو البحث في تراثنا الثقافي على ما يؤكد شرعية الاختلاف أو ينقضها "وتلك هي الغاية من هذا الكتاب"
محاور الكتاب:
بعد التمهيد الذي عرض فيه المؤلف لإشكال البحث، وقضياه الرئيسية،... عرض لمحاور الدراسة للقضية من خلال أربع محاور رئيسة: (1)الإسلاميون والعقائد الأخرى: إطار المشروعية، (2)أسباب النزول أو تاريخ فوق التاريخ، (3)...وأقفلوا باب الحق في الاختلاف، (4)الموريسكيون أو الفكر المحاصر.
عالج الكاتب في المحور الأول: الإسلاميون والعقائد الأخرى: إطار المشروعية، قضية الاختلاف الديني باعتباره الاختلاف الجوهري في المجتمعات القديمة أكثر من الاختلافات الأخرى اللغوية أو العرقية ... وانطلق الكاتب من أن الإسلام اعترف ببعض الأديان وما في حكمها فقط، من اليهود والنصارى والصابئة والمجوس، بناء على ما ذهب إليه بعض الفقهاء وخاصة مؤلفو كتب "الإحكام السلطانية".
ولمعالجة قضية أهل الذمة في الفكر الإسلامي حسب المؤلف لا بد من التمييز بين ما اشترطه الفقهاء، وبين ما تمت ممارسته فعلا في تاريخ المسلمين، حيث رغم الشروط التي اشترطها الفقهاء على أهل الذمة، مما يتعلق بعدم توسيع مجالهم الديني، كعدم بناء الكنائس وترميمها،...لم تطبق في تاريخ المسلمين، حيث سمح لهم ببعض ذلك.
وفي ما يتعلق بممارسة الجدل والمناظرة، فإن الأمر اختلف بين ما اشترطه الفقهاء على الذميين، من عدم فتنة المسلمين في دينهم، مما يدل على عدم الممارسة الجدلية بين المسلمين وأهل الذمة، وبين التاريخ الذي يدل على وقوع المناظرات بينهم، مما يؤكد " أن الثقافة الإسلامية تجاوزت بمناظراتها الغنية الحدود التي رسمها الفقهاء" ، بل لم يناظر الإسلاميون أهل الكتاب فحسب، بل ناظروا غيرهم من المعتقدات الغير السماوية، فنشأت كتابات عرفت بعقائدهم عرفت بكتب "الملل والنحل" وبذلك كانت عناية مفكري الإسلام بغير الأديان الكتابية: عناية تعرف وتعريف، وعناية جدل ومناظرة.
في هذا السياق عرض المؤلف لنظر الإسلاميين من المتكلمين ومؤلفي كتب "الفرق" و"المقالات" و"الملل" في أديان الفرس، ووجه الاختلاف بينها وبين الأديان الكتابية والغنوصية –(وهي قضية مسيحية)- المانوية، في قضية خلق الله العالم، " فالله في اليهودية والنصرانية والإسلام خالق للعالم خلقا مباشرا، خيره وشره، وهو عالم به علما محيطا، أما أهل غنوص فاعتقادهم هو أن الله الذي هو مثال الخير والعقل لا يجوز أن يصدر عنه هذا العلم المليء بالشر والنقص...،" "... مسألة وجود الشر في العالم هي المسألة الكبرى التي شغلت الغنوصيين، وقد أوجدوا نظرية قائمة على الفصل بين الله وعالم الشر هذا، وعلى تدبير الإنسان نفسه لضمان خلاصه من هذا العالم."
وقضية النفس وخلاصها، "فالنفس ليست من طبيعة هذا العالم حسب الغنوصيين، فعليها أن تقطع علائقها به وتلك طريقها إلى الخلاص، الخلاص يكون بالمعرفة بالمعنى الذي يعطونه للمعرفة...، أي أن الإنسان يستطيع معرفة الله وبلوغ خلاصه دون حاجة إلى الاسترشاد بنبي يكون واسطة بين الله والناس. النبوة إذا ليست ضرورية عند الغنوصيين فالنفس بالمعرفة الباطنية لذاتها تبلغ الحقيقة والهداية والخلاص."
