مرسيا إلياده: التجربة الدينية... شرقاً وغرباً
في الجزء الأول من سيرته الذاتية الذي ظهر منذ أعوام تحت عنوان (الرحيل إلى الشرق... الرحيل إلى الغرب), والذي يسرد فيه أحداث حياته خلال الثلاثين سنة الأولى من عمره (1907 - 1937) يقول الفيلسوف الروائي مؤرخ الأديان مرسيا إلياده: (لقد كان مقدراً لي أن أحيا حياة تقوم على المفارقات والمتناقضات, التناقض مع نفسي ومع العصر الذي عشت فيه, وكانت هذه المفارقة هي التي اضطرتني إلى أن أعيش في وقت واحد داخل التاريخ, وفيما وراء الأحداث ذاتها, وأن أشغل نفسي بمشكلات وموضوعات تبدو في ظاهرها قديمة وبالية وتخطاها الزمن في الوقت الذي أحرص فيه على التمسك بأسلوب الحياة السائد في رومانيا (بلده الأصلي) حتى حين كنت أعيش في عوالم وبلاد غريبة وعجيبة ونائية) وهذه العبارة تلخص بشكل رائع جانباً كبيراً من موقف (مرسيا إلياده) من الحياة والمجتمع, ونظرته إلى العالم وإلى روح رومانيا المتقلبة المضطربة, والآمال التي كانت تحاول تحقيقها, والمخاوف التي كانت تحيط بها في فترة ما بين الحربين العالميتين, وهي الفترة التي عاشها في وطنه الذي لم يكد يتنفس من عبء وأحزان وآلام وخراب الحرب العالمية الأولى حتى داهمته الأحداث التي أدت إلى قيام الحرب العالمية الثانية. ولكنه كان أثناء هذا كله, ومن خلال هذا كله أيضاً, يبحث عن معنى الحياة. وكان طريقه إلى ذلك هو محاولة الجمع بين الأساطير والعلم, والعكوف على دراسة وفهم أسرار الشرق والتمسك بوضعية الغرب التي تتعارض وتتنافى مع الخفايا والأسرار, بل ومن خلال الإغراق في الحب الجسدي والتطهر والترفع والتنسك والزهد والابتعاد عن مغريات الحياة. وقد انعكس ذلك كله في آخر الأمر في انشغاله بمشكلة الزمن وإمكان التعالي والتسامي على الوقت وتجاوزه. ويبدو أن هذه الأفكار, وبخاصة هاجس الزمن ومرور الوقت وعدم كفايته لإنجاز ما يريد, كانت تراود ذهنه منذ شبابه المبكر نتيجة للظروف التي مرت برومانيا وبوخارست العاصمة التي ولد وعاش وتعلم فيها قبل أن يعرف طريقه إلى العالم الخارجي, وبالذات إلى الهند, مهد الأسرار والتجارب الروحية العميقة. فقد كان يشعر دائماً بحاجته إلى مزيد من الوقت للعمل والإنجاز بحيث كان يكتفي منذ صغره بالنوم لمدة أربع ساعات فحسب في اليوم, ويكرّس بقية اليوم للعمل والقراءة بالذات, واستطاع بذلك أن يلتهم آلاف الكتب والأعمال الكاملة الضخمة لكثير من المفكرين والعلماء والروائيين, وأن يترك في آخر الآمر وراءه ثروة هائلة من الكتابات الفلسفية ومؤلفاته في تاريخ الأديان وفي علم الاجتماع إلى جانب أعماله القصصية والروائية. ولكن اسمه ارتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الأديان وبالبحوث في اللغة الرمزية المستخدمة في مختلف الأنساق الدينية ومحاولاته ردها إلى الأساطير الأولية البدائية, بحيث كان يعتبر أثناء حياته - وربما حتى الآن بعد مماته عام 1985 وهو في الثامنة والسبعين من العمر - عميداً لمؤرخي الأديان.
