دعونا نجرّب أن نعطش
قبل عدة سنوات قدمت بحثاً عن برامج التوعية الجماهيرية التي تحث المتلقين على الاستهلاك الرشيد للمياه، وكانت النتائج أن تلك البرامج لم تحقق شيئا. ومازالت المياه هي مصدر الخطر الحقيقي وفي نفس الوقت الأرخص كلفة والأكثر استهلاكا عندنا على مستوى العالم. وبتوسع مدننا في بيئة قاحلة يبدأ القلق يتزايد على مصير هذه الملايين من البشر في بلاد لا أنهار فيها ولا مطر، وتشرب مدنها من على بعد مئات الكيلو مترات، ويجاور مصانع تحلية مياهها دول قد لاتكون صديقة بالقدر الذي يجعلنا نأمن على مستقبل تدفق المياه النقية في شرايين مدننا الضخمة.
كثير من النعم كما أشرت غير مرة لا نعرف قدرها إلا عندما نفقدها، وفقدان النعمة لا يبشر بعودة قريبة لها في غضون جيل أو أكثر، ولنقس على ذلك نعمة الأمن التي فقدت في أفغانستان منذ حوالي 40 عاما لم تعد إليه، وهي في العراق مفقودة أيضا من 11 عاما، ولا تشير الاوضاع الحالية إلى نور في نهاية النفق الذي دخلته سورية وليبيا ومصر وتونس، واليمن. وحيث لا مقارنة بين الأمن الذي يعتمد على توافق الناس ليرخي سدوله على مجتمع بشري ما، وبين نعمة الماء التي لايملك البشر حولا ولا قوة في جلبها من عدم. فماذا يملكون إذاً؟
يملكون الاستهلاك الرشيد لها، وأن يجربوا العطش وهم على أمل أنهم سيرتوون بعد حين. ولو عملنا على تجريب برنامج تطبيقي في التوعية لأحدث عند كثير من العقلاء إحساسا عميقا، بالنعمة، وشعورا مريرا بفقدانها ولو لوقت قصير.
قلت ذات مرة لنجرب في بيوتنا أن نقفل الحنفيات سرا، وأن نمنع تدفق الماء في الصنابير، ونترك أطفالنا يجربون العطش، ويعانون الوسخ على جلودهم، ولنكن صادقين في ذلك حتى يدركوا أن الماء نعمة؛ ثم يأتي الفرج. ومضيت أبعد من ذلك في أن يكون هناك يوم للماء كل شهر تقفل فيه الشبكة ونعيش على المتوفر من الماء يوما كاملا، فعلّق أحدهم على هذه الفكرة المجنونة بأن أصحاب الصهاريج سيصلون بسعر (الوايت) إلى 7000 دولار. ولست قلقا من ذلك إن كان هناك رقابة صارمة على كل قطرة ماء، عندها لن يستطيع أحد أن يجازف بخرق النظام.
دعونا نتوقف عن أكل (البرقر) يوما في الشهر، فنكون بذلك قد حافظنا على صحتنا، ووفرنا بكل (ساندوتش) 2400 لتر من الماء النقي. تصوروا أن معدل استهلاك الفرد من الماء في المملكة يعد الأعلى عالميا بزيادة 91% على المعدل العالمي، وأن الفرد في بلادنا يستهلك حوالي 6 أضعاف استهلاك الفرد في بريطانيا ذات المطر والثلج والأنهار. فالبريطاني يستهلك حوالي 150 لترا من الماء يوميا، وهي إحصائية قديمة تعود الى عام 2006م، ما يعني أن استهلاك السعودي حوالي 900 لتر في اليوم، وهذا لعمري جنون وغاية في البذخ والتبذير في الماء الذي جعل الله منه كل شيء حيا.
معدل استهلاك الأمريكي الأقرب لنا تبذيرا هو 575 لترا من الماء بينما الياباني 374 لترا، والفرنسي 287، والأثيوبي الذي ينبع النيل من أرضه 15 لترا، أما الموزمبيقي فيستهلك يوميا 4 لترات فقط، وأجزم غير حانث أنني أدركت قومي في قريتي وأحدهم يستهلك من الماء يوميا أقل من الموزبيقي اليوم، أي أقل من 4 لترات. وكانت أمي حفظها الله تردد علينا يوميا عندما ترى أحدنا يهدر الماء في وضوئه قولها (وضوء النبي –صلى الله عليه وسلم- ملاسٍ) أي مجرد مسح بالماء على أعضاء الوضوء، ولا أدري هل لوالدتي سند شرعي في ذلك، ولكنه بحسب المقاصد قول سديد.
لا أدري ما إذا كانت هناك خطط لتحقيق أمن مائي في حالة الطوارئ لاسمح الله، لكنني على يقين أن فاتورة الماء لا تتناسب قيمتها مع أهمية هذا المنتج، ومتأكد أيضا أن أي سلعة تباع مجانا لايمكن لأحد أن يقدر قيمتها الحقيقية.
المصدر: http://riy.cc/902780