وعرض المؤلف لجدال القاضي عبد الجبار المعتزلي للمانوية الغنوصية، هذه الديانة الفارسية القديمة، فهو – القاضي- حسب الكاتب لم يكتفِ بالموقف الديني، فيحكم عليهم بالشرك فينتهي الأمر، بل يجادلهم بمنطق المتكلمين وطرقهم الجدلية، وحصر آرائهم في كتابه "التثبيت" "في مسألتين اعتبرهما أصلي عقيدتهم: الأولى: مسألة وجود الشر في العالم وكيف يبرر؟، والثانية: اعتقادهم في أصلين لوجود العالم" ، فالقاضي عبد الجبار لم يأخذ آراءهم مأخذ السطحية، بل جادلهم وناظرهم في آرائهم، إلا أن هذا الجدل والنقاش العلمي بين المعتزلة والمانوية ، كان جدلا مغلقا أي بين نخبة عالمة ولم يكن في متناول عامة الناس.
وقسم الكاتب كتابات مفكري الإسلام اتجاه معتقدات غير أهل الكتاب، بين قسم اهتم بالنقض والرد وعلى رأسهم المعتزلة، وقسم اهتم ببسط المعتقدات والآراء والأفكار أكثر من الاهتمام بالجدل والمناظرة لأصحاب هذه الأفكار، وذكر من أصحاب هذا القسم ابن النديم، الشهرستاني، والبيروني.
وعرض لمشروع البيروني والمتمثل في شرح وتلخيص كتب المانوية، وتقريبها للناس في البيئة الإسلامية، كما قام بفهرست لكتب محمد بن زكريا الرازي، وقد اعتبره البيروني كما يقول المؤلف مانويا، وقد نقل المؤلف كذلك على البيروني أنه دخل المانوية بعد إعجابه بالرازي، ومطالعة كتبه، وكتب المانوية التي بحث عنها لمدة أربعين عاما.
كما قام البيروني بتصحيح نظرة مفكري الإسلام عن الهند، حيث اعتبروها محل العلم والحكمة، يقول المؤلف أن البيروني عاين الهند، أما من يتكلم عنها يبني على الأخبار التي يسمعها، وليس من عاين كمن سمع، وأن كل ما ذكر عن الهند من العلم والحكمة مجرد خرافة، وحتى ما ذكر عن علم الفلك ما هو إلا مبالغة مصدرها البعد والخيال.
ويرى المؤلف أن البيروني لم يجادل ولم يناظر، لأنه لم يرى من الفكر الهندي فكرا متكافئا يستحق المناظرة، لذلك يقتصر في الغالب على الإخبار المجرد، وهو ناذرا ما يرد بالحجة الدينية، وحجته المعتادة يستمدها من العلم الذي برع فيه وهو علم الفلك الرياضي، لذلك يقول المؤلف:"من هنا نفهم لماذا لم يكن كتاب "تحقيق ما للهند من مقولة" من صنف كتب المناقضة التي ألفها الإسلاميون للرد على الآراء والأديان المخالفة لهم"
وتحت عنوان حول تعريف الإسلاميين بالعقائد الأجنبية، ذكر المؤلف أن كتاب "الملل والنحل" ميزوا في الاختلاف بين نوعين: اختلاف داخل دائرة الإسلام يسلم المختلفون بالمرجعية المتمثلة في النصوص الأصلية، وإنما الخلاف في تأويلها وفي المناهج المتخذة لذلك، وعلى هذا الأساس انبنت المذاهب الفقهية، ونشأ علم الخلافيات وهو خلاف اجتهادي، أما الصنف الثاني هو الخلاف خارج عقيدة الإسلام، وهو ما يعنيه القدماء حسب المؤلف بلفظ "الشبهة"، ولذلك جعلوا مقابلة بين "الرأي" و"النص"، الرأي الذي ينطلق من نفسه، وليس من النص ولخدمة النص كما يحكي المؤلف، نقلا عن الشهرستاني في "الملل والنحل" وابن حزم في "الفصل في الملل والأهواء والنحل".
وبخصوص موضوعية مفكري الإسلام في كتبهم التي خصصوها للتعريف بالعقائد والمذاهب، أي مؤلفي "الملل والنحل" يرى علي أومليل أن موضوعية البيروني كانت موضوعية متعالية، حيث كان الرجل معتدا بحضارته وعلمه الإسلاميين.
