التسامح يجسد أرقى علاقات الإنسان ببني جنسه
راشد البوصافي
إن الحديث عن التسامح في وقتٍ نبحث عنه في حياتنا المعاصرة له شجون يأخذ بمجامع ألباب العقلاء وفضول النبلاء وحكمة الحكماء؛ لأن للنفس فيه دعة وسعة ومراحاً ومستراحاً؛ لأن التسامح فطرة كل نفسٍ سوية باقية على الفطرة السليمة لم تنسلخ من جلدتها التي فطرها الله تعالى عليها .
فالإنسان مدني بطبعه اجتماعي بفطرته يألف ويؤلف، يحب السلام والوئام وينفر من القسوة والعنف؛ والله تعالى بيَّن الحكمة من خلق الناس شعوباً وقبائل متفرقة متباينة في طباعها وأجناسها ومبادئها وأفكارها كل ذلك من أجل التعارف والتآلف فقال سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) ، ثم بيَّن سبحانه وتعالى أن قضية التفاضل الكبرى بين هؤلاء الناس جميعاً لا تخضع لتميز عرقٍ على عرق آخر ولا شعب على شعب وإنما هي خاضعة لصفة التقوى فقال سبحانه وتعالى ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)؛ ومن هنا ينطلق الإنسان في قضية التسامح مع الناس، لأن التسامح من صفة المؤمن الحق فهو الذي يعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويحسن إلى من أساء إليه ويصفح ويسامح ويحلم عمن تجاهل في حقه، لأن الإنسان يشعر بأنه جزء لا يتجزأ من المنظومة الإنسانية الكبرى التي تنضوي تحتها جميع أصناف البشر على اختلافهم. وهذا الانتماء يشعر الإنسان بالارتباط المعنوي تجاه بني الإنسان كما يقول الشاعر:
إن كان أصلي من ترابٍ فكلها *** بلادي وكل الناس فيها أقاربي
وأضاف البوصافي:إذا كانت صفة التسامح التي تجسد أرقى علاقات الإنسان ببني جنسه وتوطد أواصر الترابط بينه وبين جميع الناس، فإن هذه الصفة تكون في الإنسان المسلم الذي أكرمه الله تعالى بدين الإسلام الحنيف في أقصى نشاطها الحيوي، لأن مع إنسانية هذا المسلم التي تدفعه إلى التسامح والتآلف ونبذ الظلم والقسوة عن الآخرين من نفسه، فهو يدين بدين حث على التسامح وأرشد الناس إليه حتى في أوج المواقف الصعبة عند محاورة الخصوم العتاة .
نعم أرشده إلى التسامح واللين عند الخطاب فقال سبحانه وتعالى ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، وقوله سبحانه وتعالى مبيناً النهج القويم في طرق التحاور مع أهل الكتاب لدعوتهم إلى دين الإسلام الحق فقال ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)، وهكذا في كثير من الآيات يصدر الخطاب والحوار بوصفهم بأنهم أهل الكتاب وفي ذلك من التذكير لهم وحسن الموعظة ما لا يخفى وذلك من باب اللطف في الخطاب وحسن التعامل في الحوار والدعوة بالحسنى، والله تعالى يأمر موسى وأخاه هارون عليهما الصلاة والسلام بأن يقولا لفرعون المتغطرس الجبار العنيد قولاً ليناً (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، والتسامح من أخلاق النبوة وكم من المواقف التي ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي عام الفتح عندما دانت له مكة وأهلها وصاروا في قبضت يمينه، وهم العتاة الذين أخرجوه وأبعدوه عن أحب البلاد إليه فما كان منه إلا أن قال لهم ” اذهبوا فأنتم الطلقاء “، وإذا كان هذا التوجيه الإسلامي من الكتاب والسنة لمن هم على غير ملة الإسلام بل من المحاربين والمعاندين لدعوة الإسلام فما بالكم ببني الإسلام وأهله فيما بينهم، فهم لعمري أولى بهذا التسامح والوئام والتآخي، فالمسلمون بكافة مدارسهم واختلاف مذاهبهم هم أجساد تنعم وتحيى بروح واحدة ألا وهي الإسلام الذي يربطهم وإن اختلفت الأحساب والأنساب كما يقول الشاعر:
أو يختلف نسب يؤلف بيننا *** دين أقمناه مقام الوالد
المصدر:
المصدر : www.taghribnews.ir