تهافت قراءة الصحويين للتيار الليبرالي
استكمالا لما بدأناه في الأسبوع الماضي من عرض لكتاب (الليبرالية في السعودية)، والذي لا يكشف إلا عن قراءة متهافتة، يقوم بها التيار الصحوي، أو بتعبير أدق تقوم بها فلوله؛ لمقاربة الحراك الليبرالي المحلي، نواصل عرض تناقضات هذا الكتاب الهزيل معرفيا حد التفاهة، وربما حد الاستفزاز في غباوته أو استغبائه. إنه كتاب متهافت متناقض، لا يزيد على كونه سلسلة من الإعلانات الموجهة، أو المنشورات الهجائية؛ مع كل ما حظي به من تضخم شكلاني يوحي خداعا بالعلمية، فينخدع به أولئك الذين تتحدد العلمية لديهم بعدد الصفحات، وبشكلانية الرسوم والبيانات التي تُوهم بالموضوعية والحياد.
لقدر رأينا في المقال السابق كيف كان إصرارهم على تأكيد الموضوعية والحياد، ابتداء من صياغة العنوان، وانتهاء بكل العبارات التي تؤكد المنهجية والعلمية و.. إلخ. ورأينا في الوقت نفسه التصنيفات الإيديولوجية، والاستعداء والتهم الدينية، وغيرها كثير. فاللغة الهجائية المتهيّجة التي اعتمدها المؤلفون في مقاربتهم للتيار الليبرالي في السعودية جعلتهم يتخبطون ويتناقضون، لا مع الحقائق الواقعية فحسب، بل حتى مع أنفسهم، وكأنهم يقولون ما لا يدركون أبعاده. وقد بلغ بهم الأمر أن أدخلوا كل ما يستطيعون توظيفه في هذا السياق الهجائي؛ ما دام أن فيه ما يرسم صورة قاتمة للتيار الليبرالي، حتى قضية فلسطين، من حيث هي قضية مركزية في الوجدان العربي المعاصر، جعلوها جزءا من المؤثرات الخارجية الداعمة للتيار الليبرالي؛ حتى يكره المتلقي الليبرالية كما يكره إسرائيل.
في ص 169 وما بعدها نجد الربط الأبله بين تصاعد نفوذ إسرائيل وتنامي النفوذ الليبرالي، بل ربط رواج الفكرة الليبرالية في العالم الإسلامي بالانتصارات الأمريكية على طالبان وعلى صدام، وكل ذلك من أجل إعطاء انطباع بأن الليبرالية مشروع أمريكي صهيوني. ولا يخفى طابع الاستغباء الرخيص في هذه المحاولة التي تريد توظيف مكانة فلسطين كقضية مركزية في قلوب الجماهير، من أجل معركتهم الإيديولوجية مع الليبراليين، وكأنهم بهذا يضعون الجماهيري البسيط بين خيارين: إن أراد أن يكون ليبراليا فلا بد بالضرورة أن يكون أمريكيا، بل وإسرائيليا، وإلا لن تكون!
هؤلاء المؤلفون الدعائيون يُلحّون على ربط التيار الليبرالي بالغرب، وبأمريكا تحديدا، لا على سبيل التأثر الفكري، ولا حتى على سبيل الاستلهام الحضاري فحسب، بل على سبيل العمالة المباشرة أيضا. وهذا جزء من أهداف الدراسة كما يُصرّحون. ففي ص19، يقولون وذلك في عرضهم لأهداف الدراسة : "تقديم خارطة متكاملة للشخصيات الليبرالية السعودية، وخصوصا تلك المدعومة بأجندة غربية". وفي عبارة أكثر صراحة، عبارة تنضح بالتكفير، يقولون عن الحراك الفكري الليبرالي الذي يصفونه ب (التغريب) ص290: "ويقوم بهذا التغريب في الغالب عرب مهووسون بلمعان الأفكار الغربية دون النظر إلى حقيقتها، وهم يروجون للغرب وثقافتهم محاربين الإسلام والعروبة". والجملة الأخيرة تكشف درجة الانغلاقية؛ بقدر ما تكشف الانتماء الإيديولوجي، فهم قد أقاموا تقابلا ضديا حتميا بين ثقافة الغرب من جهة، وبين الإسلام والعروبة من جهة أخرى، ثم وضعوا النتيجة النهائية في زعمهم وهي أن من يُروّج للفكر الغربي فهو بالضرورة يحارب الإسلام والعروبة (مَن يحارب الإسلام: كافر)، في تجاهل أو جهل لإشكاليات كثيرة، لعل أهمها: إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام، خاصة الإسلام كما تُنتجه إيديولوجيا الإسلام السياسي الذي ينتمي إليه مؤلفو هذا الكتاب.
وتهمة العلاقة بالغرب تهمة يرفعونها إلى درجة العمالة المباشرة الصريحة. وهي تهمة تتكرر بنمطية كما تتكرر عند دراويش الوعظ الصحوي، بل وبنفس العبارات التي طالما كرروها في برامجهم الفضائية المتطرفة، التي كثيرا ما تكشف عن غباء أصولي أصيل. يقولون ص 230 مُردّدين تهم شيوخ الوعظ الصحوي : "ولم يعد خافيا على أحد العلاقات المتشابكة بين رموز التيار الليبرالي في السعودية والغرب، سواء من خلال البعثات والزيارات الخارجية، أو عن طريق السفارات الأجنبية في المملكة". وأيضا في ص 15: "يجد هذا التيار الكثير من الدعم والتأييد من جانب الدوائر الرسمية، والإعلامية الغربية، ويُفهم من ذلك مدى التقارب الأمريكي والأوربي الرفيع المستوى مع الليبراليين في المملكة وفي عالمنا العربي والإسلامي عموما". والغريب أن مثل هذه الاتهامات تتكرر دون دليل، فلم يستطيعوا أن يثبتوا تهمة واحدة على أي ليبرالي. أقصد تهمة محددة، لا تفسير لها إلا العمالة، وإلا لو كانت البعثات أو الزيارات تهمة، فسيكون ثلاثة أرباع الشعب متهما. إنهم ينصون على أن هناك علاقة (رسمية)، ومعنى كونها (رسمية) أنهم يمتلكون وثائق تؤكدها، سواء كانت وثائق معلنة أو سرية، إذ التفاهمات ذات الطابع المؤسساتي لا بد وأن تكون موثقة بالضرورة. أما إن كانت العلاقات مؤسساتية، ولكن سرية جدا، بحيث لم يطلع أحد عليها، ومن ثم، لا يمتلكون دليلا عليها، فكيف عرفوا بها؟!
هؤلاء ومن أجل خلق التهم ولو من فراغ يضعون ما ليس تهمة في سياق التهمة، فيقولون ص 216: "أصبح منتدى جدة الاقتصادي منبرا للفكر الرأسمالي، الذي يرى الحرية التامة والإباحية المطلقة لرأس المال". ولا شك أن التعبير ب (إباحية رأس المال) يعكس عشوائية التفكير، إذ أصبح رأس المال يمارس (إباحية!). طبعا، هم ربما يقصدون حرية رأس المال؛ ولكن تشابك المسائل في التفكير الغوغائي العشوائي، والتحفز اللاواعي لتشويه كل ما له صلة بالليبرالية ولو من بعيد، يجعلهم ينقلون الإباحية من سياق الأخلاقية الجنسانية إلى سياق الاقتصاد، لا لشيء؛ إلا لتبشيع كل صور النشاط المحسوبة لو بالتجاوز على الخصم الليبرالي. ومن المستفز أنهم مع كل هذا الخلط والاعتساف الناتج عن الجهل أو عن التجاهل، ومع كل هذه العبثية البحثية التي تلقي أكبر التهم دون أي دليل، يزعمون مرارا وتكرارا وبإلحاح مرضي أنهم موضوعيون محايدون منهجيون؟!
إنهم، ومنذ الصفحات الأولى لكتابهم الدعوي المتهافت، يُلحّون بأساليب شتى على ربط الليبرالية بالغرب، لا عن طريق الكشف عن هويتها الثقافية، بل عن طريق تلبيسها تهمة العمالة السياسية. يؤكدون على هذا الجانب؛ لأنهم يدركون أن الاستعمار الغربي لا يزال في الذهنية الجماهيرية يُعبّر عن أعلى درجات انتهاك الغرب للذات. لهذا فهم يربطون ربطا مباشرا بين ظهور الليبرالية وبين الاستعمار. يقولون ص 13: "ويمكن اعتبار النقطة الزمنية الأولى أو الأساسية لظهور هذا التيار في البلدان العربية والإسلامية هي فترة الاستعمار الغربي مباشرة". ثم ذكروا المدارس الأجنبية والبعثات. وهكذا، يصبح القبول بالليبرالية قبولا بالاستعمار، فإن كنت ترفض الاستعمار (ورفضه يكاد يكون محل إجماع الذهنية الجماهيرية، سواء عروبية كانت أو إسلامية) فلا بد أن ترفض الليبرالية، إذ هما في هذا التصور التجهيلي شيء واحد، إما أن تقبل بهما جميعا، أو ترفضهما جميعا، ولا خيار.