و قضية إعلان الموضوعية كانت ديدان مفكري الإسلام، ونقل علي أومليل أقوال تثبت هذه الحقيقة عن ابن حزم الأندلسي، والأشعري، والشهرستاني، إلا أن هذا الأخير حسب صاحب الكتاب لما صنف كتابه إلى صنفين كبيرين: الصنف الأول: أرباب الديانات والملل من المسلمين وأهل الكتاب، وممن له شبهة كتاب، وذكر الفرق الكلامية وعرضا موجزا لليهود والنصارى وطوائفهم، أما أصحاب شبهة كتاب عنى بهم الأديان الفارسية القديمة،...و الصنف الثاني: أهل الأهواء والنحل وذكر منهم الصابئة والحرانية والبراهمة، والفلاسفة...حيث عرض لبسط فلسفة ابن سينا لأنها حسب المؤلف كافية للتعريف بالفلسفة الإسلامية.
ويرى المؤلف أن هذا التصنيف وهذه التسمية –أهل الأهواء والنحل- فيها "تفضيل أولئك على هؤلاء" ويزيد الكاتب أن الشهرستاني كغيره من مفكري الإسلام الذين يعرفون بعقائد الآخرين، يقر أن الاختلاف لا يعني التكافؤ، لأن هناك دين واحد هو دين الحق، وهو الإسلام، كما أن الاختلاف داخل هذا الدين غير متساوي، حيث هناك فرقة واحدة هي الناجية، إلا أن ما يميز الشهرستاني هو أنه لا يعين هذه الفرقة، على خلاف غيره من أمثال: البغدادي والأشعري وابن حزم، الذين عينوها بأهل السنة، حتى أن ابن حزم ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث لا يقبل المناظرة مع الخوارج والشيعة ...وغيرهما من الطوائف التي اعتبرها متطرفة كما نقل عنه المؤلف في "الملل".
وفي ختام المحور الأول ينتهي علي أومليل تحت عنوان معنى الاختلاف إلى أن ذكر هؤلاء العلماء والمفكرين لعقائد المخالف، وبسطهم لتفاصيل فكرهم، وادعائهم الموضوعية في ذلك، لا يعني قبولا مبدئيا بالاختلاف، كما "لا نجد منطقا مرسوم الحدود للاختلاف بين المسلمين وأصحاب العقائد والمذاهب المخالفة، خاصة تلك التي لم يعترف الإسلام بها، بمقدار ما نجد هذا المنطق محددا حين يتعلق الأمر بأطراف مختلفة ولكنها كلها داخل الإطار الإسلامي، وهكذا وجد منطق المناظرة والجدل وطرقهما عند المتكلمين أو ما يسميه أحد المناطقة المغاربة المعاصرين-(طه عبد الرحمان)- بالمنطق الحجاجي، ووجد أيضا مبحث الخلافيات الفقهي"
وفي إطار هذا الخلاف الإسلامي يقول المؤلف أن الكتاب الإسلاميين أقروا الاختلاف حقيقة واقعة، عرفها الإسلام منذ العهد الأول، لكن كيف يمكن التوفيق بين الاختلاف ووحدة الأمة، أي بين الاختلاف والإجماع، وقد نقل علي أومليل عن ابن خلدون أن مبرر ظهور الاختلاف أمرين: الأول: اللغة والثاني: النص الثابت والواقع المتغير، وبذلك يكون الاختلاف طبيعيا بل ضروريا، ولذلك "ابتكروا -علماء الإسلام- آليات متعددة لتوسيع مجال التأويل، أي توسيع مجال سلطة النص، ذلك أن الهدف ظل دائما استتباع الوقائع مهما اختلفت وتجددت لنصوص أصلية ثابتة.سلطة النص فوق منطق الواقع، ومهمة الفقيه باستمرار، هي رد الوقائع اللامحدودة إلى نصوص محدودة" وقد اخترع علماء الإسلام لعملية الرد هذه منهجا سموه القياس.
وبعد هذا وليدخل المؤلف للمحور الثاني:(أسباب النزول، أو "تاريخ" فوق التاريخ) يمهد له بقوله:" للخطاب المقدس، أو للكلم وجهان: فهو من جهة نظام من القيم وتشريع ثابت، ومن جهة ثانية سجل لسيرة، سيرة النبي،...وهنا يطرح تساؤل: كيف يمكن لسيرة –وهي مجموعة أحداث وقعت في مجتمع- أن تعلوا فوق هذا المجتمع باعتبار قداستها؟ قد يبدوا من صيغة السؤال أنه سؤال حديث إلا أنه في الحقيقة سؤال قديم طرحه –على نحو ما- القدماء أنفسهم وذلك حين خاضوا في مبحث غريب سموه أسباب النزول...."
عالج المؤلف في بداية هذا المحور قضية تاريخية ونسبية النص القرآني المرتبطة بأسباب النزول، وانطلاقا مما قرره الأصوليون والمفسرون ومفكري علوم القرآن مثل الزركشي والواحدي والسيوطي، يجيب المؤلف عن سؤال تاريخ فوق التاريخ؟ أنهم يرون أن أسباب النزول(التاريخ) يستعان بها في التفسير لفهم الحكمة من التشريع، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن النص ليس خاصا بالحادثة التي نزل فيها أو السؤال الذي أجاب عنه(فوق التاريخ)، وقالوا بأن السؤال بشري، والجواب الوحي، ولا يمكن أن يحيط البشري بالوحي، لذلك جعلوا الأسباب موقوفة والأسئلة مقفلة.
وذكر علي أومليل في المحور الثالث:(...وأوقفوا باب الحق في الاختلاف) أن المفكرين القدامى أقروا بأن الاختلاف أمر طبيعي بل ضروري، وأنه وقع في الصدر الأول من تاريخ الإسلام، لكن المفارقة الواضحة أنهم جعلوا الحق مع جهة واحدة فقط، واستدل على ذلك بما نقله عن الشهرستاني، وابن قتيبة، وبذلك أو قفوا الحق في الاختلاف، كما أنهم اعتبروا الإجماع إنهاء للاختلاف، مع أن الإجماع إنما وقع داخل كل مذهب، فكل من حكا الإجماع إنما يتكلم عن الإجماع داخل مذهبه، وبذلك تتعدد الإجماعات بتعدد المذاهب.
لكن علي أومليل ذكر موقفا آخر لمفكري الإسلام الذين يقرون بالحق في الاختلاف، ومنهم الغزالي، والماوردي، فهو يقول بعد النقل عن الغزالي:" أن اختلاف الناس حول النص لا يعني بالضرورة أن الاختلاف كامن في النص نفسه، لو التزم القوم، على الأقل، بهذا التمييز لأقروا بأن الاختلاف بينهم أمر طبيعي، ولا اعتبر كل طرف أن اختلاف خصمه إنما هو اختلاف معه هو وليس اختلافا مع النص،..." ، يقول بعد النقل عن الماوردي:" وكأن الماوردي يعطي هنا مدلولا محايدا للاختلاف، وتلك خطوة هامة لو كان لها ما بعدها، ولو كانت النتائج الفكرية والعملية قد استخلصت من مثل هذه الآراء الجديدة حول الاختلاف وطبيعته"
ويضيف الكاتب في نفس سياق رفض الحق في الاختلاف تحت عنوان:"فقيه الطغيان" أن الاستبداد في الرأي الديني والسياسي، واعتقاد الحقيقة في جهة وأن غير هذه الجهة خارجة عن جماعة المسلمين، مصادرة للرأي والحق في الاختلاف، ويعطي مثال بالنعمان ابن محمد الشيعي، وينقل عنه في كتابه:" اختلاف أصول المذاهب" فهو حسب علي أومليل يأمر الناس بإبطال عقولهم وتعطيل إرادتهم فليس مطلوبا منهم سوى طاعة ولي الأمر....."
فهو يرجع سبب الاختلاف انتقال السلطة إلى غير ولي الأمر وهو سيدنا على رضي الله عنه، السلطة الدينية والعلمية، ويقول أن الدين قد اكتمل العلم به فلا اختلاف، ينبغي طاعة ولي الأمر الذي جمع العلم والحكة، وأن الاختلاف انتهى بالإجماع، و"الإجماع هو الخضوع المطلق لسلطان ولي الأمر، وما عدا ذلك من تعدد في الرأي وحق في الاجتهاد فهو خروج على الشرعية(العلمية والسياسية)، والقابلون أو الخاضعون لسلطان الإمام ولي الأمر هم الذين يستحقون عند القاضي إسم الجماعة الإسلامية، وسواهم خارجون على الشرع والشرعية..."
