تعقيباً على فراس السواح "أهل الكهف" نموذجاً

 

نادر قريط

مطلع التسعينييات تعرفت على كتابات الأستاذ فراس السواح (صدر كتابه الأول: مغامرة العقل الأولى، عام 1976م) أنذاك أصطحبت كتابه (لغز عشتار) في إحدى الرحلات، التي قادتني لبلد عربي، وأثناء خروجي (حيا أرزق) إستوقفني الأمن في نقطة حدودية وأجرى تفتيشا دقيقا على حقيبتي، وبعد ساعة من الإنتظار فوجئت بمسؤول أمني يجلس الهوينى ويُقلب كتاب السوّاح، ويتفحص صور التماثيل الحجرية للإلهة الأم. وبعد أن تمطى في كرسيه سألني: هذا كتاب سوري عن الإلحاد أليس كذلك؟ قلت له: إنه كتاب عن الميثولوجيا في الشرق القديم؟ وخشية من إلتباس لفظ "ميثولوجيا" عليه أضفت موضحا:إنه كتاب عن الآثار القديمة؟ صحيح أن القصة إنتهت ومرت بسلام لكن سؤال المسؤول ظل عالقا بالذاكرة لغرابته وربما لأنه إنطوى على بعض الحقيقة فالكتاب المذكور بدا لي وكأنه منح عشتار الجنسية السورية، وشحنها بميول وأهواء وطنية معاصرة؟ مما أزعج أحد الأصدقاء العراقيين الذي قال لي بحمية وطنية مضادة: منذ متى أصبحت عشتارسورية؟ أليست هي ربة الخصب في أوروك الرافدية؟

أيضا مرت الأمور بسلام، فلو أخبرت هذا الصديق بأن كلمة "الخصب" هي إسقاط دلالي معاصر لفكرة الدعارة المقدسة التي مارسها الكهنة والكاهنات في المعابد القديمة، لثارت ثائرته القبلية ودخلنا في قضية "لايسلم الشرف الرفيع "





قد لاتكون هذه القصة مدخلا مناسبا لتناول باحث كبير قدم إضافات جليلة للمكتبة العربية، إنما رغبة من كاتب السطور لخلق جو نقدي، بعيد عن المداهنة والتملق الرخيص. وبعيد أيضا عن الجدل العصابي الحاد، وذلك لتعميق فكرة البحث المقارن، التي كانت ومازالت عصب الدراسات التي قدمها السوّاح في معظم أعماله
وتحديدا لسقف الحوار سأتناول دراسته المقارنة عن أهل الكهف. لكن أود قبلها ومن قبيل العرفان أن أشير إلى كتب الأستاذ السوّاح العديدة والغزيرة التي توّجها بموسوعة تاريخ الأديان إضافة إلى ما سبقها من أعمال مثمرة منحت جيلنا قيمة معرفية مضافة، كدراسته عن جلجامش، وآرام دمشق، والأسطورة والمعنى، ودين الإنسان وغيرها. وقد ساهمت لغة الكاتب الخصبة والميسرة في جذب القراء، إضافة إلى ما تزخر به كتبه من غنى معرفي وجهد ترجمي وبحثي جدير بالإعجاب.
وبالمناسبة لابد للمرء أن يلّمح أيضا لدراساته المقارنة في متون جريدة "الأوان" الإلكترونية، والتي بدأها بسلاسل بحثية متراصة توقفت شخصيا عند الكثير منها خصوصا المبكرة كالتطور الميثولوجي للسيد إبليس في الثقافات الشرقية أو ما أسماه "لاهوت الملاك الساقط" والتي بدأها بتجليات فكرة الشيطان في الحضارة المصرية، وإكتشافها في الموروث الزادشتي، ثم تحوّلاتها في ديانات التوحيد، وهي سلسلة كتابية يمكن للمرء قراءتها بشغف ولذة معرفية.






لكن هذه اللذة بدأت تخبو قليلا أثناء عرضه لسلسلة الآباء البطاركة وتجلياتهم في التوراة والقرآن. إذ يلاحظ القارئ حذرا شديدا في تعامل الكاتب مع المادة القرآنية لاتتناسب مع حرية البحث العلمي، أو مع أطروحاته التي تناولت التوراة على إنفراد، وقد يبدو هذا الأمر مفهوما للكثيرين، لكنه ليس مبررا، فالبحث العلمي لاشأن له برؤية الدوغما والمقدس، وعقائد الأفراد (بما فيهم الكاتب نفسه) فهو محاولة لفهم العوالم الداخلية للدوغما وتفكيك مركباتها الأسطورية بواسطة العقل وأدوات المعرفة.
لكن هذه الإشارة لاتقلل أبدا من جوهرية وأهمية المادة التي قدمها الكاتب (ولو بحيادية باردة وهدوء أعصاب منقطع النظير)






وبنفس الوقت لا يغيب عن بال القارئ النبيه، مدى صعوبة هذه البحوث المقارنة وما تستنزفه من وقت وجهد ناهيك عن الصعوبات البالغة التي تحف بها، والتي قد تسقطها تحت إملاءات هيمنة أكاديمية لسلطات أحادية المعرفة (خصوصا في ميدان العلوم الإنسانية) فكل ما نعرفه عن تاريخ الحضارات القديمة إرتبط (شئنا أم أبينا) بكشوف اللغة المسمارية والهيروغليفية في القرن 19 وتأويل قراءتها، الذي حدث على الأغلب لتبرير نسق توراتي (أسطوري) همه البحث عن جغرافيا الكتاب المقدس، وتبرير تاريخية سفر الخروج وسفر التثنية اللذين مارسا هيمنة على عموم الثقافة اليهومسيحية والإسلامية، وتدخلا بشكل سافر في بناء صورة ووعي تاريخي للحقب والسلالات، التي سادت الحضارات القديمة (خصوصا المصرية والرافدية) وتأويل أحداثها.





وبالعودة إلى صدد الموضوع وجدت أن دراسة الأستاذ السوّاح المقارنة عن قصة أهل الكهف، وفق التصورات السريانية والإسلامية تصلح ميدانا لإذكاء مزيد من الجدل المثمر الذي يساهم في تقديم تبادل رؤى حدائية لاتخدش الحياء العقلي، ولاتدخر جهدا في نقد الموروث الديني لثقافة الكهوف؟ سيما وأن هذه القصة الفريدة تجمع بين تقاليد نصيّة قرآنية، وموروث مسيحي مابعد إنجيلي؟! وربما تكون محاولة لبث رؤى جديدة حاولت كشف السياق التاريخي لنشوء هذه القصة اللطيفة والمؤثرة.
تعقيب على أهل الكهف بين الأدب السرياني والقرآن:






في ملخص سريع يقدم الكاتب (كما هو مألوف) الركائز الأساسية لكلا الروايتين، ويعرض أولا تداعياتها في النسق القرآني، كما وردت في سورة الكهف، وملخصها أن عددا من المؤمنين فروا من الإضطهاد الديني (دون أن نعرف هوية دينهم) ولجؤوا إلى كهف خارج المدينة (مجهولة) وهناك ألقى عليهم الله سباتا لمدة تزيد عن ثلاثمائة عام. ثم أحياهم ، أية للعالمين ليثبت قدرته في إحياء الموتى؟ ويسرد الكاتب الآيات الدالّة على ذلك (سورة الكهف 9ـ 26) بدءا من: (أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً) وختاما ب (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً. قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض، أبصر به وأسمِع، ما لهم من دونه ولي ولا يشرك في حكمه أحداً )



ثم يشير إلى أنها قصة مسيحية مابعد إنجيلية متأخرة دُوّنت في نص سرياني يعود لنهاية القرن الخامس ميلادي نقلا عن موروث شفهي. ووفق الهامش يستنتج القارئ أنه إعتمد موسوعة الأديان في قراءته للقصة السريانية: التي تحكي عن زيارة الأمبراطور ديوكيوس لمدينة أفسٌس (في الأناضول) وملاحقته للمسيحين وإضطهادهم، مما أدى إلى فرار سبعة فتيان (أو ثمانية) إلى كهف في جبل أنخيلوس، وشاء الله لهم سباتا دام ثلاثمائة وسبعة أعوام، وأثناء نومهم حدث تحوّل الدولة الرومانية إلى المسيحية.



