الحوار الحضاري في التاريخ الأمريكي

محمد شعبان صوان

 

عندما تلتقي أي جماعتين بشريتين على أرض واحدة ينشأ بينهما حوار حضاري إذ يتعلم كل منهما من الآخر ما يراه مفيدا لحياته ، وإذا كان هذا الوصف صحيحا في العلاقات السلمية كالسياحة والتجارة والهجرات، فإنه صحيح أيضا في مجال الصدامات إذ لا تمنع الحرب بين فريقين، وبخاصة إذا طال أمدها، عملية الاقتباس المتبادل بينهما، وإن كانت درجته تختلف حسب تفوق كل منهما ، ذلك أن الطرف
الأضعف مولع بتقليد الغالب كما أكد ابن خلدون، وقد عرفنا مثل هذه الحوارات في تاريخنا الإسلامي أثناء حروب الفرنجة الصليبية التي كانت مناسبة للتبادل الحضاري الذي كان نصيب الفرنجة منه أكبر بحكم التفوق الإسلامي، والغزوات المغولية التي انتهت بإسلام الغزاة فكان ذلك ثغرة في القاعدة الخلدونية، وأيضا أثناء الفتوحات الإسلامية حين لم يتردد المسلمون في تمثل الحضارات التي دخلوا أراضيها من موقع القوة والاقتدار.
وبحلول عصر الكشوف الجغرافية انطلقت أوروبا في القرن الخامس عشر وما تلاه في آفاق العالم محاولة دعم مواجهتها مع عالم الإسلام فعثرت في محاولتها هذه على عوالم أخرى ما لبثت أن دخلت في مواجهات معها لاستنزاف مقدراتها، سواء لدعم دول المركز الأوروبي أو لتأسيس كيانات جديدة قائمة بنفسها في تلك الأصقاع ، وكانت المواجهة في القارة الأمريكية مع سكانها الأصليين نذيرا لما سيصيب بقية أنحاء العالم بعد ذلك سواء في استرقاق إفريقيا أو استعمار آسيا أو إبادة أستراليا أو تقسيم العالم الإسلامي وكل ذلك جرى نموذجه البدئي في القارة الأمريكية لأنها شهدت أول تطبيق لرؤية عالم النهضة الغربية والأنوار الأوروبية والعقل الحديث على العوالم غير البيضاء، ومن هنا كانت أهمية دراسة هذا الموضوع في التاريخ الحديث.
الحوار الحضاري في ظل صراع الوجود
منذ بداية اللقاء بين العنصرين الأوروبي الوافد والهندي الأصلي في أمريكا اتضح أنه سيكون هناك صراع بين الطرفين لأن إسبانيا في البداية اهتمت بالحصول على ثروات أمريكا الوسطى والجنوبية، واهتم مهاجرو إنجلترا بالحصول على أرض الهنود، وربما لم يكن واضحا لدى الجميع في بداية القرن السابع عشر أن الأوروبيين سيكتسحون القارة كلها ويستوطنوها ويطردون جميع سكانها، ولكن الواضح آنذاك أن الأوروبيين يصارعون أهل البلاد على أرضهم أينما حلوا، وعدم وجود مخطط أوروبي في ذلك الزمن للاستيلاء على القارة كلها لا يبرئ الأوروبيين من سبق الإصرار، وذلك على عكس ما يحاول إثباته الساعون للحصول على صكوك الغفران الحضارية بأثر رجعي، فبؤس المشهد المحلي الذي صاحب جميع تجارب الاستيطان الأولي في أمريكا، وما لازمه من نهم لا يشبع لابتلاع الأرض ولم يتوقف إلا أمام المحيط الهادي ، يثبت أن مصير السكان الأصليين كان إلى زوال أينما حل القادمون الجدد، وما حدث في القرون التالية لجميع السكان الأصليين ليس سوى إعادة مملة للفيلم الذي عرضته أولى المستعمرات في أمريكا، سواء في فرجينيا (منذ 1607) أو بلايموث (منذ 1620).
وقد لخص أحد المؤرخين حقيقة التناقض بين السكان الأصليين والمهاجرين الأوروبيين بتوضيح جانبها الاقتصادي الذي لخص المشكلة الهندية بالسؤال التالي: كيف يمكن الحصول على موارد الهنود؟ وبالقول أيضا إن جميع أوجه العلاقة بين الطرفين اشتقت من قضية جوهرية واحدة هي الصراع على الأرض، أو التمدد الأمريكي في أرض الهنود ومقاومة هؤلاء هذا التمدد، وقد ألفت العلاقة بين الهندي والأرض مصدر هويته الشخصية والثقافية والاجتماعية، وكانت الرأسمالية التي يعتنقها المجتمع الأمريكي تجعل الأرض إحدى عناصر الإنتاج الرئيسة (مع رأس المال والعمل)، ولا يمكن تحقيق التراكم الرأسمالي إلا بفك قيود الروابط بين الهندي وأرضه والتي تناقض حرية السوق، ولم يكن من الممكن تحقيق ذلك إلا بأحد حلين: تغيير جذري في المجتمعات الهندية أو إزاحتها من الطريق[1]، ولكن ما هو موقف السكان الأصليين من هذا الطوفان؟
تشير حوادث التاريخ إلى أن كثيرا من المجتمعات الهندية قبلت السير على نهج التغيير وتبني طريقة حياة الرجل الأبيض، وقطع بعضها خطوات واسعة جدا في هذا السبيل كما هو موضح في دراستين سابقتين (فلسطين الهندية الحمراء، وأمريكا مدينة على تل أم صنم على جبل)، ولكن المجتمع الأمريكي لم يترك لهذه المجتمعات فرصة للحياة حتى على صورته وظل يطمع بما في يدها من بقايا الممتلكات التي حصرها فيها في مراحل سابقة ودمر كل إنجازاتها التي وصلت إلى محاولة الدخول في الاتحاد بولاية خاصة تمتلك جميع المقومات.
ولما كانت الأرض التي يعيش عليها الهندي هي الهدف الذي يتطلع إليه الرجل الأبيض في صراعه مع غريمه الهندي كما حدد ذلك الرئيس الأمريكي الأول ومؤسس الجمهورية جورج واشنطن[2]، موجزا بذلك طبيعة العلاقة في كلمات قليلة ومبددا أوهام الهداية الدينية وجلب الحضارة والتعايش، فقد كان من الطبيعي أن يتخذ الصراع طابعا دمويا، يتراجع الهندي بقدر ما يتقدم غريمه، ولكن هذا الصراع لم يتم في برهة قصيرة بل امتد مئات السنين وأعطت هذه المدة فرصا لنشوء حوار حضاري اقتبس فيه الطرفان من منتجات بعضهما الثقافية والمادية ما يعين كل منهما على حياته ويقويه في صراعه، وقبل أن تتحدد نتيجة هذا الصراع شاهدنا تبادلا مثيرا منه على سبيل المثال ما جعل شباب المستوطنين الإنجليز في أرياف المستعمرات يباهون بارتداء ملابس الهنود (المئزر والجوارب الجلدية) ويذهبون بها إلى اجتماعات الكنيسة حيث يلفتون انتباه الفتيات[3]، ومن الطبيعي ألا يحدث ذلك إلا بين أمتين متعادلتين حضاريا قبل أن تميل الكفة وتهزم إحداهما، كما حدث اختلاط كبير في الدماء نتيجة الزواج المختلط لاسيما بين رجال الحدود من تجار وصيادين ووكلاء ونساء الهنود مما نتج عنه سلالة عملت وسيطا بين الحضارتين ولكنها اصطفت في كثير من الأحيان إلى جانب الرجل الأبيض فسهلت له تنفيذ برامجه وكانت لعنة على السكان الأصليين رغم أنها كانت بائسة وفقيرة ومستبعدة مثلهم، ويكوّن اليوم ذوو الدماء المختلطة معظم من يصنفون أنفسهم من أصول هندية[4]، وقد تم التبادل الحضاري في الماضي وفقا لما يلي:
ما اكتسبه الأوروبي والأمريكي من عالم الهندي الأصلي:
1- الاعتماد على المساعدات الهندية: كان ما قدمه السكان الأصليون من مساعدات حيوية للوافدين الجدد ضروريا لبقائهم على قيد الحياة، وقد ظلت مستعمرة فرجينيا بعد نشوئها بسنوات طويلة تعتمد على الهنود في التزود بالذرة لغذائها[5]في نفس الوقت الذي كانت فيه مستعمرة بلايموث تحتفل مع السكان الأصليين بالنجاة بعد أول حصاد يمر عليها بمساعدتهم (1621).
2- تعلم الحياة في البيئة الجديدة: ذلك أن المهاجرين الأوروبيين وجدوا أنفسهم في بيئة قاسية لما وصلوا العالم الأمريكي الجديد عليهم، ولم يتمكنوا من النجاة إلا بفضل المساعدة التي قدمها لهم السكان الأصليون عن طرق الحياة فيه والتي سميت”مهارات البرية”، كصناعة الفخاخ والصيد وبناء القوارب وإشعال النيران وصيد الأسماك وصناعة الأحذية الخاصة بالسير على الثلوج، هذا بالإضافة إلى زراعة النباتات الغذائية التي لم يكن الأوروبي يعرفها في الوقت الذي يعتمد عليها الهندي في غذائه كما سيأتي، وقد تعلم المهاجرون مسالك القارة وطرقها ومصادر المياه فيها من السكان الهنود، وموجز الأمر أن الوافدين الجدد “تعلموا كيف يبقون على قيد الحياة بالتلاؤم مع الطبيعة باستخدام التقنية الهندية”[6].
3- التعرف إلى نباتات جديدة: حفلت البيئة الجديدة التي وجد المهاجرون الأوروبيون أنفسهم فيها بنباتات لم تكن معروفة في العالم القديم ويقدر عددها بأكثر من أربعين، وقد تعلموا من السكان الأصليين استخدامات عديدة لها تراوحت بين الغذاء والدواء والملبس، ومن هذه المحاصيل الجديدة الذرة والبطاطا والطماطم والكاكاو والفول السوداني والتبغ والقرع واليقطين ودوار الشمس واللوبيا وغيرها من المحاصيل التي تكون اليوم ثلثي الإنتاج الزراعي البشري[7].
4- التعلم من الطب الهندي: على عكس ما هو شائع عن طب المجتمعات”البدائية” الموسوم بالسحر والخرافة عادة، تعلم المهاجرون الأوروبيون استعمال ستين نبتة برية من الهنود الحمر للاستخدامات الطبية وعلى رأسها الكوكايين والكينين[8]، وقد عد أحد المؤرخين مائة وسبعين دواء كان الهنود يستعملونها مازالت على قائمة الاستعمالات الحديثة في وقت كان الطب لدى المهاجرين الأوروبيين مازال ساذجا وخرافيا مقارنة بحقيبة الطبيب الهندي[9]، ويقول مؤرخ آخر إن الطب الهندي في أمريكا كان معقدا ومركبا وفعالا في علاج الأمراض المعروفة في القارة قبل الهجرة الأوروبية ولكنه لم يكن كذلك مع الأمراض الوافدة[10].
5- فنون القتال: أدت إعادة اكتشاف مآثر الهندي بعد فوات الأوان وزوال خطره إلى الاهتمام بمنجزاته الحضارية التي اكتشف منها أنه أثناء المواجهات العسكرية بين السكان الأصليين والوافدين الأوروبيين كان “أكثر المقاتلين الأوروبيين نجاحا هم الذين تبنوا طرق الهنود في الحرب لتصبح طرقهم الذاتية” وأن “نجاح الأوروبيين في حروب التخوم كان متوقفا على قدرتهم على تحقيق التوازن بين تقاليدهم العسكرية وطريقة الهنود في الحرب” لأن”التطور العسكري الأوروبي في حد ذاته لم يكن ضمانا لإخضاع القارة”[11]، ويحكي أحد الجنود الأمريكيين متذكرا الحروب الهندية التي أعقبت الحرب الأهلية الأمريكية(1861-1865) أن سرعة الهندي في إطلاق سهامه كانت تفوق سرعة الجندي في إطلاق رصاصه من بنادق ذلك العصر[12]، وكما تأقلم الوافد مع فنون القتال الهندية فقد عدل السكان الأصليون من طرقهم القتالية لتكون أكثر فعالية في مواجهة الأسلحة النارية[13].
6- التنظيم السياسي: بعد سبعين عاما من هزيمة المقاومة الهندية المسلحة ضد الاستعمار الأمريكي وزوال خطر السكان الأصليين على الوافدين الأمريكيين، اعترف الرئيس الأمريكي جون كينيدي بالأثر الهندي في بناء النظام السياسي الأمريكي الذي استلهم آباؤه المؤسسون (ومنهم بنيامين فرانكلين) في عملية بنائه شكل التحالف السياسي الذي جمع قبائل الإيروكي في شمال شرق الولايات المتحدة(نيويورك)[14]وذلك من مشاهداتهم المباشرة أو من قراءتهم للفلاسفة الفرنسيين (ومنهم جان جاك روسو) الذين تأثروا بمشاهدات الرحالة بين قبائل الهنود وتكلموا عن نزعتهم للمساواة والحقوق الطبيعية والتقاليد الديمقراطية التي تشبه الحكم البرلماني ذا المجلسين[15]، وقد اعترف الكونجرس الأمريكي بفضل الهنود في ذلك سنة 1988[16].