ويقول الكاتب رغم أن موقف القاضي قد أصبح في ذمة التاريخ، إلا أن أي جهة معينة ادعت أنها الجهة الناطقة باسم الدين، وأنها الوحيدة التي تملك الحل السياسي والاجتماعي...فإنها تعيد موقف النعمال للوجود، وتكرر تجربة الإقصاء ورفض المخالف...
وبعد أن تحدث المؤلف عن الاختلاف في المحاور الثلاثة السابقة عند مفكري الإسلام، أي صورة المخالف في المجتمع الإسلامي، وتحت سلطة الإسلام، أو في مجتمع أغلبيته مسلمة، وقرر أن منهم من أقر بالاختلاف والحق فيه ومنهم من رفضه، وذكر كذلك موقف متكلمي الإسلام الذين اعترفوا بشرعية الاختلاف بشروط، حيث ظهر عقد الذمة بشروطه التي وضعها الفقهاء، رغم أن التاريخ والممارسة العملية تدل على أن المعاهدين لم يكونوا ملزمين بهذه الشروط.
ويقول الكاتب أن دراسته لم تقتصر على الأديان التي اعترفت بها الشريعة الإسلامية، بل اعتنى بأولئك الذين لم يعترف بهم، لكنهم وجدوا في بعض البلاد الإسلامية في فترات من تاريخها، ووقعت بينهم وبين المسلمين حوارات ومناظرات حفظتها لنا كتب الجدل والمناظرة،... إلا أن هذه الصورة كانت في ظل إسلام منتصر.
انتقل المؤلف في المحور الرابع:(الموريسكيون، والفكر المحاصر) ليعالج صورة كون المسلم تحت سلطة الآخر، حيث سيجري جدل ديني، والاختلاف الديني يمثل جوهر الاختلاف في المجتمعات التقليدية كما يقول المؤلف، هذا الجدل يختلف عن صورة الجدل السابق، فجدل الموريسكيين جدل من موقع المغلوب على أمرهم، فهم أقلية حتى سماهم الونشريسي" المسلمين الذميين" أو"المساكين الذميين" وأفتاهم إما الجهاد أو الهجرة، وإن كان غيره قد أفتاهم بالتقية أي إظهار المسيحية.
وذكر المؤلف المعانات التي واجهت الموريسكيين الإسبان من طرف المسيحيين، والتي انتهت بإجلائهم من أرضهم وأوطانه، ويرى المؤلف أن وضعية الموريسكيين كانت وضعية جديدة، فبالرغم من رجوعهم إلى كتب مفكري الإسلام وتراثهم، لم يجدوا حسب المؤلف ما يساعدهم على التعامل مع المخالف الذي يريد إقصائهم واستئصالهم، لذلك:" كان على الموريسكيين أن يبتكروا وسائل للدفاع، لإنقاذ الذات الثقافية"
ومن هذه الوسائل الدفاعية التي ابتكروها: اختراع الأعجمية أي إسبانية مكتوبة بالعربية، ليضلوا مرتبطين بلغتهم، وليفهمها الموريسكيون فقط دون الإسبان، وقد كان الخلاف بينهم على من بمتلك الشرعية للتاريخ المقدس، ثم اختراع نصوص مسيحية وإنجيل قالوا عنه إنه هو الإنجيل الأصلي، ووضعوا على مستوى الذاكرة الخيالية ملاحم لأبطال الإسلام، لإعادة أمجاد المسلمين وأندلسهم المفقود، ويفسر الكاتب دوافع الموريسكيين إلى اللجوء إلى هذه الطرق من الادعاء والكذب:" ابتكار لدعم مخيلة الجماعة المضطهدة، ولحفظ ذاكرتها المتميزة، وللرد على الخصم من داخل مرجعيته الدينية نفسها، وللإدلاء بوثائق نافعة في النزاع حول ملكية ماض مقدس رموزه مشتركة إلى حد كبير..." فكان كل ذلك أمرا اضطراريا من أجل الحفاظ على الذات ومخزونها الثقافي....
فدخل الموريسكيون والإسبان معركة النصوص كما يقول علي أومليل، ومن النصوص التي اعتمدها الموريسكيون في محاجة المسيحيين "إنجيل برنبا" barnabe، تلميذ الحواري بولس، ويقول الكاتب أن:" من الباحثين من يرى أن هذا الإنجيل قد صنع في وسط موريسكي في القرن السادس عشر، في إسبانيا، وانتقل إلى البلدان التي هاجر إليها الموريسكيون، خاصة تونس وتركيا، بل إلى بلدان أوربية كإيطاليا، وهولندا وإنجلترا"
وأشاد الكاتب ببراعة الموريسكيين في إتقان نص هذا الإنجيل، كما أشاد بذلك مجموعة من الباحثين حسب الكاتب، وهذا يدل على معرفتهم بمخالفهم المسيحي فهم يجادلونه عن علم ومعرفة تامة.
ويذكر الكاتب أن الموريسكيين عايشوا تحولات عرفها العصر الحديث " فهناك الاكتشافات الجغرافية الكبرى والتوسع الأوربي التجاري ثم الاستعماري، وهناك غزو القارة الأمريكية ...وهناك التطور الكبير في صناعة السلاح والسفن ....وهناك انتشار المطبوعات الناتج عن اختراع المطبعة، ثم هناك ظهور الحركة البروتستانتية وانتصارها في بلدان غرب وشمال أوربا."
وحاول الكاتب البحث عن أصداء هذه التحولات من خلال أحد الكتاب الموريسكيين، وهو أحمد بن القاسم الحجري الملقب ب"أفوقاي"، وخلص علي أومليل من مذكرات هذا الكاتب الموريسكي أنه " ظل صامدا في الموقف الموريسكي المعهود: وهو عدم التسليم للآخر بالتفوق الديني، الحضاري، لقد جال في مدن أوربية، واتصل بالناس وحاورهم وناظر علماءهم،... ومع ذلك فهو في كل مقام يعلن تفوق دينه وحضارته، ويناظر خصومهم ليثبت لهم ذلك..."
وبخصوص مصير الموريسكيين ذكر الكاتب أن تأخر إسبانيا في تبني حرية الرأي والدخول في مسلسل التحديث، وتبني النزعة الكاثوليكية، وعدم الإيمان بحق غير الكاثوليكي، جعل الموريسكيين مرفوضين وتمت مصادرة حقهم في الاختلاف "فانتهت العملية- يقول الكاتب- إلى نفي –بالمعنى الفعلي للنفي- لكل عنصر غير كاثوليكي وغير إسباني" ، وهنا طرح الكاتب العديد من الأسئلة بخصوص وضعية الجاليات المغاربية في الدول الأوربية، ومقارنتها بالوضعية الموريسكية، وأبرز هذه الأسئلة: هل سيكون على هذه الجاليات أن تناضل من أجل الحفاظ على هويتها الثقافية وهي تمثل أقلية داخل المجتمع الأوربي؟؟؟....أم ستذوب في هذه المجتمعات حيث لم يعد ما يميزها عن غيرها سوى لون البشرة؟؟؟
وفي خلاصات البحث ذكر علي أومليل إلى أن سؤال الدراسة هو: هل يمكننا أن نجد في تراثنا سندا يدعم إرساء ثقافة الحق في الاختلاف، ومن خلال الإجابة على هذا السؤال خلص إلى مايلي:
أولا: جوهر الاختلاف عند القدماء هو الاختلاف الديني، وأنهم كانوا ينظرون إلى المخالف والاختلاف عموما من موقع القوي المنتصر، على خلاف ما عليه الأمر اليوم في العصر الحديث حيث تغير موقع العرب والمسلمين وأصبحوا طرفا مغلوبا يدخلون حوارات غير متكافئة، وكانت الواجهة الدينية الثقافية هي الواجهة التي أخذت الدور البارز في المواجهة مع أوربا والغرب.
ثانيا: ورثت الأمة عوائق ذاتية حالت دونها ودون الإيمان بالتعددية السياسية والحزبية، حيث أن كل فرقة كانت ترى نفسها أنها هي الوحيدة التي على حق(الفرقة الناجية) وغيرها على ظلال.
