تطوير اللّغـة العربيّة الفصحّى على هامش الجدل اللّغوي المغربيّ

 

اللّغة أداة تواصل. يقول إبن منظور عن اللّغة “أصوات يعبر بها قـوم عــن أغراضهم”. والإنسان كائن إجتماعي، و وسيلته في التواصل مع بعضه هي اللّغة. ومن هنا، كانت للغة أهميّة كبيرة. بل يمكن أن نقول أن هذه الأهميّة لا تتركز في فعـل التواصل فحسـب، وإنّما تتعـداه إلى تحقيـق وحدة و تفـاهم بيـن “الأقوام”. فالشعب الذي تجمعه لغة مشتركة هو شعب متماسك عكس الشعوب المتعددة الألسن. 



 وقـد أثيـر مؤخـراً في المغـرب جدل حول اللّغـة. إذ طالـب البعـض بتـدريس “الدّارجة المغربيّة” في المدارس. بمعنّى أنهم طالبوا بجعل الدّارجة مكان اللّغة العربيّة الفصحّى باعتبارها، أي الدارجة، اللّغة الأم للمغاربة. هـذه الأصوات الّتي طالبت بتدريس العاميّة لـم تلقّـى إلا المعارضـة من طـرف عامة الشّـعـب و كذلك من طرف مثقفي البلد. ومن أبرز هؤلاء المثقفين الذين وقفوا في وجه هذه الدعوة المبتذلة نجـد الأستاذ عبد الله العروي. فما الذي قاله عبد الله العروي عن هذا الموضوع؟ ولماذا اعترض على تدريس الدّارجة؟ وهل أتى برأي جديد في اللّغة؟



 لقد عبر عبد الله العروي عن موقفه من الأصوات المنادية بتدريس الدارجة من خلال حواره مع صحيفة مغربيّة (1)، ومن خلال برنامج تلفزي عرض على القناة الثانيّـة (2). كـان موقف العـروي تقليديا و مع ذلـك فإنّـه لا يخلو من التـجديد، كيـف ذلـك؟ لقد رأى العروي أن تدريـس الدارجة لا يمكن تطبيـقه في المـغرب بسبب تعدد اللّهجات و بسبب طبيعة التنظيم الإداري المغربيّ، فمشروع كهذا يحتاج لأن تكون الدّولة المشرفة عليه ذات تنظيم إداري يتسم بالجهويّة الموسعة. فضلاً عن ذلك، عبر عن رأيه في كون الدّارجة المغربيّة ليست مؤهلة لأن تكون لغة للتدريس، و كذلك فإن مشروع تدريس اللّغة الأم سيفصل المغرب عن محيطه العربي. والعروي رغم اعتراضه على تدريس الدّارجة فإنه عبر عن رأي مهم و خطير، فقد قال ما مفاده : “نحن من الآن بهذه اللّغة التي نتحدّث بها نسير في الاتجاه الذي سارت فيه جميع اللّغات حتّى اللّغات الساميّة. إلغاء أولاً، الحركات الأخيرة لأنها زائدة ( جاء الرجلُ، جا الرجل ). إلغاء المثنى. جمع الإناث  والذكور في صيغة واحدة. كان المطلوب من معهد التّعريب أن يسير في هذا الاتجاه، وتبسيط النّحو والكتابة والإملاء، إذا حصل هذا الأمر فإن هذه اللّغة المبسطة ستصبح هي الدارجة التي سنتفاهم من خلالها. ” إن في هذا الرأي حداثة ظاهرة، وتاريخانيّة بارزة أيضاً.



فالحداثة الّتي تعني مما تعنيه : تجديد ما هو قديم، و التي تبدأ قبـل أي شيء باحتـواء التراث وامتلاكـه ( الجابري. حوار المشرق والمغرب ) قـد برزت في رأي العـروي حـول تطوير اللّغـة العربيّة بعد أن امتلكناها لقرون. وأمّا التّاريخانيّة التي تتلخص في عـبارة : “الإنسان كائن تاريخي”. والتي تعني أن للتاريخ مسار، ولذلك فإن ما يسمّى بالتراث لا يمكن أن ينتمي إلا للتاريخ القديم. ذلك أنه من مبادئ التاريخانيّة ثبوت قوانين التطور التاريخي ( فنحن نسير إلى المستقبل و لا نقبع في زمن معين إلى الأبد ). و لما كانت اللّغة ظاهرة إنسانيّة فإنها كانت أيضاً خاضعة لهذا القانون، ومن هنا، فإنها لا شك ينبغي أن تتطور، و قد طرح عبد الله العروي مثالا للغة طورت نفسها وهي اللّغة العبريّة. والمتخصصون في اللّغات يدركون أن بعض اللّغات بالفعل طورت نفسها من خلال تبسيط قواعدها مثل الفرنسيّة و الإنجليزيّة.



 إن رأي العروي هذا يعبر عن حداثة الرجل في اللّغة، ولكن، هـل يمكن تفعيله مع اللّغة العربيّة؟ الواقع أن من يرى أن اللّغة العربيّة كباقي اللّغات فإنه لن يشكّ في كون هذا الرأي قابل للتفعيل. بيد أن إشكال اللّغة العربيّة متمثل أساساً في كونها لغة مقدّسة، ولذا يعد المسّ بها مساساً بالمقدّس، بكلام الله الغير مخلوق، أي بالقرآن. فكيف يمكن للغة القرآن أن نحذِف منها المثنى أو الحركات الأخيرة من الجملة وغيرها من الأمور؟




 إن من درس علوم القرآن (3) يدرك مدى اهتمام علـماء هـذا الحقل المعرفي باللّغـة، بل إن اهتمامهم تعدى قواعد اللّغة ليشمل الخط العربيّ أيضاً، فهناك مـن رأى أن الخط العثماني خط مقدّس لا ينبغي أن يكتب القرآن إلا بـه. وأيضاً نجد أن الفقهاء اعتمدوا على اللغّة في استخلاص الأحكام الشرعيّة.




 ما أعنيه أن تطوير اللّغة العربيّة لن يتم بسهولة مادام المدافعون عنها يستمدون قوتهم من سلطة المقدّس. و بالتّالي، فإن الأولـى هو الإصـلاح الدّيني، ثمّ يأتي بعد ذلك إصلاح اللّغة رغم أهميته.
 ختاماً، على الرغم من كون الإصلاح اللّغوي ضروري، فإنّه مستحيل في وقتنا الراهن، لأن مثل هذا المشروع الضخم يتطلب إرادة سياسيّة عربيّة أولاً، و ثـانياً يتطلب وجود قوى تنويريّة تحمل على عاتقها عبء النّهضـة و الإصلاح الدّيني (4). وهـذا، مع كامل الأسف والحسرة , ليس متوفراً في عالمنا العربـي و المغاربـي اليوم.



 



الهوامش :
1 ـ جريدة الأحداث المغربيّة
2 ـ برنامج : مباشرة معكم، يعرض على القناة الثانيّة المغربيّة. تم عرض الحلقة يوم 27 نوفمبر 2013.
3 ـ علوم القرآن هي مجموعة من العلوم تتصل بالقرآن كعلم التفسير و التجويد و اللّغة. . إلخ.
4 ـ نذكر أن النهضة الغربيّة بدأت بالتخلي عن اللاتينيّة ( لغة مقدّسة ) فكان دانتي من الأوائل المساهمين فيها عبر كتاباته باللّغة المحكية. و هذا يعني أن للـغة دورا في تحقيق النّهضـة.

المصدر: http://alawan.org/article12702.html

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك