لا تكونوا كتلك التي نقضَتْ غزلَها
ضرب الله تبارك وتعالى الأمثال للناس لعلهم يأخذون العبرة ، وذكَّر سبحانه وتعالى المؤمنين لأن الذكرى تنفعهم ، ومن الأمثال التي ضربها البارئ العظيم لنا ذلك المثل الذي يخصُّ امرأة قرشيَّة خرقاء حمقاء كانت بمكة المكرمة اسمها ( رَيْطة بنت كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّة ) ، هذه المرأة قيل عنها أنها كانت كلما تغزل شيئا تنقضه ، وتنكثه بعد إحكامه ، فلا تنتفع به بعد ذلك ، وقيل عنها أيضا أنها كانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ، ثم تأمرهنَّ فينقضنَ ما غزلنَ ، وقد جاء ذكر ذلك المثل في قوله تعالى في سورة النحل / الآيــة 92 : ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) .
إنَّني هنا أتوقف لأقول : إنَّني أمدُّ بصري يمينا وشِمالا ، فأرى الكثير من المسؤولين الذين يشبهون ( رَيْطة ) في ما يفعلون ، أراهم في الدوائر والمؤسسات والمنظمات والمكاتب ، هنا وهناك وفي كل مكان ، على مستوى التخطيط وعلى مستوى التنفيذ على حد سواء ، فأستعيذ بالله من أولئك الذين يَنقضون ما يُبرمون ، ويَنكثون ما يُحكِمون ، وإنهم ليشبهون ذلك السائر الذي يتقدَّم خطوة إلى الأمام ، ثم يتراجع خطوة إلى الوراء ، فيبقى ثابتا في مكانه غير قادر على قطع طريقه ، فيما يتجاوزه الآخرون الذين يتقدَّمون بتواصُل مثير للإعجاب ولا يتراجعون فيصلون إلى المحطات التي يبغونها ،
ولو سأل سائل : هل وصل الأمر إلى أن يكون فيه مَثَلُ المرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ظاهرة في العراق ؟ ، فأقول نعم ، إنها ظاهرة ، ويجب أن تزول ، فإلى متى نظلُّ نُبرم ثم نَنقض ونُحكِم ثم ننكث ؟ ، وحتى متى يظلُّ الذين ينقضون من بعد أن يبرموا وينكثون من بعد أن يُحكِموا جالسين على كراسي المسؤولية ومخوَّلين بسلطة اتخاذ القرارات المؤثِّرة والمُلزمة ؟ ، أفلا يتوجَّب أن يجري اختيار المسؤولين القادرين على المضيِّ قُدُما إلى الأمام بخطى ثابتة وواثقة وجادَّة ومؤمنة ؟ ، نعم يتوجَّب ، ألا فليجلس على كراسي المسؤولية من هم قادرون على الإبرام والإحكام ، الذين يتقدَّمون ولا يتراجعون ، والذين يعرفون قيمة الوقت وقطاره السريع الذي يجب أن لا يراوح في مكانه ، وألا فلنتَّخذ من المخلصين الغيارى ذوي الكفاءة والنزاهة ومن يعاضدهم بإخلاص وتفان قادةً للإنطلاق إلى آفاق منفتحة على زمن الإبرام والإحكام لا النقض والنكث ،
إن قضية الإبرام والنقض هي ذاتها قضية البناء والهدم ، التي تساءل حولها الشاعر العربي فقال :
متى يبلغُ البنيانُ يوماً تمامَهُ
إذا كنتَ تبنيهِ وغيرُكَ يهدمُ ؟
و ...
نعم للإبرام والإحكام
ولا للإنقاض والنكث
نعم للبنيان
ولا للهدم .