ثالثا: إمكانية الحوار تقتضي الإيمان بمشروعية الاختلاف والإيمان به كواقع واستعداد الأطراف للتخلي عن آرائهم إذا ظهر لهم الحق، وأن لا يكون أحد الأطراف يرى رأيه سلطة ورأي غيره مجرد رأي، فيكون بذلك آمرا وليس محاورا.
رابعا: القبول بالاختلاف والحق فيه أمر ذهني وعقلي، لا بد من تحرير العقل من الاستعداد لقبول الاستبداد، "ليتهيأ للتشبع بالمبادئ التي يتأسس عليها النظام الديمقراطي: مبادئ التعاقد، والمصلحة العامة، وفصل السلطات وتداولها، وسيادة القانون،...وكذلك القيم الضابطة لهذا النظام، مثل الحرية والتسامح، والكرامة الإنسانية..." وهذا ما قام به حسب الكاتب مجموعة من المفكرين من أمثال: جون لوك، وديفيد هيوم، وذلك بنقد النظام الاستبدادي بمراجعة مفهوم: "السيادة" و "المشروعية" و "مصدر السلطة" و "القانون".
خامسا: بالنظر إلى المؤلفات التي ألفت في العقائد والمذاهب من كتب "الملل" و"الفرق"، نجد أن هذه المجتمعات الإسلامية قد عرفت مالا يخطر على بال من المذاهب والمعتقدات، رغم وجود موقف مفكري الإسلام الإيديولوجي أن الحقيقة واحدة يمتلكها طرف واحد، الفرقة الناجية عند أهل السنة، و الحقيقة موقوفة على من يملك عصمة العلم والسلطة عند الشيعة. مما يدل أن الواقع الاجتماعي كان أوسع من الموقف الإيديولوجي.
مع أن هناك مواقف فذة لعلمائنا تدل على الإيمان بالحق في الاختلاف، ينبغي إعادة الاعتبار إليها وتزكيتها. كما أنه ينبغي التسليم أن هناك مبادئ وقيم جديدة لم يعرفها القدماء " مثلا مبدأ الحرية كقيمة فردية يترتب عليها نظام من العلاقات المدنية والاقتصادية، والسياسية....مفهوم حقوق الإنسان ... مفهوم "الحالة الطبيعية" و"القانون الطبيعي" و"إيديولوجيا الإنسان" "
سادسا: والدرس المستفاد من الماضي هو أن هناك مفارقة بين ما يكتبه المؤرخون، وبين ما يقرره العقائديون والفقهاء والمتكلمون، حيث أن محل الاختلاف هو الممارسة التاريخية، أما علماء الكلام فإن الحقيقة عندهم واحدة، وهكذا تم إلغاء مشروعية الاختلاف، فلم يحصل الالتقاء الجدلي بين التصورين العقدي والتاريخي، وسبب ذلك أن الكلاميين لم يفردوا مؤلفاتهم لذلك بل لبيان الحق في مقابل الضلال، لبيان أن الحقيقة يمتلكها الإسلاميون في مقابل الفرق الأخرى. لذلك يخلص علي أومليل بقوله:" الحقيقة واحدة تقوم عليها سلطة واحدة: هذا هو ما آل إلينا من هؤلاء العلماء فلا يمكن أن نستند إليه ونحن ندعوا إلى مشروعية التعدد، وتعاقدية النظام السياسي، وتداول السلطة والمصالح..."
وبذلك يكون الكاتب قد أجاب على الإشكال الذي طرحه كسؤال مركزي، وهو هل يمكن أن نجد ما يدعم ثقافة الحق في الاختلاف في تراث مفكرينا وعلمائنا القدماء؟؟ فكان الجواب أن ذلك غير موجود عند علماء امتلاك الحقيقة الواحدة، وبرر الكاتب هذا الموقف بأن تآليفهم جاءت لإقامة الدليل والحجة على امتلاك الإسلام للحقيقة دون غيره. أو امتلاك إحدى الفرق للحقيقة دون غيرها من الفرق الإسلامية. على عكس كتب التاريخ التي أقرت الاختلاف والحق فيه، حيث ثبت وجود فرق كثيرة ومتعددة في المجتمعات الإسلامية في فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي، رغم هذا الموقف الإيديولوجي.