الإيمان والاقتصاد قراءة في مفهوم البركة
بقلم: علي سليمان الرواحي
يثير الإيمان بنص معين أو مجموعة من المعتقدات، مترابطة أو متقطعة، الكثير من التساؤلات، حول توظيف هذه النصوص أو المعتقدات في المجال الدنيوي، للمنفعة البشرية الدنيوية المستمرة، التي تخضع للكثير من العمليات المتعددة.
في هذه الورقة، سيتم التطرق لعلاقة الإيمان الديني بالاقتصاد و ذلك من خلال مفهوم البركة، كما هو متدأول في الوعي الجمعي العربي و الإسلامي على حد ٍ سواء، حيث أن هذا المفهوم يجد سنده الأساسي ليس في الثقافة الشعبية فحسب، بل يتم تأصيله إلى حد ٍ كبير من خلال الكثير من النصوص الأساسية والثانوية ومن خلال العديد من الممارسات المختلفة أيضا.
ذلك أن العلاقة الضرورية بين الإيمان والاقتصاد؛ أي المردود النفعي، المبُاشر وغير المباشر على حد ٍ سواء، ليست جديدة في التاريخ البشري، فهناك ارتباط وثيق لا يمكن فصله و ذلك كما يتجلى في الكثير من الطقوس البشرية المُتبعة.
البركة و الوضعية الاقتصادية:
يعتبر مفهوم البركة من المفاهيم الاقتصادية القديمة، أي تلك التي تهدف الى جلب المنفعة الاقتصادية للشخص أو المجموعة وذلك من خلال تلأوة أو قراءة الكثير من النصوص الدينية أو ممارسة بعض الطقوس و غيرها، ذلك ان هذا المفهوم مرتبط “بالنماء و الزيادة، حسية كانت أو معنوية، و ثبوت الخير الإلهي في الشيء ودوامه، و نسبتها إلى الله تعالى على المعنى الثاني” (1) ، و هذا النماء أو تلك الزيادة مرتبطة بكيفية التواصل المُتخيّلة و طريقتها، فهذا التواصل النفعي يهدف لتحقيق الكثير من الاهداف و الغايات التي يتمناها المرء ان تتحقق له.
يستند هذا المفهوم بهذا المعنى على العديد من النصوص المرجعية في السياق الإسلامي، فهناك سورة الأعراف الآية رقم 96 , وسورة الأنبياء الآية رقم 50، كما نجدها أيضا ً في سورة مريم الآية رقم 31، بالإضافة إلى حديث السحور، الذي يوصى به رغبة في البركة أو “بمعنى زيادة القوة على الصوم” ( الكُلّيات، م س، نفسه)، فالفعل البشري هنا، يحتاج لقوة أو مجموعة قوى تجعل المرء قادرا ً على الاستمرارية والمواصلة، وهذه القوى ليست ذاتية نابعة من المرء ذاته، بل هي في جوهرها تأتي من مصادر غير بشرية، خارجة عنه، ففي حالة سورة الأنبياء الآية رقم 50، فإن البركة تأتي من الذِكر المُبارك المُنزّل، و ليست من شيء آخر، وهو ما نجد تأكيده أيضا ً في الآية رقم 96 من سورة الأعراف، حيث نجد ذلك الارتباط الوثيق بين الإيمان و التقوى و فتح بركات السماء من جهة و الكذب و العقاب من الجهة المقابلة.
البركة هنا، وفي غيرها من المواضع ترتبط بالإيمان، فهي تتحقق بوجوده، وتنتفي بعدمه، و هذا يعني بأنها تشمل جميع المؤمنين وليست حصرية فقط لفئة معينة، كما هو حال الكرامة أو المعجزة، أو من الممكن حدوثها في حالات نادرة. بهذا المعنى فهي للعوام، للبقية من البشر الذين لم تشملهم المعجزة والكرامة، بل للجميع، الذين ينتظرون النتيجة الآنية للإيمان، من خلال تجلياتها المختلفة في “كسرة خبز” أو أصناف ٍ معينة من الطعام، أو بعض الأملاك المختلفة.
من الممكن القول في هذا السياق بأن البركة تزداد احتمالات وقوعها بزيادة الإيمان أو التضحية بالذات في سبيل الإيمان.
إنها بمعنى من المعاني شعور داخلي يسري في نفس المرء يجعله سعيدا بإيمانه ليمتد هذا الشعور لعلاقته بالأشياء التي حوله، أو تلك التي يستخدمها، ولكنها في المقابل ترتبط إلى حد ٍ كبير بالوضعية المالية و الاجتماعية للمرء الذي ينتظرها، إن الغني لا تعني له البركة الشيء المهم و الكبير، فهو يمتلك المال الوفير، الذي يجعل الأشياء من حوله تبدو متوفرة و ليست في حاجة للنماء و الزيادة بهذه الطريقة، ذلك ان المرء المتواضع من الناحية المالية هو الذي يبحث عنها، ويرغب بها، فهذا الاعتقاد يساعده على ثبات المعتقد و ترسيخ الايمان و تعميقه.
البركة : مفاهيم عابرة للثقافات
مفهوم البركة بهذا المعنى ليس اختراعا ً إسلاميا ً، بل هو قادم من ثقافات سابقة عليه، ربما بصيغ ٍ ليست متطابقة، مثله في ذلك مثل الكثير من المفاهيم المتدأولة، الأساسية و الثانوية، فهي من الممكن اعتبارها تلك “الصفة الخفية التي تنضاف إلى الأشياء، و التي يمكن تعريفها بأنها التأثير الخيّر للمقدس” (2)، و هذا يعني بأن المقدس - مهما اختلف تحديده تبعا ً لكل ثقافة على حده - يُضيف صفة النماء في الشيء المراد مباركته، أو زيادته، فبدون هذه الإضافة التي تعتبر بلا شك غير ظاهرة، خفّية، يشعر المرء بأثرها النفسي فقط، لا يحدث الشعور بالامتنان للقوى المفارقة التي يتعقد بها الانسان.
اننا في هذا السياق لا نرى الزيادة و لا نلمسها كما نفعل بمعاييرنا الوضعية الحالية، أي ان الوزن يبقى ثابتا ً لا يزداد، بل ثمة شعور خفي بأن الزيادة قد حدثت نتيجة الايمان بهذا المعتقد دون ذاك.و هو ما يعني بأن ثمة نفسا أو روحا ً قد إختلطت مع الشيء المُراد زيادته أو نماؤه، فهو بدون ذلك سيبقى ثابتا ً، بدون إضافة. وهو ما يتقاطع الى حد ٍ كبير مع مفهوم “المانا” Mana ، من حيث وجود “قوة سحرية فوق طبيعانية، قائمة بذاتها، و تسري في مظاهر الكون والطبيعة، وذلك بمعزل عن أية صلة لها شخصيات معينة أو أرواح” (3)، وهو ما يمنحنا إمكانية القول هنا بأن الفضاء العمومي مفتوح للمساعدة من قبل هذه القوى، مقابل الإيمان المُراد تجسيده.
واذا كان تجسيد المفهوم يختلف من ثقافة لأخرى، فإن الثابت هو بُعده الفلسفي، الذي يمنحه الديمومة، والاستمرارية، تلك التي تتجأوز التقسيمات الحضارية و التصنيفات الثقافية المختلفة، فهذه الفكرة تفعل فعلها الكبير في النفس البشرية رغبة في حصد النتائج الآنية، التي لا يمكن انتظارها، أو تأجيلها.
يتقاطع مفهوم البركة هنا مع مفهوم الصدقة أو الزدقا ((Zedaqa العبرانية، التي نستطيع الحصول عليها في العديد من الثقافات المختلفة ذوات الأصول المتعددة كما هي عند قبائل الهأوسا السودانية، حيث ان هذه الصدقات أو “الهبِات التي تمُنح للأطفال و الفقراء تسعد الأموات” (4)، فهي بهذا المعنى من الممكن اعتبارها كوسيلة يتم من خلالها تقديم الهدايا من الأغنياء للفقراء بهدف كسب رضا الآلهة المختلفة حسب بعض التصورات، ولله حسب التصور التوحيدي و عدم إغضابها.
البركة والمعايير الاقتصادية :
تكتسب بعض المفاهيم الكثير من التجليات المختلفة، وهذه التجليات المختلفة تمنحها جانب الاستمرار الزمني، ذلك انها تلامس جانبا ً مهُما ً في علاقة المرء بذاته، و علاقته بأوضاعه الحميمية، الملاصقة له، تلك التي تؤثر عليه بشكل ٍ مباشر ٍ، ومستمر، ففي حالة مفهوم البركة هنا، المرتبط بالزيادة و النماء، نجد ان “العقل الإيماني” المُعاصر قد أتجه للزيادة المالية و الاقتصادية، بعيدا ً عن المعايير الاقتصادية المُتعارف عليها، و المُقرة دوليا ً، من حيث قانون العرض و الطلب، وأسس التسويق، وطرق الإنتاج و غيرها، و علاقة كل ذلك بالاحتياجات المتجددة للإنسان المعُاصر، و هو ما نجد تجلياته واضحة في الوعي الجمعي المؤمن في ذلك الاعتداد و الاعتماد على الكثير من الوحدات النصية القرآنية (الآيات ) و بعض الاحاديث المتدأولة، التي تجلب الكثير من المنفعة الاقتصادية حسب بعض أسس العقل الايماني المنتشر.
يتجلى هذا النوع من الايمان في تخصيص بعض هذه الوحدات النصية لأهداف ٍ مختلفة، فهناك آيات للبركة و زيادة المال، وهناك لجلب الحظ و التوفيق في الحياة تحت عنأوين مختلفة.
لا تعترف المعايير الاقتصادية العالمية بالبركة أو بالصدقة، ضمن المعاملات المالية الرسمية، فهي تبقى ضمن المفاهيم الشعبية المتدأولة، تلك المفاهيم التي تساهم بشكل ٍ مباشر أو غير مباشر في إرساء الكثير من العلاقات الودية بين أفراد المجتمع، غير أن الأمر يختلف نهائيا ً حينما نتحدث عن المؤسسات التي تتعامل مع الجميع بمعايير الربح و الخسارة في هذه التعاملات. و ذلك يحدث ان المرء لا يمكنه تكوين أموالا ً طائلة نتيجة لثنائية الإيمان أو عدمه، بل عليه إتباع هذه المعايير الاقتصادية أو اللجوء للكسب غير المشروع بهدف مضاعفة هذه الأموال.بهذا المعنى و طبقا ً للتحديدات السابقة، ينبغي ان نجد المؤمن أكثر امتلاكا ً للأموال من غيره، و هو ما لا نجده متحققا ً ضمن هذه الآلية.
خاتمة :
تنتمي الكثير من المفاهيم الدينية المتدأولة، بشقيها الأساسي و الثانوي، لحقب تاريخية مختلفة عن الأزمنة الحديثة التي نعيشها حاليا ً، و هو ما يمنحنا الحق بضرورة مراجعتها، أو إستبدالها بالكثير من المعايير المتفقة مع العقليات الحديثة التي تتعامل مع الواقع بمرجعيات ٍ و أسس مختلفة، هذا من جهة، و هذا يشمل الكثير من المفاهيم التي تحضر في حياتنا المعاصرة، سواء بشكل ٍ صريح أو ضمني، ذلك ان المفاهيم تترابط فيما بينها، فهذا المفهوم يحُيل بالضرورة لشبكة مترابطة من المفاهيم التي تتعاضد في تكوين رؤية وجودية شبه متماسكة.
الهوامش:
1- الكليّات : لأبي البقاء ايوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي ، ت 1094هـ ، مؤسسة الرسالة ، ص206.
2- يوسف شلحت : مدخل الى علم إجتماع الاسلام ، تعريب : خليل أحمد خليل ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، ص56.
3- موسوعة تاريخ الاديان ج1 ، تحرير : فراس السواح ، دار علاء الدين ، ص 25..
4- مارسيل موس ، مقالة في الهبة ، ترجمة و تحقيق و تعليق : د.محمد الحاج سالم ، دار الكتاب الجديد ، ص57 ، ط1.