دفء في بلاد الصقيع.. ربع قرن من التغريبة الأوربية

 

محيي الدين اللاذقاني

ذات يوم هجم علي معلق تلفزيوني وأنا أخرج من محاضرة بالجزائر وكان في يده ميكروفون مهيب وفي رأسه سيناريو رومانسي أدركته منذ السؤال الأول عن الاغتراب والصقيع في بلاد الضباب وكان المعلق يريدني كما فهمت من الموقف الذي أفسدته عليه أن أذم الغربة الأوربية وصقيعها وأنوح على ضفاف ميكروفونه على دفء الأوطان ولكن لدهشته وجدني أقول إن لندن الباردة أكثر دفئا من الوطن العربي كله الذي ترتفع درجة الحرارة في بعض أقطاره إلى الخمسين وأن الصقيع في الأرواح والبشر وليس في الطقس أما الاغتراب فحالة نفسية لا علاقة لها بالجغرافيا فأنا أحس بالغربة داخل الوطن العربي بشكل مكثف وعميق وبصورة فظيعة لا تداهمني إلا قليلا في المهجر الأوربي الذي أمضيت فيه قرابة ربع قرن.

          لقد اخترت أن أطلق على منفاي الذي كان اضطرارا وصار اختيارا اسم تغريبة بدلا من غربة فأنا وإن لم أحاصر تونس وأهدم القيروان بدأت تغريبتي الأوربية مثلهم لأسباب تتعلق بالجفاف - الروحي وليس المناخي طبعا - وكان خلفي ألف حاكم بأمر الله والشيطان يمنعني من العودة ويسد في وجهي الطرق ويدفعني للتساؤل كل صباح: هل هي أوطان حقا تلك التي لا توفر لأبنائها لا خبزا ولا حرية ولا كرامة?

          وكبر هذا السؤال وتفرعت عنه أسئلة من طينة أخرى عن الدوافع الشخصية العميقة التي لا نصارح بها أحيانا حتى أنفسنا وعند هذا المفترق وجدت نفسي وبعيدا عن مناخات الضغط والقهر والاضطهاد السياسي استطيب في الغرب ما استطابه فلوبير في الشرق حين كتب لصديقه من القاهرة أنه نام مع ثلاث نساء في يوم واحد لكن سعادته لم تكتمل لأنه حاول مغازلة (المدام صاحبة المنزل لكنها لم تستجب).

          وفي الخلفية أيضا لتلك التغريبة التي أحاول أن أكون نزيها مع نفسي في تقديم خلاصتها ذلك البريق الذي نعرفه جميعا وهو سحر الحضارات الغالبة وأظرف من تحدث عن ذلك حسب تقديري هو (سيرج لاتوش) صاحب كتاب (أوهام الهوية) الذي قال ذات مرة بسخرية جادة جدا: لو كانت الهند هي الأقوى لكنا نحكي عن حقوق البقر أكثر من حقوق البشر ولكنا أيضا نعتبر دفن الأرملة مع زوجها الراحل من الإنجازات الأساسية لحركات تحرر النساء.

          لقد كان هناك وقبل أن يولد جيلنا حضارة غالبة هي الحضارة الغربية بكل قيمها وأساليبها وطرائق حياتها وكنا نراها عن بعد تشع وتلوح لنا بكل مباهجها لذا لن يكون دقيقا من يفسر هجرته بالمثل المصري (إيه اللي رماك على المر غير الأمر منه) فقد كان المر أمامنا وحولنا وسوى الروم خلفنا ألف روم ومخابرات وأنظمة قمعية لا تترك لمن يحمل هما سياسيا ووجهة نظر تختلف عنها غير خيار السجن أو المنفى وكان بيننا شجعان ومن هم أقل شجاعة وكان يطاردنا جبارون مدربون يحاصرون الروح في أعلى أبراجها لذا كانت الخيارات تضيق تدريجيا وكان دوما بينها الهرب إلى أرض الله الواسعة.

          ولا أستطيع أن أشرح كيف رأيت الغرب حين وصلته مبتدئا تغريبتي من باريس, فقد كنت أرى الغرب بالأفلام والكتب والصور والنظريات السياسية والإبداع الأدبي, لذا سأكون أكثر دقة إذا بدأت انطباعاتي بالجانب الاجتماعي بمعنى كيف رأيت أهله?

          وفي هذه لم أكن مختلفا عن سلفي الشامي أحمد فارس الشدياق ولا المصري رفاعة الطهطاوي فالذين يذهبون عادة للغرب فئتان نادرا ما تجد لهما فئة ثالثة الأولى تمقت الغرب وتكرهه وتضخم مساوئه على حساب المحاسن والثانية ترى الإيجابيات وتفهم أسباب الخلاف ولا تعتقد بأن الاختلاف في المعتقد وطرائق العيش يشكل سببا للخصومة المميتة.

          رولان بارت كان أول من حببني بشخصه قبل كتاباته بباريس فقد كتبت إليه وأنا في جامعة حلب إني أرغب في التتلمذ على يديه للدكتوراه في السوربون فرد خلال ثلاثة أسابيع بدماثة مفرطة ليخبرني أنه في الكوليج دي فرانس وليس في السوربون ويدعوني للاتصال به حين أصل ليزودني ببعض النصائح التي قد تفيدني كطالب أجنبي ولا أكتمكم أني حين أقارن هذا الأسلوب ببعض ما عرفت من عجرفة كبار الأكاديميين العرب لا أستطيع إلا أن أتعصب لبارت الفرنسي.

          وفي باريس تعرفت على الصورتين المتناقضتين لأسلوب الآخر في تصويرنا فقد كانت هناك أسطورة قديسة مرسيليا - اوزابيه - التي اغتصبها الغزاة المور مع راهباتها في القرن الثامن الميلادي بالرغم من أنهن جدعن أنوفهن كي لا يتم اغتصابهن وهناك حكاية رئيس دير كلوني أول من اقترح تاريخيا تسوية الخلافات بين الشرق والغرب بالحوار, ويحكى أن هذا الراهب الذي تحول أسره سنة 972 ميلادية إلى سبب من أسباب الحروب الصليبية كان محترما عند سجانيه العرب الذين قطعوا رجل زميل لهم لأنه داس بطريق الخطأ على إنجيل رئيس الدير الفرنسي.

          وأظن أن الذي نجاني من التعصب للشرقيين والغربيين معرفتي المسبقة بأن الطرفين مارسا العنصرية على حد سواء ولم يجدا في الآخر غير النقائص والشوائب, فهذا جدنا ابن حوقل يقول عن بلادهم في المسالك والممالك إنها مليئة بـ (البغي والحسد والنكد حسب ما خامر أهل الثغور من ذلك إلى استباحة الفساد والفسوق والغدر والغيلة والتضاد والعناد فجعلوا عبرة للمعتبرين).

          وحتى الجاحظ بكل ما عرف عنه من سعة أفق نقل عنهم وعن غيرهم بعض الأقوال التي تحط من الإنسان وتنزله عن مكانته لتبيح الفتك به فذات قصة في كتاب الحيوان لم يتورع كاتبنا الكبير عن الحديث عن بشر بذيول كالقرود والتماسيح والخيل.

          ورد لنا كتابهم قديما وحديثا الصاع صاعين ومعظمهم يشبهنا بالإبل كما في هذا النص الأحدث للرحالة الألماني (يوليوس أويتنغ) الذي كتبه عند قرية كاف في الجزيرة العربية:

          (هنا أنيرت بصيرتي حول نشأة بعض العرب فمن يقض وقتا طويلا مع الإبل يتأثر بصوتياتها ولاشك أن فئة من العرب استقوا أصواتهم من الإبل أو قلدوها فحشرجة العين والغين لا يمكن أن تأتي إلا من أصوات الإبل).

          وغني عن القول إن هذه العنصرية التي مارسها الطرفان بسخاء مازالت تتجدد بأشكال أخرى يغذيها على الدوام إعلام معاد يصطاد ربع أخطائنا ونحن نقدم له ثلاثة الأرباع الباقية مجانا فمعظم ما يقوله ذلك الإعلام عن شبقيتنا وإسرافنا وأساليب تعاملنا مع النساء يكاد يكون صحيحا, وهناك على الدوام أشياء لا تستطيع أن تدافع عنها فحين يقول الإعلام الغربي إن سائحنا غير مثقف أقف أمام المتاحف والجالريهات والمسارح فلا أجد دشداشة أو عقالا, فعربنا لمن يبحث عنهم هناك لا يوجدون إلا في المرابع الليلية وشارعي اكسفورد وأجورد رود في لندن.

          وكما نجتني معرفتي بسلبيات الطرفين من التعصب نجوت بمعرفتي للإيجابيات من الدونية فقد ذهبت إلى الغرب شابا وبدأت تغريبتي الأوربية الثابتة لا السياحية في السابعة والعشرين وكنت أعرف وأنا أدخل إلى رحاب الثقافة الغربية أني ابن حضارة عريقة يدين لها الغرب بالكثير. ولم يكن ذلك الشعور تنفجا وغطرسة ومحاولة للدفاع عن الذات بل إحساسا عميقا بأبعاد الهوية وحبا للثقافة العربية التاريخية التي أعطتني الإحساس بالكبرياء والعراقة والمشاركة الحقيقية في صنع الحضارة الإنسانية, فقد كنت أعرف وأنا أدرس الخيال عند كولردج والحدس عند رامبو والرمز عند مالارميه أنهم يدينون جميعًا بالكثير من نظراتهم ونظرياتهم لمحيي الدين بن عربي الراقد بكل عبقريته عند سفوح جبل قاسيون في عاصمة وطني دمشق.

          وحين ظهر فيلم (فانتازيا) وأجريت على الجذر اللغوي للكلمة عدة مقارنات شعرت بالزهو نيابة عن فيلسوفنا الكندي الذي قال عنها في رسالته خالطا إياها بالتوهم والتخيل: (التوهم هو الفنطاسيا, قوة نفسية ومدركة للصور الحسّية مع غيبة طينتها, ويقال: الفنطاسيا هو التخيل وهو حضور صور الأشياء المحسوسة مع غيبة طينتها).

          وعلى أنغام موسيقى ذلك الفيلم الساحرة, كم سرحت فخرا وأنا أتذكر التأثير العربي الواضح ليس في بواكير السينما العالمية فحسب, بل في أدب إيمرسون ووالت وايتمان وإيرفنج وهيرمان ملفيل, وكذلك سحر وتأثير الليالي العربية - ألف ليلة وليلة - في المخيال الأوربي وفانتازيته وفنونه, وهكذا كانت النديّة الروحية قائمة ومتجذّرة فلا مجال للدونية عند من يعرف ثقافته وثقافة الآخر, ويتبرأ من التعصب للخاطئ من الظواهر عند الطرفين. إن الانبهار بثقافة أو حضارة أو ظاهرة يقلل من آفاق التمتع بها واستيعابها ولأني لم أكن دونيا ولا منبهرا ولا متعصبا عشت تغريبتي باستمتاع من يحاربون الازدواجية ويفتحون قلوبهم للحب على اتساعها.

          ولأن الحق يجب أن يقال, فإن أول دروسي في الديمقراطية واحترام الآخر, بدأت هناك, فأنا ابن ثقافة عربية معاصرة يحسب أفرادها النقد عداوة ويسوون حساباتهم الفكرية بالفئوس والسواطير, وقد كان التفرج على حوارات البرلمان البريطاني إحدى متعي المحببة والمثيرة, فمازلت إلى الآن, وبعد هذه السنوات كلها من المراقبة والاستماع أتعجب كيف يتم تسفيه الإنسان وشتم إجازاته علنا فيضحك ويرد بالكلام دون أن يقذف خصمه بأول منفضة سجائر يصل إليها, كما يحصل في بعض البرلمانات العربية. إن حب الموطن الجديد لابد أن يتسرب إليك تدريجيا مهما كانت قوة حنينك, فولادتك فوق أرض ما مهما أحببتها لا يعطيها حق احتكار حبك, ولعل أصحاب النزعات الإنسانية الشاملة أقدر من غيرهم على حب الكون بأسره حيث تمحى نظريًا السدود والحدود, لكن هل محيت فعلا?

          الإجابة هنا تقتضي الحذر الشديد, فحتى المتأقلم ضمن الحياة الغربية من أمثالي لا يستطيع القول إنه لا يحس بالقلق من التشوّه الذي أصاب العلاقة مع الآخر في السنوات الثلاث الماضية, حيث بدأنا نفيق على غرب لا نعرفه, وعلى شرق آخر يوقظ كل أحقاد الحقب الصليبية, بعد أن ضاق ذرعا بضعفه وتخلفه وهوانه على الناس.

          وفي هذه الأجواء الجديدة تجري مراجعات ومساءلات وإعادة تحليل لمعطيات ظنناها بديهية في عصر العولمة, فإذا بها مبهمة وغامضة ويحتاج استيعابها إلى دهر طويل.

          ودوما حين تتعقد الأمور حولي أعود إلى التاريخ, فأجده يسعفني بدرس يتكرر في القرون كلها, فالعنف يسعف العنف والأصولية تغذي الأصوليات, والإرهابيون يحدبون على بعضهم بعضا ويعرفون كيف ينسقون ويتعاملون, فيما تضيع الأغلبية في محيطات الأحقاد والكراهية التي يخلقها المتعصبون عند الطرفين.

          بعد أحداث سبتمبر وهي مفصل مراجعات أساسي في ذهن كل مغترب بدأ الإعلام الغربي يربط بين فرقة الحشاشين والقاعدة, ويعتبر الأولى التاريخية الأم الشرعية للتنظيم المعاصر, فبدأت أبحاثا عن الحشاشين لأكتشف أنهم كانوا في عز إرهابهم لمجتمعاتهم تحت حماية أشرس فرقة صليبية وهي فرقة (فرسان الاسبتارية), فهناك رسالة من البابا غجريجوري إلى رئيس أساقفة صور مؤرخة في 26 أغسطس يخبر البابا رئيس الأساقفة فيها بالاستجابة لطلبه, ويقول: لقد بعثنا للاسبتارية بأوامر خطية ليكفّوا عن حماية أولئك الحشاشين.

          وقد أردت من استحضار هذه الرسالة إلى الذاكرة أن أشير إلى الصلة الوثيقة بين مؤثرات الداخل وأصابع الخارج, ومن محاسن التغريبة أنها تريك أخطاء الطرفين, فأنت في مجتمع حر منفتح لا يبيح غير حجب المعلومات العسكرية والاستخبارية, وبالتالي فإنك تستطيع أن تعرف ما يجري حولك بصورة أفضل, على عكس المجتمعات المغلقة التي تنمّي ذعرك على حساب معرفتك فتكون ضحية مرتين الأولى للقمع الداخلي, والثانية للهيمنة الخارجية التي تتلاعب بالدمى المحلية من بعيد بالريموت كونترول وتعرف دوما كيف توقظ عصبياتها وتعصبها.

          لقد تعلمت من التغريبة الأوربية أن العقلية الغربية مع كل انفتاحها لا تتسامح أبدا مع من يتعاون أو يتعامل مع الأجنبي, وأنها تحيل التاريخ إلى مدرسة مثل, فأساطير الإسبان وكتلة جنوب أوربا حوّلت رودريجوس (الذريق) الذي يقال إنه تعاون مع العرب والبربر وساعدهم على غزو بلاده إلى شيطان رجيم حكمت عليه الآلهة بأقسى مما عاقبت به سيزيف, فهو في عذاب دائم مع أفعى تلتهم عضوه التناسلي عقوبة على تفريطه في حقوق الوطن, ولا يغرنكم كل ما يقال عن محو الحدود في زمن العولمة, فأوربا النائمة على عنصرية القرون تدرك وبعمق ما قاله (برومبرج) أثناء تحطم جسر موستار التاريخي بالبوسنة عن نيران العصبية التي تعيش طويلا تحت الرماد, لذا يظل المغترب محكوما باختيارين, إما العودة أو الذوبان في المجتمعات الجديدة, كما ذاب الموريسك المدَجنون في إسبانيا وجنوب فرنسا وإيطاليا في عهود محاكم التفتيش.

          وقد أردت ذات مرة أن أعرف ماذا حصل للجيل الأول من الإعلاميين العرب المهاجرين إلى بريطانيا في القرن التاسع عشر, فذهبت إلى بلدة - وندسور - التي كان يقيم فيها رزق الله حسون الحلبي مؤسس أوائل الصحف العربية في أوربا, وهناك لم أجد له أثرًا حتى في المقابر, فقد ذاب كما تلاشى كثيرون مثله, وبقيت منه ملاسناته مع أحمد فارس الشدياق التي أنتجت كتب ذم وصحائف شتم أثبتت عروبة الاثنين, فنحن ومهما تحضّرنا, نحمل أحقادنا وثاراتنا وضغائننا معنا تماما كما كان أجدادنا الأندلسيون الذين ذهبوا إلى هناك بالفخر والهجاء, ونقلوا نيران العصبيات القبلية معهم, فكانوا أول من يكتوي بنارها, لأن المجتمع العربي في تلك البلاد فتنته انقساماته الداخلية, قبل أن يأتيه أي غزو من الشمال لدحره وإعادته من حيث أتى على ظهر تلك القوارب التي أحرقها كما يقال طارق بن زياد, ولا أكتمكم أن حكايات قوارب الموت الحديثة التي تحمل فلول تغريبة بني يعرب هربا من الأوطان, فينتهون جثثا طافية على صدر الموج, تذكرني دوما بقوارب طارق والمفارقة هنا وهناك أن الهجرة مختلفة الأهداف, فالعربي المعاصر في بلاد الروم لا يحاول ملكا ولا نفوذا, وقصارى طموحه أن يرتاح من الشرطي والمخبر وثقافة القمع والكبت أما المشاركة السياسية فآخر ما يخطر له على البال.

          إن معظم الجاليات الآسيوية والإفريقية تجد لها بشكل من الأشكال قدما في البرلمانات الأوربية باستثناء الجاليات العربية المنكفئة على ذاتها والعازفة عن المشاركة السياسية التي لم تألفها أو تتعرف عليها في أوطانها, فلايزال معظمنا يظن - كما يفكر أي مواطن عربي لم يغترب أو يهاجر أن الصوت الانتخابي لا يقدم ولا يؤخر, وأن الديمقراطية لعبة معقدة لم تخلق لنا ولم نخلق لها, فهي عند بعضنا - كما قال الجبرتي ذات يوم عن علوم الغرب - لا تتسع لها عقولنا, وهذا ما يعيق تفاعلنا واندماجنا, بل ويعيق القدرة على نقل بعض ما نتعلمه إلى بلادنا, ففي خلفية هذه الصورة المعقدة حلم عودة يحمله المغتربون على أكتافهم بانتظار الفرج, وتحسن الأحوال في الأوطان التي غادروا منها.

          لقد حمل معظم هؤلاء معهم إلى مهاجرهم بساطة مفرطة, وهم نادرا ما يميزون كما نفعل في الوطن العربي الفروق بين التسامح واللامبالاة, فالأولى موقف أخلاقي, والثانية مرض اجتماعي خطير, لكن نتائج الاثنين تبدو للعين الخارجية متقاربة, وهذا جزء من خلطنا بالمفاهيم, ودلالة على نقص استيعاب تجربة نعيش في قلبها دون أن ندرك أبعادها ولا حجم تعقيداتها التاريخية التي تعيق كل تفاهم معاصر.

          لقد قال الكاتب السويسري (يوجن أولزمور) في كتابه المنصف - أسلافنا العرب - إن أوربا قد تحتاج إلى ألف عام أخرى للنظر بحياد إلى موقفها من العالمين العربي والإسلامي, ونحن في الشرق مغرمون كثيرا بعبارة كبلنج الاستعمارية - الشرق شرق, والغرب غرب ولن يلتقيا - والطرفان ينسيان في استراتيجية التمترس في الخندقين المتوازين أن هناك فرصة للتحليق بأجنحة التفاهم, فالرحالة والكاتب الفرنسي فلوبير كان يرى في - بوفار وبيكوشيه - أن العالم بجناحيه الشرقي والغربي يملك فرصة الالتقاء, لكن لا نحن في الشرق ولا هم في الغرب نود الاستشهاد برؤية فلوبير, فمنذ تجددت الأحقاد العنصرية في السنوات الأخيرة عادت أقوال كبلنج تحتل الساحة الفكرية والإعلامية بكثافة. وذاك أمر أكثر من طبيعي في أزمنة عودة الاستعمار.

المصدر:  http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=954&ID=35

 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك