جدل التراث والحداثة.. قطيعة أم تجديد!
في ظل التحولات التي طرأت على المشهد الإنساني برمته، فان الثقافة الجديدة جاءت لتلغي بعدي الزمان والمكان، بدليل ان ثقافة الانترنت وثقافة الصورة الفضائية اصبحتا اللاعب الحقيقي في الساحة حيث انه لم يعد ممكنا التحايل على عقل المتلقي في وقت أفسح الإعلام الجديد بأدواته حيزا لكل إنسان، فلم يقتصر دوره في توفير المعلومة، بل نتج عنه تواصل فكري وتأثير ثقافي، عبر أسلوب المثاقفة أي بمعنى التأثير والتأثر، ناهيك عن الوعي السياسي وهنا تكمن حقيقة التغيير.
على أن البعض يرى أن حال الثقافة العربية الراهن لا يسر من كونها مغرمة بالعودة الى الماضي والحنين اليه أكثر من التطلع للمستقبل، حتى أن أحدهم وصفها بالثقافة الميتة مستندا إلى إحصاءات ومقارنات، في حين ان الثقافة الحية عادة ما تشغل نفسها بالغد أكثر من الماضي.
ولكي نمضي الى المزيد من الشفافية لنقول إن ما يجعل من التحولات الثقافية والاجتماعية أمرا ليس باليسير هو علاقتها بمرور الزمن، ولذلك تجد في كل مجتمع هناك فئة فاعلة ومنفتحة قادرة على الحركة والاشتغال والإنجاز، وفئة أخرى معطلة للعقل والتنمية ومناهضة للتغيير والتطوير، وبالتالي يرتهن تقدم المجتمع بأيهما الأكثر
وتكرار جدلية الصراع ما بين التراث والحداثة لم يعد مجديا فالقبول أو الرفض لا يمثلان هنا لب القضية، بقدر ما يعني ضرورة فهم معطيات الواقع واستيعابها والمواءمة معها كما هي كائنة
حضورا وتأثيرا على الساحة. ولذا تجد من يقحم هذا الحراك ضمن مفهوم الصراع ما بين القديم والجديد او لتقل التمسك بالتراث بعجره وبجره والخشية من التحديث او التغريب وفق مفاهيمهم. ولذلك لا نستغرب سبب تركيز غالبية الإصدارات العربية الجديدة بالماضي أكثر من المستقبل، ووقوعها في فخ الثنائيات الجدلية، رغم أن العصر في تسارع وتفاعل ما يستدعي وقفة جادة بالنظر إلى الأمام، وليس الركون إلى الماضي فقط رغم أهميته، فالمراد يكمن في تجديد الموروث بما يضمن له التزاوج مع لغة العصر.
هناك من يرى ان تغلغل العولمة وفرض نفسها كتيار وحيد ومسيطر في اغلب المجالات، أدى ربما إلى حدوث ردة فعل تجاهها تمثل في تلك الكمية من المؤلفات التي تشي أن مؤلفيها أحسوا بطغيان العولمة ولا سبيل لكبحها أو مواجهتها سوى الاستغراق في ذلك الحلم النستالوجي أي العودة إلى الماضي والارتباط به، والكتابة عنه. والحقيقة وبعيداً عن الحماسة الأيديولوجية، أو العاطفة، نلمس أن العولمة لمن يتأمل تداعياتها وإفرازاتها، يلمس بوضوح قدرتها على تهشيم المسلّمات واليقينيات، وإضعافها لتسلط التقليدي والمعتاد. وهذا لا يعني أنها تخلو من سلبيات، إلا أنها أسهمت في تجسير الفجوة.
وفي ظل هذا التردي والتراجع لابد وان تستدعي الذاكرة نتاجات مفكرين وضعوا بصمة في مسار المشاريع النهضوية من اجل دفع المواطن العربي الى الامام وطرحوا مسألة الاصالة والمعاصرة. او التراث والحداثة..الخ. ففي النصف الثاني من القرن العشرين، جاء اسم الراحل الدكتور محمد عابد الجابري ليبرز بمشروع ضخم متصل بنقد وتكوين وبنية العقل العربي مستندا على المنهج المعرفي، وقد أثارت طروحاته ولا زالت جدلا واسعا، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع الجابري، يبقى مشروعه الفكري من أهم المشاريع الفكرية في القرن الماضي.
كان يرى أن العقل العربي ما هو إلا " جملة من المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم، بهذه الدرجة أو تلك من القوة والصرامة، رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء وطريقة تعامله معها في مجال اكتساب المعرفة، ومجال إنتاجها، وإعادة إنتاجها". وصارت الثقافة العربية عبر هذا المفهوم لديه بمثابة "العقل العربي" ، محددا أن بنيته تتفكك إلى ثلاثة عناصر معرفية ، البيان والعرفان والبرهان. غير أن الجابري نزع في مشروعه إلى قطعية معرفية مع الخطاب التقليدي اللاعقلاني، من اجل أن يؤدي إلى تأسيس فكر عربي معاصر عقلاني ديمقراطي بشرط أن ينطلق كما يرى من داخل العقل العربي بكل مكوناته من سياسية واجتماعية وتاريخية. ولذلك عندما طرح قضية القطيعة المعرفية بين المشرق والمغرب، فإنما كان يسعى لطرح تصور لمشروع نهضوي ديمقراطي. بعبارة أخرى كان هاجسه المستقبل لا الماضي.
ومع ذلك اتهم الجابري بانحيازه المطلق لفكر الحداثة كونه ينتقد التراث، إلا أن هذه التهمة في تقديري غير دقيقة لأن موقفه من الحداثة هو موقف نقدي وتاريخي وعقلاني، بدليل انه يطالب بقراءة التراث قراءة نقدية على ضوء المناهج الحديثة، وعقلنة الأخلاق والعقيدة ناهيك عن السياسة التي رأى أن نهوضها لن يتحقق إلا بتحويل القبيلة إلى تنظيمات مدنية، والغنيمة إلى اقتصاد إنتاجي. وهو يؤكد أن الفعل السلطوي أدى إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وبنقد هذا الفعل يمكن حينها ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان وثقافة الحوار ونشر الحريات في عالمنا العربي.
صفوة القول ان العالم بات قرية صغيرة، وبالتالي فالاستغراق في النستالوجيا والتمسك بالماضي وتجاهل الحاضر ناهيك عن رفض التهيؤ للمستقبل ما هو إلا تفسير آخر للهروب من الواقع وانغلاق على الذات. وتكرار جدلية الصراع ما بين التراث والحداثة لم يعد مجديا فالقبول أو الرفض لا يمثلان هنا لب القضية، بقدر ما يعني ضرورة فهم معطيات الواقع واستيعابها والمواءمة معها كما هي كائنة وليس كما يجب ان تكون وبالتالي التعامل معها دون انفعال أو تشنج لتحقيق الاستفادة منها ان أردنا فعلا ذلك.