العزلة الاختيارية

نجوى هاشم

    هل يمكن الحياة بدون التعايش مع البشر؟

هل يستطيع الإنسان أن يحيا دون أن تكون له أي صلة بالبشر ولو لفترات متقطعة؟

وهل تتحول العزلة الاختيارية إلى ذلك الأمر الاعتيادي والذي لا يمكن التوقف أمامه؟

"منذ ما يزيد على ٤٦ عاما و"فارتسينو بارينتوس"يعيش حياة عزلة هادئة وحيداعلى سفوح جبال منطقة "باتاغونيا"في تشيلي

بالقرب من بحيرة"أوهينغس"والتي تعد من أكثر المناطق عزلة في العالم وأقساها!

وكما جاء في الخبر الذي نشرته "الرياض"أن بارينتوس أقام في تلك البقعة النائية كوخين صغيرين من الخشب واحدا لسكنه والآخر كمستودع للأطعمة والمؤونة التي يحتاجها!

يقول عن حالته إنه الآن في سن (٨١) ولايحتاج المال كثيرا ولديه من الطعام والمؤن ما يكفي وتبدوالحياة أفضل عندما تعيشها وحدك وأنه سيبقى وحيدا هنا حتى يموت.. وهو يعتمد في معيشته على تربية الأبقار والأغنام كمصدر رزق أساسي يقتات من لحومها ويستفيد من بيعها عندما يذهب مرة واحدة كل سنتين في رحلة تستغرق يومين وهو على ظهر جواده ويسوق قطيعه من الماشية إلى بلدة قريبة ليبيعها!

هو يرى أنه لم ينعزل كثيرا عن الحياة الاجتماعية والمدنية الحديثة فعلى الرغم من أنه لم يشاهد التلفاز إلا مرة واحدة في حياته إلا أنه يتابع آخر المستجدات والأخبار في العالم من خلال مذياع عتيق ويمضي بقية اليوم في قراءة بعض الجرائد القديمة التي تصل إليه مرتين في السنة ويتابع الآيام والشهور من خلال روزنامة صنعها بنفسه!

أما حاجته من الطاقة الكهربائية فيحصل عليهامن الألواح الخشبية التي منحته الحكومة عندما أبرمت معه اتفاقاً يتخلى بموجبه عن أسلحته الشخصية مقابل هذه الألواح...!

ويشتري هذا العازب العجوز مايحتاجه من الأطعمة من القارب الوحيدالذي يزوره كل عشرة أيام ليمده بما يحتاجه في منطقته النائية.

وأخيرا وهذا هو الأهم أ صبح "بارينتوس"يشتكي الآن من أن المكان الذي يؤويه لم يعد منعزلاً كما كان في السابق لأن الحكومة التشيلية منذ سنوات أقامت خطاً ملاحياً بحرياً يمر بالبحيرة تسلكه السفن خاصة تلك التي تنقل السياح وبدأت تتوافد على المكان لمشاهدة الجبال الجليدية والاستمتاع بطبيعة المنطقة الجميلة"!

الواقع أن حياة هذا الشخص الاختيارية ملفتة وغير اعتيادية حيث قرر واختار منذ ٤٦ عاماً أن يعتزل الناس بإرادته، واختياره، وأن يستمتع بهذا الاختيار، ويتحول إلى طبيعة حياة ، وإلى أن عكس هذه الطبيعة هو أن يقتحم حياته بشر وهو الاعتيادي بالنسبة لنا!

نحن نقول إن الحياة والمكان بدون الناس ليسا حياة. رغم أن الناس هم من يسببون المشاكل لبعضهم، وهم من ينغصون الحياة، وهم من يزرعون الهموم، ويجعلون الآأام أقل راحة،!

الناس يسمونها حياة من النبض من الحركة فالحي هو من يمارس الحياة من يعيش في وسطها بصخبها وهمومها وكوارثها وتقلباتها وركضها..

ومع ذلك أتصور أننا بحاجة إلى ممارسات ذلك الرجل والاحتكام إلى تلك القدرة على العيش وحيداً فهي ممتعة وخيالية لأنها في الأصل اختيارية.. ولكن مع الأسف ليس بإمكاننا خوض تجربته فلا نحن في تشيلي ولا نحن "فرادى"يمكننا التصرف كما نشاء حتى عندما تحاول الهرب والبحث عن الهدوء تجد من يخترق تلك اللحظات ويكسرها وكأنه تخصص في النكد، ومع ذلك بالإمكان تجربة الحياة بدون بشر أو تكنولوجيا من خلال ممارسة خاصة حاول أن تقوم بها وقد جربتها وكانت نتيجتها رائعة ( يوم في الأسبوع لا أشاهد التليفزيون، بعد أن توجعت من مشاهد القتل والدمار،لا أردعلى الهاتف، ولا أفتح الجوال، وفي الغالب وفي معظم الآيام جوالي "صامت"لأن رنينه يشعرني بالحصار في كل وقت، في المنزل وبحكم انك وسط أسرة تستطيع التزام الصمت وعدم الكلام إلا في أقل الأحوال، لا تشاهد إلا من هو اضطراري من الأسرة، تناول طعامك بصمت، تنفس بهدوء، اقرأ، تأمل، أغمض عينيك، وحتى إن اقتحم أحدهم حياتك اغلقها بهدوء..

إحدى المرات ألحت صديقتي عن طريق أحد في المنزل علي بأن أفتح التلفزيون وهي تعرف أنه يوم إجازته، ولكني صمدت أو بمعنى آخر اعتدت على ما أريده وهذه متعة.. ولذلك يستغربني من يسافر ليهرب ويشتكي أنه لم يجد سعوديين في سفره...

إذا كنا نحن نريد الهروب فكيف لنا أن نبحث عن بعضنا بنفس مشاكلنا.. السفر لي يعني هروبا، يعني عالما آخر، وجوها أخرى، نفسي ألتقيها.. أمشي وأركض معها وهذا كافٍ..

بالطبع لا حياة لنا كحياة ذلك التشيلي الذي أصبح ينزعج من مرور سفينة.. ولكن علينا أن نجد أنفسنا، نلتقي بها بين آن وآخر، نسمعها، نلامسها، نمنحها حقهامن الهدوء بدلاًمن هذا التداخل البشري والركض اليومي والصخب والإزعاج والموت التدريجي لأرواحنا دون أن نشعر..

علينا أن نملك حق الاختيار بعيداً عن ضغوط الحياة.. علينا أن نستوعب معنى الحرية الخاصة والتي هي تعني فهمك لحريتك وإيمانك بها ومن ثم احترام حرية الآخر..!

المصدر: http://riy.cc/903358

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك