السياسة صانعة المذاهب الدينية
لا شك أن بروز المذاهب الإسلامية كان نتيجة لاختلاف الرعيل الأول من الصحابة حول مسألتين سياسيتين وهما: الإمامة والشورى. وكلتا المسألتين قد تناولهما الصحابة في زمن الخلفاء الراشدين. وكان بالإمكان لو أراد الله أن تبقيا مسألتين سياسيتين يجوز الاختلاف حولهما، لكن هذا لم يحدث إذ أنتجتا انقسام المسلمين الأوائل إلى فرق دينية متعددة، ومع مرور الزمن أصبحت تلك الفرق متميزة دينياً، مما ولّد التمذهب وانقسام الناس بين المذاهب. وصارت تلك المذاهب مدعاة لنشوب حروب مستعرة منذ مقتل الخليفة عثمان بن عفان إلى يومنا هذا.
عندما تختلط السياسة بالدين ينتج عنها تناسل المذاهب الدينية، وذلك لانعدام التوازن بين أمور الدنيا والدين. وهذا الخليط يكون مدمراً عندما يؤدلج السياسي المذهب
بقول الإمام أبو الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني (469-548) في كتابه القيم: الملل والنحل: إن أعظم خلاف وقع بين الأمة: خلاف الإمامة، وما سُل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُل على الإمامة في كل زمان. ويقول واختلف المسلمون في أمر الشورى. وهذا الإمام يصف حال الرعيل الأول من المسلمين، وكيف أن السيف سُل بين المسلمين بسبب مسائل سياسية، ثم غدت مسائل دينية أو مذهبية، ولا زال السيف مسلولاً يأكل رقاب شباب المسلمين بسبب مسائل سياسية غُلفت باسم الدين والمذهب.
احتدم النقاش السياسي/ الديني بين النخبة المسلمة في معظم الأمصار الإسلامية، ثم شاركهم الفقهاء فيما بعد، وقعّدوا للنخبة حدود كل مذهب مما جعل بعض المذاهب الإسلامية تتبنى فروقاً عقدية. وهذه هي الطامة الكبرى التي ضربت دين الإسلام. ثم التقط السياسيون هذا التمذهب وأذاعوا بين أتباعهم أن السياسة تبع للمذهب، بينما الصحيح أن المذهب تبع للسياسة. وبرزت آليات لاستغلال السياسي للدين من أجل تحقيق مآربه، مع العلم أن القرآن الكريم يقبح الاستغلال السياسي للدين بنص صريح. ومما يؤسف له أن الاستغلال السياسي للدين وتوظيفه لا زال هذا ديدن جماعات الإسلام السياسي وغيرها.
ولا يظن إنسان أن تفكيك فكر التمذهب أمراً سهلاً، ذلك أن المذاهب أصبحت كالعقائد أو قريبة من العقائد. وأكثر من ذلك أضحت المذاهب الإسلامية تملك تراكماً تراثياً في دين الإسلام. وأصبح الوعي الجمعي لأتباع تلك المذاهب والفرق يمر بمساحة واسعة من المؤلفات الفكرية والمجادلات الفقهية والعقدية، وصنعت لها رموزاً ومقدسات، وقدمت ضحايا كثيرة، وأسالت دماء غزيرة.
وظن بعض الفلاسفة والمتكلمين في العصور الإسلامية أنهم قادرون على تفكيك التمذهب خصوصاً المتشدد منه، أو الذي ينحو باتجاه صنع دين جديد، يُلبسه ثياب الدين الإسلامي كما نزل على نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، لكن ما حصل أن أساس التمذهب وهو السياسة دخلت من باب واسع في مباحث الفلاسفة والمتكلمين، فشغلوا أنفسهم وغيرهم بمباحث مثل: الإمامة والعدل وحرية الأفعال. وهذه المسائل وإن كانت تبدو دينية عقدية، إلاّ أن موضوعاتها سياسية من الوزن الكبير. وإذا كان التمذهب اخترق علم الكلام فوزَّعَهُ بين اعتزالٍ وأشعرية وماتُردية، فإن السياسة اخترقت مباحث الفلاسفة والمتكلمين فوزعت المسلمين بين خوارج وشيعة وسنة وغيرهما كثير.
لهذا يصح الاستنتاج أن السياسة كانت حاضرة حضورًا قويًّا، فالناس تأخذ بالاعتزال أو الأشعرية في العقيدة تبعًا لما تبغيه السلطة السياسية، وهي تكون على مذهب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد لأن السياسة قضت بذلك. واستمرتِ الحال فيما بعد؛ حين فرض الصفويون التشيّع في إيران، وفرض العثمانيون مذهب أبي حنيفة في أنحاء السلطنة العثمانية. فكانت السياسة التي صنعت التمذهب، هي عينُها التي تعيد إنتاجه.
عندما تختلط السياسة بالدين ينتج عنها تناسل المذاهب الدينية، وذلك لانعدام التوازن بين أمور الدنيا والدين. وهذا الخليط يكون مدمراً عندما يؤدلج السياسي المذهب. لهذا يصح القول إن التمذهب يُفسد الدين ويُفسد السياسة. وبالتالي تفسد الحياة برمتها.
المصدر: http://riy.cc/909459