الخلفيّات الثقافية لظاهرة الربيع العربي

                                                                                              محمد بن علي المحمود

    لم يكن نجاح الغضب التحرري الذي انتهى بإسقاط رأس النظام، والذي لم يكن رغم نجاحه كغضب واعياً بشروط التحرر، قادراً على تحقيق الحرية في الواقع، فضلاً عن تجاوز ذلك إلى حيث نجاح البناء الديمقراطي. فالفشل في بناء أية فاعلية ديمقراطية ليس غريباً على هذا العالم العربي، بل هو المسار الطبيعي لوعي ثقافي عربي لا يزال يقف على العتبة الأولى لفعل التحرر

 

 

منذ انفجار مَوجات الغضب، التي أُطلق عليها مُسمّى: (الربيع العربي)، والأسئلة الإعلامية، ومن ثَم الثقافية، التي تبحث عن أسباب غياب المفكرين والمثقفين العرب عن هذه (الثورات!) تتوالى، محاولة سبر أسرار غيابهم تنظيراً، وتحفيزاً، وتفعيلاً، ومشاركة عملية ، وذلك انطلاقاً من التسليم بتحقّق فرضية الغياب. ونشأ عن هذه الأسئلة الاستنكارية التي تم تناولها على أوسع نطاق ثقافي/ إعلامي، والتي تنعى غياب الفكري/ الثقافي عن فاعلية يُفترض به أن يتصدرها، ترسيخُ هامشية الدور الثقافي في الحياة الواقعية، وأن دوره إن كان له من دور لا يتجاوز حدود ترف الأقلام.

لقد عزّز فرضيةَ الغيابِ اعترافُ معظم المفكرين والمثقفين العرب أن موجة الغضب فاجأتهم كما فاجأت الحكومات المعنيّة، إذ كثيراً ما أكّدوا بحماس يقصدون به تزكية الفعاليات الشبابية أنهم لم يتوقعوها على هذا المستوى من السرعة، وعلى هذه الدرجة من الحسم الذي تجاوز كل حدود المتوقع، بل وتجاوز كل أفق مشروع للأحلام.

ربما كان اختطاف الأصوليات لمسيرة الاحتجاج الغاضب، وكونها هي التي تحكمت في مسيرتها لاحقا، وكادت في غفلة من الزمن أن تقطف ثمارها، هو ما دعم وعزّز هذه الفرضية التي تقضي بغياب الدور الثقافي عن مسيرة الانتفاضات الغاضبة المنتفضة على الاستبداد. ولعل هذا ما جعل هاشم صالح يتساءل عن هوية هذا الغضب، وذلك في كتابه (الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ) ص 119، عندما يتساءل مُتحسّراً في عنوان صارخ: "ربيع عربي أم خريف أصولي". وكأنه يعترف بحكم النتائج المتأخرة التي تلت نجاح موجة الغضب في إسقاط رأس النظام بأن الفعالية المؤثرة في هذا الغضب إنما كانت من نصيب الأصوليين الواقفين دائماً على الطرف المضاد/ النقيض للخطاب الثقافي. ولهذا يُسارع فيسحب القيمة الإيجابية لمتواليات النجاح السياسي الظاهري، وذلك عندما يُقرّر بصورة حاسمة ص242 بأنه "لا ثورة سياسية بدون ثورة تنويرية"، وكأنه ينفي الثورة ابتداء؛ بنفيه لأي دور فاعل للمثقفين، فإما أن يكون المثقف/ المفكر (وهو تنويري بالضرورة) حاضراً كفاعل مركزي في وعي الثائرين، وفي مسيرة الثورة، أو لا ثورة من الأساس.

نحن هنا أمام مثقف/ مفكر يعترف (والاعتراف سيد الأدلة كما يُقال) بالغياب وبانعدام الفاعلية في موجات الغضب، كما أننا أمام نتائج تؤكد الفاعلية الأصولية المضادة لأي حضور ثقافي. وبهذا (يتأكّد !) غياب المثقف من زاويتين، كل منهما تؤكد الغياب، و في الوقت نفسه كل منهما لا تستطيع تقديم مبرر/ تفسير مقنع لمسيرة الغضب الاحتجاجي الذي رفع شعارات: الحرية، والديمقراطية، وإسقاط أنظمة الاستبداد. لا المثقف المعترف بغيابه كفاعل استنارة استطاع تفسير هذا التوق الحارق إلى مبادئ إنسانية تحررية تنتمي إلى ثقافة التنوير، ولا النتائج الأصولية استطاعت أن تقنعنا بأنها (الأصوليات) كانت الباعث على ذلك التوق التحرري، هذا التوق الذي بات من الواضح الآن أنه لم يستند إلى شعاراتها التاريخية، بل كان ومنذ البدايات الأولى يتجاهل كل ما له علاقة بهذه الشعارات التي كانت ولا تزال تُرْفَع في سماواتنا منذ عقود، دون أن تضيف شيئاً ذا بال إلى مشاعر التحرر الإنساني عند الإنسان العربي.

يبقى السؤال: هل غاب المثقف فعلاً عن هذه الانتفاضات الاحتجاجية؟ وبأي مستوى كان هذا الغياب؟وهل عدم التوقّع (توقع انفجار الغضب، من ناحية التوقيت، ومن ناحية حجم الانفجار) ينفي بالضرورة وجود الدور السابق، واللامباشر للمفكرين والمثقفين المهتمين بمساءلة الظاهرة السياسية في تاريخيتها وفي راهنيتها؟. هنا تلوح لنا ثلاثة أسئلة قد تجيب على هذا الغياب، وهي تتعلق بتحديد المؤثرات الثقافية في هذه الانتفاضات الغاضبة، وهي:

الأول: إذا لم يكن المفكرون والمثقفون توّقعوا هذا الانفجار الغاضب، وبهذا الحجم الذي أدى إلى إسقاط رأس النظام، فهل توقّعتها الأصوليات التي ركبت موجتها، وكادت تظفر بها؟. لا أحد، لا من داخل هذه الأصوليات، ولا من خارجها، يدّعي أنه كان يتوقع ولو شيئاً قليلاً مما حدث. الجميع تفاجأوا بحجم الاستجابة الجماهيرية للدعوة للتمرد على الاستبداد، وما تلا ذلك من سقوط حواجز الخوف التي كانت تحمي تلك الأنظمة المستبدة، والتي لم يدر بخلد أحد، حتى أولئك الذين أطلقوا شرارة الغضب، أنها ستسقط بهذه السهولة التي كشفت كثيراً وكثيراً من المستور الذي يكان يتوارى خلف سحب الخوف!.

الثاني: إذا كان لا يخفى على أحد منا أن مسيرة الغضب تمتد لسنوات سابقة، وأن الأصوليات كانت شريكا في بلورة هذا الغضب، فهل كانت الأصوليات بمعزل عن التأثر بالخطاب الثقافي التنوري؟ أقصد: هل كانت وهي تتجادل معه على أرضية الفعل الإنساني (على أيهما أجدى للإنسان) تفعل باتجاه واحد، بحيث لا تؤثر في الخطاب الثقافي ولا تتأثر به، خاصة وأنها تدرك أن رهاناتها على الجماهيري هي رهانات في صلب المعاصرة. أي أنها تدرك أن فشلها في عصرنة خطابها بما يتلاءم مع عولمة حقوق الإنسان (وهي الحقوق التي تجد مرجعيتها في تراث عصر الأنوار تحديدا) ؛ يعني خروجها من دائرة المنافسة السياسية الجماهيرية، فتخسر هذه الجماهيرية التي تُراهن عليها في بحثها عن السلطة، والتي لم يعد من الممكن تخديرها، وسلبها عالمها الحي (عالم الشهادة) بالإحالة إلى عالم افتراضي (عالم الغيب)، وذلك بعملية مخادعة إيديولوجية تقتضي اللعب على تداخل الحسابات بين عالمين منفصلين تماماً، عالمين يجب أن يخضع كل منهما لحساب خاص.

كل من راقب خطاب الأصوليات في العقدين الأخيرين، وخاصة الأصوليات الفاعلة جماهريا(كالأصوليات الإخوانية وما تقاطع معها)، يدرك أنها باتت مضطرة إلى تقديم تنازلات فكرية ومبدئية وعملية لصالح المبادئ والأفكار والفعاليات التي تتكئ على رؤى وتصورات مشدودة إلى مسيرة التنوير الأوروبي، وليس إلى مسيرة (التَّفقِير الإنساني) في تاريخنا المجيد. فمثلاً، ظاهرة الأحزاب التي كانت الأصوليات تعدها من التحزّب المحرم باتت مشروعة، ومحل اعتراف وتفاعل ومشاركة/ تحالف، والديمقراطية التي كانت في نظرها كفراً بواحاً؛ أصبحت هي المشروعية الوحيدة، والحرية تعبيراً وسلوكاً كانت في أدبياتها هي بوابة الفساد الفكري والأخلاقي، فأصبحت من المقدسات التي لا يجوز المساس بها...إلخ.

قد يجادل أحدهم بأن هذا ما كانت تعلنه الأصوليات، التي كانت تتفاعل مع واقع سياسي يفرض عليها أن تتجمل بمثل هذا الطرح المتأنسن، ويؤكد أن قناعاتها الخاصة التي تؤمن بها قياداتها العليا لم تتغير. هذا صحيح، ولكن ما يهم، هو أن الجماهير التي تتلقى مثل هذا الخطاب المتقاطع مع الخطاب الثقافي تتأثر به، ويتسرّب إلى وعيها كثير من الرؤى التنورية التي قد لا تكون في حسبان الأصولي الذي يتوسلها سياسة/ مخادعة؛ بينما هي تفعل في المتلقي الجماهيري بما يتجاوز حدود هذا الخداع.

الثالث: هل من الضروري أن يؤثر المفكر أو المثقف مباشرة، أي أن يقف خطيباً في ساحة الفعل السياسي، أو أن يقود الجماهير في تفاصيل الحديث اليومي للسياسة، وإن لم يفعل ذلك، فليس هو المؤثر الحقيقي الذي يقف خلف الأحداث الساخنة على أرض الواقع؟

طبعاً، هناك مفكرون كبار فعلوا ذلك، أي نزلوا إلى النضال على أرض الواقع (مثل: عبدالوهاب المسيري وحركة كفاية، ونضال سعدالدين إبراهيم في أكثر من ميدان)، ولكنهم كانوا قلة، قياساً بمستوى التنظير السياسي/ الثقافي/ الاجتماعي الذي كان يقف على هرمه مفكرون كبار لم تكن علاقاتهم وطيدة بالحراك الجماهيري الشبابي الذي كان الوقود الفعلي لموجات الغضب الربيعية. فخلال العشرين سنة السابقة (وهي الفترة التي تأسس فيها وعي الشباب الذي فجّر موجات الغضب) لم نجد: عبدالله العروي، ولا محمد أركون، ولا حسن حنفي، ولا محمد عابد الجابري، ولا الطيب تيزيني، ولا علي حرب، ولا هشام جعيط، ولا صادق جلال العضم، ولا ناصيف نصار، ولا محمد جابر الأنصاري، ولا جورج طرابيشي، ولا رضوان السيد...إلخ ينخرطون في تفاعل سياسي مباشر مع جماهير الشباب.

بل إن كثيراً من الشباب الذي ينتمي لما يسمى جيل 25 يناير لم يسمع بأسماء الأغلبية الساحقة من هؤلاء؛ فضلاً عن أن يكون قرأ شيئاً لهم. وهذا يعني أن العلاقة المباشرة بين هؤلاء المفكرين وجيل الربيع كانت مقطوعة، وبالتالي لم يكن لهم وفق هذه الرؤية التي تنفي الأثر الثقافي أي دور في الربيع الذي باركوه، واعترف كثير منهم في لحظة حماس مشوبة بغزل جماهيري أنه تقدّمهم، وأنهم متأخرون مقارنة بوعي هؤلاء الثائرين!

ربما تكون سنوات الإحباط الطويلة التي رافقت مسيرة هؤلاء المفكرين هي التي جعلتهم لا يستشعرون حقيقة دورهم في هذه الانتفاضات، ويعتقدون أن محركيها كانوا بمنأى عنهم وعن الفعاليات التي كانوا منغمسين بها، فهم قد مكثوا لعقود (بعضهم لأكثر من أربعين عاماً) وهم يؤكدون بمشاريع بحثية واسعة، استنزفت كل طاقاتهم العقلية والروحية والجسدية على حتمية التنوير، وفي كل مرة يخرجون وقد اختطفت الأصولية من حولهم كل مساحات الوعي، ولم تبق لهم ما يسد رمقهم الفكري إلا ما كان سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

في تصوري أن هؤلاء المفكرين/ المثقفين هم أصحاب الأثر الفاعل في مسيرة هذا الاحتجاج الغاضب (ثورات الربيع)، حتى وإن لم يدرك بعضهم هذا الدور. صحيح أنه ليس أثراً مباشراً، بدليل أن جماهير الشباب لم تكن تقرأ مباشرة لهؤلاء. لكن لا يعني انعدام التأثر المباشر انعدام التأثر بالكلية. فهؤلاء الشباب لم يعتنقوا بيقين جازم، إذ كان مخترقاً في مجمل تصوره شعارات الحرية، والديمقراطية، ومناهضة الاستبداد، من فراغ، هؤلاء درسوا في جامعات كان أساتذتها بشكل أو آخر من تلاميذ هؤلاء المفكرين، وتفاعلوا مع صحافة يَدين كبارُ كتابها وكبار محرريها لهؤلاء المفكرين، واستمعوا إلى حوارات فضائية تتكئ على الإشكاليات المعرفية والثقافية التي طرحها هؤلاء المثقفون، وتفاعل هؤلاء الشباب مع مواقع فكرية/ سياسية/ اجتماعية مليئة بكل أنواع الجدل الذي صاغ معالمه هؤلاء المفكرون. أي أن الحلقة الفكرية والوسائطية التي تفاعل معها هؤلاء الشباب كانت منفعلة بالنتاج الفكري لهؤلاء المفكرين الكبار الذين كان كثير منهم قد دخل طور الانكفاء على نفسه؛ نتيجة يأس محبط من هذا الواقع المريض الذي امتد لعشرات السنين.

يذكر المفكر القدير: جلال أمين في كتابه (ماذا حدث للثورة المصرية؟) ص113/114 ظاهرة لاحظها في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وخاصة في السنوات التي سبقت أحداث 25 يناير، وهي أن الشاب كان مقبلاً على قراءة كتب جديدة في الأدب والسياسة والاجتماع، حتى بيعت بعض الكتب بعشرات الألوف من النسخ. وجلال أمين إذ يذكر ذلك يرجع هذا التحوّل القرائي إلى الانفتاح، وفي الوقت نفسه يرجع الهم السياسي المُتَعَصْرن إلى هذا المتغير الثقافي الذي لاحظه في الإقبال الكبير على كتب جديدة، كتب غير تقليدية، فهي خارج نطاق التدوير السلفي الذي كان هو الوحيد الذي يحظى بمثل هذا الإقبال الجماهيري.

إن هذه الكتب التي يشير إليها جلال أمين، والتي كان الشباب خلال العقد المنصرم يقبلون عليها، لم تكن للمفكرين الكبار الذي يقف المستوى النوعي والكمي أحياناً عائقاً أمام شاب يستعجل الإفادة منها لتحويلها إلى مسار عملي يرى أثره في الواقع العملي. وما لاحظه جلال أمين هو ما لاحظته بنفسي من خلال لقائي بمجموعات من الشباب المصري في أكثر من مدينة مصرية، وهو من الجيل الذي ينتمي إلى جيل 25 يناير ويتفاعل معها. فمن خلال حواري مع هؤلاء الشباب عرفت أنهم يقرأون بنهم لكثير من الروائيين والكتاب الصحفيين والإعلاميين الذي أعرف من خلال تلمس مرجيعاتهم فيما يكتبون أنهم على تماس مباشر مع مُجمل الأطروحات الثقافية لأصحاب المشاريع الكبرى في عالمنا العربي.

لهذا كانت الاحتجاجات ترفع شعارات ليست طارئة ولا غريبة، إذ هي من الشعارات التي طالما أكد

عليها أولئك المفكرون بحماس بالغ، بل وقدموا زهرة أعمارهم لبناء مشاريع فكرية تعضدها على عدة مستويات. ومع هذا، لم يكن لدى هذه الاحتجاجات وعي تام بشروط تفعيل هذه الشعارات، لا الشروط الثقافية، ولا الشروط الواقعية. وربما كان هذا يرجع إلى أنهم تناولوها عبر وسيط أحادي البعد (وهو الذي يلازم كثيراً من الطرح السريع في الصحافة والإنترنت والطرح الإعلامي الفضائي)، لا يستطيع أن يستحضر كل المحاور التي وضعها المفكر كشروط أولية للوعي بكيفية تفعيل محتويات مشروعه الثقافي.

من هنا رأينا التناقضات المُروّعة، حيث المناداة بالحرية والديمقراطية مع رفع صور رموز الديكتاتورية القهر والاستبداد. هذا حصل إما لأن الشباب الذي استهلك المنتج الثقافي الوسيط لم تتبلور لديه رؤية واسعة لمفهوم الحرية ولشروطها السابقة واللاحقة، وإما لأنه لم يجد لخفوت الحساسية النقدية ضرورة تنبيه الجماهير إلى أن ما يطالب به هو شيء مختلف عن كل ما في الواقع وما في التاريخ، شيء مختلف لا رموز له في واقعه ولا في تاريخه. ولهذا آثر السكوت، تاركاً هذه الجماهير الغاضبة في حدود وعيها المأزوم، غارقة في أوهامها وأحلامها الضائعة، حيث لم يبق لها إلا أن تلهو بأصنامها التي تستيعد حضورها بكل تأوهات العشق، وكمُحرّض ثوري تَحْشِيدي يعرف أهمية الالتفاف الجماهيري؛ لم يبق له إلا أن يسايرها في هذا الضلال الثقافي/ السياسي؛ كي لا يصدمها في مشاعرها التي لم تعد تحتمل كثيراً من صدمات الهجر في زمن تقطّعت فيه كل حبال الوَصل.

كل هذا يؤكد أن الربيع العربي (الذي كان تواقاً إلى مبادئ تحررية تأسس عليها خطاب التنوير الأوروبي) كان مربوط الصلة بالخطاب الثقافي، حتى وإن كانت الصلة غير مباشرة، بل حتى وإن لم تصل المُكوّنات الأساسية للخطاب؛ كما هي عليه في المشاريع الكبرى لأولئك المفكرين. ربما كان الاحتجاج الغاضب استشعاراً أولياً لضرورة التحرر، وهذا يكفي كنقطة انطلاق، كإفاقة من غيبوبة استبدادية، دون أن يعني ذلك تحقق شروط الوعي بالتحرر، أو شروط بناء الوعي الديمقراطي. فمستوى: طلب الحرية والتحرر يختلف كما يؤكد ذلك حازم صاغيّة في كتابه القيّم (الانهيار المديد الخلفية التاريخية لانتفاضات الشرق الأوسط العربي) ص13 عن مستوى: بناء الأمم ديمقراطياً، فهو يؤكد أن "الحرية والديمقراطية ليستا أمراً واحداً، بل أمران".

من هنا، لم يكن نجاح الغضب التحرري الذي انتهى بإسقاط رأس النظام، والذي لم يكن رغم نجاحه كغضب واعياً بشروط التحرر، قادراً على تحقيق الحرية في الواقع، فضلاً عن تجاوز ذلك إلى حيث نجاح البناء الديمقراطي. فالفشل في بناء أية فاعلية ديمقراطية ليس غريباً على هذا العالم العربي، بل هو المسار الطبيعي لوعي ثقافي عربي لا يزال يقف على العتبة الأولى لفعل التحرر، ولم يزل بعد يُراوح في حدود العتبة الأولى، بل هناك خطورة أن ينتكس إلى ما دون العتبة الأولى؛ لأن مستوى التفعيل الثقافي للمقولات، المعنية على نحو مباشر أو غير مباشر بهذا الشأن، لا يزال متواضعاً؛ رغم كل المؤشرات الإيجابية التي تدعو للتفاؤل في هذا المجال.

 جريدة الرياض

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك