الداعية
أعتقد أن كلمة داعية هي مرادفة لكلمة مبشر (missionary) المسيحية، كونه يقوم بنفس مهام المبشر.
فإن كان المبشر ظهر مرادفا للفتوحات الجغرافية التي قامت بها أوروبا منذ القرن الرابع عشر، عند احتكاكها بسكان مستعمراتها أو من اسموهم (وثنيين وبرابرة) وبحاجة إلى تعميدهم بالكنيسة، فإن ذلك التبشير كان يضمر إرادة تسعى إلى إدخالهم في دين الغازي المنتصر لفرض السيادة والسلطة على تلك البلدان.
بينما نجد أن مهمة الداعية تحمل نفس الأدوار ولكنها ارتبطت بالتجارة والتجار العرب الذين كانوا يديرون علاقات تجارية نشطة مع آسيا وأفريقيا.
وكانت مهمة الداعية على الغالب موجهة إلى الآخر صاحب الديانة المختلفة، لاستمالته ومواجهة المد التبشيري في العالم.
لكن في منتصف القرن العشرين ومع بروز تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي اختلفت الأمور نوعا، وأصبح الداعية نجما إعلاميا يعيش بيننا وخطابه موجه إلى الداخل.
وعند هذه المرحلة اختلف الوضع تماما وأصبح للداعية مهام أُخر، فإذا كانت مهمة المبشر كما أسلفت هي دعوة الآخر المختلف للدخول في ديانته كنوع من فرض السلطة والهيمنة والاستحواذ على الاتباع، فإن داعية الداخل من ناحية أخرى كان له مهمة مركبة، فهو من ناحية كان يدعو في محيط إسلامي بشكل متكامل هوية وشعبا وممارسة، ولكنه كان يجعل من الدعوة واجهة له لتمرير أجندته السياسية، كان يريد أن يحدث حالة انقطاع مع ما هو قائم، وينشئ واقعا جديدا يكون فيه هو النجم والمرجعية يقلب الأمور بين أصبعيه.. ويعود له الحل والربط دوناً عن بقية سلطات الدولة.
ومن هناك بزغ مسمى الداعية في فضائنا اللغوي، الذي هو على الغالب طارئء على إرثنا الديني فنعرف أن هناك الشيخ والإمام والفقيه والواعظ، وجميع مراتب الأكليروس الإسلامي.. ولم نسمع بالداعية.
وبعدما كانت المجتمعات العربية والإسلامية تمارس طقوسها الروحية بشكل فطري وتلقائي، لاسيما أن الإسلام بطبيعته هو دين فطري متقشف خال من الكهنوت والتعقيد، أخلّت جماعات الإسلام السياسي بهذا العقد النقي والشفاف، وتحولت باتجاه خطاب مؤدلج يغلب عليه العنف والتشدد وسد الذرائع.
وسيطرت على المكان روح ثورية كثيفة، ترفض الوضع القائم، وترى أنه لابد أن تجب ما قبل هذا الواقع وتلغيه، وتسعى إلى إحلال وعي جديد للناس يستثمر عاطفتهم الدينية ليربطهم بشخوص وأفراد ونجوم يطلقون عليه الداعية أو عليها الداعية!! لهم مكانة وحظوة، وخطبهم ومقولاتهم تروج كمقدسات.
وما لبثت أن أصبحت التطبيقات العملية لذلك الخطاب تظهر عبر العنف والدمار الميداني ابتداء من القاعدة وانتهاء بجيش النصرة.
واختفى الخطاب الحضاري المتمدن للإسلام كواجهة عالمية لنا، وحل بدلا منه في النوافذ الإعلامية وجوه مكفهرة ترهقها قترة في حالة تشوق دائم للدماء.
الآن بعد الحصار الأمني لتلك الجماعات هدأت ميدانيا ولكنها ما برحت تأخذ من ساحات العقول مسرحا لها عبر نجومها وأبطالها الذين استطابوا النجومية والاستعراضات الإعلامية وجميع المجد الشعبي الذي يحققه لهم مسمى داعية.
ما يهمنا نحن في هذا الموضوع هو أن نناقش سؤالا يطرح نفسه بقوة.. هل الداعية هو اسم حركي ينتمي لخلية سياسية، أم أنه ذلك النجم الذي تعرف البطحاء وطأته؟ التقي النقي الطاهر الورع.. كما يحاول أن يقدم نفسه..
المصدر: http://riy.cc/914773