الرواية لا تكفي!
نحن اليوم مشغولون بالصراع بين أطياف المجتمع المسلم، ومشغولون بتوظيف النصوص الدينية في الصراع مع تلك الأطياف، وهي قضية عويصة الحل، ومهمة مُستبعدة الإنجاز؛ ما لم نلتفت للتراث الذي يُغذيها بمرويات الإنسان عنه، ويصوغ بها ثقافته، المهيمنة عليه هذه الأيام.
التراث الذي ورثه المسلمون يحكمهم من بُعد، ويُحركهم من بعيد؛ فهو يشبه إلى حد كبير الريموت كنترول!. وأنا اليوم أود أن أخرج بكم قليلا عن ساحة هذا الصراع الظالم، وأُبعد عني شبحه، وأحدثكم عن أثر هذا التراث، وتلك الروايات، في علاقتنا بالآخرين، من أهل الأديان الأخرى؛ لتروا أن الظلم الذي نشتكي منه بيننا، قد طال الأبرياء الذين لا علاقة لهم بنا؛ لكن الطريف في الأمر أننا مع تجاذبنا الشتائم بالنصوص الدينية إلا أننا قد أجمعنا تقريبا على شتم أولئك بها، بل جعلناها لا تدل إلا عليهم، أو لا يُذكر أحد أولاً إلا هم! ونسينا أنّ بإمكاننا لو أردنا أن نذهب بهذه النصوص وفق الثقافة الشتائمية القائمة، فيستحضر بعضنا بعضا حين تفسيرها؛ فنحن عند أنفسنا أولى الناس بها، وأجدرهم بالتمثيل بنا عليها!
حديثي إليكم عن سورة عظيمة، من سور القرآن، سورة تُعدّ على قصرها رأس القرآن الكريم، بل هي كما جاء فيه (أم الكتاب)، ولهذه الصفة فيها أصبحت واجهة القرآن الكريم، وتقع في مفتتحه، ولا تكاد تجد في هذا العالم مسلماً، لا يعرفها، ويسعى جاهدا في تعلمها، وتقصّي معانيها؛ فهي أم المسلمين أيضا؛ إذ يتذكرونها أكثر من تذكُّرهم أمهاتهم وآباءهم! وكان مقتضى هذه العلاقة الحميمة بين السورة والمسلمين كافة أن يتنبهوا إلى أنهم هم أول المقصودين بها، والمعنيين بدلالتها؛ لكن الأمور جرت في ظني على غير ما كان المرء يتوقعه، ويميل به ظنه إليه!. واسمحوا لي أن أقول: إن كثيرا من المفسرين رحمهم الله عقّوا هذه الأم، حين صرفوا بعض آياتها عن مرادها الأقرب، ومعناها الأحكم عندي، وجعلوها مرهونة باليهود والنصارى، فأصبح المسلم حين يتلوها في صلاته (صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين)، لا يخطر في باله أنه المعني بها، والمقصود من نزولها، وما كان لهذا التجاوز في فهم الآية أن يحدث؛ لولا أنهم حين تلوها نظروا إليها من خلال تقديس الجماعة التي ينتسبون إليها، وتطهيرها من غضب الله تعالى ، وتنزيهها عن الضلال، فآلت الحال بهذه السورة التي لم يرتبط بالمسلمين شيء من سور القرآن الكريم مثلها إلى أن أصبحت دلالتها مُتعلّقة بأقوام آخرين، وهكذا أُجهضت ببعض الروايات الآية المحكمة التي جاءت لمراجعة المسلم لنفسه، وتحوطه من غضب الله تعالى ، وتحرزه من الضلال. لقد كانت الفاتحة أمّنا، ومتجهة إلينا وحدنا؛ لكننا حين قدسنا أسلافنا، وربطنا بينهم وبين النص الديني، رأينا في أنفسنا، وفي جماعاتنا، العصمة، فكان أن ارتبطت هذه الآية (غير المغضوب عليهم، ولا الضالين) باليهود والنصارى، وصار الجواب الحاضر على لسان العالم وغيره أن المراد بها تلكما الأمتان، وأخرجنا نحن الذين ما زلنا يُفسق بعضنا بعضا، ويكفر فريق منا الآخر من دلالتها أنفسنا، وأمِنّا من أن تكون عوناً لنا على مراجعة النفس، ومحاسبتها من أن تسلك طريق غضب الله تعالى ، ودرب الضلال، فكان هذا الموقف من هذه الآية الكريمة صورة من صور رفضنا النقد، وتعالينا عليه!
موقف كثير من المفسرين من هذه الآية الكريمة يكشف عن خطورة أن يُرهن القرآن الكريم وآياته بالروايات، وتُصنع دلالته من خلالها، فيتوقف المسلم على فهمه عندها، ويذر ما يعنيه منها. وأنا وإن كنت أنتقد الرواية، والاكتفاء بها في فهم الآية الكريمة، وتأمل معانيها إلا أنني أدرك أيضا أن المشكلة الحقيقية ليست في الرواية وكثرتها، وإنما في المسلم المقلد الذي أسلم لها قياده، ولم يستطع أن يتأمل الآية بعيدا عن تلك الروايات، فبتقليده وتقديسه حجبت تلك الروايات المعنى الأهم في الآية، والمقصد الأسنى من نزولها.
والفكرة التي أود التدليل لها، والاستشهاد ما استطعت عليها، هي أن تُخلى تفاسير سورة الفاتحة الحديثة، سواء المترجمة أم غير المترجمة، من ذكر اليهود والنصارى، ويُقتصر على تفسير الغضب، وذكر أسبابه، وبيان معنى الضلال من خلال آيات القرآن الكريم نفسه، ولي على هذه الفكرة، التي أبدو فيها مخالفا للكثيرين من المفسرين، من الحجج ما يلي:
أولا: أنّ هذه السورة العظيمة سورة مكية، بل قيل إنها من أوائل ما نزل من القرآن الكريم، بل قال بعضهم: إنها أول سورة نزلت (القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 1/ 154)، وهذا معناه أن المسلمين، ومعهم رسول الله عليه الصلاة والسلام كانوا يقرأونها في مكة، وفي صلاتهم بعد أن وجبت عليهم الصلاة، ولا يغيب عن بال مسلم أن الصراع المحتدم في مكة كان بين أهل الإسلام والمشركين من قريش، فكان من تحصين المسلم من أعداء الله تعالى ، لو أريد تحصينه كما يذهب المذهبيون اليوم، أن تنصرف الآية (غير المغضوب عليهم، ولا الضالين) إلى هؤلاء القوم الذين كان المسلمون يعيشون بينهم، ويتزوجون منهم، ويعملون في المهن عندهم، ولرأينا الروايات التي تؤكد هذا المعنى، وتجعل المشركين من أهل مكة أول من تنطبق عليهم هذه الآية.
لو كان ربط الآية شيئا ذا قيمة، وأمراً يهتم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقصد إليه خوفا على أتباعه من سبيل المشركين لكان ربط الآية بأهل مكة أولى من غيرهم؛ لأنها نزلت فيهم، ومنهم الذين كانوا قالوا:(وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم)، ولا أحسبكم ترون أحدا يستحق الغضب أولى من قائل هذا الكلام، والمنقول عنه! فكيف اختفت الروايات عن أعداء الدين في مكة، ولم يرتبط بهم تفسير الآية؛ مع أن ظروف الداعي والدعوة وأصحابها كانت أحلك ما تكون حين كان المسلمون في مكة؟!
وثانيا: أن المفسرين حين تقرأ نماذج منهم، تمتد من لدن الطبري حتى السعدي رحمهم الله تجدهم مختلفين في تبيان المراد من هذه الآية؛ فالطبري (جامع البيان 1/ 185) يطرح السؤال التالي:" فإن قال قائل: فمن هؤلاء المغضوب عليهم.." ثم يجيب أنهم اليهود، ويورد الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربط الآية بهذا المعنى وحده، ويفعل مثله في (ولا الضالين) (1/ 194).
وحين تطالع القرطبي (1/ 194) تجده يقول:" فالجمهور على أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى... وقيل: "المغضوب عليهم" المشركون، و"الضالين" المنافقون... وقيل: "المغضوب عليهم" باتباع البدع، و"الضالين" عن سنن الهدى.
قلت: وهذا حسن؛ وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأعلى وأحسن"، وهكذا يكون تعامل الطبري والقرطبي مع الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يُفسر معناها، ويُحدد المراد بها، وليس أن يضرب نموذجا عليه، وبين هذا وذاك فرق كبير، فعلى المعنى الأول تفقد الآية قيمتها عند المسلم إلا من معنى الحذر من هاتين الأمتين، والابتعاد عنهما، وهما الأمتان التي أُبيح للمسلم أن يتزوج منهما، ويختلط هو وأولاده بهما!
وحين تصل إلى السعدي تجده يبتعد قليلا عن ظاهر الروايات، ويرى أن الآية جاءت من أجل أن تُحدد معنى في الإنسان، وصفة فيه، وليس أن ترتبط بأمة، أو تُفسر بجماعة دينية، فها هو يقول:" الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم" ويقول:" الذين تركوا الحق على جهل وضلال، كالنصارى ونحوهم" إلا أنه لم يستطع أن ينظر إلى الآية الكريمة بعيدا عن الروايات التي ترتبط بزمان ومكان محددين، وهكذا لم يفرق هؤلاء المفسرون تفريقاً واضحاً بين النص القرآني الذي لا يرتبط بزمن، وبين تلك الروايات التي إن صحت كان ارتباطها بأهل زمان ومكان محددين!
وثالثا: أن ربط الآية الكريمة بهاتين الأمتين، فيه ظلم كبير؛ لأننا نعلم جميعاً أن منهما المؤمنين والصالحين والقانتين، وهذا بشهادة القرآن الكريم والسنة النبوية، وهذا يدفعنا إلى القول: إن المقصود بالآية بعض اليهود، وبعض النصارى، وحين نصل إلى هذا المعنى، سندرك أن هذا المعنى ينطبق علينا نحن المسلمين أولا؛ فقد ضلّلت طوائفنا بعضها، واتّهم بعضنا بعضاً بترك الحق بعد معرفته، فليس ثمّ داع لإيراد تلك الروايات، المرتبطة ببعض اليهود والنصارى، ونحن أقرب إلى هذه المعاني منهما!
ورابعا: أن النظر إلى نصارى هذه الأزمان ويهودها من خلال أوصاف بعض آبائهم الأولين يُعدّ من تحميل الجهمور العظيم ذنب القليل من أسلافه السالفين، فيُحسب على الإسلام وأهله بهذا أنهم يُحمّلون الأبناء وزر بعض الآباء، وهم الذين يقرأون في كتابهم الكريم:(ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى)!.
وخامسا: أن الربط بين الآية والنصارى واليهود يُقلق ثقافة المبتدع وهجرانه!؛ لأن هجران مَنْ غضب الله تعالى عليه، وضل عن الحق بترك طلبه، أولى من هجران المسلم المبتدع؛ فكيف إذن يؤذن بالزواج من الكتابية، وهي اليهودية والنصرانية، ويُؤمر بهجران المبتدع والمبتدعة؟!
إن إقرار فكرة هجران المبتدع والمبتدعة معناه أنهما أحق بتفسير الآية مما ذكره المفسرون، وهو المعنى الذي ألمح إليه القرطبي في قوله، واستحسنه!
وعلى كل حال، فرأيي في الآية الكريمة أنها تتحدث عن إنسانين؛ إنسان له عقل، استعمله، وعرف الحق به؛ لكنه تركه بعد معرفته، والوقوف عليه. وإنسان آخر أهمل عقله، وتجنّب توظيفه، وهو من يُقلد آباءه وأجداده، فالآية عندي حجة من حجج استنفار عقل المسلم، ودليل من أدلة حرية التفكير؛ فهي لم تُعب على المرء أن يلجأ إلى عقله، ويعتصم به، بل عابت عليه أن يُخالف ما وصل إليه به، ويدعه بعد الوصول إليه، أو يستسلم لمن قبله، ويذر عقله من أجله، وهكذا يبدو لي أن الآية تدور باختصار شديد حول المقلَّد، العارف بالحق، والتارك له، والمقلِّد الذي لا يريد معرفته، ويُضل نفسه بترك البحث عنه! وعذراً لمن انتظر مني أن أُوجز القول، فلم أُلبٍّ هذه المرة دعوته!.
المصدر: http://www.alriyadh.com/2014/01/08/article899171.html