التراث والتفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر
عبدالملك منصور المصعبي
المتأمل في الأدبيات ذات الصلة وخاصة تلك التي تعنى بنقد العقل العربي يجد أنها تركز، في ما يشبه الإجماع، على تأكيد أن التفكير العربي المعاصر مثقل بالتراث مشدود إليه بل - عند البعض - خاضع له تماما بينما هذا التراث مثقل بدوره بالكثير من العناصر السلبية التي تعيق أو تحول دون، التفكير العلمي. وربما امكننا ان نجمل ونلخص اهم ما تورده تلك الأدبيات مما اعتبرته معوقات ثقافية للتفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر مصدرها التراث العربي في:
الخرافة
تنحو بعض الأدبيات الى أن آفة التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر هو هيمنة الخرافة المستمدة من التراث العربي على هذا التفكير. وللتدليل على مدى تغلغل الخرافة في التفكير العربي المعاصر تشير الدراسات الى الانتشار الواسع للأساطير وممارسات الشعوذة والتنجيم والتبريج وتعاطي السحر والطير والإيمان بالاشباح والاعتقاد في الاموات والاولياء ودعاوى امتلاك الجن والاستعانة بهم وقصص تلبس الجن بالبشر وزواجهم منهم واستيلائهم على مساكنهم. وتؤكد ذات الادبيات ان تلك الممارسات والمعتقدات الخرافية لا تقتصر على التجمعات البدائية أو الريفية والشرائح الدنيا من المجتمع العربي بل تتجاوزها الى التجمعات الحضرية والشرائح المتعلمة من الذكور والاناث صعودا الى النخبة الثقافية والسياسية العربية في قمة المجتمع.
ومما يدعم ما ذهبت اليه تلك الادبيات من انتشار الخرافة والشعوذة ما تشير اليه بعض المصادر مما تضمنته دراسة ميدانية أجراها مركز البحوث الجنائية في القاهرة من مؤشرات احصائية تفيد ان العرب ينفقون سنويا زهاء خمسة مليارات دولار امريكي على الشعوذة وان هناك 250 الفا (أي ربع مليون) يمارسون مهنة الشعوذة في العالم العربي.
ولم أقف في ما اتيح لي من تلك الأدبيات على دراسة علمية تفصل كيف تعيق الخرافة التفكير العلمي وتبين على نحو شامل الطرق التي من خلالها تؤثر الخرافة في التفكير العربي العلمي المعاصر. ولعل من الطرق المحتملة التي يمكن أن تؤثر من خلالها الخرافة في التفكير العلمي:
- تقدم الخرافة لضحاياها معتقدات غير علمية تسعفهم بتفاسير وتعليلات جاهزة خرافية لما يواجهونه من مشكلات أو يلاحظونه من ظواهر على نحو يصرفهم عن البحث والتفكير العلمي في تفسير وتحليل تلك المشكلات والظواهر. ومن ذلك ما لجأ اليه البعض من التفسير الاخلاقي لهزيمة العرب عام 1967 وما يتردد احيانا من التفسير الديني لبعض الكوارث الطبيعية كالزلازل.
- تقدم الخرافة لضحاياها أو تعدهم بحلول ومعالجات خرافية لمشكلاتهم وهمومهم ورغباتهم فلا يجدون حاجة للتفكير العلمي وتعلم العلم او توظيفه لحل مشكلاتهم وتحقيق رغباتهم. ومن ذلك اللجوء لأعمال السحر والشعوذة والتنجيم في علاج الامراض والمشكلات الزوجية وتحقيق الغلبة الرياضية وتكهن المستقبل السياسي والتعيينات السياسية.
- العائد المادي المجزي الفعلي والمتوقع لممارسة المهن التي توظف الخرافة يدفع البعض الى العزوف عن تعلم المهن العلمية او حتى تركها بعد تعلمها والاتجاه الى تعلم وممارسة المهن المرتبطة بالخرافة.
- الأموال والجهد والوقت الذي يستهلكه الانشغال بالخرافة من قبل ممارسيها وعملائهم يمثل خصما مقدرا على الأموال والجهد والوقت الذي كان يمكن ان يصرف في اكتساب العلم وتطويره واشاعة التفكير العلمي.
- ما يشاع عن بعض الانجازات والنجاحات للمهن التي توظف الخرافة، وخاصة في بعض المجالات والحالات التي تعجز فيها المهن العلمية او بعض ممارسيها، يعزز ضعف الثقة في العلم عند ضحايا الخرافة ويولد أو يكرس عند البعض الاخر الشك في العلم وقدراته فيقل اجتهادهم في العلم وكسبهم له وربما رغب بعضهم عن العلم والتفكير العلمي الى الخرافة.
والمعني بالمنهج المعرفي اللاعقلي منهج/ مناهج مجمل الاتجاهات المعرفية التي تقلل من او تنفي كليا قدرة او صلاحية الادراك العقلي والتفكير العقلي في الوصول الى المعرفة الحقيقية خاصة ولكن ليس فقط في المجال الديني أو الغيبي وذلك انطلاقا من الادعاء بوجود طريق او طرق اخرى لإدراك او معرفة الحقيقة مثل رياضة النفس والاشخاص المعصومين. ومما يدرج ضمن هذه الاتجاهات ما سماهم الشهرستاني باصحاب الروحانيات واصحاب الهياكل والاشخاص والحرنانية، ومنها الاتجاه الغنوصي والاتجاه العرفاني والاشراقي وغير ذلك من اتجاهات اللامعقول التي نشطت او تنشط داخل الثقافة العربية الاسلامية. وربما ادرج البعض ضمن هذه الاتجاهات الاتجاه الاشعري لما يقوم عليه من انكار السببية التي تعد مسلمة اساسية لقيام المنهج العلمي. وتؤكد ادبيات نقد العقل العربي ان هذه الاتجاهات أو سلالات متولدة او متفرعة عنها ما زالت تشكل حضورا مقدرا في التفكير العربي الاسلامي.
ويعاب على هذه الاتجاهات انها تقلل الثقة في العقل وتشكك في قدراته الادراكية سواء عن طريق التأمل والتفكير المنطقي او الادراك الحسي وهو ما ينعكس سلبا على كل العلوم الطبيعية والتطبيقية والانسانية والفلسفية والتي تعتمد اساسا الادراك العقلي.
يذهب البعض من العرب وغيرهم الى ان الثقافة أو الذهنية العربية الاسلامية تتسم بسمات أو ميول عامة تقلل أو تحد من علميتها عموما وتؤثر سلبا في جانب او اخر من تفكيرها العلمي. ويبدو من اقوالهم انهم يرون ان هذه السمات والميول متأصلة وربما - عند بعضهم- فطرية في الذهنية العربية ومتوارثة عبر الاجيال. وبعض تلك السمات والميول لوحظت وسجلت منذ امد بعيد. ومن تلك السمات والميول:
- ينقل الشهرستاني عن بعض من لم يسمهم قولهم «إن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، واكثر ميلهم الى تقرير خواص الاشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق، واستعمال الامور الروحانية. والروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد وأن اكثر ميلهم الى تقرير طبائع الاشياء والحكم بأحكام الكيفيات والكميات، واستعمال الامور الجسمانية». واذا كان اصحاب هذا الرأي يرون ان العرب جبلوا على الميل الى علم الماهيات أي العلم الالهي/ الروحاني والعزوف عن علم الكيفيات والكميات أي العلوم الطبيعية والرياضية يبدو أن ابن خلدون يرى ان العرب ضعفاء الحظ من العلم عموما «ان الصنائع من منتحل الحضر وان العرب ابعد الناس عنها فصارت لذلك العلوم حضرية وبعد عنها العرب». وضعف حظ العرب من العلم لا يقتصر عند ابن خلدون على علم معين كالعلوم الطبيعية والرياضية وانما يشمل العلم كله بما فيه- وهو ما اثار استغراب ابن خلدون- العلوم الدينية «من الغريب الواقع ان حملة العلم في الملة الاسلامية اكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية الا من القليل النادر وان كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع ان الملة عربية وصاحب شريعتها عربي» على ان ابن خلدون لا يعزو ذلك - كما ذهب البعض- الى اسباب عرقية او عنصرية وانما الى اسباب ثقافية كبدوية ثقافة العرب وانفتهم من الصنائع عموما بما فيها صنعة العلم والانشغال بالرئاسة أي شئون السياسة والحكم في الدولة العربية الاسلامية.
