ترى ما هي القضية القادمة؟
أثناء تبادل الحديث قال زميلي المتخصص في الشؤون السياسية: الله يخلي لنا القضية الفلسطينية. إذا لم يوجد ما نكتب عنه فالقضية الفلسطينية جاهزة تنتظرنا للكتابة عنها. كان هذا الكلام في أواخر السبعينات الميلادية. راحت الأيام وتوالت الأحداث. أصبحت القضية الفلسطينية باردة لا تنتج مفاجآت فوضعت على الرف وحلت محلها قضايا كثيرة مثل الحرب الأهلية اللبنانية والعراقية الإيرانية واحتلال الكويت والربيع العربي وأخيراً القضية السورية. لم ألتق صديقي المحلل السياسي منذ زمن بعيد ولكني على ثقة أنه يشكر بشار وداعش والنصرة وبقية الأطراف على تزويده يومياً بما يحلل به راتبه ويبقيه لامعاً على صفحات الجريدة.
مكثت حتى الآن في كندا أربع سنوات. أتابع الجرائد الشعبية (المجانية) والمحلية والقومية. أقرأ الأحداث التي تلم بكندا وأطل منها على الأحداث الدولية من وجهة نظر كندية. كل القضايا الكندية الساخنة محلية وتنتهي بحلول نهائية وكل القضايا الكندية الدولية تحسم ومعظمها تنتهي لمصلحة كندا. أما القضايا الدولية الأخرى ومن بينها قضايانا فالقارئ الكندي يقرأها كأنما يتفرج على أفلام سينمائية. مرة يراها أكشن ومرة يراها دراما وأخرى يراها تراجيديا إلخ.. أجلس مع كنديين في مقهى ودائما يسألونني عن الأحداث ويطلبون مني تفسيراً لها. في البداية شعرت بالزهو بوصفي مثقف الجلسة. العارف ببواطن الأمور، ولكني اكتشفت أن الأمر عكس ذلك. شعرت أني جزء من عالم يكاد يوصف بالتوحش. معرفتي التي أقدمها لهم ليست ثقافية أو علمية. ليست سوى مأساة تنتج مأساة. عندما أراجع محاضراتي عليهم لا أتذكر اني كنت أفسر الأحداث وإنما أحلل وأفسر التوحش والكراهية والأحقاد والطفولة في النظر إلى العالم. أمكث وقتاً طويلاً أفسر لهم كيف يجرؤ إنسان على حز رقبة إنسان آخر ويجد من يؤيده أو على الأقل يجد من لا يدينه. كيف يحدث هذا في القرن الواحد والعشرين.
عندما نتحدث نحن أبناء الأحداث ومن قلب الأحداث لا نشعر بثقل المسؤولية الأخلاقية. لأن الجزء الأعظم من المأساة نخفيه لا نريد أن نسأل عنه كوننا نعاني منه بشكل مباشر، نتهرب من ذكره كما نتهرب من ذكر كلمة سرطان عند التحدث مع شخص مصاب به. أصبحت المأساة تولد المأساة وتولد المصالح أيضاً فهذا الكاتب يستفيد منها وهذا السياسي يستفيد منها وهذا التاجر يستفيد منها كموظفي المستشفيات والمقابر. هذه الاستفادات جعلت كل الأحداث تستعصي على الحل. تلاحظون أنه منذ استقلال الدول العربية عن تركيا وعن الاستعمار الغربي لم تحل قضية واحدة من القضايا التي مرت على العرب. إذا اندلعت قضية تعلق سابقتها فقط. القضية الفلسطينية القضية اليمنية القضية اللبنانية القضية المغربية (الصحراء) القضية العراقية القضية الصومالية. أي قضية تشتعل تصبح قضية دائمة. أما المأساة الكبرى فتتلخص في أن موقفنا لا يصمد طويلاً حيالها، يتغير وينقلب أحياناً إلى الضد. خذ صدام حسين مثالاً. كان أعز الأصدقاء ثم أصبح ألد الأعداء ثم عاد بعد شنقه بطلاً للعروبة. القضية السورية مرشحة أن تبقى سنوات المزود الأكبر لإنتاج الكلام والشتائم واللعنات والتوحش إذا كنا نتعلم من التاريخ فيجب ألا نسأل كيف ستحل القضية السورية ولكن أن نسأل ما هي وأين ستكون القضية القادمة التي سوف تجعلنا نهمل القضية السورية ونلتفت لها.
فجع الكنديين عندما أعلنت حكومتهم مقتل كندي جهادي في سورية. نقل ذلك الشاب المعتوه الشعب الكندي من شرفة المسرح ومقاعد المتفرجين إلى خشبته.