إن هذا الكتاب وهو يسوق هذه الاتهامات التي تصل حد الخيانة العظمى، يفتقد لأدنى مقومات البحث العلمي. فالتهم يتم طرحها لا على سبيل الاحتمال، وإنما على سبيل التأكيد والجزم. والسقوط البحثي هنا يأتي من كونه جزما بلا دليل. إنهم يقولون، وبأعلى درجات الجزم، ص 88: "لا أحد من متابعي الشراكة بين الليبراليين العرب وبين الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة، ينفي وجود تنسيق سري وعلني بين الليبراليين العرب والمشروع الأمريكي في المنطقة، فحتى العديد من الليبراليين لا يرون بأسا في تلقي الدعم الأمريكي بكل أشكاله، ويرون ذلك ضرورة من ضرورات الإصلاح السياسي وبث الديمقراطية". وبعد أن يصدروا هذه التهم الكبيرة، وبهذا الجزم واليقين وادعاء الإجماع (إلى درجة: "لا أحد ينفي"!)، لا يقدمون أي دليل على هذه التهم، فعلى الرغم من حاجة هذا المقطع الخطير إلى إحالات، لا توجد أي إحالة من أي نوع. وعندما يُحيلون بعد ذلك في الهوامش، نجدهم يُحيلون لا إلى أدلة ثبوتية موثقة، بل إلى مقال هجائي ركيك كتبه أحد أعداء الليبرالية في موقع إلكتروني مشهور بالتطرف! انظر ص 89/90 وهوامشهما.
في ص 213 وضعوا عنوانا فرعيا (= مرتبطون بالغرب) وكأنهم يقررون حقيقة واقعية لا تقبل الشك. ولأنهم يُقررون حقيقة لا تقبل النقاش نجدهم يقولون تحت هذا العنوان: ولا يُخفي الليبراليون علاقتهم القوية مع أعضاء السفارات الأجنبية في المملكة". وهنا والحق يُقال يأتون ب (دليل!). دليلهم أن الكاتب جمال خاشقجي قال عن سفير أمريكي قديم، وذلك في مقال في (الوطن): "ويُعد من الأصدقاء". فبهذه العبارة ثبتت لديهم التهمة؟!
هذا تفكير أقل ما يوصف به أنه: طفولي، وإلا فهو عبارة عن حماقة أو استحماق، إذ من المعلوم في أبجديات التعامل الدبلوماسي أن من مهام السفير في أي بلد، بل ربما هي أهم مهامه، أن يتواصل مع البلد الذي يمارس فيه عمله الدبلوماسي، فيتواصل مع المؤسسات المدنية كما يتواصل مع المؤسسات الحكومية، ومع النشطاء الثقافيين ومع الإعلام، كما يتواصل مع المسؤولين الرسميين. إن الدبلوماسية تعني في أبجدياتها فن إدارة العلاقات مع الآخر على أفضل وجه، ومنه تكوين صداقات. ولو كانت العلاقة بين السفراء وبين أبناء البلد المضيف تعني بالضرورة العمالة؛ لانطبق هذا على سفرائنا الذين يتواصلون من مواقعهم في الغرب مع كل المؤثرين العموميين، فهل المواطنون الغربيون من مثقفين وإعلاميين ومسؤولين حكوميين، أولئك الذين يتعاملون مع سفاراتنا في الخارج، ونحرص على التواصل معهم، عملاء لنا، وهل يجوز أن يتم تصنيفهم في مجتمعاتهم كعملاء لمجرد أنهم تحدثوا مع سفرائنا، واستعرضوا وجهات النظر في بعض المسائل العامة، هل الحوار مع الآخر عمالة؟!
مؤلفو هذا الكتاب إما أنهم يجهلون هذه الأبجديات الدبلوماسية، ولديهم قصور ذهني يمنعهم من مقارنتها بالسلوكيات المماثلة لسفارات العرب والمسلمين في الدول الأخرى، وإما أنهم يعرفون ذلك جيدا؛ ولكن يسوقون هذا لمجرد تسويق الاتهام بالعمالة في أوساط الجماهير الغوغائية التي تتلقف ما يلقيه إليها هؤلاء المُدلّسون دون تفكير، فتترسخ التهم في الأذهان الفارغة؛ مهما كانت بعيدة عن منطق البحث وغريبة عن منطق الواقع، خاصة عندما ينطق بها (كتاب علمي رصين!).
لا يكف هؤلاء المتبجحون بالموضوعية عن ترديد مثل هذه الاتهامات التي تجعل العلاقة الحوارية بالغرب نوعا من العمالة، محاولين إثبات ما لم يثبت؛ بمجرد تكراره بأساليب شتى ، وكأن تكرار الشيء يقوم مقام الدليل. فهم يعيدون تكرار التهمة، كما في ص 106: حيث يجزمون بأن "الليبرالية كما يبدو من غير قليل من أدبياتها ساهمت في خلق ولاءات فوق وطنية للغرب وللفكر الغربي، وهو ما قاد بعض القوى والرموز إلى الاستقواء بالأجنبي". ومرة أخرى، مع كل هذا التأكيد وكل هذا الجزم؛ لم يستطيعوا أن يثبتوا بالأدلة المادية/ القولية/ الكتابية تهمة الولاء للأجنبي على أي رمز ليبرالي، بينما يوجد من رموز الإسلاموية المعاصرة والمحلية تحديدا مَن قال صراحة في إحدى فتاويه: طالبان هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تطبق الإسلام، ونادى بضرورة الجهاد مع طالبان، فمن هو العميل الخائن صراحة؟
وتتصاعد نبرة الاتهام المجاني بالعمالة التي يصدرها هذا الكتاب (الموضوعي!) إلى أن يصلوا حد القول: "نستطيع القول إن الليبراليين هم الذراع الثقافي والإعلامي، وأحيانا السياسي لواشنطن في منطقتنا العربية". ومفكرو هذا الكتاب يؤكدون هذه العلاقة بوجود دعم أمريكي للتيار الليبرالي من أجل نشر الأعمال الفكرية التي تقرأ الإسلام قراءة حديثة/ غير سلفية، وهذا يتمثل في أن أهم بنود المخطط الأمريكي كما يزعمون ص 95 "نشر أعمالهم (= الليبراليين) في شرح الإسلام وطرحه وتوزيعها بتكلفة مدعومة". وهم يلقون بهذه التهمة غير مبالين بأنها تهمة كاذبة يمكن دحضها بشواهد عينية من الواقع. فالواقع يحكي أن الكتب التي تصدر عن مثقفين ليبراليين، والتي تحاول إنتاج قراءة حديثة للإسلام، تُباع بأغلى الأثمان، ولا يروج منها إلا القليل، بل النادر، ولا توجد منافذ معتمدة لبيعها إلا على أضيق نطاق. بينما تُباع الكتب الصحوية وما شابهها بأقل من أسعار التكلفة أحيانا، وتطرح في كل منافذ البيع، وتدعمها بكل الصور المشبوهة اقتصاديات الجمعيات الخيرية؛ حتى إنها لتوزع بالمجان في بعض الأحيان، بل وكثيرا ما تُجرى عليها المسابقات تلو المسابقات...إلخ الدعم متعدد الأبعاد والمصادر؛ مما لا تظفر الليبرالية ب 1% منه. وهذا يعني أن الفعاليات الثقافية الليبرالية، بما فيها المؤلفات الليبرالية، غير مدعومة ماديا، بل هي تسير بقوة الدفع الذاتي، كما أنها ليست مدعومة نظاميا بالفسح لها، فبعضها لا يزال الرقيب في معظم البدان العربية يغتالها بمجرد أن تقع عينه عليها، فأين الدعم المزعوم؟
قد يقول قائل: ما دام هذا هو واقع الحال، فلماذا يُجازف هؤلاء (الباحثون!!!) بإلقاء كل هذه التهم العبثية التي لا يستطيعون حتى ضبطها في سياق واحد متسق منطقيا؟ لماذا يتحملون أعباء الحرب على تيار فكري منافس، وبهذه الحدة، بل وبكل هذه الخروقات المعرفية والأخلاقية؟ هل الليبرالية خطر عليهم إلى هذه الدرجة؟ وإذا كانت خطرا فأين تكمن خطورتها؟
من الواضح أن التيار الإسلاموي لا يدرك خطورة الليبرالية عليه إلا من زاوية واحدة، هي زاوية نقض المشروع الليبرالي لمشروع الإسلام السياسي المتمثل محليا في خطاب الصحوة الغفوي. إنها حرب سياسية كما يتصورها الصحوي الغفوي. ليس هذا هو مضمون خطابه، بل هذا هو منطوق خطابه، مع أنه لا يحاول التصريح به إلا في عثرات الخطاب. فالخطاب الصحوي يصنع للواقع إيديولوجيا شمولية، لا بد أن تتصادم بالضرورة مع أي مشروع آخر يأخذ على عاتقه النهوض بالأمة، خاصة وأنهم يرون أنفسهم أصحاب المشروع الوحيد الذي يمتلك شرعية الوجود والفاعلية، باعتباره (= مشروعهم الصحوي) المشروع الوحيد المعبر عن حقيقة الإسلام المطلقة التي يُراد لها أن تستوعب كل التفاصيل: تفاصيل الواقع وتفاصيل الفكر. وهذا ما صرّح به مؤلفو هذا الكتاب، فهم بعد أن استعرضوا الليبرالية بصورة مشوّهة، قالوا عنها، ص 106: "وهي بذلك تتصادم مع رؤية تيارات الصحوة الإسلامية المختلفة في منطقتنا العربية التي ترى أن الدين الإسلامي دين شامل وعادل ولا يمكن اختزاله في العبادات؛ لكنه منظومة سماوية صالحة لكل العصور وهو دين ودولة معا". وهنا نلاحظ أن الصحوة التي لا تعدو أن تكون مشروعا سياسيا قد أصبحت هي الإسلام ذاته، بحيث يصبح من يتجرأ على معارضتها مغامرا بأن يجد نفسه في المواجهة مع الإسلام ذاته، ليس في جانبه الديني الخالص فحسب، بل حتى في جانبه المُديّن، أي في التمظهر السياسي. وكأنهم يقولون لك: لا يجوز لك أن تعارضنا سياسيا؛ لأنك حينئذٍ تعارضنا دينيا، وإن عارضتنا دينيا عارضت الدين ذاته. وهنا تصبح المعارضة السياسية كفرا بواحا.
هذا ما تشير إليه العبارة الأخيرة من المقطع المنقول نصا، وهي التي تؤكد أن الإسلام كما هو دين، هو في الوقت نفسه، وبالدرجة نفسها دولة. وهنا أصبحت الفعاليات السياسية الصحوية ليست مجرد فعاليات قابلة للأخذ والرد والقبول والاعتراض، وإنما هي جزء من الإسلام، إنها تجسيد لحضور الإسلام، ومن يعترض عليها فهو لا يعترض على سياسات دولة، وإنما يعترض على الإسلام ذاته. ومن ثم فهو كافر. والليبرالية التي يتخذ الليبرالي من خلالها هذه المواقف المناهضة كفر بواح، ومواجهتها ضرورة دينية، وليست ضرورة فكرية؛ إلا في لوازم الإخراج المسرحي للنزاع/ التصادم الذي هو في جوهره كما يزعمون تصادم بين الكفر والإسلام.
هنا وبكل وضوح تنتفي أكذوبة الموضوعية والحياد والمنهجية والرصد والتحليل؛ لأن النتيجة محددة سلفا بمقتضى الإيمان، لا بمقتضى البحث العلمي. وهم لا يستطيعون أن يكونوا منهجيين موضوعيين حتى لو أرادوا. ولو أنهم تجرأوا على الحياد حقيقة؛ لكانوا بمقتضى فهمهم الخاص للإسلام من جهة، ولليبرالية من جهة أخرى كفارا. ولهذا فهم يهربون من الحيادية التي يدعونها كما يهربون من الكفر، ويمارسون التحيز والتشويه والتشنيع على الفكر الليبرالي بوصفهم يمارسون واجبهم الإيماني الخالص.