- للمستشرق البروفسور جيب مآخذ على العقل العربي، ربما كان اشهرها وصفه العقلية العربية بأنها عقلية جزئية «ان عقلية العرب سواء باحتكاكها مع العالم الخارجي أو بعمليات الفكر لا يمكن ان تتحرر من هذا الميل الذي لا يقاوم الى مراقبة الاحداث الملموسة بشكلها الافرادي وبصورة مجزأة» وقد ترتب على ذلك في رأيه «نفور المسلمين من طرائق التفكير العقلانية» و«ان العرب والمسلمين بصورة عامة اضطروا الى الحذرمن المفاهيم المهمة الشاملة المجردة» وبالرغم من ان «تمركز التفكير العربي حول الاحداث الفردية حمل المسلمين إلى توسيع الطريقة التجريبية العلمية... فإن علماء الاسلام شعروا بالحرج نتيجة لذات الصفات والخصائص التي يتحلون بها فيما يتعلق بالمظهر الاخر للعلم الذي ينحصر في مقارنة نتائج الملاحظة والتجربة واستنباط القوانين الثابتة التي تتماسك وتترابط نتيجة لتطبيق مفهوم القانون الطبيعي»
يردد البعض احيانا مقولات تفيد بأن لغة العرب نفسها أي اللغة العربية لا تساعد على التفكير العلمي. ولم اقف على تعليل مفصل لهذه الدعوى غير انه قد تكون تعليلاتهم ما يشير اليه البعض من ان اللغة العربية لغة تغري بالاهتمام والتأثر بشعرية وموسيقية الخطاب اكثر من مضمون الخطاب ومعناه. ولعل مما يشير الى بعض ذلك مقولة البروفسور جيب «الخطبة الفنية تثير مخيلة العربي بشكل آلي، والكلمات تذهب بشكل مباشر الى ادراكه دون ان تمر بأية مصفاة منطقية أو فكرة يمكن ان تضعف او تقتل تأثير الكلمة في مخيلته.»
تلك بعض وربما اهم ما يورد كمعوقات ثقافية متوارثة عن التراث العربي تعيق التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر.
من الواضح ان ايما رغبة او محاولة للتحقق تلك المعوقات وتبادل الحوار حولها أو التواصل بشأن أثر التراث العربي في التفكير العربي العلمي المعاصر عموما لابد أن تستند اولا الى وضوح - ان لم يكن توافق على- دلالات المفاهيم الاساسية المتعلقة بالموضوع وخاصة مفهومي التراث العربي والتفكير العلمي.
لعله يصح لغة القول بأن المعنى المشترك لمفاهيم لفظ التراث يتمحور حول ما انتقل الى لاحق ممن سبقه. ويرتبط تعدد وتباين مفاهيم التراث بتعدد الفهم أو التحديد لعناصر المعنى المشترك المشار اليه وخاصة عنصر المادة المنتقلة وعنصر الانتقال أي كيفيته وطريقته وعنصر الجهة السابقة أي مصدر المادة المنتقلة. وعموما فان الميل السائد هو حصر مفهوم التراث على بعض ما ينتقل ببعض الطرق من بعض الجهات أو المصادر السابقة مع تباين واختلاف في تحديد هذا البعض من كل عنصر. ولا احسب ان المقام يتيح أو يستلزم تفصيل القول في ذلك وتبني تعريف محدد للتراث. بيد انه قد يحسن بنا هنا ان نستعيد الى أذهاننا بإيجاز مجمل المكونات الرئيسية للتراث، بأوسع معانيه، من منظور تأثيرها المحتمل في الفكر. ولعل من اهم تلك المكونات:
التراث المعنوي: ويشمل المعتقدات كالأديان والاساطير والخرافة، والحكايات الشعبية، والفنون كالرقص والموسيقي، والعلوم، والمؤلفات، والمفاهيم، وطرق ومناهج التفكير وغيرها بالإضافة الى اللغة والعادات والاعراف السلوكية و..الخ.
التراث المادي: ويشمل الآثار المادية من تماثيل ودور وسدود وادوات والات واجهزة واموال وأوعية المؤلفات
التراث الجيني: ونعني به الجينات «المورثات» التي يورثها الاباء للابناء وتشكل عاملا اساسيا واحيانا محددا في تحديد ليس فقط الصفات والملامح الخارجية للورثة وانما ايضا التكوين النفسي والعصبي والذهني والحسي وغير ذلك مما يساهم في تشكيل الاساس البيولوجي/ المادي للادراك العقلي البشري عند الورثة.
التراث البيئي: ومدلول البيئة هنا يشمل البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية. وصحيح ان أصل البيئة الطبيعية ليس من خلق البشر ولكن كما هو واضح الان بجلاء اكثر مما مضى كل جيل يحدث في البيئة اثرا ما وتتراكم اثارهم محدثة تغييرات طفيفة أو كبيرة واحيانا خطيرة على البيئة الطبيعية مما يعني ان البيئة التي يرثها الاحفاد عن اسلافهم ليست هي ذات البيئة الطبيعية الاصلية وانما هي البيئة التي شكلها الاباء. والبيئة الاجتماعية تضم البيئة الاقتصادية او المعاشية والبيئة السياسية.
وغالبا ما تضعف، وكثيرا ما تغيب تماما، الاشارة الى التراث الجيني و- الى حد ما- التراث البيئي عند الحديث عن مفهوم التراث ولكن من الواضح انهما مما يورثه السابقون للاحقين والاهم ان لهما تأثيرا على فكر وانماط تفكير اللاحقين او الورثة لا يقل دائما عن تأثير التراث المعنوي.
اذن فالتراث العربي يشمل تراث العرب المعنوي والمادي والبيئي والجيني. بيد ان ما يعنى به ويركز عليه هذا الموضوع هو فقط التراث العربي المعنوي وتحديدا ما يندرج منه ضمن ما يسمى احيانا بالثقافة النظرية كالمعتقدات والاداب وانماط التفكير.
وقد يجادل البعض بضرورة التمييز في التراث العربي الثقافي بين ما هو عربي اصيل وما هو دخيل أو وافد، وحصر مفهوم التراث العربي الثقافي على ما هو عربي اصيل فقط. وفي ما نقدر فان محاولة التمييز في التراث العربي المعنوي او التراث العربي الثقافي النظري بين ما هو عربي اصيل أي عربي الاصل والمنشأ وما هو معرب مما هو وافد غير عربي المنشأ هي اولا - عملية يصعب وربما يستحيل انجازها على نحو دقيق ومعتمد وثانيا - تنطوي على تبعيض لا يستلزمه الهدف من هذا البحث والمتمثل في استجلاء تأثير التراث العربي الثقافي على التفكير العلمي المعاصر. ولعل بعض التراث المعرب اكثر تأثيرا على الفكر/ التفكير العلمي العربي المعاصر من بعض التراث العربي الاصيل.
وعليه فان هذه الورقة مبنية على مفهوم للتراث العربي الثقافي النظري لا يميز بين ما قد يكون منه عربيا اصيلا او وافدا معربا. بيد انها تضع للتراث الثقافي محل البحث حدا زمنيا في طرفه الادنى او الاقرب يتحدد ببدايات النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر وبحيث لا يندرج ضمن التراث الثقافي المبحوث هنا الثقافة العربية في ما بعد التاريخ المذكور وان كان يصدق على بعضها اسم التراث الثقافي العربي.
التفكير العلمي هو التفكير المنسوب الى العلم، ولكي يصح نسب تفكير ما الى العلم بحيث يوصف بانه علمي لابد ان يكون تفكيرا مستهديا ومتسما بروح العلم وملتزما بمنهجه وأسسه ومقولاته المعتمدة. ولكن ما هو العلم؟
العلم بمعناه اللغوي الواسع هو نقيض الجهل. وهو بهذا المعنى يشمل الخطأ والصواب والظني واليقيني والجزئي والكلي مما يتحقق به أو يتحصل منه معرفة ايا كان موضوعها. على ان العلم بمعناه اللغوي الخاص يقتصر عادة على ما تبين صوابه ويقينيته وسلامته.
اما اصطلاحا، فلا يبدو ان هناك تعريفا اصطلاحيا متفقا عليه للعلم، حيث تتبنى اتجاهات متباينة مفاهيم متباينة بل متناقضة للعلم. بيد ان الشائع في الثقافة الغربية الحديثة هو حصر معنى العلم على ما شاع تسميته بالعلم الطبيعي او التجريبي أي ما يثبت أو يمكن اثباته عن طريق النهج التجريبي. وبينما يتسع لما يعرف بالعلوم الاساسية كالفيزياء والكيمياء والتطبيقية كالطب فان العلم بهذا المعنى الاصطلاحي الغربي يضيق ليس فقط عن الوحي أي المعرفة المتلقاة عن الله عن طريق رسله وانما ايضا سائر ما يعرف بالعلوم الإنسانية والتي ما زالت مستعصية على محاولات بنائها على ذات اسس ومتطلبات العلم التجريبي. وقد أثار ما عرف بالعلوم الصورية، وبخاصة علما الرياضيات والمنطق، والتي تعذر حتى الان اخضاعها لمتطلبات العلم بمعناه الاصطلاحي الغربي السائد بينما- في نفس الوقت - من الصعب انكار علميتها حرجا للقائلين بالمفهوم الاصطلاحي الغربي للعلم مما اضطر البعض الى الدعوة الى توسيع هذا المفهوم ليتسع لعلمي الرياضيات والمنطق.
والظاهر ان نفس المعنى الاصطلاحي الغربي الشائع هو ما يتبادر الى ذهن القطاع الاوسع من خريجى التعليم النظامي العربي والقائم حتى الان على التشعيب الى قسمين تعكس وتكرس تسميتهما بــ «القسم العلمي والقسم الادبي» ذات المعنى الاصطلاحي الغربي للعلم.
وينطوي المعنى الاصطلاحي الغربي للعلم على عيوب جعلته يتعرض للانتقاد.
والى جانب هذا المعنى الاصطلاحي الغربي الذي- احسبه - يحظى بالسيادة والغلبة يوجد في العالم العربي مفهومان اصطلاحيان اخران للعلم هما:
المفهوم الأصولي: مفهوم يوسع معنى العلم ليتسع بالاضافة الى المعنى الاصطلاحي الغربي كل معرفة مصدرها الوحي أو تثبت عن طريق المنهج العقلي. واحسب ان هذا المفهوم هو المفهوم الذي تعكسه تعريفات علم اصول الفقه الاسلامي للعلم والذي اعتنى كثيرا بتعريف العلم وتمييزه عن المفاهيم المشابهة او المتقاطعة مثل الظن والوهم والفكر والمعرفة و..الخ كما اعتنى بتعريف المفاهيم ذات الصلة كالدليل والبرهان والحجة والامارة و..الخ. وعلى سبيل المثال فقط نجد الامام الشوكاني في محاولته لتعريف العلم يستعرض مناقشا ومنتقدا عشر تعريفات اصولية للعلم قبل ان يدلي بتعريفه او اختياره القائل العلم « صفة ينكشف بها المطلوب انكشافا تاما» بينما يعرف اصولي اخر العلم بانه «اعتقاد الشيء على ما هو به، مع سكون النفس اليه، اذا وقع عن ضرورة او دليل» ولغرض التمييز فقط يمكن تسمية هذا المفهوم بالمفهوم الاصولي او الفقهي او البياني او أي اسم اخر انسب.
المفهوم العرفاني: مفهوم يضيق معنى العلم ويكاد يحصره في المعرفة المكتسبة بالرياضة النفسية الموصلة الى ما يسميه القائلون به كشف الحجاب. ويغلب على هذا المفهوم انه يحتقر وقد ينفي تماما علمية المعرفة العقلية والتجريبية الحسية وكثيرا ما يقلل من مصداقية العلم الفقهي باعتباره علما ظاهريا. والسائد هو تسمية هذا المفهوم بالعلم العرفاني وقد يسمى العلم الباطني او العلم اللدني واحيانا العلم الاشراقي وان كانت هنالك بعض الفروق بين دلالات هذه التسميات.
وبالاضافة الى المفهومين السابقين يمكن الاشارة الى مفهوم اخر يكاد يحصر معنى العلم،عند التحري، في نصوص الوحي أي - في اطار الدين الاسلامي - القرآن والسنة النبوية. وربما امكن تسمية هذا المفهوم بالمفهوم الحديثي للعلم.
واذا كان التفكير العلمي هو، كما تقدم، التفكير الذي يتصف بصفة العلم ويستوفي معاييره فإن مما قد يتبادر للذهن- في ضوء ما سبق عن تعدد مفاهيم العلم - السؤال حول ما هو مفهوم العلم الذي ينبغي الاعتماد عليه في تحديد معنى التفكير العلمي الذي يتعين البحث عن معوقاته في التراث الثقافي العربي؟
من الواضح ان تحديد ما اذا كانت هناك معوقات للتفكير العلمي في التراث الثقافي العربي وما هي هذه المعوقات سيختلف باختلاف ماقد يتبناه المرء من مفهوم للعلم.
واذا كانت لم تتسن لنا هنا مناقشة المفاهيم السابقة وصولا الى مفهوم انسب للعلم بينما من الواضح انه لابد من تحديد ما لمفهوم العلم ليتضح المعني بالتفكير العلمي ويتسنى، من ثم، البحث عن معوقاته فان مما يمكننا البناء عليه انه مهما كان قدر الاختلاف الذي تعكسه المفاهيم السابقة للعلم فان مما قد لا يكون محل اختلاف انه لابد للعلم الذي يمكن اثبات علميته للاخر من دليل يسنده ويتيح مرجعا أو معيارا مشتركا للاتفاق او الاختلاف عليه وبالتالي قد يكون مقبولا ان يتأسس هذا البحث عن معوقات العلم في التراث الثقافي العربي على قاعدة ان التفكير العلمي تفكير يقوم على دليل، وان من المتعذر اثبات علمية معرفة لا تقوم على دليل.
ولعل في ما سبق تبنيه من اطار عام للتراث وتبني الدليل كمعيار للعلمية ما يتيح اساسا مشتركا لإمكان الحديث المشترك عن العلاقة بين التراث والفكر أو التفكير العلمي.
لعل من الواضح ان ما ذهبت اليه أدبيات نقد العقل العربي من وجود عناصر ثقافية سلبية (معوقات) في التراث الثقافي العربي تعيق او تؤثر سلبا في التفكير العلمي في المجتمع العربي المعاصر مبني على مقدمة ضمنية مفادها ان للتراث تأثيرًا على الفكر لأنه ما لم تصح هذه المقدمة الضمنية لا يعد هناك اساس منطقي لاحتمال وجود عناصر في التراث الثقافي العربي تعيق التفكير العلمي. فما صحة وطبيعة وقوة علاقة التراث بالفكر؟
إن تأثير التراث على تفكير الورثة أمر تدعمه الملاحظة، وربما تسنى التثبت من بعض هذا التأثير، كالتأثير الذي مصدره التراث الجيني، من خلال التجارب العلمية. والملاحظ في سائر المجتمعات ان عناصر التراث الثقافي، بما فيها طرق وانماط التفكير، تظل تنتقل من جيل الى جيل وان كانت درجة ثبات او تغير هذه العناصر على مدار الزمن تختلف من مجتمع الى آخر ومن جيل أو عصر الى آخر. ولعل من اوضح حالات استمرار التراث وما يتضمنه من أفكار وأنماط تفكير في فكر الورثة ما هو ملحوظ من استمرار الاجيال (الورثة) في الالتزام بالتفكير الديني ذاته الذي كان سائدا لدى الاجيال التي ورثت عنها تراثها. وهو ما يعكسه بوضوح انه رغم اختلاف أو تماثل الظروف يظل ورثة التراث المسيحي في الغالب مسيحيين كما يظل ورثة التراث الاسلامي في الغالب مسلمين وورثة التراث البوذي بوذيين. وبالاضافة الى الملاحظة تدعم بعض النصوص الدينية، وفي مقدمتها بعض آيات القرآن الكريم، القول بأن التراث الفكري الديني يؤثر في التفكير الديني للورثة.
والارجح أن تأثير التراث الثقافي / الفكري على تفكير الورثة لا يقتصر على التفكير الديني بل يمتد وان بدرجات متفاوتة الى سائر مناحي التفكير بما فيها التفكير الاجتماعي والتفكير المعاشي/ المهني والتفكير العلمي بل والتفكير المنطقي حيث مثلا تشير بعض الدراسات الى ان ورثة التراث الطاوي / الصيني تظل طريقة تفكيرهم متميزة عن طريقة تفكير ورثة التراث الارسطي/ الغربي.
على ان التسليم بأن التراث يؤثر في تفكير الورثة لا يعني ابدا ان هذا التأثير تأثير حتمي أو انه تأثير مطلق أو كلي، اذ لو كان الامر كذلك لما كان ما هو مشاهد من التغير التدريجي واحيانا التحول الكبير والمفاجئ في فكر الاجيال المتتالية ضمن نفس المجموعة الثقافية. ولو لم يكن مثل هذا التغير او التحول في الفكر الذي يتنافى مع حتمية وكلية تأثير التراث على الفكر امرا ممكنا لبدت التدابير الالهية والرسالات السماوية التي تتالت طلبا للتغيير عبثا يتعذر تعقله ولما كان هنالك معنى لدعوات وحركات التغيير الثقافي التي شهدها ويشهدها المجتمع البشري.
الواقع ان التراث انما يؤثر في فكر الورثة في وجود عوامل معينة وبحيث ان عدم توفر تلك العوامل لتراث ما او لبعض عناصره يترتب عليه ضعف او انتفاء تأثير ذلك التراث او تلك العناصر على فكر الورثة. وليس من اليسير التحديد الدقيق والشامل للعوامل التي ترتبط او تقترن بتأثير التراث على فكر الورثة. بيد انه يمكن القول ان العوامل التي ترتبط بالتأثير السلبي لعناصر تراثية ثقافية على تفكير الورثة تتضمن:
1 . ان تكون تلك العناصر عناصر سلبية لان الارجح في العناصر الايجابية ان يكون تأثيرها ايجابيا.
2 . حضور تلك العناصر في وعي/لاوعي الورثة، ذلك انه ليس كل العناصر السلبية في التراث تنتقل الى ورثته وما لم ينتقل الى الورثة لا يتوقع منه ان يؤثر في تفكيرها. وكلما كان حضور العنصر مقترنا بالاعتقاد في مضامينه وخلفياته الثقافية والرمزية والعقدية السلبية كان تأثيره السلبي على الفكر اكبر، اما اذا كان الحضور يفتقر لمثل ذلك الاعتقاد فان تأثيره على الفكر يقل وقد ينتفي وذلك حال الكثير من العادات السلوكية المتوارثة التي تجردت من او انقطعت عن ابعادها الاعتقادية والرمزية السلبية، كذا حال بعض الحكايات التراثية والمواد الخرافية التي تستذكر او تستعاد احيانا من قبل الورثة لمجرد التسلية أو الدراسة العلمية.
3 . غياب وعي فاعل يؤمن نجاح الو رثة في مقاومة التأثر بالعنصر المعني لسبب أو آخر كالاعتقاد في ضرره أو الايمان بعدم صحته أو تعارضه مع عنصر آخر مرغوب.
ذلك عن تأثير العنصر التراثي السلبي على مطلق أو أي جانب من جوانب التفكير عند الورثة كالتأثير في، مثلا، جوانب مدى الاقبال على التفكير وحجم الإنتاج الفكري او نوعه. أما التأثير السلبي في، تحديدا، الجانب أو البعد العلمي للتفكير فيرتبط بعوامل اضافية لعل اهمها:
1 . وجود تناقض او تنافر إقصائي بين العنصر المعني ومبدأ التفكير القائم على الدليل أو دليل معين أي التفكير العلمي. والغالب ان تناقض العنصر السلبي مع التفكير القائم على الدليل يكون مقتصرا على التفكير القائم على دليل أو أدلة معينة دون دليل أو أدلة اخرى كأن يتناقض العنصر السلبي مثلا مع الدليل المنطقي الارسطي بينما لا يتناقض مع الدليل التجريبي أو العكس. وقد لا يكون التناقض من العمق والوسع بحيث يكون على مستوى الدليل بل قد يكون تناقضا محصورا على حقيقة أو حقائق علمية معينة.
2 . وعي الوارث، سواء على المستوى الجماعي أو الفردي، بوجود تناقض اقصائي بين العنصر السلبي ودليل ما أو حقيقة علمية معينة وانحيازه، أي الوارث، الى العنصر السلبي في محل التناقض.
لقد قدرنا ان وجود عوامل معينة مثل العوامل السابقة ضروري ليتحقق لعنصر تراثي ثقافي ما تأثير سلبي في التفكير العلمي للوارث لانه لا يبدو ان مجرد وجود عنصر تراثي ثقافي يكفي لان يكون مؤثرا سلبيا في، وبالتالي عائقا لـ، التفكير العلمي لدى الوارث.
المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=712&ID=27