فقر الصديق الوفي .. أشد صنوف الفقر

د. خالد سعد النجار

حكى الواقدي المؤرخ الشهير قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي والأخر نبطي، كنا ثلاثتنا كشخص واحد. وقد ألمت بي ذات يوم ضائقة شديدة، وحضر العيد فجاءت امرأتي إلي وقالت: أما نحن - أنا وأنت - فنصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء الصغار فقد قطعوا قلبي رحمة لهم لأنهم يرون صبيان الجيران وقد تزينوا في عيدهم وهم على هذه الهيئة الرثة، فاعمل على أن نتدبر مالا بسرعة كي نشتري لهم ثياباً لهذه المناسبة، قال: فكتبت لصديقي الهاشمي أساله المساعدة، فبعث إلي كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف درهم، ولم أكد أهم بفتح الكيس حتى وصلتني رسالة من صديقي الآخر النبطي يسألني فيها المساعدة، فأرسلت إليه الكيس الذي بين يدي كما هو وخرجت إلى المسجد، وأقمت ليلتي متجنباً أن أواجه امرأتي بواقع ما فعلت.

ولما عدت إليها بعد ذلك وأخبرتها بما حصل استحسنت الأمر ولم تعنفني فيه. وبينما أنا كذلك، إذ قرع بابي صديقي الأول الهاشمي وفي يده الكيس نفسه الذي كان قد أرسله لي، وأرسلته أنا إلى صديقنا النبطي، قال صديقي الهاشمي وهو يضع الكيس بين يدي: أخبرني عما فعلته بهذا الكيس الذي أرسلته إليك، لقد أرسلت إلي تطلب مالاً، وأنا لا أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك، وقد أرسلت إلى صديقنا النبطي أسأله المساعدة فبعث إلي بكيسي الذي أرسلته أنت إليه، وختمي ما يزال عليه. 

أدهشني جدا ما رواه صديقي الهاشمي، ولم أدر ماذا أفعل بهذا المال العائد إلي، ثم إني اهتديت إلى أمر ففتحت الكيس وأعطيت لامرأتي مائة درهم، وقسمت ما تبقى مع صديقي الآخرين، فحصل كل منا على ثلاثمائة درهم. وقد علم الخليفة المأمون بهذا الذي حدث لي فاستدعاني إليه، وطلب مني أن أروي له قصتي مع صديقي ففعلت، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار منها ألف للمرأة، وألفان لكل واحد منا.



الصديق ملمس ناعم، وعبارة دافئة، وعلاقة طيبة، ومؤانسة في وحشات الدنيا، وربما تطور الأمر أيضاً إلى إعانة ونجدة، فكان هذا الصديق - كما يقولون –: «نعم الرفيق في وقت الضيق». 



الصداقة عطف متبادل بين شخصين يريد كل منهما الخير للآخر، مع العلم بتلك المشاعر المتبادلة فيما بينهما. 

الصديق هو من يعش معك فكريا ووجدانيا، ويتحد وإياك في الأذواق، وتسره مسراتك وتحزنه أحزانك، وبذلك تقوم الصداقة على المعاشرة والتشابه والمشاركة الوجدانية. 

الصداقة ركن مهم في حياة الإنسان‏، لا ينبغي له أن يغفلها‏، فنحن نحتاج إلى دعم نفسي في رحلة الحياة‏ .. نحتاج من يشاركنا لحظة الألم‏، ولحظة الفرح‏، ولحظة الزهو والنجاح ‏.. نحتاج إلى كلمة تشجيع تداوي الجراح‏، وتساعد عند الإحساس بالضعف .. فالوحدة تفقد الإنسان عقله، والصديق مهمته جليلة، فهو يحافظ على التوازن النفسي للإنسان. 



يقول (د. ليون) الذي أجرى دراسته على 4725 شخصاً في ولاية (كالفورنيا) والتي استغرقت تسع سنوات: إن نسبة الوفيات ترتفع عند الأشخاص الذين لا يسعون إلى تكوين صداقات، أو الذين لديهم عدد محدود من الأصدقاء .. بل إنهم يكونون أكثر من غيرهم عرضة لأمراض القلب والسرطان والتوتر النفسي والشعور بالاكتئاب.



تنحدر الصداقة من الصدق، والصدق عكس الكذب. فالصديق هو من صدقك، أما الذئاب - وهم كثر - فيتزينون بزي أصدقاء وهم براء من الصداقة، نواياهم سيئة وحبهم رياء وكذب .. إنهم وصوليون لا أكثر ولا أقل، ترى واحدهم كما يقول الشاعر: 

يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويَروغ منْك كما يَروغ الثعلبُ
الصداقة هي علاقة تتم في إطار كل ما يمكن أن نصفه "بالمتبادل"، أي إطار من المعرفة المتبادلة، الاحترام المتبادل، العاطفة المتبادلة، القبول المتبادل، الولاء المتبادل. ومفهوم التبادل هنا يكون من أجل صالح الطرف الأخر ومنفعته قبل منفعة النفس والحرص على الذات. ويسير مفهوم الصداقة في إطار هذا السلوك المتبادل من إسداء النصائح، مشاركة الصعاب وأوقات المحنة، فالصديق هو من يُظهر رد الفعل الإيجابي الفوري. 



والصداقة أيضاً هي تبادل الثقة وتجنب فعل ما يؤذى الغير .. يروى أن رجلاً من الصالحين ذهب إليه صديقه ليقترض منه مبلغاً من المال، فدخل الرجل مسرعاً وأحضر المال، وأعطاه صديقه ثم دخل الرجل منزله وأخذ يبكي، فقالت له زوجته: لماذا تبكي؟! قال: لأنني لم أسأل عن حال صديقي حتى اضطررته أن يسألني.

ومن معاني الصداقة ما حكاه القاضي عياض في "المدارك" أن الإمام سحنون وصاحبيه عون بن يوسف وابن رشيد، دخلوا على أسد بن الفرات، فسألهم عن مسألة، فابتدر لجوابه صاحبا سحنون وسكت سحنون؛ فلما خرجوا قال له صاحباه: لِمَ لَمْ تتكلم؟ فقال سحنون: ظهر لي أن جوابكما خطأ - وبيّن لهما ذلك - فقالا: لِمَ لَمْ تتكلم بهذا ونحن عنده؟ قال سحنون: خشيت أن ندخل عليه ونحن أصدقاء ونخرج ونحن أعداء. 



وقضية الصحبة قضية دين وليست دنيا فقط، وتأمل ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" [أبو داود] أي فليتأمل أحدكم بعين بصيرته إلى امرئ يريد صداقته فمن رضي دينه وخلقه صادقه وإلا تجنبه، وقد قيل: الصاحب رُقعة في الثوب، فلينظر الإنسان ما يرقع به ثوبه. 

اتخذ أصدقاؤك من الذين يرقون بك شَطْر القمم، واترك الذين ينزلون بك إلى السّفح .. انتق أصدقاءك من أولئك المتفائلين المحافظين على فرح القلب .. أرس قواعد صداقتك على من يعادلونك حالة وذوقاً وهدفاً وثقافة، وإذا شئت أن تكون صداقتك صحيحة ثابتة فتعود أن تعطي أكثر مما تأخذ، فهذه شريعة الحب الأساسية، فالصداقة هي محبة تبذل ذاتها. 



ولا تحاول أن تجد صديقاً خالياً من العيوب - هذا شيء محال - ولكن مده بالمساعدة ليتخلص من سلبياته، فالصداقة لا تنشأ ولا تترعرع إلا بالصراحة الكبرى والإخلاص العميق الذي يفتح القلب حتى أعماقه .. اخدم صديقك ولا تستخدمه .. أحبب صديقك وليس ما يملك .. أن تحب صديقاً فهذا يعني أن تضع رجاءك فيه، وتكون له وفيا، وتفتح له رصيداً في قلبك، وتُكْبر شَمائِلهُ، وتُقاوِم شوائبه وتحبه وتساعده.

إن الشخص يبدأ في الشيخوخة عندما يعجز عن اكتساب أصدقاء جدد، لأن مداومة الاختلاط بالناس دليل على الاستعداد للتطور واستيعاب الأفكار الجديدة، والحيوية، وحب الحياة. فإنك إذا اكتفيت بصلتك بأصدقائك القدامى وزملاء العمل الذين اطلعت على جميع أفكارهم وآرائهم، توقف تطورك الذهني، وحيل بينك وبين نواحي التجدد التي تطرد السأم والملل.



وخير الأصدقاء الذي لا تتغيّر طباعُه مع مرور الوقت، وتدوم صداقاتهم سنين طوال، يحافظون عليها مهما اختلفت وجهات النظر، ومهما احتدت المناقشات الجارية بينهم، فإنهم سرعان ما يبتسمون ليعودوا إلى الصداقة التاريخية التي دامت عقودا، قال مصطفىَ أمين: "خيرُ الأصدقاء من لا يتلوّن إذا تغيرّ الزمان" .. لكن هذا في الناس عزيز، ولذلك قال –صلى الله عليه وسلم:"أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما " [رواه الترمذي] أي أحببه حباً قليلاً مقتصداً لا إفراط ولا تفريط فيه فإنه "عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هونا مّا" فإنه "عسى أن يكون حبيبك يوماً مّا" أي ربما انقلب ذلك بتغيير الزمان والأحوال بغضاً فلا تكون قد أسرفت في حبه فتندم عليه إذا أبغضته، أو حباً فلا تكون قد أسرفت في بغضه فتستحي منه إذا أحببته، وقال ابن العربي: معناه أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن فقد يعود الحبيب بغيضاً وعكسه، فإذا أمكنته من نفسك حال الحب ثم عاد بغيضاً كان لمعالم مضارك أجدر لما اطلع منك حال الحب بما أفضيت إليه من الأسرار، وقال عمر -رضي الله تعالى عنه-: "لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً".



وهذه حقيقة مهمة في الحياة لأن الناس ليسوا جدراناً، أو أحجاراً، بل هم "بشر" تؤثر فيهم المؤثرات الاجتماعية، فمن كان منهم جيداً الآن فلا يعني أنه سيبقى كذلك إلى الأبد، ومن كان رديئاً، فلا يعني أنه سيبقى كذلك، إلى الأبد .. فلا ينبغي أن تكون الصداقة "مطلقة"، وبلا حدود .. بل يجب أن تكون مسيجة بحدودها المعقولة، ومحدودة بمقاييسها الإنسانية.

المصدر: http://articles.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=192157

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك