كي نصنع غدنا المختلف
الكاتب: توفيق السيف
(1)
المجتمعات، دخلت فعليا في طريق التغيير. الثقافة السياسية للجمهور تتحول سريعا من النمط الانفعالي السلبي إلى النمط التفاعلي المشارك. قارن بين نماذج عشوائية من تعبيرات الناس عن أنفسهم قبل خمس سنوات وتعبيراتهم اليوم: اللغة المستخدمة، نوعية الهموم والانشغالات، رؤية الأفراد لذاتهم وللعالم، الوسائل التي يستخدمونها لتعميم هذه التعبيرات وعرضها على الآخرين. سوف تكتشف أن ما يجري الآن أقرب لما نسميه “الحداثة”.
(2)
خلال عقد الثمانينات من القرن العشرين شهدت المملكة تأسيس القوى الأهلية الجديدة التي نراها فاعلة اليوم. أكثر هذه القوى تطور في رحم الدولة وقليلها وُلد ونما خارجها. عِقد التسعينات كان حقبة الفطام. الذين ولدوا من رحم الدولة انفصلوا عنها، والذين ولدوا خارجها حسموا خياراتهم السياسية. وسار الطرفان باتجاه متقابل، نرى اليوم أنه يتوحد في عناصر كثيرة. الخطاب العام لمعظم القوى الأهلية، حتى التي كانت متفارقة منها، يتبنى مبادئ أساسية متشابهة: احترام حقوق الإنسان، حرية التعبير، التعددية، المشاركة السياسية، سيادة القانون، دولة المؤسسات.. الخ. نحن إذن نسير نحو هدف واحد وإن تشعبت مساراتنا أو اختلفت أولوياتنا. بل حتى لو تعادينا وتناكفنا بالأمس أو اليوم.
(3)
فكرة التحديث في المجتمع السعودي كان يراد لها أن تقتصر على الاقتصاد والإدارة الرسمية. تحديث الإدارة يجعلها أكثر فاعلية وقدرة على البقاء وتحديث الاقتصاد يوفر للجمهور رفاهية بديلة عن الحقوق المدنية والسياسية. لكن تجربتنا – مثل تجارب المجتمعات الأخرى –تظهر أن التحديث لا يتوقف عند النقاط التي بدأ منها. تحديث الاقتصاد والإدارة أطلق مسارات فرعية أثرت في الثقافة ومنظومات القيم، وغيرت تدريجيا التوازنات ومراكز القوة وأدوات الضبط التي يقوم عليها نظام العلاقات الاجتماعية. يُنتج هذا – بالضرورة – ضمورا في مراكز القوة والتأثير القديمة، وظهور مراكز جديدة من خارج الدائرة المتعارفة. نجد اليوم أن أكثر الناس تأثيرا على المشهد العام ينتمون إلى خلفيات اجتماعية بسيطة. تمثيلات هذا التحول في القطاع التجاري والثقافي والديني والسياسي أكثر من أن تحصى. تأثيرات التحديث متواصلة وفعالة وآثارها جلية في كل مكان.
(4)
بعض القوى الأهلية الجديدة تحاول التشبه بالقوى التقليدية السائدة. ثمة مثقفون ورجال دين من الجيل الجديد يسعون للتشبه بكبار الجيل القديم. ربما من باب توقير الأقدم، أو ظنا أنهم يرثون مكانا مضمونا، أو اعتقادا بأن من نجح في الماضي ينجح اليوم. لكن هذا وهم ومصيره الفشل. اليوم غير الأمس، ناس اليوم غير ناس الأمس، سوق اليوم ليست سوق الأمس، الهموم والتطلعات والحاجات والأسئلة والأدوار، ومصادر القيم والثقة والقوة، كلها مختلفة عما عرفناه في الماضي.
(5)
التجديد هو السلاح الفعال للقوى الأهلية الجديدة. والتقليد هو مقتلها وإن لم تشعر به. التجديد لا يعني نشر الكتاب على الانترنت أو إلقاء الخطاب عبر قناة فضائية. التجديد يعني تغيير الخطاب نفسه، تغيير القيم التي ينطلق منها وتغيير اللغة التي تعبر عنه، وتغيير المفاهيم التي يحاول نشرها وإبرازها. قبل بضعة أيام كتب احد رموز الجيل القديم على “تويتر” أن “النظام الأساسي للحكم هو أعظم وثيقة سياسية في العصر الحاضر”. ترى كم من الناس سوف يأخذ هذا الكلام بجدية وكم منهم سوف يبتسم في داخله؟. وكتب آخر في جريدة أن معظم برلمانات العالم “تتطلع للاستفادة من تجربة الشورى في المملكة”!. تصوروا عدد النكات التي قيلت عن هذا الكلام. وأعلن ثالث عن جهاز استقبال تلفزيوني لا يستقبل غير القنوات الدينية المعروفة. ترى كم عدد الناس الذين سيرمون بأجهزة الاستقبال العادية في القمامة ويشترون الجهاز الجديد. هذه أمثلة على خطاب قديم يستعمل الوسائل الجديدة، وليس تجديدا. التجديد يبدأ من مساءلة (ونقد) المسلمات الموروثة، ولن يعطي ثمرة إذا بدأ من التسليم بها.
(6)
لا يمكن تجديد الفكر دون تجديد الحياة. المجتمعات الناهضة تنتج ثقافة وتبدع فكرا جديدا. والتقليدية أو الخاملة أو المهزومة تعيد إنتاج القديم ولو في صور وأشكال جديدة. قيم النهضة ليست أبحاثا ودراسات علمية، بل هي مبادئ حياتية يؤمن بها الناس لأنهم يريدون تغيير حياتهم، ويمارسونها ويشتبكون مع الآخرين المؤمنين بها، كي يصنعوا ”الكتلة التاريخية” التي تصنع الإصلاح وتقنع المجتمع بالمشاركة في صياغة مستقبل مختلف عن الحاضر والماضي. أبرز هذه القيم ربما قيمة الحرية للجميع، المساواة بين الجميع، العدالة كمعيار للصلاح والفساد، شراكة الجميع في الحقوق والمسؤوليات، وأخيرا حق الأفراد في صوغ حياتهم بأنفسهم . المجموعات المختلفة، الأجيال المتعاقبة، الطبقات الاجتماعية، القوى السياسية، التيارات الثقافية، كل منها له حق في رسم طريقه الخاص الذي يجعله أكثر سعادة وأكثر انسجاما مع رؤيته للكون المحيط به.
(7)
تتقدم المجتمعات إذا شعر كل فرد فيها بأن همومه وانشغالاته محترمة، وأن إرادته محسوبة ضمن الإرادة العامة للمجموع، وأن تطلعاته وطموحاته تحظى بالتقدير. نتقدم جميعا إذا شعرنا بالسعادة في أنفسنا حين يحظى أصدقاؤنا بفرصة جديدة أو يقتنصوا مكسبا. استثمار الآخرين للفرص والمكاسب هو الذي يسمح بتوليد فرص ومكاسب لنا، ما يحصل عليه أصدقاؤنا أولا، نحصل على مثله أو أعظم منه تاليا. الفرصة تولد فرصة، والخيبة تولد خيبة.
المصدر: http://www.almqaal.com/?p=539