وقد ولد (مرسيا إلياده) في بوخارست في التاسع من شهر مارس عام 1907, وتلقى تعليمه في جامعتها حتى حصل على الماجستير عام 1928, وهو في الحادية والعشرين من عمره. واستطاع أن يحصل من أحد المهراجات على منحة لدراسة اللغة السنسكريتية والفلـسفة الهنــدية لمــدة أربــعة أعـوام ( 1928-1931) في جامعة (كلكتا) انتقل بعدها ليعيش لمدة ستة شهور في صومعة أحد النساك في قمة جبال الهيمالايا, حتى يمر بالتجربة الدينية الصوفية العميقة التي يعيشها رجال الدين من المتصوفة والزهاد هناك, ويجمع بذلك بين الدراسة النظرية والحياة العملية التي تقوم على الممارسة الفعلية. وحين عاد إلى رومانيا حصل عام 1933 على الدكتوراة برسالة عن (اليوجا... مقال في أصل أسرار التصوف الهندي). وقد عيّن بعد ذلك في الجامعة لتدريس تاريخ الأديان والفلسفة الهندية. وحين قامت الحرب العالمية الثانية عمل ملحقاً ثقافياً لبلاده في لندن ثم في لشبونه, فلما انتهت الحرب انتقل كي يعيش في باريس وعمل أستاذاً زائراً في مدرسة الدراسات العليا بالسوربون إلى أن انتقل إلى جامعة شيكاغو عام 1957 ليشغل وظيفة أستاذ لتاريخ الأديان. ومنذ ذلك الحين حتى وفاته كرّس كل وقته وجهده للدراسة والكتابة والتأليف والمشاركة في تأسيس المجلات والدوريات المتخصصة في تاريخ الأديان وفلسفة الدين, وغطى إنتاجه الغزير كثيراً من مجالات البحث التي كان يعالجها كلها من موقف محدد يقوم أساساً على تجربته الدينية الذاتية.
وقد تبدو هذه حياة هادئة وادعة لا تختلف في جوهرها عن حياة مئات من الأساتذة الأكاديميين الذين تحملهم تخصصاتهم واهتماماتهم إلى كثير من البلاد للدراسة والبحث أو للعمل. ولكن الذي يميز حياة إلياده بعد هذا كله هو نوع الانجاز الذي استطاع تحقيقه, وكثرة وتنوع هذا الانجاز العلمي والفكري والإبداعي, خاصة أنه كان قد بدأ العمل في البحث والكتابة والتأليف في سن مبكرة بشكل غير مألوف. فقد ظهرت أولى مقالاته في مجلة علمية في وطنه وهو لايزال في الرابعة عشرة من عمره عام 1921 وكانت تدور حول موضوع غير عادي ولكنه يعتبر مؤشراً مهماً على اتجاهاته الفكرية الأساسية. فلقد كان المقال عن (أعداء دودة القز). وحين بلغ الثامنة عشرة كان قد نشر ما يزيد على مائة مقال وبحث ودراسة في موضوعات مختلفة, وإن كان الكثير منها يدور حول الدين والتفكير الديني واللغة الرمزية, وقد أنشأ عام 1938 في وطنه رومانيا دورية بعنوان (زالموكسيس: مجلة الدراسات الدينية) استمرت حتى عام 1942. وقد أفادته هذه التجربة حين شارك في تأسيس وإصدار مجلة بعنوان (آنتايوس) عام 1960 وهو في أمريكا, تخصصت هي أيضاً في دراسات الأديان المقارنة وظلت تصدر حتى عام 1972, وفي الوقت ذاته أسهم بجهوده في إصدار دورية أخرى حققت شهرة عالمية واسعة وأصبحت من أهم الدوريات في فرع التخصص, ونعني بها مجلة (تاريخ الأديان) التي بدأ صدورها عام 1961.
ولقد كان وراء كل هذه الأعمال, وبخاصة كتبه الكثيرة والضخمة والعامة, تجربته الهندية التي أثرت تأثيراً قوياً في تكوينه الفكري وتطوره الروحي على السواء. وهو نفسه يشير إلى ذلك صراحة في كثير من تلك الأعمال, وذلك بالرغم من أن اهتماماته بدراسة الأديان وتعرف معنى الرمزية الدينية كانت أسبق على تلك التجربة, وترجع إلى أيام بوخارست المبكرة, أي قبل الرحلة إلى الشرق, ولكن التجربة الدينية زوّدته بعدد من النماذج الروحانية كانت بمنزلة مؤشرات وموجهات له في حياته وفي أبحاثه, كما أن تعمقه في فهم الرمزية الدينية كما يحياها الناس العاديون في الهند ساعدته - كما يقول هو نفسه أيضاً - على أن يدرك بشكل أعمق مغزى الرمزية الدينية في الثقافة التي ينتمي هو إليها, أي الثقافة الرومانية باعتبارها إحدى ثقافات شعوب أوربا الشرقية. وهذا معناه أن (إلياده) لم يكن يقنع أو يكتفي بدراسة تلك الرمزية الدينية في ذاتها ولذاتها فحسب, وإنما كان يهدف في الوقت ذاته إلى فهم الرموز الدينية كما يعيشها الناس في الثقافات الأخرى ومنها الثقافة الرومانية وذلك من خلال وعن طريق دراسة الرمزية الدينية الهندية.
لقد أدرك إلى أي حد تقوم الرموز التي تعبر عن هذه الروحانية بتنظيم التجربة الدنيوية لدى عامة الناس, وكيف أنها كانت تعمل في الوقت ذاته على إبراز الكون كله كوحدة متماسكة منظمة, وربما كان الأكثر أهمية من ذلك هو إدراكه إلى أي مدى كان الاشتغال بالدين يساعد على التحرر من الوضع الإنساني اليومي, وكيف أن هذا التحرر يعتبر من أهم المطالب التي يبحث عنها الفرد والمجتمع, وهو ما يتمثل بأجلى صوره في الهند التي كانت تجاهد دائماً لتحقيق الحرية والاستقلال المطلق. وكانت وسيلتها لذلك هي الديانة الهندوسية التي يعتقد (إلياده) أنها أكثر فعالية في ذلك من المسيحية ذاتها. فالهندوسية تؤدي إلى تحقيق الحرية في الكون بأسره, والبحث عن الحرية هو الذي يسمو بالإنسان إلى مستويات أعلى من مستوى الوجود المادي المحسوس الملموس, ومن هنا كان (إلياده) يرى أن الحياة الخالية من المعاني الدينية, والتي ترفض الاعتراف بوجود نوع من الحقيقة التي تعلو وترتفع وتترفع عن المظاهر المادية هي حياة تفتقر إلى (النظام) ولابد أن يلحقها الدمار. فموقف (إلياده) إذن من الروحانية الهندية لم يكن مجرد موقف الباحث أو الدارس الموضوعي, أو موقف مؤرخ الأديان المحايد فحسب, وإنما كان أيضا, وبالإضافة إلى ذلك, موقف الإنسان الذي مر بتجربة ذاتية انفعل بها وأثرت في تكوينه الفكري بحيث يصدر أحكامه على الأمور من واقع هذه التجربة, وهذه إحدى المفارقات أو التناقضات الكثيرة التي تكلم عنها (إلياده) واعترف بها. والكثيرون يعتبرون ذلك نقطة ضعف في أعمال (إلياده) يوجهون إليها معظم انتقاداتهم واعتراضاتهم. لأنه حاول أن يكون مؤرخاً للأديان ورجل دين في وقت واحد.
بالرغم من تأثير حياة (إلياده) وتفكيره بالروحانية الهندية, فإن أعماله وكتاباته تجاوزت الديانات الهندية المختلفة وحاولت أن تغطي كل الأديان المعروفة, سواء في ذلك أديان ومعتقدات الشعوب البدائية, أو المعتقدات والأساطير الكلاسيكية, أو أديان الحضارات القديمة التقليدية, أو الأديان السماوية المنزلة لكي يخرج منها بنسق عام عن كل من الفكر الديني الرمزي والنظرة الكلية الشاملة إلى العالم. وقد ظهر هذا بوضوح حتى في أول أعماله الكبرى في الدين المقارن, وهو كتابه عن (دراسة في تاريخ الأديان) الذي ظهر عام 1949, بل وأيضاً في كتابه القصير الممتع عن (أسطورة العودة الأبدية) الذي يعتبر أكثر كتبه شهرة وأوسعها انتشاراً نظراً لطرافة موضوعه الذي يدور في أغلبه حول النماذج والأبنية الدينية والفكرية والكونية التي تتكرر في مختلف الثقافات, وإن كانت تتخذ أشكالاً وصوراً مختلفة: ثم ظهر ذلك واضحاً بأجلى مظاهره في كتابه الضخم عن (تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية) الذي يقع في أربعة أجزاء كبيرة, بل إننا نجد نفس المشكلات التي يتناولها بالدراسة والتحليل في أعماله الأكاديمية الرصينة تظهر بشكل أو بآخر في أعماله الروائية. ففي روايته الشهيرة التي ارتبطت باسمه أكثر من أي من أعماله الروائية الأخرى, ونعني بها رواية (الغابة المحرمة) التي ظهرت عام 1955 والتي يعتبرها هو نفسه أفضل أعماله على الإطلاق, يعرض لمشكلة رغبة الإنسان الملحّة في الهروب من الزمن ومما يسميه (رعب التاريخ) ومحاولاته تجاوز الزمن والتسامي أو التعالي والارتفاع عليه. وهذا موضوع مركزي تعرض له في كثير من كتاباته باعتباره جزءاً من التجربة الدينية, كما تعرض له في كتاب (أسطورة العودة الأبدية). هذا النمط في التفكير البنائي الذي يصبغ أعمال (إلياده) في تناوله للظواهر الدينية يهدف في آخر الأمر إلى إعادة بناء أو إعادة تركيب وعي الإنسان القديم وإدراكه للكون. وقد استعان على ذلك بالمعلومات الكثيرة المتوافرة لديه بكثرة, وبخاصة عن أساطير الشعوب القديمة والبدائية, وكلها معلومات تؤكد في آخر الأمر أن تجربة الإنسان البدائي فيما يتعلق بأسرار الكون وحقائق الولادة والتكريس والموت وما إليها, تتضمن وتشير بشكل واضح إلى الإيمان بوحدة الإنسان والطبيعة, وكذلك وحدة ما هو طبيعي مادي محسوس ملموس وما هو فائق للطبيعة أو إعجازي, بل ووحدة الدنيوي المدنس بالطاهر المقدس, وأن التمييزات التي يقيمها الإنسان بين هذه الأطراف تمييزات سطحية تخفي وراءها الوحدة والتماسك والتداخل والتكامل, وأن الأساطير تعبر - في التحليل النهائي - عن الوحدة. وهذا نفسه يصدق على التجربة الدينية.
وليس من شأن الباحث الأكاديمي في مجال الدين المقارن أن يبحث عمّا إذا كانت الأحداث والوقائع التي يرد ذكرها في الأساطير لها نصيب من الصحة ومن الواقع الحقيقي, أو أنها أحداث متخيّلة, لأن كل ما يجب أن يهتم به هو أن يحل رموز تلك الأساطير ويبين مغزاها, وقد يتعرض أثناء ذلك إلى انعكاس هذا المغزى في حياة المجتمع. وفي ضوء هذا الموقف تعتبر الرمزية الدينية فكرة أساسية في تفكير (مرسيا إلياده), باعتبارها استجابة إبداعية لضغوط الوجود الإنساني في الكون. فالرمز الديني يترجم - على ما يقول - الموقف الإنساني بالإشارة إلى الكون كوحدة كلية والعكس بالعكس, أي أن يترجم في الوقت ذاته البناء الكوني في حدود وألفاظ إنسانية أو بشرية. وبقول آخر أدق وأوضح, الرمز الديني يكشف العلاقة القوية الدائمة بين أبنية الوجود البشري والأبنية الكونية, مما يعني في آخر الأمر أن الإنسان لا يعيش بعيداً أو منعزلاً في الكون, حتى وإن لم يشعر بذلك بطريقة واعية, وإنما هو (ينفتح) طيلة الوقت على عالم مألوف لديه بفضل الرموز والرمزية. وكما يقول أحد كبار المتخصصين في دراسة وتحليل فكر (مرسيا إلياده). وهو الأستاذ (ديفيد ليفي): إن (إلياده) كان يعتقد أن تاريخ الأديان يمكن أن يلعب دوراً رئيسياً ومهما في إقامة شكل جديد من النزعة الإنسانية (الهيومانيزم) تتعدى وتتجاوز بشموليتها النزعة الإنسانية القديمة التي كانت مقصورة على المجتمع الغربي والثقافة الأوربية, وأن (إلياده) وشأنه في ذلك شأن غيره من مؤرخي الأديان, له القدرة على الوصول إلى درجة من الفهم والتعمق في النفس البشرية لا تتيسر لغيره - أو غيرهم - من الباحثين والدارسين, وأن هذا الفهم الأكثر عمقاً وشمولاً هو الذي يساعد على تحقيق مثل هذه النزعة الإنسانية العامة الكلية الشاملة. وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر - في مجال إشارته إلى (مرسيا إلياده) - إن المدخل التأويلي للتجربة الدينية وللرموز هو امتداد مهم لفهمنا للإنسان وعلاقاته المعرفية بالعالم الذي يحيط به.