7- المكاسب اللغوية: دخلت كثير من كلمات اللغات الهندية العديدة في حياة الرجل الأبيض سواء بصفة أسماء لكثير من الولايات التي تزيد عن نصف مجموع الولايات الأمريكية (داكوتا، أوكلاهوما، ميسوري، أيوا، كانساس، …إلخ) والمدن(شيكاغو، سياتل، ميامي…إلخ) والمعالم الجغرافية كالبحيرات (ميتشيغان…إلخ)والأنهار (ميسوري، ميسيسيبي…إلخ) والخلجان والجبال وغير ذلك، وقد عد بعض المختصين أحد عشر ألف مكان سمي في الولايات المتحدة بأسماء هندية[17]، نقل بعضها حرفيا وبعضها الآخر ترجم إلى اللغة الإنجليزية بما تؤديه المعاني في اللغات الهندية، هذا إضافة لأسماء البيئة الاجتماعية الهندية كالمساكن والملابس والأطعمة التي ظلت في اللهجة الأمريكية بنفس أسمائها الهندية، كما دخلت عبارات اختص السكان الأصليون باستخدامها في لغة الإنسان الأبيض مثل “الحديث بلسان مشقوق” كناية عن الازدواجية والنفاق و”السير على درب الحرب” كناية عن إعلان الحرب و”دفن البلطة” كناية عن اختيار السلام وغير ذلك من عبارات[18].
وقد استفادت الولايات المتحدة في زمننا المعاصر فوائد جمة من لغة قبيلة النافاجو-كبرى القبائل الهندية-ولغات قبائل أخرى وصل عددها إلى 16 في الحرب الكبرى الأولى(1914-1918) وفي الحرب الكبرى الثانية (1939-1945)[19]وقد تميز النافاجو في الحرب الثانية حين عينت الحكومة الأمريكية ما يقارب ألفي هندي من القبيلة في سلاح الإشارة الذي كان يتخاطب بلغة القبيلة التي لم تتمكن جيوش المحور من فك رموزها[20]مما تسبب في تحقيق انتصارات هامة للحلفاء في نفس الوقت الذي كان يحرم فيه على الطلاب الهنود التحدث بلغاتهم في المدارس الأمريكية المخصصة لتمدينهم، ومن المفارقات أن أحد الطلاب من قبيلة النافاجو كان يعاقب لأنه تكلم بلغته في نفس الوقت الذي كان والده يعمل ضمن سلاح الإشارة في الجيش الأمريكي حيث يستخدم اللغة نفسها لتحقيق النصر لأمريكا[21](!)
8- بعض ملامح الحياة في أمريكا: يوجه بعض المؤرخين الأنظار إلى أن الاحتفاء بالحرية في الحياة الأمريكية (داخليا على الأقل وراية إعلامية في مواجهة الخصوم خارجيا من وجهة نظري)مدين للحرية التي عاشها الهندي ودافع عنها حتى آخر سلاح في جعبته، وليس فقط للحرية التي بشرت بها الأنوار الأوروبية، كما أن الاهتمام الواسع بمنح المساعدات مدين بفضيلة المشاركة التي تميزت بها الحياة الهندية التي كانت تحض على العطاء (وهنا أيضا أرى مبالغة في التشبيه بين فضيلة أخلاقية هندية أصيلة قد تنزع كل ما يملكه المرء لأجل الآخرين بوسيلة أمريكية حديثة خاضعة لحسابات المنفعة وكثيرا ما استخدمت لإخضاع الآخرين وسلبهم أكثر من إعطائهم مما يسبغ عليها الطابع المادي أكثر من الأخلاقي الذي إن وجد فهو في الداخل الأمريكي وليس مع الخارج)، ويعزو أحدهم الاهتمام الأمريكي بالسلام (على الطريقة الأمريكية طبعا كما تعلمنا من المسألة الفلسطينية ) إلى فضيلة هندية كانت تفضل إحلال السلام على شن الحروب، وبالطبع فإن كل الفضائل السابقة كانت جزءا أصيلا من حياة الهندي وقد يضحي بالمادة لأجلها ولكنها في الحياة الأمريكية خاضعة لحسابات المنفعة، وإن كان هدف الاستشهاد هو الأهمية الإعلامية التي تصاحب الدعاية لها خارجيا ومكانتها في الحياة اليومية الداخلية التي لا يحس بها المواطن العالمي في الخارج، ومن هذه الفضائل الهندية أيضا استيعاب الأغراب ضمن القبيلة والتي يرى المؤرخون أن استيعاب المهاجرين إلى القارة الأمريكية هو ترجمتها المعاصرة، وكذلك الاهتمام واسع النطاق بالبيئة والحياة البرية والذي يلتقي مع نظرة السكان الأصليين باحترام وتبجيل بل تقديس إلى الطبيعة وضرورة التوازن مع عناصرها وعدم الإضرار بها[22]، وهو أمر إن اكتسب شعبية فإنه مازال بعيدا عن الجداول السياسية واهتمامها بتحقيق السبق الاقتصادي والسياسي على بقية الأمم، وجل ما كسبته هذه الحركة هو نقل عناصر الخلل والتلوث البيئي من البيئة الأمريكية إلى دول العالم الثالث حيث تجد الشركات الكبرى راحة في فرض شروطها المخلة بالطبيعة على تلك البيئات الفقيرة الباحثة عن كسب لقمة العيش، ومما اكتسبه الأمريكي من الهندي كذلك ونسخه في مجتمعه الاهتمام بالحركة الكشفية التي تعود بجذورها إلى مهارات الكشافة الهنود في التخفي واقتفاء الأثر والحياة في البرية[23]، والخلاصة من هذا البند أن المجتمع الأمريكي وملحقه الكندي اكتسبا كثيرا من أخلاق السكان الأصليين ولكن بعد تحويرها بالطبع لما يلائم مجتمعا علمانيا ماديا ولهذا اختلفت الصورة عن الأصل كثيرا.
9- القتال في حروب الرجل الأبيض: قاتل السكان الأصليون إلى جانب الرجل الأبيض في جميع حروبه، سواء التي شنها ضد القبائل الهندية التي كان منافسوها من القبائل الأخرى ينضمون إلى جانب البيض، أو التي شنها البيض ضد بعضهم وكانوا يستعينون بالهنود في الجانبين مثل الحروب الاستعمارية بين الإنجليز والفرنسيين ومعارك الثورة الأمريكية ثم معارك الحرب الأهلية، ثم حارب الهنود إلى جانب الأمريكيين في حروبهم الدولية ومنها الحربين الكبريين وقد وصلت نسبة ضحايا الهنود في الحرب الثانية 10% مقابل 3% لبقية الجيش[24].
ويجب الالتفات إلى ملاحظتين في هذا الموضوع:الأولى أنه لم يكن جميع الهنود إلى جانب البيض في حروبهم ولا حتى أغلبهم، فقد ظل صراع الوجود يفصل المجتمعين ويذكر الضعيف بتهديد وجوده باستمرار، وعندما كانت الأغلبية تقاتل إلى جانب أحد الفرقاء من البيض فإن ذلك يكون مبنيا على تشخيص وضعه بأنه أقل خطرا من غريمه على مجموع الهنود، مثل القتال إلى جانب الفرنسيين الذين لا يشكلون خطرا استيطانيا على أراضي الهنود ضد الإنجليز الأعلى خطرا، ثم القتال إلى جانب الإنجليز ضد المستوطنين الأمريكيين، والملاحظة الثانية أن من انضم من الهنود إلى الرجل الأبيض لم يكن مصيره عند الطرف المنتصر أفضل من الهندي الذي قاتل البيض وعاداهم، وذلك مثل كثير من القبائل التي وضعت معاداتها مع أبناء جلدتها قبل قضية أرضها المهددة ومع ذلك اكتسحها الطوفان الأبيض كغريماتها، وذلك لأن هذا المصير اعتمد على البرامج السياسية التي تبنتها الأطراف الأوروبية ثم الأمريكية ولم يكن لها علاقة بدرجة ولاء الهندي أو عدائه بل بالمصالح السياسية والرغبة في الاستحواذ على الأرض وثرواتها، ولهذا تخلت فرنسا عن السكان الأصليين بعدما قاتلوا إلى جانبها في حرب السنوات السبع (1756-1763)، ثم تخلى الإنجليز عنهم أيضا بعد انتصار الثورة الأمريكية، ولهذا أيضا لم تمنح المواطنة الأمريكية للهنود رغم خدمات كثير منهم إلا بعد زوال خطرهم والاستحواذ على أراضيهم، وكان ذلك في سنة 1924، وفي جميع الأحوال كان الهندي المهزوم يعاني أكثر من حليفه الأبيض المهزوم، أما المقاتل على الجانب المنتصر فلم يحصد إلا الخيبة والخسران تماما كما خسر زميله الهندي المهزوم، وهذا ما حصل مع حلفاء الأمريكيين أثناء الثورة على بريطانيا، وما حدث لحلفاء الشمال في الحرب الأهلية، وكل هذا يذكرنا بتجارب عربية وإسلامية حديثة مرت بنفس التسلسل سآتي على ذكرها في الاستنتاج.
10- الموارد الطبيعية: في عصر التوسع القاري الأمريكي انتهكت كثير من المعاهدات وقامت كثير من الحروب لأجل الحصول على الموارد الطبيعية كالذهب والفضة والفراء، وحين خصصت الحكومة الأمريكية أراض قاحلة لمحميات توطين القبائل الهندية بعد هزيمتها أمام الطوفان الأمريكي في القرن التاسع عشر، لم تكن تعلم أنها تحتوي على ثروات طبيعية ثمينة، ويأتي حاليا عشر الفحم الأمريكي وسدس الغاز الطبيعي وكميات كبيرة من النفط ونصف اليورانيوم من أراضي السكان الأصليين الذين لا توجد هذه الموارد إلا في أراضي ثلث عددهم، وتتعرض هذه الأراضي لما وصفه أحد المؤرخين بالغزو الذي تقوده الرأسمالية الأمريكية على الموارد الطبيعية للقبائل التي تخوض صراعا لحماية ممتلكاتها وحقوقها في وجه الخداع والجشع والعنف الذي يمارسه الباحثون عن الثروات من الشركات والأفراد، ويلخص أحد القرويين الهنود موقفه الرافض لاستغلال موارد القبيلة بقوله:”لا تحدثني عن أزمة الطاقة، فأنا أعيش في قرية ليس فيها حتى الكهرباء”[25].
ما أعطاه الرجل الأبيض للسكان الأصليين:
1- الأمراض: أبرز ما منحه الوافدون الجدد لسكان القارة الجديدة هو أمراض العالم القديم التي فشت بين السكان الهنود كانتشار النار في الهشيم، فقد قامت أمراض الجدري والحصبة والطاعون والكوليرا والتفوئيد والدفتيريا والحمى القرمزية والسعال الديكي والالتهاب الرئوي والانفلونزا والأمراض الجنسية وغيرها بحصد قبائل كاملة في بداية الاستيطان الأوروبي، وظلت نسبة الدمار الذي تحدثه هذه الأمراض تتراوح بين 55% و90% بين الهنود حتى بعد اكتسابهم قدرا من المناعة في مطلع القرن العشرين في الوقت الذي كان أثرها على الوافدين الأوروبيين يقدر بنحو 15% فقط، ويقدر عدد الأوبئة الكبرى التي اجتاحت السكان الأصليين بثلاثة وتسعين وباء، كما تقدر نسبة اجتياح الجدري بمرة كل سبع سنوات تقريبا، وقد قضت الأمراض على أربعة أخماس السكان الأصليين في منطقة نيو إنجلاند حيث بدأ الاستيطان في القرن السابع عشر، وكان أثرها أكثر فتكا بالهنود من أسلحة الرجل الأبيض[26].
وربما يظن المرء للوهلة الأولى أن هذا الانتشار كارثة عرضية لم يكن للمهاجرين نية ولا يد فيها، ولكن هذا الاعتقاد يتبدد بقيامهم بكثير من الممارسات القمعية الرسمية التي كانت تساعد على إنهاك الهنود بالأمراض ونشرها بينهم ضمن وسائل الحرب عليهم للحصول على أراضيهم كالترحيل القسري والحشر في محميات قاحلة والتجويع بالقضاء على مصادر الرزق ووسائل العيش (إبادة الجاموس أوضح مثال) وما يتبع ذلك من إهمال سياسي يؤدي إلى تأخير المساعدات الغذائية عن القبائل مما كان يقود إلى اندلاع العنف قهرا، بل سجل التاريخ نشر الأمراض عمدا عن طريق توزيع البطانيات الملوثة في بعض الحوادث الموثقة، وتشير الأبحاث الحديثة إلى أثر الممارسات الاستعمارية الإنجليزية في الجنوب الأمريكي على انتشار الأمراض بين السكان الأصليين فيه، فقد أدى استرقاق الهنود وتجارة الرقيق وما صاحبها من نقل أعداد كبرى من السكان الأصليين للمتاجرة بهم والعنف الذي رافق ذلك إلى أن تتمكن جراثيم الأمراض الفتاكة من “الوصول إلى أقصى درجات إمكاناتها القاتلة” التي لم تكن لتصل إلى هذه النتائج الكارثية في الجنوب الأمريكي لولا تجارة الرقيق التي جعلت أحد المؤرخين يؤكد أن تبعات الاستعمار الإنجليزي المأساوية فاقت تبعات الغزو الإسباني الدموي لتلك المنطقة[27]، بل أن انتشار الأمراض الوبائية لم يكن عملية نتجت تلقائيا بمجرد وصول الرجل الأبيض والتقائه بالسكان الأصليين، إذ تدخلت العوامل البشرية كأساليب الاستيطان والنشاطات الاقتصادية التي تحكمت في درجة حدوث اللقاءات بين أفراد العالميْن، في جعل الجراثيم تقوم بتأثيراتها القاتلة[28]، وأن هذه الآثار الفتاكة حدثت بعد انتشار النفوذ الأوروبي وليس قبله[29]، ولا ننسى هنا ما سببته سياسة استرقاق الأفارقة من نشر أمراض وبائية جلبها تجار النخاسة من إفريقيا كالملاريا والحمى الصفراء، كما أدى الاحتكاك بين الأوروبيين والسكان الأصليين إلى اكتساب الهنود عادات مرذولة جلبت الأمراض الفتاكة معها كإدمان الكحول كما سيأتي الحديث عن نتائجه القاتلة، والتفسخ الجنسي، وكان الأثر الأمضى لأمراضه العديدة هو إضعاف الخصوبة لدى السكان الأصليين.
وبكل هذا لم يكن من الغريب أن أوائل طلائع المهاجرين الأوروبيين عدوا أن الأوبئة التي سبقت وصولهم إنما هي نعمة من الله أيد بها شعبه المختار وأخلى له الأرض من أعدائه ثم حسم الخلاف حولها بمزيد من الأمراض التي لم تبق منهم أحدا، وسرهم كثيرا منذ البداية مشهد الأكواخ المليئة بالجثث، وعزوا هذا التدبير إلى المسيح الذي يرعى كنيسته[30]، وفي الوقت الذي سبقت رذائل البيض وصولهم إلى القارة الجديدة فإن مزايا حضارتهم كالتطعيم ضد الأمراض كانت تصل الهندي متأخرة جدا عن ظهورها لدى مخترعيها بسبب عدم اكتراث الساسة الأمريكيين به[31]، ولم تفده كما أفادت غريمه، ووصله التطعيم بعدما أخذ الموت مأخذه منه ووصلت أعداد الهنود حافة الانقراض.
2- الخمر: رغم أن المسكرات كانت معروفة في القارتين الأمريكيتين قبل وصول كولمبس، فإن تأثير الخمور التي أدخلها المهاجرون الأوروبيون إلى العالم الجديد كان قاتلا بشكل يقرنه المؤرخون بالأمراض الفتاكة وحروب الإبادة والتهجير وتدمير مصادر الرزق الذي أدى للمجاعات وسوء التغذية، وكان الشراب يحول الشاب العاقل داخل القبيلة إلى شيطان قابل لارتكاب أفظع الموبقات، وقد استغل الرجل الأبيض نهم الهندي للمسكرات فاستخدمها وسيلة للغش التجاري إذ كان التجار يعلمون أن السكران أكثر قابلية للاستغلال فيقومون بتقديم الخمر لزبائنهم الهنود قبل عملية الشراء ومن ثم يستولون على فرائهم ويهربون، كما كانت الخمور من وسائل الغش السياسي وكثيرا ما عقدت معاهدات التخلي عن الأرض تحت تأثير السكر ، وقد أدت هذه الممارسات إلى العنف الذي يتولد نتيجة شعور الهنود بالغبن والخداع، كما أدت الخمور، المغشوشة في كثير من الأحيان، إلى تدمير مجتمعات هندية بأكملها نتيجة ترك المزارعين بيوتهم وحقولهم والدخول في أعماق البرية للحصول على المسكرات من التجار، كما كان الصيادون يبالغون في صيد الطرائد لدفع ثمن المشروبات بما أخل بالتوازن البيئي وأدى لاختفاء أعداد كبيرة من الحيوانات كانت مصدر رزق لهذه المجتمعات فيما سبق، وكثيرا ما ارتكبت الموبقات كدفع النساء إلى الرذيلة، وسرقة الجياد والماشية، وتحدي سلطة الزعماء وتجاهل جميع التعاليم الأخلاقية، بل وإلى شن الحروب للحصول على الأسرى ودفعهم إلى تجار الرقيق، ويقول أحد المؤرخين البارزين إن التجار جلبوا بكحولهم الموت والتمزق للمجتمعات الهندية، ونقل عن أحد معاصري الأحداث من زعماء القبائل الهندية في الجنوب الأمريكي قوله إنه فقد أكثر من ألف شخص ماتوا بسبب الإفراط في الشراب في غضون سنة ونصف فقط، وشهد مبعوث بريطاني إلى أرض الهنود سنة 1777 أنه لم يشاهد في القرى إلا شرب الخمر ونساء يبكون أمواتا من شرب الخمر[32].
وكان أثر هذه المسكرات واضحا منذ البداية للمسئولين الاستعماريين الأوروبيين وجرت محاولات منع بيعها للهنود ليس حرصا عليهم بل لما سببته عمليات الغش التجاري والسياسي من ردود أفعال عنيفة من جانبهم، ولكن المصالح المادية السريعة والسهلة التي كانت تنتج من عمليات البيع كانت تغري حتى التجار “المحترمين” على معارضة إجراءات الحظر، ورغم تعهدات الحكومة الأمريكية بعد انتصار الثورة بحماية الهنود من الممارسات المسيئة في كلامها المنمق، فإن “الحقائق كذبت الانطباع الظاهري” في قول أحد المؤرخين الذي يصف حال من كان يحاول من المسئولين في التخوم فرض القانون بأنه سينتهي للوقوع تحت المساءلة في المحاكم بتهم التعدي أو الاعتقال غير القانونيين، ورغم أن الخمر كانت من أكبر مصادر الصعوبات في التجارة مع السكان الأصليين، وكان المسئولون الأمريكيون على وعي تام بمضارها، فإنه لم تتخذ الإجراءات الكافية لمنع بيعها للهنود، والسبب في ذلك كما يعزوه أحد المؤرخين ليس إلى سوء النوايا وتعمد الإساءة أو عدم الاكتراث بالهنود ولكن مرة أخرى إلى المصالح الاقتصادية والنظام الفدرالي الأمريكي الذي كان يوزع السلطات بين الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات[33]، ولكن هذه الحجج ترتد على قائلها لأنه ليس هناك إساءة في الحياة البشرية تنبع من تعمد الأذى إلا عند أصحاب الحالات المرضية أما الأذى في الحياة اليومية فنابع من الحرص على المصالح الذاتية دون مصالح الآخرين، ولماذا لم يؤد النظام الفدرالي مثلا إلى سلبيات في حياة الأمريكيين بحجم ما اقترفه من جرائم ضد السكان الأصليين؟
لقد عبرت القضية عن أزمة حضارية أكثر من تعبيرها عن أزمة سياسية أو اقتصادية لحكومة عاجزة، فطوفان الخمور الذي اكتسح الهنود رغم قوانين الحظر الشامل التي لاقت نجاحا محدودا، والعقوبات المشددة التي برع التجار في التحايل عليها يؤكد عموم الانحراف وليس شذوذه[34]، بل إن التاجر الأمين كان يجد نفسه خاسرا في تجارته لو التزم القانون[35]فيضطر لبيع الخمر ليحصل على ماله كما يربح التاجر الغشاش[36]، وقد وصف أحد المؤرخين هذه الأزمة العامة بالقول إن كبح جماح التجار الغشاشين كان صعبا كوقف تيار الاستيطان والتمدد في أرض الهنود[37]، وهذا لم يمنع من وجود استثناءات أثبتت أن توفر النزاهة كان كفيلا بالقضاء على الفساد[38]، ولكن هذا كان الاستثناء وليس القاعدة في حضارة نفعية غلبت فيها التأثيرات الاجتماعية السلبية التي تركت أثرها على المجتمعات الهندية الأصلية من القرب من المستوطنات البيضاء والاحتكاك بعموم سكانها مما وسع الأزمة وجعلها أكثر من مجرد طمع تاجر شره هنا أو هناك، وقد اعترف المجتمع الأمريكي وقيادته بذلك حتى أصبح إبعاد الهنود عن الاحتكاك بمجمل الأمريكيين حجة “إنسانية” شائعة ومقبولة لعملية طرد القبائل من أراضيهم وسط التجمعات السكانية البيضاء والاستيلاء على ممتلكاتهم وإبعادهم إلى البرية المعزولة في الغرب، وذلك لأجل “سعادتهم”و”رفاهيتهم” بالتخلص من الضغط والإغواء وغيرهما من المساوئ المترتبة على وجودهم وسط المجتمع الأمريكي[39]، ولكن عندما حصر السكان الأصليون في المحميات كما سيأتي أصبحت الخمر هي وسيلة التنفيس عن الحياة البائسة التي يعيشها السكان الأصليون فيها[40]، أي أن حضارة الرجل الأبيض أدخلت الهندي في حلقة مفرغة من البؤس بدل استيعاب أعداده القليلة.
ومما يؤكد هذه الأزمة الحضارية في التعامل مع الآخر والتي جعلت القمع مبررا لقمع آخر، والبؤس تنفيسا عن بؤس آخر، أنه عندما منح الهندي المواطنة الكاملة التي تقتضي المساواة العامة ببقية أفراد المجتمع الأمريكي أصبح منعه من المسكرات متناف مع المساواة[41](!) فأصبح بإمكانه الحصول عليها “قانونيا” منذ سنة 1953 [42]، وبهذا استمرت المأساة من المساواة وأصبحت الخمر اليوم من الأسباب الرئيسة و”المشروعة” لارتفاع معدلات الوفاة بين السكان الأصليين لما تسببه من انتحار وحوادث طرق وأمراض السكر والتليف الكبدي، ومن المفارقات أن الخمر تحدث اليوم أضرار بالهنود تزيد عن أضرار حروبهم مع الأمريكيين في الماضي[43]، وهي معدلات لا تحقق المساواة بمعدلات بقية المجتمع الأمريكي، وذلك على عكس ما قصد منها.
3- الحصان: كان الحصان يعيش في القارة الأمريكية منذ زمن بعيد وانقرض لمدة طويلة لأنه كان غير مدجن ويصطاد للغذاء، فلما وصل الإسبان إلى أمريكا أتوا بالجياد التي ساحت في سهولها وتعرفت القبائل على ترويضها فشاع استعمالها مع نهاية القرن السابع عشر وبعد قرن كانت صورة الهندي راكب الحصان كما عرفها العالم بعد ذلك قد اكتملت، وبهذا فإن الهندي الفارس حامل البندقية في الحرب والصيد ليست صورة موغلة في القدم كما يظن البعض، إذ أنها نشأت مع نشوء مجتمعات هندية جديدة في سهول أمريكا، وصنع الحصان بذلك ثورة في حياة الهنود، إذ استعملوه بدلا من الكلب للحمل والنقل فثقلت حاجياتهم وطالت خيامهم واتسعت مجالاتهم وبعدت مسافاتهم وقل استقرارهم وأصبحوا أكثر تنقلا وأصبح امتلاك الجياد دليلا على المكانة الاجتماعية بين أفراد القبيلة، وتنافس الفرسان في إظهار مهاراتهم الفروسية في الحرب والصيد اللذين انقلبت طرقهما وتغيرت تغيرا جذريا عما سبق وأصبح اصطياد العدو والطرائد أكثر سهولة من استعمال الأقدام، ويصف أحد المؤرخين الأثر الذي تركه الحصان في المجتمعات الهندية بأنها أعمق من الأثر الذي صنعته السيارة في المجتمعات الحديثة[44].
وسواء كان إدخال الحصان إلى حياة السكان الأصليين عمدا أم صدفة، فإن الرجل الأبيض محا الأثر الإيجابي الذي تركه هذا الإسهام منه في حياة الهندي، وعندما اقتربت جحافل مستوطناته وجيوشه دمرت المجتمعات الهندية التي استفادت فيما سبق من الجواد ومن البندقية ومن كثير من البضائع الأوروبية ثم الأمريكية التي صنعت انقلابات في حياتها، وفي هذا درس عن حصول الاستفادة من الغرب عن بعد والتي يدمرها الاقتراب أكثر من اللازم.
4- البندقية : صنع وصول البندقية إلى يد الهندي تغيرات كثيرة في حياته، وقد وصلته عن طريق التجارة لأجل تسهيل حصوله على الفراء الذي يبيعه للتجار البيض، وكانت أيضا جزءا من المساعدات التي تقدم للقبائل مقابل تخليها عن أجزاء من أراضيها وقبولها مسالمة الحكومة والمستوطنين لمساعدتها على الصيد وإطعام أنفسها قبل انقراض الطرائد ولكن الهنود استخدموها في معاركهم وبرعوا في استخدامها ومع ذلك ظل هناك عيب قاتل في هذه العملية وهو أن الهندي لم يكن قادرا على صناعة البندقية أو إصلاحها أو صناعة الرصاص والبارود وهو ما جعله دائما أسير احتكار الرجل الأبيض للتقنية ومن ثم جعله معتمدا عليه وفي حاجة لاستمرار العلاقة معه وجعل مقاومته غير قادرة على الاستمرار والنمو لأن سلاحه ليس من صنعه، وبهذا أصبح مصير الصراع محكوما بالتقدم التقني الذي لم تكن حتى الوحدة الهندية قادرة على صده[45].
5- تشجيع المساوئ ومحاربة المزايا الهندية: أدى الاحتكاك بالرجل الأبيض إلى نمو مساوئ عديدة عرفتها المجتمعات الهندية، فقد شجع الفرقة والانقسام بين القبائل وإثارة الحروب التي أخذت أبعادا جديدة[46]مدمرة بينها بعدما كان القتال بين قبيلتين قد يستغرق سبع سنوات لا يقتل فيها سبعة رجال[47]، وذلك ما دفع أحد مقاتلي المستوطنين إلى أن يصف مشهد الحروب بين الهنود بأنه تسلية أكثر منه فتح أو إخضاع، وداخل القبيلة الواحدة شجع الرجل الأبيض المنافسة بين الأحزاب والزعماء على عادة كل المستعمرين في اتباع القاعدة المعروفة: فرق تسد، ووجدناه أيضا يشجع عادات همجية كسلخ فروة الرأس التي كان الأوروبيون والأمريكيون يدفعون لمن يأتي بها من أجساد أعدائهم مبالغ طائلة وصلت أحيانا إلى مقدار الدخل السنوي للفرد من الطبقة المتعلمة[48]، وتشير المصادر إلى أن عادة سلخ الرؤوس لم تكن منتشرة بين القبائل الهندية حتى قام الرجل الأبيض بتشجيعها ونشرها[49]بواسطة المكافآت المجزية إمعانا منه في العمل على القضاء على أعدائه الهنود.
ومن العادات المرذولة التي نشرها تشجيع الرجل الأبيض أسر الأفراد واسترقاقهم لاسيما في الجنوب الأمريكي حيث لعب البيض على وتر الخلافات الهندية وشجعوا الهنود على شن الغارات على بعضهم البعض-حتى لو كان الضحايا حلفاء لهم-لجلب العمالة للمستعمرين واتخذت هذه الممارسة أبعادا تجارية وأدت إلى دمار مجتمعات عديدة في تلك المنطقة وقعت ضحية هذه الممارسة وما نتج عنها من تبعات كانتشار الأمراض الفتاكة[50]، ومرة أخرى، وفي غير مجال الخمر تقف السلطة عاجزة عن كبح انتهاكات مواطنيها ضد السكان الأصليين حتى فيما تحرمه بنفسها[51]، وهو عجز لازم السياسة العامة التي اتبعتها الحكومات البيضاء تجاه جميع انتهاكات الحقوق التي تعرض لها السكان الأصليون لا سيما من قبل المستوطنين الذين كانوا كثيرا ما يعتدون على أراضي الهنود ويخدعونهم ومع ذلك تقف السلطة عاجزة عن اتخاذ خطوة رادعة بل نجد رجالها ممن يشاركون في الانتفاع الشخصي بهذه الانتهاكات[52]، وهذا كله يشير بعلامة استفهام إلى حقيقة المهمة الحضارية التي نذر الرجل الأبيض نفسه لها ومع ذلك قام بتشجيع الهمجية ونشرها بين تلاميذه “البدائيين” وقصر في الدفاع عن حقوقهم التي ادعى الوصاية عليها.
ولم يقتصر الأمر على نشر الرذائل الهندية بل لقد أدى الاحتكاك بالمجتمعات البيضاء إلى تفسخ الهنود باكتسابهم العادات الرديئة الخاصة بالبيض مما أدى إلى فقدانهم محاسنهم الذاتية التي كانت لهم في الماضي، ويكتب أحد المؤرخين قائلا:”وكان مما أخذه الهنود عن البيض قلة الشرف، وفنون الكذب، فكان تفكيرهم وقانون أخلاقهم، وثقافتهم تنتهي إلى الاندثار فالانحطاط والاضمحلال، ويكتب بيتر لي قائلا: ما كان حسنا عندهم كان يتعرض للخنق”[53].
6- التجارة والمساعدات والعلاقات الاقتصادية: عندما التقت الأمتان وجد الأوروبي ثم الأمريكي عند الهندي الفراء والجلود الثمينة ووجد الهندي عند الرجل الأبيض بضائع مصنعة كالملابس والسكاكين والمرايا والبلطات والدبابيس والخرز، وأهم من ذلك البندقية والأهم منها الخمور، وكانت توهب له في البداية مجانا وعلامة على “الصداقة”فلما يعتاد على استعمالها وتصبح ضرورية لحياته ينقطع الإمداد فيضطر إلى شرائها بالثمن الذي يحدده التاجر من الفراء والجلود[54]بل ومن الأسرى للاسترقاق[55]، وقد استنفد الصيد المكثف موارد الأرض الحيوانية شيئا فشيئا وكان يدفع الهنود دائما نحو الغرب للحصول على مزيد من الطرائد فيصطدمون بقبائل جديدة وتنشب الحروب بينهم، وكان التاجر الأبيض يهتم بجعل زبونه الهندي في حالة ديْن مستمرة[56]، وكان الهندي يتمكن من دفع ديونه في البداية ثم ينغمس في شراء الخمر فيصبح عاجزا عن الدفع[57]وكثيرا ما أدت الديون إلى سداد أثمانها من أراضي الهنود[58]وشنت الحروب لتأمين أسرى لدفعهم لتجار الخمور والرقيق ثمنا لتلك الديون[59]، وقد كان التنافس بين أمم أوروبا على التجارة الهندية المربحة من مسببات كثير من المنافسات والحروب التي نشأت بينها على القارة الأمريكية لاسيما بين فرنسا وبريطانيا، وملخص الأمر أن التجارة كان لها عواقب وخيمة على مجتمعات السكان الأصليين في أمريكا: فقد رفعت درجة الاعتماد على الرجل الأبيض، وحفزت على العنف، ونشرت الأمراض التي حفزها الاسترقاق كما مر[60]، وقد قدر أحد المؤرخين أبعاد ذلك بقوله إنه باعتياد الهنود على استعمال الأدوات المتطورة التي جاء بها الأوروبيون لم يعد لمهاراتهم البدائية مكان، وبعد فترة قصيرة لم يكن أمامهم مفر من التبادل التجاري بشروط ازدادت إجحافا مع الزمن، فخسروا سيادتهم الاقتصادية وجلب ذلك بداية انحسار السيادة السياسية وكل ما ميز حضارتهم[61].
ورغم بعد المسافة فقد تشابهت كثيرا تبعات التجارة وديونها في الشرق والغرب إلى حد بعيد، إذ أن كل تلك الأحداث تذكرنا بغزو التغريب الذي أتى بالسلع المصنعة إلى ديار العرب والمسلمين في الشرق وما تبعها من دوامات الديون ثم سيطرة أجنبية ثم احتلالات عسكرية وحروب المنافسة الاستعمارية، وقد ثقلت وطأة هذه الديون على بلادنا في الزمن المعاصر حتى رفع الأخ سلاحه وقتل أخاه سدادا لديون الأجنبي (1991)، تماما كما حدث مع الهنود في الغرب، وكما كان المستعمرون يدخلون بضائعهم إلى بلادنا تحت ستار حرية التجارة ثم يسعون لاحتكار أسواقنا، كذلك كانوا يفعلون مع زبائنهم الهنود[62].
7- المسيحية والحضارة والتعليم: لما كانت الأرض هي محور الصراع بين السكان الأصليين والمهاجرين الوافدين، فإن تحسين أوضاع الأهالي الهنود لم يكن ضمن جدول المستعمرين كما لم يكن ضم الهندي إلى مجتمع الرجل الأبيض ضمن أولويات هذا الأخير[63]، وكان تمثيل السياسة والقانون واضحا في أنه محصور بالمستوطن والمهاجر دون صاحب الأرض الشرعي[64]، وإذا كانت الطبيعة التبشيرية للمسيحية قد فرضت نفسها على المستوطنين، فإنهم قد قاموا بتحويرها بما يناسب تطلعاتهم إذ لم يكن الهدف من التبشير إلا إيجاد عملاء هنود لأهداف المستوطنين[65]، مثل استخدامهم في الحروب كالأدوات[66]، كما أن عداوة الرجل الأبيض لوجود الهندي وليس لمجرد ضلاله خفض من عدد المهتدين لأن الهندي لم ير العدالة في رب الرجل الأبيض الذي يخلص المعتدي ويتخلى عن الضحية، ولم يكن للهنود المتنصرين أية حرمة عند إخوانهم البيض، فقد واجهوا القتل والدمار والتهجير والسلب والاحتلال مثلما واجه كل ذلك من بقي على دينه من بقية الهنود[67].
أما الحضارة فقد قتل الرجل الأبيض جميع احتمالات نشوئها بين السكان الأصليين وضيق على من حاول تبنيها منهم وحصرهم في بقاع قاحلة لا يرغب فيها أحد بحجة تعليمهم الاستقرار والزراعة ولكن لم يزودهم بشيء من مستلزمات ذلك، وكان الهندي في مراحل مختلفة يتساءل عن جدوى شروعه في حياة الاستقرار على أرض ستنتزع منه عاجلا أم آجلا بحكم البندقية[68]، ثم جعل الرجل الأبيض الهنود يعيشون عالة على بطاقة التموين التي تصرف لهم مؤنا لا تصلح للاستعمال الآدمي في كثير من الأحيان وبكميات قليلة كثيرا ما كانت تتأخر عن موعدها وتسبب مآس كثيرة، وقد شبهت المحميات بمعسكرات اعتقال حيث الجوع والمرض والبطالة والغش والإهمال، وقد وصف مؤرخون عدة الحياة فيها بأنها “محنة”[69]و”حزن لا يمكن وصفه”[70]“في أرض قاحلة”[71]، فأصبح العجب ليس من عدم تحضر الهنود فيها بل من مجرد نجاة جنسهم بعد مروره بهذه المحن التي لم يكن نفس الرجل الأبيض ليتحملها[72].
وأما التعليم الذي حاولت الولايات المتحدة فرضه على أبناء السكان الأصليين فقد كان شعاره “قتل الهندي وإنقاذ الإنسان” أي تخليص الهندي من كل ما له علاقة بهويته وجعله إنسانا آخر، وهو ما وصفه أحد المؤرخين بالتعليم من أجل الانقراض[73]، وجسدت هذه الفلسفة المدارس الداخلية التي أرسل إليها أبناء الهنود ووصف بعض المؤرخين الأعمال الوحشية التي كانت تمارس فيها ضد الصغار بأنها إبادة جماعية راح ضحيتها نصف التلاميذ[74]، أما الذين ظلوا أحياء فخرجوا منها بجروح نفسية عميقة شوهت حياتهم من جراء التعرض للإهانات النفسية والجسدية وذلك لأن سياسة الانقراض التي اتبعت في هذه المدارس جعلت من الإهانة المستمرة سياسة متبعة تهدف إلى الحط من شأن الهندي وفي نفس الوقت لم تؤد إلى بناء مقابل مثل كل السياسات الحكومية في ذلك الوقت والتي أفقدت الهندي ما في يده ولم تعوضه ببديل عنه.
وسجل التاريخ أن كثيرا من الهنود رغبوا أن يعيشوا حياة الرجل الأبيض لاسيما بعدما دمرت موارد رزقهم ووسائل عيشهم، وحتى أكثر زعماء المقاومة تطرفا لم يمانعوا في الحصول على مستوى معيشة البيض بالعمل مثلهم، كما أن جميع الهنود بعد هزيمة المقاومة المسلحة أجبروا على هذا الخيار، وكان العقلاء منهم يوصون أتباعهم باتباع محاسن الرجل الأبيض وترك مساوئه مع التمسك بحكمة الأسلاف التي عاشت وصمدت دهورا[75]، ولكن مشروع التحضر عن طريق المحميات فشل فشلا ذريعا حتى باتباع “سياسة السلام” التي طبقها “أصدقاء الهنود” والتي أصرت على تجريده من هويته وأملاكه وقذفه في مجتمع تنافسي لا يعرف ولا يعترف بشيء من القيم التي نشأ الهندي عليها وتناقض الفردية الرأسمالية[76]، وكان من المتوقع أن تتم هذه التغيرات الفجائية في لمح البصر، مما أدى لفشلها وترك السكان الأصليين ضحايا تقلب السياسات التي تستهدف “صالحهم”، دائما، ولكن النتيجة الأوضح أنه في كل مرة كان الهندي يخسر فيها شيئا من موارده ضمن برامج تمدينه كان هناك من يربحها على الجانب الأمريكي، فالأرض ربحها المستوطنون، والأموال التي خصصتها الحكومة لدعم برامج التحضير تقاسمها الفاسدون من أركان”الحلقة الهندية” وهم التجار والسياسيون والموظفون الحكوميون المتولون أمر الهنود في المحميات، والذين انقضوا على المال المخصص لتهيئة الهندي لحياة التمدن وراكموا ثروات ضخمة منه على حساب قوته، كما أن قطعان الجاموس التي أبيدت لإجبار الهنود على الاستسلام للحضارة ذهب فراؤها إلى أسواق أوروبا وأمريكا وربح الصيادون والتجار والشركات من ذلك مبالغ طائلة، وذهب الذهب الذي انتهكت المعاهدات بعد اكتشافه في أراض الهنود المضمونة لهم إلى خزائن الرجل الأبيض الذي كان يبشر نفسه بحل أزماته الاقتصادية.
وخلاصة الأمر أن “الأوروبيين لم يجدوا صعوبة في إقناع أنفسهم بأنهم قدموا تعويضا مجزيا للهنود بمنحهم المسيحية والحضارة”[77]بدلا من سيادتهم وممتلكاتهم (!)
استمرار الاستغلال والشعور الزائف بالذنب:
المتأمل في مشهد المجتمع الأمريكي المعاصر تلفت نظره ملاحظة جديرة بالاهتمام، فعلى الرغم من الدعاية الضخمة التي تصاحب عملية استقبال عشرات الآلاف من المهاجرين الباحثين عن السعادة من جميع أقطار العالم سنويا والقادمين ليندمجوا في “بوتقة الصهر” التي تتقبل الجميع نظريا، يظل صاحب الأرض الشرعي ، وهو المواطن الهندي الأصلي، خارج هذه الجنة الموعودة رغم قلة عدد السكان الأصليين مقارنة بمجموع سكان الولايات المتحدة (1.5% فقط وفقا لتقديرات موسعة) وبمجموع المهاجرين الذين يفدون برخص رسمية كل عام إلى أرض الميعاد هذه، مما يجعلنا نستنتج أن الاستيعاب داخل الحضارة الغربية التي تمثل الولايات المتحدة قمتها في عالمنا المعاصر، ليس مرتبطا بقدرتها على هذا الاستيعاب أو بإمكاناتها الضخمة التي تستطيع بكل تأكيد أن تشمل العدد الضئيل من سكان أمريكا الأصليين كما تشمل أعدادا ضخمة من غيرهم كالأقلية اليهودية مثلا التي يحسن مقارنة عددها بعدد الهنود ونفوذها بتهميشهم ، ولكن هذا لم يحدث إلى اليوم بعد أكثر من قرن من هزيمة الهندي أمام قوة”الحضارة” الزاحفة وزوال خطره بإغلاق منطقة الحدود بين”المدنية” و”الهمجية” رسميا ومع ذلك مازال المجتمع الأمريكي مصرا على نبذ صاحب الحق رغم أنه لا يشكل عبئا يذكر على إمكانات هذا المجتمع الكبيرة.
ورغم القوانين الكثيرة التي ادعت إلغاء سياسات القهر الماضية ومنح السكان الأصليين حق تقرير المصير والحرية الدينية وتأسيس لجان النظر في الحقوق والمطالبات، ورغم المظاهر الاحتفالية التي يقوم بها الرؤساء الأمريكيون مثل التقاط الصور مع الهنود واستقبال زعمائهم لأول مرة في البيت الأبيض وإطلاق الأمنيات بأن يكون المستقبل أكثر إشراقا من الماضي والتوقيع على إعلان الأمم المتحدة الخاص بحقوق السكان الأصليين، فإن واقع الحال مازال بعيدا عما توحي به هذه المظاهر، ومازال الهنود يعيشون على هامش المجتمع الأمريكي ويعانون من الإهمال الاجتماعي، ومن تفاصيل هذا الحال أن مجتمعات السكان الأصليين اليوم تتميز بمعدلاتها العالية من البؤس والحرمان التي تفوق معدلات المجتمع الأكبر حولهم بكثير، “ولا أحد يستطيع إنكار أن السكان الأصليين مازالوا أكثر الأقليات حرمانا في الولايات المتحدة”، فظروف المعيشة في محمياتهم تشبه ظروف العالم الثالث وتكوّن استثناء وسط مجتمع من العالم الأول يتميز بالوفرة، وتتراوح نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر في هذه المحميات بين 38-63% وتسودها أوضاع صحية فقيرة جدا حيث من الممكن أن يعيش ثلاثة أجيال أو أكثر (قد يصل عدد أفرادها إلى 25) في مكان ضيق (غرفتين مثلا) بلا تبريد أو تدفئة أو مطبخ وأكثر من نصفها بلا صرف صحي، وفي بعض المحميات يضطر ساكنوها إلى قطع 30 أو 40 كيلومترا لملء خزان المياه و 150 كيلومترا للوصول إلى مستشفى.
أما عن ظروف العمل فتتراوح البطالة في المحميات بين 50-70% وقد تصل إلى أعلى من 80%، وقد وصلت البطالة في بعض محميات داكوتا-حيث يعشش الفقر-في التسعينيات إلى 93%، في الوقت الذي كان فيه معدل البطالة في أمريكا لا يتجاوز 5%، ولم يكن من العجيب أن تتنافس المحميات في تسجيل أعلى معدلات الفقر حيث سجلت المقاومة الهندية آخر وقفاتها البطولية ضد الغزاة الأمريكيين في القرن التاسع عشر.
ومن بين جميع الأعراق في الولايات المتحدة يتربع السكان الأصليون على المركز الأول في كل من: معدل التسرب من المدارس (54%)، ومعدل وفيات الأطفال (60%أعلى من معدل السكان البيض)، ومعدلات الانتحار (60% أعلى من المعدل العام في أمريكا)، وحمل المراهقات، وانخفاض معدل الأعمار (55 عاما فقط)، وفي بعض المحميات تصل نسبة الأسر المبتلاة بمشاكل الخمور إلى 80%.
ومن الدلائل الطريفة على الشعور الزائف بالذنب لدى الدولة الأمريكية أن المحميات الهندية معفاة من دفع الضرائب بصفتها موطنا لأصحاب الأرض الشرعيين الذين لا يملكون في الأغلب ما يدفعونه أو يدفعون عنه الضريبة، والأطرف من ذلك أن الهندي الذي يغادر المحمية يعاد فرض الضريبة عليه إذ يصبح لديه ما يقدمه بعد خروجه من أحزمة الفقر تلك.
وتعيش هذه المحميات على أموال المساعدات كدول العالم الثالث، ومثل هذه الدول أيضا لا يصل من المساعدات لمواطنيها إلا 12% [78]، والمهارة الوحيدة التي أخلص الرجل الأبيض في نقلها وأبدع في تعليمها للهندي هي القمار الذي تفوق فيه التلميذ على أستاذه فأصبحت المحميات الهندية تدر ثلث مجموع أرباح القمار الأمريكي كله حسب إحصاء سنة 2009، ولكن مثل أموال كل مؤسسات العولمة لم تؤد هذه الأموال إلى رفع شأن الهندي العادي والمجتمعات الهندية الفقيرة عموما.
وفي الوقت الذي يستخرج فيه نصف اليورانيوم الأمريكي من محميات الهنود فإن80% من النشاط النووي الذي تقوم به الولايات المتحدة يقع في أراضي الهنود أو قريبا منها، وكما يحدث مع العالم الثالث، تقوم الحكومة الأمريكية بإغراء السكان الأصليين بالمال لدفن المخلفات المشعة والسامة في أراضيهم، وقد ترب التلوث إلى المياه والتربة والغذاء ثم إلى أجسام السكان الأصليين أنفسهم في بعض المناطق[79].
هذا النمط من التبادل الحضاري الأعرج الذي يستثني الغير من المزايا ويصب عليه المساوئ، كان هو النمط السائد في علاقة السكان الأصليين بالمهاجرين الأوروبيين منذ وطئت أقدامهم هذه القارة الجديدة عليهم، فقد تميزت هذه العلاقة باستئثار الجانب الأوروبي ثم الأمريكي بالمحاسن في نفس الوقت الذي صب فيه المساوئ على الجانب الهندي الضعيف، وإذا كان هذا هو السائد اليوم بعد انقضاء عصر المقاومة الهندية المسلحة وزوال الخطر الهندي على الاستيطان الأمريكي، فمن باب أولى أن يسود ذلك أيضا في عصر الصراع الدامي على الأرض حين كان الطرف الهندي مازال قويا بعض الشيء ويهدد المستعمرين بمقاومته ولهذا فإن حرمانه من المزايا الحضارية كان أكثر إلحاحا وأهمية للجانب الأمريكي.
إمكانت التغير في أوضاع السكان الأصليين في الولايات المتحدة وعلاقتها بسبب الصراع
أقر الرئيس الأمريكي السابق جون كينيدي بثقل الماضي ووطأته في تعطيل الجهود لتحسين ظروف الحاضر والمستقبل فيما يتعلق بالسياسة القومية تجاه معاملة السكان الأصليين وفقا لعلاقتهم الخاصة بالحكومة الاتحادية[80]، ولقد حسب أحد المؤرخين المدة اللازمة لعودة أملاك الهنود التي ضمنتها المعاهدات لهم كما كانت سنة 1887 ، وذلك قبل أن تسلب هذه البقية الباقية لتوزع منها حصص على الأسر الهندية تحت شعار تمدين الهنود وتعليمهم الاستقرار والملكية الفردية وفقا لقانون دوز، وتذهب بقية الأرض إلى المستوطنين الطامعين، وكان الهنود حينئذ يمتلكون فيه 7% من مجموع الأرض الأمريكية التي كانت كلها يوما لهم، فوجد هذا المؤرخ أنه وفقا”للتقدم” الذي حصل منذ التراجع عن القانون السابق سنة 1934 إلى بداية القرن الحالي فإن الأمر يتطلب ستمائة سنة للعودة إلى ما كان قائما سنة 1887[81]، مع أن هذا الوضع بدوره كان نتيجة قرون من سفك الدماء والنهب والسلب وانتهاك الحقوق والمعاهدات، ومع ذلك فإن “التقدم” من سيء إلى أسوأ جعله حلما بعيد المنال، ومن أمثلة القضايا التي رافقتها أجواء إعلامية احتفالية كبرى توقيع الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر سنة 1980 على قانون بمنح إحدى القبائل الهندية مالا يكفي لشراء 2% فقط من أراض واسعة طالبت بها في ولاية مين، وقد حدث هذا “الإنجاز” بعدما قضى الرئيس وقتا في معالجة القضية أكثر مما قضاه أي رئيس أمريكي في قضايا الهنود منذ بداية القرن العشرين[82]، ومازالت الولايات المتحدة تحجم عن اتخاذ حتى خطوات رمزية لصالح السكان الأصليين مثل تقديم اعتذار أدبي[83]وذلك رغم زوال خطرهم منذ زمن بعيد واستحواذ الرجل الأبيض على معظم بلادهم وثرواتهم وحصول كثير من الضحايا والأقليات على اعتذارات مماثلة في أنحاء العالم.
ولكن لماذا مازال الهندي يؤلف مشكلة للمجتمع الأمريكي؟
وقد وصف أحد المحللين “المسألة الهندية” في المجتمع الأمريكي بأنها إصرار الهندي على أن يتمسك بهويته وان يكون مختلفا في مجتمع يدعي تقديم فرص للجميع ولكن ما يعرضه في الحقيقة هو التماثل بينهم وهو ما لا يلائم مجموعة تصر على أن تختار (على أرضها) ما يلائمها وترفض ما يفرضه الآخر عليها وهو ما يراه الهنود في المقابل “المسألة البيضاء”[84]، وهذا حق تراه بلا ريب مستمد من جذورها في هذه الأرض وكون أفرادها أصحابها الشرعيين وتظل متميزة عن المجتمع المحيط حتى وهو يتحول إلى أغلبية من الأقليات التي تنظر للمسألة الهندية من زاوية تختلف عن نظرة السكان الأصليين رغم كونهم أقلية بدورهم.
مدى أهمية أي تغير مستقبلي
وبغض النظر عن بؤس الواقع الحالي للسكان الأصليين، وعن آفاق التحسن في هذا الواقع، فإن الثابت والمؤكد أن الهندي الأصلي ظل طوال عهد الطمع الأبيض بأرضه وثرواتها، ومقاومته هذا التمدد، محل عداء للمجتمع الأمريكي الذي يخفف قيوده وكراهيته إلى حد ما كلما قل ما في يد الهندي وقلت خطورته على ما في يد الأمريكي، حتى إذا استجدت الأطماع نتيجة كشف ثروة جديدة أو مطالبة الهندي بحق قديم، عادت الكراهية من جديد وعاد العداء إلى سيرته الأولى[85]، مما يؤكد أن الهندي الصالح اليوم هو الهندي المعدم الذي لا يملك ما يُطمع به، بعدما كان الهندي الصالح في عهد المواجهات المسلحة هو الهندي الميت الذي لا يقاوم الطمع في ممتلكاته وحقوقه، وهذا الوضع التاريخي الذي يصر الهندي اليوم على تصحيحه كما مر، هو الذي يضعه في تناقض مع حال اليهودي مثلا الذي يناظره عددا ويناقضه وضعا، وحتى لو تم دمج السكان الأصليين في المجتمع الأمريكي فيما بعد فأصبحوا جزءا منه وممثلا له، وهو أمر لا يبدو احتمالا قائما في المستقبل القريب ولا حتى البعيد في ظل ما سبق، فإن هذا لن يكون تراجعا عن شرور الماضي ولا عن الاستعداد لتكرار المظالم لو استجدت مصالح في أية بقعة من العالم، بل حتى لدى الهندي نفسه كما أثبتت بعض الانتكاسات الرجعية منذ القرن العشرين، وليس من الفضائل أن يقلع المرء عن الخطايا بعد زوال منافعها، وذلك لأن المصالح البشرية تتجدد ما دام الإنسان حيا، وعودة المصلحة تعني العودة للخطيئة.
محددات التغير في السياسات الظالمة
وكل ما سبق يؤكد أن مسيرة التقدم في العلاقة بين الأمريكي (الذي يمثل الحضارة الغربية) والهندي (الذي يمثل أي آخر موضع طمع ) محكومة بدرجة المنفعة والقدرة على تحقيقها، وليس بتطور المفاهيم وتقدم الأفكار، إذ كما بينت في دراسة سابقة (أمريكا مدينة على تل أم صنم على جبل 1و2)، لم نحاكم الشخصيات الرمزية في التاريخ الأمريكي والمتهمة بارتكاب المظالم، وفقا لمفاهيم زمنية لاحقة، بل إذا نظرنا إليها وفقا لمفاهيم عصرها بل وفقا لاعترافاتها الذاتية فإن الهوة بين القول والفعل واسعة وعميقة جدا، ليس بسبب القيود الفكرية للعصور التي عاشت فيها وقصرت مفاهيمها كما قومها من جاء في القرن العشرين، بل بسبب المصالح والأطماع التي اقتضت ارتكاب الظلم واستمراره ومنعت اتخاذ إجراءات عادلة والقضاء على الإساءات التي كان من الممكن وقفها كما أثبتت الحرب الأهلية الأمريكية والحرب الباردة ولكن ذلك لم يحدث إلا عندما تقضي المصالح والأطماع الجديدة وليس مجرد الإحساس بالخطيئة والندم عليها.
صراعات من أجل المصالح المادية وليس اختلافات فكرية بين الأزمنة
ومن هنا فإن المظالم التي ارتكبتها الولايات المتحدة ورموزها ضد الهنود الأصليين والأفارقة المستعبدين لم تكن مجرد التزام بمفاهيم عصر متخلف عما بعده ويسير قدما نحو الأفضل، بل كانت نفاقا اجتماعيا وظلما مؤسسيا عبر عن الهوة الكبيرة بين القول والفعل نتيجة غلبة المصالح والأطماع المادية، واعترافات رجال ذلك العصر تثبت أنهم كانوا يرون ظلما ما نراه نحن اليوم ظلما، ولكن لم يكن يجرؤ على رفض هذا الظلم إلا من تحررت مصالحه من المواجهة مع الهنود، كسكان الساحل الشرقي في القرن التاسع عشر والذين ازدهرت بينهم المواقف الإنسانية تجاه الهنود بعدما تم تطهير المنطقة كلها منهم ولم يعد السكان الأصليون يؤلفون أي خطر على سكانها الذين أصبحوا يعيبون العنف الجاري بعيدا في الغرب ضد الهنود[86]، في الوقت الذي كان فيه سكان الغرب يتبنون الحل الإبادي لأنهم منهمكين في صراع لا يهدأ مع السكان الأصليين[87]، وكانوا يعيبون بدورهم على أهل الساحل الشرقي صحوة ضميرهم المتأخرة بعد فوات الأوان ورفضهم اليوم ما فعله أجدادهم بالأمس[88]، أي أن الاختلاف بل التناقض الفكري كان بين الأماكن المختلفة حسب توزع المصالح بينها وليس بين الأزمنة المتعاقبة حسب تطور الأفكار، وكان من الممكن وضع حد لهذه المظالم كما أثبتت الحرب الأهلية التي أثبتت أيضا أن المصالح هي التي تحرك القدرة على التغيير، وأوضح دليل على ذلك أن الشمال حرر العبيد لأن ذلك يدعم حربه على الجنوب وفي نفس الوقت قام نفس الرجال الذين حاربوا لأجل حرية الرقيق بالقضاء على حرية وحياة الأمم الهندية التي كانت تقف في وجه التوسع الأمريكي في الغرب القاري، ، وتبدو المفارقة الواضحة بين مختلف الآثار الإنسانية في السياسة الأمريكية فيما حدث لكل من العبيد والسكان الأصليين في نفس الفترة في ظل المشاعر الإنسانية، ففي الوقت الذي صدر إعلان تحرير العبيد بتشجيع من الإنسانيين الذين حفزتهم رواية كوخ العم توم، أدت المشاعر الإنسانية تجاه الهنود والتي حفزتها كتابات أديبة إنسانية أخرى منها رواية رامونا طمحت كاتبتها إلى أن تجلب للهندي ما جلبته كوخ العم توم للعبد الإفريقي من تعاطف، ولكن المفارقة أنها أدت إلى تطبيق سياسة “تمدينية” جسدها قانون دوز (1887) الذي شرّع سلب ثلثي ما بقي من أراض قليلة للهنود بعد معاهدات واتفاقات رسمية أقرت بقاء هذه الأراضي لهم بعد قرون من التوسع الأوروبي والأمريكي والقتل وانتهاك الحقوق، وهذا توضيح لا لبس فيه عن عبثية العوامل الإنسانية في ظل المصالح والمطامع في المجتمعات الرأسمالية.
كما أثبتت تجارب أمم أخرى أكثر “تخلفا” من الولايات المتحدة وعاصرت حروب الهنود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وجود خيارات أخرى غير الحل الإبادي الذي تبنته أمريكا، ومن ذلك تجربة توطين العشائر البدوية في الدولة العثمانية كما شرحت ذلك في دراسة أخرى سابقة (آثار التغريب الاجتماعي على المجتمع الإسلامي).
والجدير بالملاحظة أن صحوة الضمير في المجتمع الأمريكي عامة لم تحدث كما يقول أحد المؤرخين إلا “بعد زمن طويل من زوال الخطر الهندي تماما” [89]، وذلك بهزيمة المقاومة المسلحة وسلب ممتلكات الهنود، ولكن ما يكشف زيف الشعور بالذنب وأن الظلم لم يكن نتيجة القيود الفكرية للعصور الماضية، أنه كلما ظهرت دواعي الصراع مجددا على أي حق من حقوق الهنود عادت المشاعر السلبية القديمة وعاد العنف مرة أخرى[90]، وبرز إلى العلن السؤال الاستنكاري التهكمي الذي لا يدل على الندم على مظالم الماضي فيقول: “هل نحن بصدد إعادة أمريكا إلى الهنود ثانية؟”[91].
لقد تبنى المهاجرون الأوروبيون والأمريكيون سياسة التوسع منذ البداية، وكان هذا هو الذي فرض عليهم اتباع سياسات خاصة، وهو الذي فرض السياسات اللازمة لتحقيق هذا الهدف حتى في رأي من اعتقد أن سكان الحدود هم الذين منعوا تطبيق سياسات متنورة وجدت عند السياسيين في واشنطن[92]، فقمع السكان الأصليين كان متضمنا في استمرار هدف التوسع[93]وسلب أراضيهم وهو أمر لن يقفوا منه موقف المتفرجين، فكان رد فعل الحكومة الاستيطانية “الصالحة” هو ما أوضحه أحد الجنرالات الأمريكيين لمواطنين مكسيكيين أثناء الحرب الأمريكية المكسيكية (1846-1848) عند حديثه هن عجز الحكومة المكسيكية عن الدفاع عنهم ضد هجمات الهنود:”إن حكومتي ستصحح كل ذلك، ستصد الهنود وتحمي أرواحكم وممتلكاتكم”[94]، وهذا كان هو معيار صلاح الحكومة الاستيطانية التي عليها إثبات جدارتها بواسطته وتتنافس مع غيرها من الحكومات المشابهة في تحقيقه حتى على لسان شخص ذي تجربة كما وصف ذلك الجنرال في التاريخ، فكيف هو الحال مع عامة الناس؟[95]، ومن هذه الحرب وغيرها من الحروب التي قامت بين البيض أنفسهم كالثورة الأمريكية والحرب الأهلية يتبين أن الأمريكيين تصدوا لجميع من وقفوا ضد توسعهم، سواء كانوا من السكان الأصليين أم البريطانيين أم المكسيكيين أم الجنوبيين، ولهذا قال أحد المؤرخين إن العنصرية لا تصلح لتفسير التاريخ الأمريكي كله-وإن استفاد الأمريكيون منها في تبرير توسعهم على حساب الهنود- لأن حروبه طالت البيض كما طالت غيرهم، وقد كان المحرك للأمريكيين هو الحرية والبحث عن الفرص (ولو على حساب الآخرين) والانتقام من مقاومة الهنود[96]، وهي صورة طريفة للحرية التي تبنى بإبادة الآخرين تماما كما دافع الجنوب عن”حريته” باستعباد الأفارقة، كما أنها صورة طريفة لعذر (هو العنصرية) يماثل الذنب (وهو التوسع) قبحا ومرارة.
لقد كان هذا الصراع على الأرض هو الأرضية الخصبة التي نمت فيها الصورة الاستئصالية (المقابلة للاستشراق في الشرق العربي الإسلامي) والتي صورت السكان الأصليين بصورة تبرر حربهم والقضاء عليهم واستئصالهم وسلبهم كما كان الاستشراق الذي اخترعه الغرب يبرر إخضاع الشرق وحكمه والهيمنة عليه للاستيلاء على المصالح الغربية فيه.
وبهذا نرى أن علاقة الغرب بالآخرين، ونحن من ضمنهم، ليست محكومة بتطور المفاهيم وتقدم الأفكار نحو الإنسانية والعقلانية كما يظن أنصار التغريب الذين يتهمون غيرهم باستعجال الجنة الآتية من الغرب، بل بنوعية المصالح وقدرة الغرب على فرضها على غيره، وقد أقر الرئيس كينيدي بأهمية القوة في معادلة الصراع فقال:”عندما كان الهنود يتحكمون بميزان القوى، كان المستوطنون الأوروبيون مجبرين على أخذ وجهة نظرهم في الحسبان، فكانوا يتعاملون معهم بالمعاهدات والأدوات الأخرى…وعندما فقد الهنود قوتهم، وُضعوا في محميات كانت غالبا أراض غريبة عنهم، وصرفت بقية الأمة اهتمامها عنهم إلى قضايا أخرى”[97]، ومن هنا فإن استعادة حقوقنا ليست مرهونة بعطف يستجد علينا في الغرب بل بقدرتنا على تحقيق مصالحنا في وقت مازالت فيه المصالح الغربية ثابتة في بلادنا وإن كان كثير من حملة الشعارات المثالية في الغرب يعارضونها، وهذه معارضة خيالية لن يلبث نفس دعاتها أن يتخلون عنها عندما يوضعون في موضع المسئولية المسئولة عن تحقيق المصالح لا تطبيق المبادئ.
الاستنتاجات
توزيع المحاسن والمساوئ في الحوار الحضاري: الحضارة الغربية حضارة حصرية غير مستعدة لدمج الآخرين فيها رغم حديثها المستمر والممل عن ضرورة قبولهم، ومن أقوى الأدلة على ذلك استثناء السكان الأصليين من جنة بوتقة الصهر الأمريكية التي تذوب فيها كل الفروق بين البشر ومع ذلك تضيق بقلة من أصحاب البلاد الشرعيين الذين سارت العلاقة التاريخية الحضارية بهم في اتجاه واحد، فحصد المهاجرون البيض كل المزايا وكانت المساوئ من نصيب الهنود، فقد أعطوا محاسنهم للوافدين الجدد الذين لم يكتفوا باستغلال هذه المحاسن لأنفسهم وتدميرها عند أصحابها بل قاموا أيضا بحرمان الهنود من محاسن الحضارة الأوروبية رغم توق كثير منهم للدخول في جنتها، ولو حصل الهندي على مزية من الوافد بطريقة غير مقصودة فإن هذا الوافد سرعان ما سيدمر ما أشادته هذه المزية في حياة الهندي عندما يقترب من حدوده، كما قام الأوروبيون بتشجيع مساوئ الهنود والاستفادة منها وبتصدير المساوئ الأوروبية إليهم أيضا، وبهذا حرم الهنود من جميع المحاسن واستنفدتهم المساوئ في الوقت الذي استفاد الأوروبيون من كل ما تصوروه حسنا سواء عندهم أم عند سكان البلاد حتى أنهم تجرءوا على حرمان الهندي مما كانوا هم يستفيدون منه من مزايا الهنود الذين أصبحوا محرومين من حقهم في ذواتهم المباحة للغير.
الكيان الصهيوني نموذج مصغر للتجربة الأمريكية: وإن تجربة الكيان الصهيوني الذي يلخص مجموع التجربة الأمريكية تؤكد هذا الاستنتاج حيث يحرم العربي الفلسطيني من جنة أرض الميعاد التي تستقبل الوافدين من أقاصي الأرض إلا أنها تضيق بصاحب الحق في الأرض، كما أن العجز الذي ينتاب “المجتمع الدولي” في مواجهة الانتهاكات الصهيونية لحقوق شعب فلسطين مقابل الشدة في مواجهة أية مقاومة فلسطينية يؤكد أن السلطة في الحضارة الغربية تمثل دائرة مواطنيها وغير معنية بضم الآخرين إليها أو معاملتهم على قدم المساواة وهو أمر يعيد إلى الأذهان عجز السلطات الأوروبية والأمريكية في القارة الأمريكية أمام انتهاكات مستوطنيها لحقوق الهنود الذين ادعى البيض أنهم يسعون لدمجهم في حضارتهم، وهذا يؤكد أن الحصرية في الحضارة الغربية غير مرتبطة بقلة الإمكانات لاستيعاب الآخرين ولكنها مرتبطة بجدول المصالح الحصرية غير القابلة للتعميم كما تتصورها النخبة المستفيدة في هذا المجمع الحضاري.
مصير الانحياز للحضارة الغربية: ولم يكن نصيب الذين انحازوا إلى حضارة الرجل الأبيض أفضل من مصير من قاومها ووقف ضد أطماعها، فقد سلبت أرض المقاوم وانتهى إلى الفقر والطرد أيضا من تعاون مع البيض ببيع أرضه أو بالقتال إلى جانبهم، وهذا ما حدث مع بلادنا حين انحاز العرب إلى جانب الحلفاء في الحرب الكبرى الأولى(1916) فكان مصيرهم فقدان حريتهم ، وتقسيم بلادهم، واحتلال أرضهم، لأن المصالح الغربية اقتضت ذلك بغض النظر عن المواقف الذاتية، ولهذا علينا التيقن بأن قبولنا بخطة تقسيم فلسطين (1947) لم تكن لتدرأ عنا النكبة لأن خطط الأعداء لم تكن رهينة مواقفنا أو ردود أفعال عليها، وفي الحرب الأولى أيضا كان مصير الدولة العثمانية التي كانت تهمتها هي التحالف مع الألمان أسوأ من مصير ألمانيا ذاتها في تكرار لتجارب الهنود التي كان المهزوم منهم يعاني أكثر من حليفه الأبيض (الفرنسي أو البريطاني أو الأمريكي الكنفدرالي) .
أين نحن من التجربة الغربية عموما والأمريكية خصوصا؟: ينادي أنصار التغريب بأن علينا أن نقتبس التجربة الغربية التي قامت بإنجازات أوصلت-على سبيل المثال-شخصا من أصل إفريقي إلى منصب الرئاسة الأمريكية، والحقيقة أن هذه المباهاة فيها كثير من التجاوز على حقوق ملايين البشر التي سحقتها ومازالت تسحقها حتى اليوم الولايات المتحدة وأتباعها، وليس من الإنصاف أن يحمل الضحايا ثمن فاتورة تطور صنعه المجتمع الغربي لداخله في الوقت الذي مازال الخارج ينتظر منذ بداية عصر الكشوف الجغرافية والاستعمار والإمبريالية دون تقدم يذكر إلا بعد فوات الأوان دائما، وليس من العقل أن يطالب الطريد بالإعجاب بما صنعه المغتصب على أرضه المسروقة من إنجازات يتمتع بها وحده دون صاحب الأرض الشرعي، وإذا تململ ورفض وقاوم فإنه يتهم بالعجلة[98]لأن الخير في طريقه إليه والشمس ستشرق من الغرب بعد انتظار دام أعمارا كثيرة واستهلك طاقات كثيرة وأصبح تكرارا مملا لتجارب متغربين أصروا بعناد دائم على الانحياز للغالب الغربي لتحقيق شيء من الازدهار في ظله من داخل منظومة الهيمنة الغربية، في تجارب انتهت جميعها بفشل ذريع دل على أن مكان “الآخر” في هذه التجربة هو المكان الذي ترسمه المصالح المادية التي تفرضها مبادئ المنفعة التنافسية الاستئثارية وإرادة فرض الهيمنة الحضارية الغربية وتجسد النموذج البدئي لهذه المكانة في التجربة التي خاضها ومازال يخوضها الهندي الأصلي بإقصائه واستبعاده منذ البداية إلى اليوم داخل القارة الأمريكية والذي تكرر مثاله في تنويعات على اللحن الأصلي والتي سمع فيها نغمة هذا اللحن بوضوح في أماكن متفرقة وعديدة في العالم تصر على الدفاع عن حقوقها المادية وهويتها الحضارية المختلفة عن الغرب وبخاصة في عالم العروبة والإسلام حيث تحكم المصالح الغربية والأطماع المتجددة دائما والخلافات الحضارية مسار علاقتنا بالغرب أكثر من انتخاب مسرحي لإفريقي تشرب مبادئ العولمة وأصبح جزءا من المنظومة الرأسمالية -كما يجسدها أشد أنصارها حماسا- أكثر من تمثيله مصالح الفقراء والمعدمين والمستضعفين الذين لم يغير من منظومة ظلمهم شيئا، وأقول إن انتخابه مسرحي لأن أصداءه الإعلامية كانت أكبر من إنجازاته الحقيقية.
وعلى كل حال فإذا كان للغرب من حق في أن يأخذ-وفقا لوعود الانتظار-وقتا كافيا-قد يصل قرونا طويلة كما مر وإن لم يكن هنالك ضمانات لنهاية المسار- لاستيعاب الغير ودمجه في منظومته الحضارية كما يعدُنا المتفائلون بلا سبب، فإن على أنصار التغريب هؤلاء ألا يبخلوا على أممهم بأن تأخذ فرصتها الكاملة للتطور وفق مساراتها الذاتية دون أن يقوم قُطاع الطرق من الغرب بفرض مسارهم الذاتي لتحقيق مصالح حصرية لا تشمل الضحايا في نفس الوقت الذي يدعي فيه هؤلاء الغربيون أنهم يفعلون ذلك لصالح الإنسانية كلها ولا يمكننا فهم ذلك إلا إذا كانوا يقصدون بالإنسانية أنفسهم وحدها وهو ما ثبت بالفعل من تحليل الخطاب الحضاري الغربي التاريخي الذي أراد فرض التماثل داخليا والتبعية خارجيا رغم كل الأحاديث عن التنوع والقبول.
هل يمكننا الفصل بين الفكر الغربي التنويري والسلوك الغربي الاستعماري؟
يصر بعض المثقفين على “التمييز بين إشعاعات المنهج الليبرالي التنويرية، والسياسة الليبرالية المتمثلة بالوجه الإمبريالي لاستعمار دول العالم الثالث”[99]، وإذا كان هذا الرأي مردودا عليه بالوقائع التاريخية كما سيأتي، فإن الأعجب منه أن يتعلق أصحابه بالتجربة الماركسية التي ورثت المنهج الليبرالي دون السياسة الإمبريالية و”مثلت أفضل وأقسى نقد للغرب الاستعماري”[100]، دون الالتفات إلى أن التجربة الماركسية دخلت في طورين أيدت في أولاهما السياسة الاستعمارية بصفتها عامل تحديث للمجتمعات المستعمَرة وذلك على ألسنة المؤسسيْن كارل ماركس وفردريك إنجلز اللذين مدحا الاستعمار البريطاني، وأنصار كومونة باريس(1871) الذين أيدوا سياسة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، والأممية الثانية التي ناصرت الإمبرياليات في الحرب الكبرى الأولى (1914-1918)، ثم دخل الطور الثاني الذي قاده البلاشفة في روسيا مؤسسين تجربة تفوقت على تجاربنا في البناء ولكن ثمنها الدموي كان باهظا جدا مما أدى إلى سقوطها لصالح السياسة الليبرالية الاستعمارية التي خرج السوفييت عليها ثم تعايشوا معها ثم سقطوا بسببها، فلم تعد بذلك تجربتهم بديلا حقيقيا لها.
ويرد الدكتور عبد الوهاب المسيري على المقولة السابقة عن فصل المنهج الليبرالي التنويري عن السياسة الليبرالية الاستعمارية بالقول إنه “لا يمكن دراسة تاريخ الديمقراطية في الغرب وتاريخ المجتمع المدني دون دراسة المشروع الإمبريالي، فديمقراطية إنجلترا تستند إلى حقيقة أن هذا البلد حقق الأمن الاجتماعي في الداخل، عن طريق تصدير كل مشكلاته إلى الشرق، وما الصهيونية سوى تصدير المسألة اليهودية إلى الوطن العربي”، مستدلا على ذلك بإحصائيتين تبين أولاهما أن ما نهبته إنجلترا من الهند يفوق كل ما أنتجته في ثورتها الصناعية، فضلا عن المنهوبات من بقية المستعمرات التي لا تغيب عنها الشمس، وتبين الإحصائية الثانية أن القفزة الهائلة التي حققتها الرأسمالية الأمريكية في منتصف القرن التاسع عشر استندت إلى محصول القطن الرخيص الذي كان ينتجه العبيد الأفارقة الذين سُرقوا من بلادهم وسيقوا للعمل تحت أقسى أنواع الظروف ودون حد الكفاف، ويستنتج قائلا “إن الإمبريالية ليست غزوة استعمارية ولا مجرد انحراف عن مسار الغرب، وإنما هي من صميم هذه الحضارة”[101].
أما عن الذين يريدون سلوك السبيل الغربي بحلوه ومره، فلم يعد أمامهم بلاد يستعمرونها ويستغلونها في وجود الغرب القوي الذي يحرس مصالحه ويبعد عنها أي متطفل سواه في كل أنحاء العالم، مع أن هذا الاستغلال هو الذي منح المجتمعات الغربية فرصة الأمان الاجتماعي الذي بني عليه بقية الطقم الحضاري الترفي من حرية وديمقراطية ولهذا ساد التيار الإمبريالي داخل هذه البلاد حيث أمّن لها رغد العيش وهو ما كانت بقية التيارات المثالية والإنسانية المعادية للاستعمار تعجز عن تحقيقه ولهذا ظلت أصواتا في البرية تزين حديقة”التعددية” و”حرية الرأي” و”قبول الآخر” داخل تلك الحضارة ولكن دون أثر عملي لاسيما أثناء احتدام المواجهات مع الضحايا، ثم يُرجع إلى تراثها بعد فوات الأوان للاستفادة منه(أليست حضارة المنفعة؟!) في إثبات حماية التعددية والحرية داخل تلك المجتمعات حتى في أحلك لحظات الأزمات(!)
هل يصلح رموز الولايات المتحدة لنا؟: بناء على ما سبق فإننا لا نجد في الشخصيات التي بنت الولايات المتحدة ما يصلح لأن يكون أمثلة يقتدي بها الضحايا، لاسيما أهل الشرق العربي الإسلامي، فهؤلاء الرموز إن كانوا قد أنجزوا تقدما لأمتهم فهم غير صالحين لضحاياها، وليس هذا بسبب جرائم الماضي التي ارتكبت ضد السكان الأصليين رغم فداحتها، ولا بسبب الجرائم التي ارتكبت ضد بلادنا لاسيما ضد الولايات العثمانية في شمال إفريقيا، ولا بسبب الميول الصهيونية لعدد من زعماء أمريكا الأوائل، وكلها كبائر يحلو لأنصار التغريب وحزب التبرير أن يحصروها في دائرة زمنية محددة لن يلبث التقدم أن يمحوها، ولكن استمرار العدوان إلى اليوم بعد قرون طويلة لم تغيره يؤكد أن القضية ليست عداوة محلية تجاوزها الزمن، ولا مجرد انحراف سياسي ارتكبه حاكم أهوج، ولا فكرا عتيقا ما لبث التطور الفكري أن محا أثره، بل القضية جزء من نظرة الحضارة الغربية الثابتة إلى الآخر والتي تدعمها المصالح المادية والاختلافات الحضارية التي تعجز المثاليات عن التأثير العملي فيها.
وفي هذا السياق يعزو الدكتور حسن الضيقة سقوط عالمية التجربة السياسية الغربية إلى “سقوط الأساس العقائدي والفلسفي للتجربة الغربية المعاصرة” ….”التي لم تعمل على إعادة إنتاج العالم غير الأوروبي على صورتها ومثالها، بل حولته إلى مادة أولية عمياء تخدم مؤسسات الأنوار الأوروبية مستخدمة في ذلك كل ما توفر لديها من أدوات قهر مادي ومعنوي”[102]، ومازالت هذه الازدواجية قائمة إلى يومنا هذا، ولهذا مازال “المجتمع الدولي” و”القانون الدولي” لا يمثلان في الحقيقة إلا أمم الغرب فتقع حقوقنا ضحية لحصرية تمثيلهما للدائرة الغربية وحدها وحرصهما على حقوق النخبة الغربية وحدها، ويتمكن المستوطن الصهيوني المنتمي للعالم الغربي من فرض انتهاكاته علينا مسلحا بعجز المجتمع والقانون الدوليين بل بتأييدهما كما كان المستوطن الأوروبي يفرض انتهاكاته على الهندي مسلحا بعجز بل تأييد السياسة والقانون اللذين لا يمثلان الهندي ولا يشملانه بالرعاية، ولهذا أيضا مازال مشاة البحرية الأمريكية يتغنون بعدوانهم على طرابلس الغرب الذي وقع قبل أكثر من مائتي سنة ويؤرخ بأنه”الحرب الأمريكية الأولى على الإرهاب”[103]التي قادها أبو الاستقلال الأمريكي الرئيس توماس جيفرسون، ومازالت الأحلام والنزعات الصهيونية التي عبر عنها عدد كبير من الرموز الأمريكية كبنيامين فرانكلين والرؤساء توماس جيفرسون وجون آدامز وأندرو جاكسون وأبراهام لنكولن تكون زاوية مهمة من السياسة الأمريكية منذ عهد الرئيس “المثالي” وودرو ويلسون الذي استثنى شعوبنا من جنة تقرير المصير وصادق على وعد بلفور وعبد الطريق لمن أتى بعده من البراغماتيين الذين لا يتحلون بملائكيته، وهذا ليس حكما يتجاوز طبيعتهم البشرية وكونهم أبناء أزمنتهم كما يصور المبهورون بهم ، بل هو وضع لكل منا في مكانه كما كان بالأمس ومازال إلى اليوم وسيظل إلى غد.
الخلاصة
عملية استيعاب الآخر داخل الحضارة الغربية ليست متوقفة على قدرة الغرب على الدمج رغم إمكاناته الواسعة، بل هي محكومة بعاملين مهمين يكملان بعضهما البعض:المصالح المادية والاختلافات الحضارية، ولهذا نرى أن بلدا كبيرا وواسعا ومرحبا بهجرة أعداد كبيرة إليه سنويا مازال إلى اليوم يضيق بسكانه الأصليين رغم قلة عددهم وزوال خطرهم، وما سرى عليهم يسرى على غيرهم من الأمم التي تتعارض مصالح الغرب مع مصالحها وتصر على هويتها الحضارية المختلفة عن الهوية الغربية، كما أن الحصرية الغربية غير مرتبطة بموقف الآخرين منها سواء كانوا مؤيدين أم معارضين لأنها تمثل دائرتها الخاصة وغير المستعدة لدمج الآخرين في جنتها ومن هنا نبعت ازدواجية مواقفها من أتباعها والآخرين، وهذه الصورة ما زالت حية منذ زمن طويل لم يؤثر فيها تطور فكري أو تقدم معنوي لا صلة له بالمصالح المادية.
الهوامش
[1] – Jack Utter, American Indians: Answers to Today’s Questions, University of Oklahoma Press, Norman, 2001, pp. 48-49.
[2] – Wiley Sword, President Washington’s Indian War: The Struggle for the Old Northwest 1790-1795, University of Oklahoma Press, Norman, p.27.
[3] -Colin G. Calloway, The American Revolution in Indian Country, Cambridge University Press, 1995, p. 18.
[4]- Russell Thornton, American Indian Holocaust and Survival: A Population History Since 1492, University of Oklahoma Press, Norman, 1990, p. 176.
[5] -Wilbur R. Jacob, Dispossessing the American Indian: Indians and Whites on the Colonial Frontier, University of Oklahoma Press, Norman, 1985, p. 160.
[6] -Arnold Marquis, A Guide to America’s Indians, University of Oklahoma Press, Norman, 1987, p. 22.
[7] -نفس المرجع، ص21.
[8] -نفس المرجع، ص22.
[9] -Wilbur R. Jacob, pp. 163-164.
[10] -Russell Thornton, p. 47.
[11] -Armstrong Starkey, European and Native American Warfare, 1675-1815, University of Oklahoma Press, Norman, pp. viii, back cover.
[12] -John D. McDermott, A Guide to the Indian Wars of the West, University of Nebraska Press, Lincoln, 1998, p. 33.
[13] -Francis Jennings, The Invasion of America: Indians, Colonialism, and the Cant of Conquest, Norton, New York, 1976, p. 166.
[14] -Jack Utter, p. xxxiii.
[15] -Wilbur R. Jacob, p. 168-170.
[16] -Jack Utter, p. 435.
[17] -William Bright, Native American Placenames of the United States, University of Oklahoma Press, Norman, 2007.
[18] -Arnold Marquis, p. 22.
[19] -Jack Utter, p. 111.
[20] -Arnold Marquis, p. 22.
[21] -Jack Utter, 144.
[22] -Wilbur R. Jacob, pp. 158-168.
[23] -Arnold Marquis, p. 22.
[24] -نفس المرجع، ص23.
[25] -Donald L. Fixico, The Invation of Indian Country in the Twentieth Century: American Capitalism and Tribal Natural Resources, University of Nebraska Press, Lincoln, 1998, p. 145.
[26] -Russell Thornton, pp. 45, 47, 64, 72, 78.
[27] -Paul Kelton, Epidemics & Enslavement: Biological Catastrophe in the Native Southeast 1492-1715, University of Nebraska Press, Lincoln, 2007, pp. 222-223.
[28] -نفس المرجع، ص36.
[29] -نفس المرجع، ص99.
[30] -كارلهاينتس دشنر، المولوخ: إله الشر-تاريخ الولايات المتحدة، دار قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، 2003، ص57.
[31] -Russell Thornton, pp. 82, 100-101.
[32] -عن آثار الخمر على المجتمعات الهندية يمكن الرجوع إلى هذه المراجع:
-Russell Thornton, pp. 55, 66, 132.
-Wilbur R. Jacob, pp. 33, 39.
-Paul Kelton, p. 207.
-Colin G. Calloway, pp. 13-14.
-Clark Wissler, Indians of the United States, Anchor Books, New York, 1989, pp. 292-297.
[33] -Francis Paul Prucha, The Great Father: The United States Government and the American Indians, University of Nebraska Press, Lincoln, 1995, pp. 20, 26, 30, 94-102,
[34] -نفس المرجع، ص313.
[35] -Wilbur R. Jacob, p. 38.
[36] -Clark Wissler, p. 293.
[37] -Wilbur R. Jacob, p. 38.
[38] -Clark Wissler, p. 294.
[39] -Francis Paul Prucha, p. 312.
[40] -Clark Wissler, p. 294.
[41] -Francis Paul Prucha, pp. 654-655.
[42] -Clark Wissler, p. 324.
[43] -Jon Manchip White, Everyday Life of the North American Indians, Dorset Press, New York, 1979, p. 245.
[44] -Clark Wissler, p. 289.
[45] -نفس المرجع، ص287.
[46] -Russell Thornton, p. 48.
[47] -Richard Drinnon, Facing West: The Metaphysics of Indian-Hating & Empire-Building, University of Oklahoma Press, Norman, 1997, p. 43.
[48] -Raymond William Stedman, Shadows of the Indian: Stereotypes in American Culture, University of Oklahoma press, Norman, 1982, p. 255.
-Colin G. Calloway, p. 49.
مقارنة بالدخل السنوي للفرد من الطبقة الوسطى في:
-جون ستيل جوردون، إمبراطورية الثروة: التاريخ الملحمي للقوة الاقتصادية الأمريكية، سلسلة عالمة المعرفة(357)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نوفمبر 2008، ج1ص169.
[49] -William Brandon, Indians, American Heritage, New York, 1985, p. 328.
-Frederick E. Hoxie (ed), Encyclopedia of North American Indians, Houghton Mifflin Company, Boston, 1996, p. 572.
[50] -Paul Kelton, pp. xviii, 128, 213, 214, 221-224.
-Alan Gallay, The Indian Slave Trade: The Rise of the English Empire in the American South 1670-1717, Yale University Press, New Haven, 2002, p. 354.
[51] -Paul Kelton, pp. 111, 127-133.
[52] -Stuart Banner, How the Indians Lost Their Land: Law and Power on the Frontier, The Belknap Press of Harvard University Press, London, 2005, pp. 53-54, 63-64,67, 69, 96-99.
[53] -كارلهاينتس دشنر، ص57.
[54] -Wilbur R. Jacob, pp. 33-34.
[55] -Paul Kelton, p. 103-104.
[56] -نفس المرجع، ص34.
[57] -Clark Wissler, p. 293.
[58] -Stuart Banner, p. 71.
[59] -Paul Kelton, p. 207.
[60] -نفس المرجع، ص101.
[61] -جون ستيل جوردون، ص19.
[62] -Mark Diedrich, Sitting Bull: The Collected Speeches, Coyote Books, Rochester, MN, 1998, p. 160.
[63] – Reginald Horsman, Expansion and American Indian Policy 1783-1812, University of Oklahoma Press, Norman, 1992, p. 107.
[64] -Stuart Banner, p. 82.
[65] -منير العكش، أميركا والإبادات الثقافية: لعنة كنعان الإنكليزية، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2009، ص143-144.
[66] -Collin G. Calloway, p. 14.
[67] -منير العكش، ص138 و143.
[68] -Reginald Horsman, pp. 104, 118.
-Paula Mitchell Marks, In A Barren Land: American Indian Dispossession and Survival, William Morrow and Company, Inc, New York, 1998, p. 255.
[69] -Donald J. Berthrong, The Cheyenne and Arapaho Ordeal: Reservation and Agency Life in the Indian Territory, 1875-1907, University of Oklahoma Press, Norman, 1992.
[70] -David J. Wishert, An Unspeakable Sadness: The Dispossession of the Nebraska Indians, University of Nebraska Press, Lincoln, 1994.
[71] – Paula Mitchell Marks, In A Barren Land: American Indian Dispossession and Survival, William Morrow and Company, Inc, New York, 1998.
[72] -Clark Wissler, pp. 311, 318.
[73] -David Wallace Adams, Education for Extinction: American Indians and the Boarding School Experience, University Press of Kansas, Lawrence, 1997.
[74] -Ward Churchill, Kill the Indian save the man: The Genocidal Impact of American Indian Residential Schools, City Light Publishers, San Francisco, 2004.
[75] -Donald L. Fixico, p. 151.
[76] -Clark Wissler, p. 318.
[77] -Jack Utter, p. 17.
[78] -نفس المرجع، ص236.
[79] -معلومات وأرقام واقتباسات هذا القسم مستقاة من المواقع التالية ما لم يذكر خلاف ذلك:
- http://www.nrcprograms.org/site/PageServer?pagename=naa_livingconditions
- http://www.cbn.com/cbnnews/337439.aspx
- http://en.wikibooks.org/wiki/American_Indians_Today/Current_problems
- http://www.guardian.co.uk/world/2012/apr/22/un-investigate-us-native-ame...
- http://www.franz-marc-gymnasium.de/mobil/englisch/englisch11/seiten/na_n...
- http://planetearthandhumanity.blogspot.com/2012/05/who-is-1-in-gambling....
[80]- Jack Utter, p. xxxiii.
[81]- نفس المرجع، ص217-218.
[82] – Clifford E. Trafzer (ed), American Indians American Presidents: A History, Smithsonian, New York, 2009, p. 196.
[83] – .http://en.wikibooks.org/wiki/American_Indians_Today/Current_problems
[84] – Jack Utter, p. 48.
[85] – Wilbur R. Jacob, p. 150.
[86] – والتر أ. مكدوجال، أرض الميعاد والدولة الصليبية: أمريكا في مواجهة العالم منذ 1776، دار الشروق، القاهرة، 2001، ترجمة: رضا هلال، ص135.
[87] -Robert M. Utley, The Indian Frontier of the American West 1846-1890, University of New Mexico Press, Albuquerque, 2002, p. 102.
[88] -William w. Savage, JR (ed), Indian Life: Transforming an American Myth, University of Oklahoma Press, Norman, 1977, p. 90.
[89] – Jon Manchip White, p. 241.
[90] – Francis Paul Prucha, p. 1185.
[91] – Alvin M. Josephy, JR, Now That the Buffalo’s Gone: A Study of Today’s American Indians, University of Oklahoma Press, Norman, 1989, p. 209.
[92] – Richard Drinnon, p. 108.
[93] -Robert M. Utley, p. 31.
[94] – نفس المرجع، ص31.
[95] -نفس المرجع، ص31-32.
[96] – والتر أ. مكدوجال، ص134-135.
[97] -Jack Utter, p. xxxiii.
[98] -توماس جيفرسون، الديمقراطية الثورية: كيف بنيت أميركا-جمهورية الحرية، دار الساقي، بيروت-لندن، 2011، ترجمة: منيرة سليمان ووليد الحمامصي، ص13 (من مقدمة بقلم حازم صاغية: الراهنية العربية لتوماس جيفرسون).
[99] -د. نديم نجدي، أثر الاستشراق في الفكر العربي المعاصر عند إدوارد سعيد-حسن حنفي-عبد الله العروي، دار الفارابي، بيروت،2005، ص417.
[100] -نفس المرجع، ص217-218.
[101] -عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار، دار الشروق، القاهرة، 2005، ص446-448.
[102] -د. حسن الضيقة، الآخر في منظور الفكر الغربي الحديث، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1994، ص100 و151.
[103] -Joseph Wheelan, Jefferson’s War: American First War on Terror 1801-1805, Carroll & Graf Publishers, New York, 2003.
المصدر: http://assala-dz.net/ar/?p=3738

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك