الفرق الواضح بين النقد الموضوعي والاستهداف الفاضح
ليس هناك شيءٌ أضرّ على القضايا العادلة، من الشعارات الزائفة التي تتخذ الحق عنواناً، ثم تمارس تحت مظلته أشنع أنواع الباطل.
وإن الناظر في ضلال كثير من البشر على مختلف أنواع ودركات ضلالاتهم؛ يجدها تتخذ عنواناً ظاهره الرحمة وباطنه من قِبله العذاب .
فكم من فئة ضالة أعظمَ الضلال وأشنَعه تتسمى باسم (الإسلام الحق)، وكم من فرقة أقرب لعبادة الشيطان من عبادة الرحمن يسمون أنفسهم (الموحدين)، وما ضلالُ أعداء الملة ممن يتسمون بحبّ آل البيت عنا ببعيد.
إذاً فالدعاوى والشعارات لا تغني من الحق شيئا. وكل من ادعى قولا أو فعلا أو ممارسةً أو الدعوةَ إلى حق، فلا بدّ من عرض ِ دعواه على أوصاف ومعايير الحق الذي يدعيه، لنعرف صدق دعواه من كذبها.
ولأن الضرر والفساد الذي يُحدثُه من يمارسون الباطل تحت ستار الحق، أعظم من الفساد الذي يُحدثه المفسدون المُعلنون بفسادهم؛ كان كشفُ ومحاربةُ أدعياء الحق أشدّ وجوباً وأهمّ درجة ً من محاربة أهل الباطل المعلنين بباطلهم.
وإن من أهم القضايا وأكثرها إلحاحاً ومساساً بواقعنا اليوم، قضية النقد. نقد الأشخاص، أو نقد المسؤولين، أو نقد الجهات الحكومية.
فالنقدُ الموضوعي الهادف إلى الإصلاح، حقٌ مشروعٌ، وغاية نبيلة، وممارسة حضاريةٌ، تحميها الشرائع، وتكفلها الدساتير والقوانين.
لكنّ هذا الحقّ حتى يؤتي ثماره، ويُحقّق غاياته الإصلاحية، لا بد أن يكون محكوماً بمعايير وضوابط، متى انفكّ عنها أصبح فساده أعظمَ من صلاحه، وشرُّه أكثرَ من خيره.
وإن النقد الموضوعي البنّاء، الهادئ الصادق، الساعي للإصلاح الحقيقي، ما يزال – بحمد الله – مكفولاً نظاماً، وممارساً واقعياً، لدينا في المملكة.
ولأنه يوجد في المجتمع الكثير من الأفراد البعيدين كل البعد عن إدراك حقيقة وواقع القضية التي يتناولها هؤلاء (بمزاعم) النقد والنصيحة.
ولأن السمة الغالبة على المجتمع السعودي هي التدين وحبّ الخير؛ فقد استغلّ هؤلاء هذين الجانبين لحشد الناس وتجييشهم، وبلبلة أفكارهم، واستثارة مشاعرهم، لتحقيق غايات غير مشروعة، عند التحقيق والتدقيق، يتبين أن مبدأها كان من عدة أفراد يسعون لأهداف خاصة، وينتصرون لمصالحهم الشخصية.
وكثيراً ما كررت ُ وأكرر، أن مما يؤسف له في مجتمعنا السعودي، أن أسرع طريق يسلكه كل من أراد تحقيق غاياته الشخصية، أن يسلك طريق التدين، ويتمسح بمسوح الدين وشعاراته، سواء في مظهره، أو في أقواله وادعاءاته. وما زال الكثير من الناس يُخدعون المرة َ تلو الأخرى بهذه الدعاوى، وتخلق لأصحابها الجمهور العريض، الذين أصبحوا يُقادون دون بصيرة ولا تفكّر. فتعصف بهم الشائعات، وتؤججهم الأكاذيب، وقلّما يكون بينهم رجل رشيدٌ يطلب البينة، ويسلك سبيل التثبّت المأمور به شرعا.
أقول أدرك خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله – هذه الحقيقة، فكانت باعثاً على صدور الأمر الملكي الكريم بتعديل بعض مواد نظام المطبوعات والنشر، وذلك بتاريخ 25/5/1432ه، الذي جاء في ديباجته : "وانطلاقاً من هدي شرعنا المطهر بحفظ الكلمة وصيانتها وتحمل مسؤوليتها والتحذير من خطورتها على الفرد والجماعة ولما لاحظناه على بعض وسائل الإعلام من التساهل في هذا الأمر بالإساءة أو النقد الشخصي سواء لعلمائنا الأفاضل المشمولين بأمرنا رقم (أ/71) بتاريخ 13/4/1432ه أو غيرهم ممن حفظت الشريعة لهم كرامتهم وحرّمت أعراضهم من رجال الدولة أو أي من موظفيها أو غيرهم من المواطنين مستصحبين في هذا أن اختلاف الآراء وتنوع الاجتهادات مصدر إثراء يضاف لرصيدنا العلمي وأفقنا المعرفي على ضوء ما أرشد إليه سلفنا الصالح من اعتبار الاختلاف العلمي الرصين من سعة الشريعة ورحمتها بالأمة وأن الرجال يعرفون بالحق والحق لا يعرف بالرجال، مع إدراكنا لحقيقة النقد البناء الذي لا يستهدف الأشخاص والتنقص من أقدارهم أو الإساءة إليهم تصريحاً أو تلويحاً فالكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تتجلى في وجدان كل مخلص صادق لا ينشد إلا الحق بدليله ويسمو بنفسه عن كلمة السوء وتبعاتها في الدين والدنيا فحرية الرأي المنضبطة والمسؤولة التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام محل اعتبارنا وتقديرنا "
ثم جاء في ثنايا التعديل الكريم للنظام تجريم عدة صور للنقد الخارج عن حدود المشروع، وتحديد العقوبات الرادعة عليها.
وهذا بلا شك يُقصدُ به في المقام الأول، الممارسات التي تصدر عن فرد من أفراد المجتمع أياً كانت صفته أو موقعه، حين يمارس هذا النوع المحظور من النقد، الذي يخرج عن حدود محاولة الإصلاح، إلى الإساءة والتجريح الشخصي، لأحد مسؤولي الدولة الذين يؤدون أعمالهم، وهم محل الثقة، وفي ذات الوقت محل الرقابة من قِبل ولاة الأمر، والأجهزة الرقابية العديدة.
فالنقد الموضوعي الهادف للإصلاح يرتكز على نقد القرار، أو الممارسة التي يراها الناقد خاطئة ، وبلغة حضارية مؤدبة، ولا يتجاوز أبداً إلى التجريح لشخص المسؤول والنيل منه بتهكم أو اتهام بفساد أو سخرية.
إلا أن مما يؤسف له كثيراً، ما بدأ يظهر في الآونة الأخيرة، مما هو أخطر وأقبح من الممارسات الفردية غير المشروعة للنقد، إذ تجاوز ذلك إلى حملات مُنظّمة وجماعية، يقودها أفرادٌ قلائل في البداية، لهم دوافع لا تمت للإصلاح والنقد بصلة، إما بتصفية حسابات مع شخص المسؤول الموجه له النقد، وإما لمنطلقات فكرية إيديولوجية ضد المسؤول، فمشكلتهم مع المسؤول بشخصه لا مع ما يدّعونه من أخطاء أو مخالفات، قد تكون إما مختلقة، أو مُضخّمة، أو حتى تكون في حقيقتها حسنات وإنجازات لو فعلها غيره لصفقوا له وأزجوا الثناء.
ثم تصبح هذه الحملات المنظمة مثل كرة الثلج التي كلما تدحرجت كبرت، وينضوي تحت لوائها كثيرون، ما بين ساذج صدّق دعاية النصح والإصلاح، أو مغرض يطيب له السير في ركاب كل مرجف في المدينة.
وهكذا أصبح كثير من قطاعات الدولة أو كبار مسؤوليها، غرضاً سهلاً لمثل هذه الحملات الرخيصة، البذيئة، التي تستوطن وسائل التواصل الاجتماعي، وتصبح حديث المجتمع، وتزعزع سكينته، وتحبط أفراده.
ومثل هذه الحملات إن تُرك لها العنان دون ردع من يقف وراءها ومحاسبته، لا تزيد إلا وهناً، ولا كل من ابتلي بالمسؤولية والمنصب إلا ضعفاً وإحباطاً، ورهبة من العمل والإنجاز المثمر، الذي يتطلب سيراً حثيثاً، وقوة في طريق الإصلاح، الذي لا يقوم إلا على جثث أعداء الإصلاح ومصالحهم الشخصية.
ولعل لسان حال كل مسؤول يتم تكليفه واختياره، أن يقول : (احموا ظهورنا وأعراضنا لنعمل، أو اعفونا من هذا التكليف لنرتاح).
أسأل الله أن يصلح حالنا، وأن يوفق صالحينا، ويخيب سعي مفسدينا آمين.
والحمد لله أولاً وآخرا..
المصدر: http://www.alriyadh.com/2014/01/01/article897304.html