مع داعية الحق في همومه
يعقوب عبدالرحمن (المصريون)
الشيخ محمد الغزالي أحد رواد الدعوة الإسلامية الحديثة، وأحد من نفتقدهم في هذه الأوقات العصيبة التي يختلط فيها الحابل بالنابل، والتي أصبحت فيها الدعوة الدينية هي مهنة من لا مهنة له، ويتصدى للدعوة الإسلامية من يعوزه – على حد قول مقدمة كتابه الرائع (هموم داعية)- الحس الصادق، والعقل الراجح، والاطلاع الواسع. وحسن الفقه لمعركة الإسلام وخصومه، ولنقرأ له ما قاله بالأمس وكأنه يتحدث ويرى أحداث اليوم رأي العين وهو غائب عنا؛ لذا أترك المقالة بأكملها لمقتطفات من كتابه الرائع الذي تحدث فيه عن متاعب الأمس وكأنه يحكي أشجان اليوم.. يقول الشيخ الجليل:
"إننا عشنا لنرى دك مدن عظام وتمزيق أمة كبيرة وغيبوبة الوعي الإسلامي بإزاء آلام تحرك الرواسي، ومع النشاط الهائل الذي يسود جبهة الأعداء فقد رأيت بني قومي لا يزالون يمضغون خلافات جوفاء، وتسيطر عليهم أفكار ضحلة، وتسّيرهم أهواء قاتلة وشهوات غبية.
أحيانا نتحرك في موضعنا، وأحيانا نسير في طريق مسدود، وأحيانا نضرب عن يمين وشمال وكأن بيننا وبين الطريق المستقيم خصومة..!!
ففي عالم يبحث عن الحرية نصور الإسلام كدين استبداد، وفي عالم يحترم التجربة ويتبع البرهان نصور الدين غيبيات مستوردة من عالم الجن وتهاويل مبتوتة الصلة بعالم الشهادة، وفي عالم تقارب فيه المتباعدون ليحققوا هدفا مشتركا، فلا بأس أن يتناسوا أمورا ليست ذات بال، في هذا الوقت ترى أناسا من الدعاة يجترون أفكارا بشرية باعدت بين المسلمين من ألف عام ليشقوا بها الألفة ويمزقوا بها الشمل!!
ثم يقول: "وقد قرأت نبا هذا الكاثوليكي الذي تبنى ثلاثين ألف طفل مسلم في الصومال، لينشئهم على النصرانية بداهة، وقلت أن جزءا من المال العربي الضائع في أندية القمار كان يمكن أن يحفظ مستقبل هؤلاء، وما أكثر أيتامنا الذين استولت عليهم مؤسسات التبشير من جراء هذا التفريط".
خلافات ثانوية:
وتحت عنوان إقحام السلف في فقه الفروع، ذكر شيئا مما كان بين بعض المنتسبين للحنابلة والشافعية من خلاف ثم قال: "والتبعة ليست على رعاع يمزقون شمل الأمة بتعصبهم، وإنما على علماء يعرفون أن رسول الله حكم بأن للمجتهد أجرين إذا أصاب وأجر واحد إذا أخطأ. إنني ما رأيت – فيما بلوت –الخلاف الفقهي يتحول إلى عناد شخصي ثم إلى عداء ماحق للدين والدنيا، فكيف إذا تصور البعض أن الأمر ليس خلافا في الفروع ولكنه خلاف في الأصول، فتكون المصيبة أدهى وأمّر.
وعن نفس الأمر، والخلافات الثانوية التي يضمها أصحاب الفكر المختل يقول: "ما قيمة أن يشرب المرء قائمًا أو قاعدًا فهناك مرويات تحبذ هذا وأخرى تحبذ ذاك، وأن هناك فقهاء يبيحون هذا ويفضلون ذاك، وأن لا جريمة في هذا أو ذاك، وأن بعض أصحاب العقول الفارغة يريدون أن يجعلوا من الحبة قبة.
وعلى نفس المنوال يقول إن هناك من ظن الأفغانيين من أتباع أبي حنيفة أكثر شرًا من الشيوعيين أتباع كارل ماركس لماذا؟ لأنهم لا يقرءون وراء إمامهم فاتحة الكتاب في الصلاة!! ويقول في معرض ذلك: "المسلم الذي يحترم دينه وأمته لا يرى الصواب حكرا عليه فيما يعتنق من وجهات نظر، فقد يرى الصمت وراء الإمام عبادة، ولكنه لا يجب أن يزدري أو يخاصم من يرى القراءة عبادة، ثم يقول هذا هو الدين لا دين غيره!!
ثم يقول وكأنه يري ما يحدث من شيوخ اليوم رأي العين: "لقد خامرني الخوف على مستقبل أمتنا لما رأيت مشتغلين بالحديث ينقصهم الفقه، يتحولون إلى أصحاب فقه، ثم إلى أصحاب سياسة تبغي تغيير المجتمع والدولة على نحو ما رووا ورأوا! – إن العقول الكليلة لا تعرف إلا القضايا التافهة، لها تهيج، وبها تنفعل، وعليها تصالح وتخاصم! هززت رأسي أسفا وأنا أرمق مسار الدعوة الإسلامية!
ثم أليس من المضحكً أن يدخل داعية في مسجد فيرى المنبر من سبع درجات، ويقول: بدعة! فيقف على الثالثة فقط لا يعدوها، ثم يرى المحراب فيقول: بدعة!، لماذا؟ لأنه مجوف في الجدار، ثم ينظر إلى الساعة فيقول: بدعة!، لماذا؟ لأنها تدق كالجرس! وأخيرا يتكلم فيخوض في موضوع غث لا ينبه غافلا، ولا يعلم جاهلا ولا يكيد عدوا، والمهم عنده الاستمساك بالسنة وعلى النحو الذي يراه... فأي سنة تعني، إن الرسول عليه السلام قدر بسنته على إحياء أجيال وأجيال بدلت الأرض غير الأرض، وحطمت إمبراطوريات ذاهبة في الطول والعرض، وأنعش بسنته جماهير كانت في غيبوبة وأطلقها تسعى بعد ما أضاءها من الداخل فعرفت المنهج والغاية، إننا بحاجة إلى شعاع على مسار الدعوة وحقيقة السنة، فكم ظُلمت السنة مما يتشدقون بها.
ويقول وكأنه يخاطب أولئك الذين يتخابثون بالمقولة الحمقاء الخبيثة: "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين: "بنو إسرائيل يديرون المعركة على أساس ديني بحت، ويستقدمون أتباع التوراة من المشرق والمغرب قائلين: تعالوا إلى أرض الميعاد، تعالوا إلى الأرض التي كتبها الله لأبيكم إبراهيم كما أكد العهد القديم.
وعن مهزلة الفصل بين العروبة والإسلام يقول: "حتى جاءت هذه الأيام النحسات، فإذا ناس من العرب ينسون عمر، والإسلام والتاريخ كله ويقولون: نحن أبناء كنعان، وكأنهم مسحورون بالاستعمار العالمي الذي ألغى الدين، وجعل في مكانه الوطنية أو القومية! وفي الوقت الذي يتعرى فيه العرب عن دينهم ويعيشون مكشوفي السوءة، يتسربل اليهود بعقيدتهم ويصرخون بحماس هائل نحن أبناء التوراة وأولاد الأنبياء، نحن بنو إسرائيل!!
ثم ينكأ الشيخ الجليل الجرح المؤلم كما يقولون عندما يتحدث عن "الشورى والحرية في الإسلام" فيقول: لابد من إكراه الكبار والصغار على الاهتمام بها، فإن فساد نفر من الحكام جر على ديننا وأمتنا بلايا غليظة، إن الخونة الذين مهدوا لسقوط أنطاكية والقدس وغيرها أنجبوا وتركوا لنا في عصرنا هذا من يمهد لضياع عواصم الإسلام كلها، والسكوت كفر!!
ونأتي إلى أخطر فقرات الكتاب وتحت عنوان فرعي: خطر عودة الإسلام يقول وكأنه يرى ما يحدث اليوم:
"جاء في النصوص السرية التي نشرت أخيرا فيما ما ورد في تقرير وزير المستعمرات البريطانية "أورمسي غو" لرئيس حكومته في 9/1/1938، وهي الوثيقة المحفوظة بالمركز العام للوثائق بلندن تحت رقم 371/5595: "إن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه!!"، وليست انجلترا وحدها هي التي تلتزم بذلك، بل فرنسا أيضا!! .. ومن دواعي فرحتا أن الخلافة الإسلامية قد زالت.. لقد ذهبت ونتمنى أن يكون ذلك إلى غير رجعة!...
إن سياستنا تهدف دائما وأبدا إلى منع الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامي ويجب أن تبقى هذه السياسة كذلك! إننا شجعنا في السودان ونيجيريا ومصر ودول إسلامية أخرى – وكنا على صواب – نمو القوميات المحلية، فهي أقل خطرا من الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامي، إن سياستنا الموالية للعرب في الحرب العالمية الأولى لم تكن ضد تركيا فحسب، بل لغرض أهم هو إبعاد سيطرة الخلافة الإسلامية على المدينتين المقدستين مكة والمدينة، فإن العثمانيين كان يمدون سلطانهم إليها بقصد معانِ مهمة.
ومن أسباب سعادتنا أن كمال أتاتورك لم يضع تركيا في مسار قومي علماني فقط، بل أدخل "إصلاحات" بعيدة الأثر أدت إلى نقض المعالم الإسلامية لتركيا". وفي إيران أيضًا وقع مثل ذلك فإن "رضا شاه" اتبع سياسة تحد من إرادة ومقدرة المؤسسات الدينية، وأدخل القبعة كما فعل الأتراك بكل ما تحمله القبعة من دلالات على رفض العادات الإسلامية والتقاليد الموقرة المتبعة من قبل".
الدين في السياسة والعسكرية
وتحت عنوان "تصعيد الروح المعنوية قوة ونصر يقول الشيخ الجليل: "عقب هزيمة سنة 1967 كان الجيش المصري يعاني آلاما نفسية هائلة، وكنت مع عشرات الدعاة نختلط برجاله ونتحدث معهم حديثا ذا شجون، وكان الحاج "حافظ سلامة" إمام مسجد الشهداء قد عقد اتفاقا مع الضباط المنبثين في الجبهة أن يزودهم بخطباء يصلون الجمعة بالجنود، وآخرين يسمرون معهم بالليل، ويدرسون معهم فصولا من الجهاد الإسلامي، وكانت السيارات تنقلنا عشرات الأميال لنقوم بهذه الواجبات ثم تعود لتجمعنا من الفرق التي توزعنا عليها – لنبيت في مسجد الشهداء أو ليعود بعضنا إلى القاهرة. وبقينا سنوات لا نسأم من الحشد وتصعيد الروح المعنوية، وبين الحين والحين كنت أذهب مع بعض الإخوة لنرى اليهود قابعين على الضفة الشرقية، فتسري الكآبة في فؤادي وأتراجع مخترقا الدور المهدمة – وما أكثرها وأقول في نفسي: لو كان هذا التخريب أثر مقاومة شريفة من بيت إلى بيت، ما حزنت، ولكنه عمل قادة صغار ضاعت عقولهم من فرط الإدمان وضاعت أخلاقهم من فرط التهارش والأثرة!!
وكان آخر العهد بهذه الجبهة أوائل عام 1973"وبعدها يصف لنا عبور القناة فيقول: أخذ الجنود يتدفقون حول خط بارليف، وكان التكبير يقصف كدوي الرعد من شمال إلى جنوب، وأن الرمال الساكنة تحولت إلى خلايا محمومة لا تسمع منها إلا صياح الجنود باسم الله، وأخذت مطارق المؤمنين تنهال ببأس شديد على سلسلة الحصون التي شادها النبوغ العسكري ليدكها" وقلت لمن حولي: أعرف أن جنودنا قاتلوا اليوم فقط بطبيعتهم الإسلامية.
صدقت يا شيخنا الجليل .. رحمك الله.
وفي النهاية أقول: إن هذه السطور القليلة التي انتقيتها من الكتاب الجميل لا تغني عن قراءته.
المصدر: http://articles.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=192616