وفي عصر الإمبراطور تيودوسيوس الثاني دار جدل حول بعث الموتى، حينها شاءت المشيئة أن توقظ الفتية من سباتهم. وتنتهي القصة بذهاب أحدهم للمدينة لشراء بعض الأطعمة فيتعجب من رؤية صليب على باب المدينة، ويصاب بالبلبلة وعندما يُخرج نقوده يرى البائع صورة الإمبراطور ديكيوس، منقوشة على العملة، فيظنّ أنّ الفتى عثر على كنز قديم، وهكذا يقصّ الفتى حكايته وتأكيدا لها يذهبون سوية مع مطران المدينة إلى حيث الكهف (وبعدها يحضر الإمبراطور نفسه ويأمر ببناء كنيسة في المكان) ويرون رقيمين معدنيين كتب عليهما مدة إحتباس الفتية في الكهف. وفي ذلك تأكيد على قدرة الله وبعث الموتى يوم الحساب.
بعد هذا السرد يقدم الكاتب مقاربته للرواية كما وردت في النسقين القرآني والسرياني، لكن قبل ذلك أرى أن نتوقف قليلا عند الرواية السريانية، فالكاتب كما هو واضح قدم مساحة مشتركة بين النص القرآني والموروث السرياني المسيحي وترك بوابة الأسئلة مفتوحة على مصراعيها.






أولا: بالقاء نظرة أولية يمكن القول أن الكاتب لم يناقش النص القرآني مباشرة، ولم يمطره بأسئلة نقد ـ تاريخية، كذلك الحال فإنه لم يتفحص النص السرياني جيدا بل أخذه على عواهنه دون تعريضه لرؤية نقدية متحررة. وهنا يستغرب المرء تجاهله لعلامتين مهمتين في النص تشكلان طرفي المعادلة الزمنية للقصة!! فإذا هرب الفتية من إضطهاد القيصر الوثني ديكيوس (250م) ودخلوا سباتهم ثم إستيقظوا في عصر القيصر المسيحي تيودوسيوس الثاني (408 ـ450م) فإن عدد سنوات نومهم لاتتجاوز مائتي سنة وهنا تسقط القصة في تناقض داخلي، لهذا فإن الروايات المسيحية لاتحدد إسم القيصر الذي ذهب إلى المغارة، وبالتالي تلتف على عدد سني السبات، لكن الشائع أن تيودويوس الثاني هو الذي أمر ببناء سور حول مغارة النيام السبعة (إسم القصة بالموروث المسيحي) وأمر بوضع لوح رصاصي يحدد فترة نومهم؟ لذا فإن نصوص مثل legend aurea تحدد زمن نومهم ب 196سنة، ونصوص أخرى تحددها ب376سنة ممادفع أحد النقاد(1) إلى السخرية قائلا: إن إبتلاع مائة سنة كان أمرا بسيطا، لأنه يعني حسب الأرقام الرومانية خسارة حرف C



ثانيا: بعكس ما ذكره الكاتب نقلا عن النص السرياني وحضور الإمبراطور إلى المكان واستماعه للفتية وأمره ببناء مقام دينيّ في موضع الكهف. فإن الرواية المسيحية الشائعة للقصة تذكر أن الفتية تحولوا إلى رماد بعد أن تبع الأهالي (أو الباعة) الفتى ديوميديوس ظنا منهم أنه يخفي في المغارة كنزا. وبرأيي أن هذه الخلاصة كانت ضرورية في عملية إختلاق المعجزة، وذلك للتستر وطمس المعالم الحسية للفتية. ووقف تساؤلات الفضوليين وبنفس الوقت تعكس مدى إرتباك الموروث الشفهي إبان مرحلة تدوين هذه الحكاية، ولاتخفي رغبة السلطة الكنسية حينها في إختلاق"مغارة مقدسة" في أفسس لجلب الحجيج والزوار (وسلال البيض والهدايا والنذور) وهي تجارة معروفة منذ نشوء أول معبد سومري حتى يومنا هذا؟



ثالثا: إستمرارا في بحث تاريخية الرواية ومسارها الزمني هناك إشارات بأن القصة إنتعشت في عهد الإمبراطور جوستنيان 544م حيث يُعثر على أولى الإشارات الكنسية لها. لكن الناقد Topper U. يعقب قائلا: بإن إزدهار النقاش حول فكرة القيامة وعقيدة البعث، لابد إشتعلت مع شيوع فكرة "نهاية العالم " بين القرنين 12 و13 م إثر إندلاع الطاعون الذي ضرب أوروبا، ففي ذلك الوقت نعثر على وثائق كتابية مدوّنة لهذه الأسطورة كما وردت عند ميخائيل السوري 1199م الذي نسب معلوماته إلى مطارنة من القرن السادس م ، كما نسبت نصوص أخرى إلى غريغور الطوروسي (540ـ594 م) لكنها تبدو غير منطقية لأنها جعلت أحداث القصة تدور في مرسيلية (جنوب فرنسا) وبالعموم فإن القصة كانت متشرة ومؤثرة في مجمل حوض المتوسط والدليل أن مغارة أفسس مازالت تحتل موقعا مقدسا في الذاكرة المسيحية ومازالت حتى يومنا قبلة للحجيج بعد روما والقدس (2).



رابعا: أيضا وفي السياق الزمني للقصة أتوقف قليلا عند آية: ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً قل الله أعلم.. فالملاحظة النقدية تمنح الإنطباع بأن النص القرآني كان يعلم بالجدل الدائر حول مدة نوم الفتية، لهذا إستقى الرقم 309 سنة الأكثر شيوعا، وهو برأيي المتواضع عبارة عن 300سنة شمسية (حسب التقويم البيزنطي) أضيف لها تسع سنوات لتعادل الحساب القمري الإسلامي، من هنا يمكن أن يلمس القارئ: "أثر الأرجحة" (3) للتراث المسيحي على النص القرآني والعكس، خصوصا وأن الأستاذ السوّاح يعلمنا بأن مدة السبات حسب النص السرياني بلغت 307سنة. بكلمات أخرى لايُستبعد أن يكون هذا الرقم السرياني متأثرا بالنص القرآني.



خامساً: ليست قصة أهل الكهف هي الإعجاز الوحيد فعلى منوالها تخبرنا سورة البقرة ـ259 عن رجل مر بقرية خاوية من عروشها "قال انى يحيي هذه الله بعد موتها فاماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما او بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر الى طعامك وشرابك" إلى آخر الأية وهي تتشابه مع قصة أهل الكهف ومع نص توراتي في حزقيال 37




في الختام أود أيضا أن أتوقف عند بعض المقاربات بين النصين القرآني والسرياني كما أوردها الأستاذ السوّاح:

فالروايات المسيحية عموما تعتبر عدد الفتية سبعة(4) لذا تسمى بقصة "النيام السبعة" وهي ترادف مقولة "أهل الكهف" لكن النص القرآني يوحي بوجود جدل واسع حول عددهم: سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب، ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم. قل ربّي أعلم بعدتهم.

أليس محيّرا حقا أن يذكر النص هذا الجدل ثم لايعلمنا بعددهم الحقيقي، ولماذا يبقي عددهم سرا من الأسرار الإلهية "قل ربّي أعلم بعدتهم" ؟ أم أن المسألة تعكس حيرة ضمنية لآخرين يعرفهم ويقدرهم القارئ العلماني؟ وهذا ينطبق أيضا على عدد سني سباتهم، فالآية تقول: - ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وزادوا تسعاً. والله أعلم بما لبثوا. والسؤال يكرر نفسه: لماذا أبقانا النص في حيرة ولم يخبرنا بعدد السنين ويحسم الجدل؟ أليس حريا بالعليم أن يخرجنا من جهلنا وينجينا من غينا وشرورنا؟ ومن ثقافة الكهوف



هوامش:



1ـ فصل النيام السبعة: Die sieben Schläfer

Geschichtsfälschung von : Uve Topper 2000

2 ـنفس المصدر

3ـ أثر الأرجحة ترجمة لفظ ألماني Schaukeleffektوالمقصود بها التأثير المتبادل .

4ـ يبدو لي أن رقم ثمانية غير محتمل، بسبب السطوة الميثولوجية للرقم سبعة.

المصدر: http://www.il7ad.com/topic/119377-%D8%AA%D8%B9%D9%82%D9%8A%D8%A8%D8%A7-%...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك