إسبانيا بعيون عربية
محسن الرملي
تتميز نظرة الذهنية العربية وطبيعة فهمها وتعاملها مع إسبانيا بخصوصية مختلفة عن تلك التي ترى بها بلدان الغرب الأخرى, وإن كان أمر كهذا يمكن عده بديهياً, إلا أنه, في حقيقته, ينطوي على مفارقاته ومخاطره وإشكالياته الخاصة التي تنحو في جوانب منها لتشكل عائقاً أمام الرؤية الصحيحة وبالتالي خسران ما تدره من إيجابيات صيغ التعامل الواقعي والموضوعي المعاصر.
يأتي العربي إلى إسبانيا, رحالة أو زائرا أو سائحا أو موفدا رسميا أو حتى مجرد عابر إلى أرض أخرى, وهو يحمل معه نظرته المسبقة والجاهزة عنها والتي يمكن إيجازها بـ (الأندلس) بكل ما تعنيه هذه التسمية من دلالات (مثالية) في الذهنية العربية سواء أكانت تاريخية, أم سياسية, أم ثقافية, أم فنية أم دينية.. تجتمع كلها في بوتقة اصطلاح (الفردوس المفقود).. لذا فإنه لن يتعامل مع إسبانيا كما سيتعامل مع فرنسا أو بريطانيا أو هولندا أو السويد أو ألمانيا وغيرها. فعندما يطوف في سائر هذه البلدان مشرعاً أبواب ذهنه للاكتشاف والتعلم والملاحظة والتساؤل, نجده في إسبانيا يكتفي بممارسة التذكر والبكاء على الأطلال وإصراره المتواصل على محاولته في فرض رؤيته التي حملها معه على كل ما يراه. أي أنه (يرى ما يريد) ولا يرى الواقع على حقيقته. ويعمد إلى تفسير كل ما يراه بأنه من أصل عربي أو أنه من تأثيرات العرب بما في ذلك لون العيون وطريقة المشي وأطباق الطعام وطبيعة الملبس ونوع الموسيقى وطرق الحديث.. وكل شيء.
يأتي وهو يتوقع أن يستقبله الإسبان بالأحضان والبكاء كأنه أحد أفراد العائلة عائداً بعد غيبة, لذا رأيت مواقف محرجة لأصدقاء كانوا يصرون على تقديمهم لأنفسهم على أنهم عرب مسلمون, حتى إلى عمال المقاهي, متوقعين أن يتم التعامل معهم بخصوصية واحتفاء, وهم يجهلون طبيعة التصور الشعبي التاريخي والحاضر عن العربي والذي تبلورت مراحل تشكله المعقدة إلى الوصول بتسمية العربي أو الاسلامي بـ (مورو moro) التي تحمل في دلالاتها الاستخفاف والرفض والاستهجان والوضاعة.
يأتي العربي وهو يتوقع أنه سيتحدث اللغة الإسبانية في يومين على اعتبار أن آلاف الكلمات الإسبانية هي من أصل عربي دون أن يدرك بأن الفرق بين العجلة الأولى التي اخترعها الإنسان وبين السيارات الحديثة التي تطورت عنها, أمر لم يعد يصلح للمقارنة والاستخدام.
يأتي العربي وهو يحمل معه إشكاليات هويته المعاصرة التي نعرفها, والتي يصف الناقد الأردني فخري صالح أحد وجوهها الأساسية بالقول:( نحن أمة تعيش في الماضي, بمعنى أننا نظن أن ما صنعه أجدادنا يكفينا شر القتال ويعفينا من المشاركة في صناعة التاريخ المعاصر, ويمكننا النوم على وسائد من ريش النعام مطمئنين هانئي البال. والدلالة على ذلك أنك حيثما ذهبت تجد أن المتعلم ومتوسط التعليم, والجاهل كذلك, يعتقدون أن العرب سباقون إلى كل شيء في العلم والمعرفة.. هذه القناعة الغريبة, التي تجدها في كل ركن من أركان العالم العربي وفي كل بيت من بيوته, متمكنة من أذهان العامة والخاصة. والنتيجة أن الإنسان العربي, بناء على ذلك, يعفي نفسه من محاولة الوصول إلى مصادر المعرفة الإنسانية المعاصرة.. المشكلة أن هذا الوهم, وإقناع الذات بأننا أصل الحضارات, يترسخ في العقل الشعبي الجمعي, ويشيع معرفة سطحية شديدة الضحالة, ويخلق رضا زائفاً عن الذات فإذا لم نكن قادرين على إضافة شيء إلى الحضارة المعاصرة, فقد فعل أجدادنا ذلك, وما لدى الغرب من تقدم وتطور في المعارف والعلوم كان هناك ما هو أكثر منه لدى أجدادنا!.. وإذا كان الغرب ينكر ذلك ويتجاهله فذلك يعود إلى نكرانه للجميل واستكباره في الأرض.. إنه خطاب جاهل نسمعه كل يوم على الموائد وفي المناسبات الاجتماعية, وإذا كشفت للمتناقشين زيفه حملوا عليك حملة شعواء واتهموك بالسير في ركب الغرب, هذا إذا لم يتهموك بالخيانة!).
وفق هذه الذهنية ينظر الزائر العربي إلى إسبانيا ويتعامل معها من دون سائر بلدان الدنيا, بل إنني لا أشك في أنه يمارسها حتى في زيارته إلى بلد عربي آخر, إنه يأتي ليؤكد تصوره المسبق عنها ولهذا فهو يئوّل كل ما يراه عنوة لينسجم مع هذه الرؤية, كل شيء يراه يصر على تفسيره بكونه من أصل عربي أو من تأثيرات الثقافة العربية الإسلامية, أي كمن يضع أهداف البحث قبل الشروع به فيكون عمله هو مجرد مراكمة وانتقاء لشواهد تصب في تأكيد نتائجه التي وضعها, لذا حين يعود العربي من رحلته إلى إسبانيا يضيف نفسه إلى القائمة كشاهد آخر على صحة التصور المسبق مكرراً التغني المعروف عن (الأندلس) ومواصلاً البكاء على (الفردوس المفقود).. إنه يصر على عكس وممارسة إشكاليات هويته الخاصة على الهوية الإسبانية, بحيث يبدو منكراً أنها (إسبانيا) في الحقيقة قد حسمت (حالياً) أمر هويتها عبر تبني الصبغة الأوربية, وذلك بعد مراجعات ونقاشات فكرية وثقافية جادة وطويلة ابتدأت في نهايات القرن التاسع عشر على أيدي جيل الـ 98, وبمقالات آنخيل غانيبيت (1865 ـ 1898) وتحليلاته الأولية للشخصية الإسبانية وتأشيره لما هو فيها من أثر عربي وما هو غيره, ثم تواصل النقاش لسنوات طويلة كما هو معروف, كنموذج الجدل الذي دار بين المفكرين أمريكو كاسترو وكلاوديو سانتشث آالباورنوث, والممتدة آثاره حتى اليوم عبر طروحات خوان غويتيسولو المقيم في مراكش.
هنا تجدر الإشارة إلى المفارقة الغريبة حقاً والتي تستحق إنعام النظر, وهي أننا إذا كنا نرى أن الثقافة الإسبانية أقرب الثقافات الغربية إلى ثقافتنا وأن هناك تاريخا وعوامل أخرى مشتركة جغرافية وسياسية وثقافية واجتماعية, فلماذا لم نأخذ طوال القرن الفائت شيئاً من هذه الثقافة? بينما نكتفي بالنهل من ثقافات أخرى كالفرنسية والإنجليزية بشكل خاص?.. لماذا لم نقم بأي مشروع ثقافي جاد يشكل جسراً حقيقياً بين الثقافتين ويديم تلاقحهما.. أضرب مثلاً بسيطاً على ذلك بوجود معهد العالم العربي في باريس وخلو إسبانيا من مشروع مماثل.. وقد انتبه طه حسين إلى هذا الأمر أيام توليه وزارة المعارف فأسس المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد والذي تحول بمرور الوقت إلى مجرد دائرة رسمية أخرى تقليدية تابعة للسفارة.
لماذا لم يتم التعامل السياسي الجاد مع إسبانيا كونها أكثر من يصلح جسراً حقيقياً للربط بين الغرب والشرق أو بين الشمال والجنوب أو بين بلدان أمريكا اللاتينية والبلدان العربية بحكم المشترك معها تاريخياً وثقافياً وجغرافياً.. علماً بأنها قد كانت آخر الدول الأوربية اعترافاً بإسرائيل ومطاولة وقوفها إلى جانب القضايا العربية.. إلا أن العرب لم يعملوا على ما يعزز ويقوي مواقفها فوجدت مصلحتها في أن تدير وجهها عنهم وتصوبه إلى الشمال.
هذا السؤال وغيره من الأسئلة تستحق منا المراجعة على أكثر من وجه, ولكننا, هنا, بصدد الحديث عن إشكاليات النظرة المسبقة للعربي الزائر لإسبانيا, وتقصيها ـ تحديداً ـ فيما دونه الرحالة العرب عنها في مدوناتهم.
فعدا ما ترسخه في أذهاننا المناهج الدراسية والخطاب الديني الحالم عن الأندلس وآدابها وفنونها وحضارتها بتقديسية مطلقة, هناك دور آخر ظل يعزز هذا الأمر.. ألا وهو ما كتبه الرحالة العرب عن إسبانيا على مدى القرن الماضي ومواصلة تكراره على نسق واحد ووفق رؤية ثابتة من قبل الدارسين لهذه الرحلات وكذلك من قبل المثقفين المعاصرين الذين زاروا إسبانيا, وهنا سأحاول إعطاء صورة عن هذا الأمر.
دور الرحالة العرب في تعزيز النظرة المسبقة
مما يلفت النظر ـ كما سنرى ـ أن جل الرحلات العربية المكتوبة عن إسبانيا تصر على عنونة نفسها بوضع اسم (الأندلس), وهذا أمر بحد ذاته يؤكد الإصرار على منهج ترسيخ النظرة المسبقة وتمثلها, كما أنه يحول, حقيقة, بين الشهادة الموضوعية والواقعية عن إسبانيا بكليتها, فالأندلس في نهاية الأمر لا تمثل ـ واقعاً ـ إلا إقليماً واحداً من بين أقاليم عدة متنوعة تشكل بمجموعها إسبانيا. فلو كان الأمر يتعلق فعلاً وتحديداً بزيارة الجنوب الإسباني (الأندلس) لكان مبرراً, لكن كونه غير ذلك في واقعه, يشكل إرباكاً على صعيد الثقة بموضوعيته, لأنه سيوحي مباشرة بتبنيه للنظرة المسبقة التي وصفناها, حيث يصر الرحالة العربي على تبني التسمية العربية التاريخية, الشمولية القديمة (الأندلس) على شبه الجزيرة الإيبيرية ليطلقها على كل إسبانيا (ومعها البرتغال أحياناً) حتى لو كان الواقع الذي يعاصره مختلفاً عن ذلك.. بل وبتأكيد القصدية في نوع الرحلة. ونضرب مثالاً على ذلك رحلة شكيب أرسلان المعنونة (الحلل السندسية في الأخبار الأندلسية) والتي هي في حقيقتها محاولة لإعادة كتابة تاريخ الأندلس وجمعه أكثر من كونها توثيقاً لرحلة شخصية ولهذا فقد جاءت محتشدة بالاقتباسات التاريخية والتراجم أكثر من تضمينها لمشاهداته الخاصة, فهو يعرب عن نيته المسبقة في كتابه (غزوات العرب) بالقول: (ولكن الأندلس التي نحن إليها منذ نعومة الأظفار, ونقرأ عنها بل نؤلف الأسفار فإنه لا يجوز لمثلنا أن يتأخر عن السفر إليها, ونحن لا نزال أنضاء أسفار بين الأقطار. وعليه انتهزنا هذه الفرصة واغتنمنا من وقتنا هذه الخلسة قاصدين إلى الأندلس عن طريق فرنسا التي حصلنا على رخصة المرور بها أياماً معدودات. وذلك أنه لما كان الغرض الأصلي من الرحلة اقتفاء آثار العرب كيف حلوا وأنى ارتحلوا من هذه الديار الغربية) (2). يبدأ رحلته من الشمال مروراً بالباييس باسكو الذي يسميه (الباشكنس) وهو الإقليم الذي لم يترك فيه العرب أثراً مهماً يذكر, ومع ذلك يسمي رحلته كلها بـ (الأندلسية) ولأن القصدية المسبقة واضحة, فهو يأسف على هذا الأمر ويتمنى لو أنه يبدأ الرحلة من دمشق ثم المغرب ودخولاً إلى إسبانيا من جنوبها, أي القيام بتمثل الزحف العربي إلى الأندلس كما قد حدث تاريخياً فيقول:( هكذا كان ينبغي أن أفعل لو كنت حراً أن أسكن في هذه الأيام وطني سورية, فكان السفر منها إلى الأندلس على الطريق الذي سلكه أجدادنا عند فتحهم هذه الديار وهي طريق المغرب. ولكن الغربة التي تطوحنا بها بسبب نضالنا عن استقلال وطننا قضت علينا بأن نسكن أوربة وأن نقصد الأندلس من شمالها لا من جنوبها).
وقبل الدخول بقراءة هذه التفاصيل نرى أنه من المهم إعطاء صورة مجملة عن أهم الرحلات العربية ـ المدونة ـ إلى إسبانيا منذ القرن السابع عشر وحتى نهاية القرن العشرين... وعليه تجدر الإشادة بدور المستعربة الإسبانية د.نييبس براديلا التي كانت أطروحتها للدكتوراه عن هذا الموضوع والتي سنستعين بها, هنا, ونؤشر بعض النتائج التي توصلت إليها وتتفق مع ما نعتقده منها, تاركين نقد ما نختلف فيه معها إلى مناسبة أخرى. كذلك سنستعين بمقال للدكتور وليد صالح الخليفة رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة مدريد / أوتونوما. وسوف نتبع التقسيم الزمني الذي لجآ إليه:
الأولى: رحلات القرنين السابع والثامن عشر المتمثلة بالرحالة المغاربة الذين قدموا كسفراء كالموصلي أفندي, وأبرزهم احمد الغزال (ت1777) الذي أرسله السلطان المغربي سيدي محمد بن عبدالله سنة1766 سفيراً له في البلاط الإسباني لمناقشة شئون سياسية وخاصة ما يتعلق بمسألة تنظيم تبادل الأسرى, وهؤلاء طالت رحلتهم أكثر من سواهم, ممن جاء بعدهم, ويلاحظ بأنهم قد كانوا كبارا في السن إذ ربوا على الستين.
ومما كتبه الغزال واصفاً زيارته لمسجد قرطبة:(.. وقد تخيل الفكر أن حيطان المسجد وسواريه تسلم علينا, وتهش إلينا, من شدة ما وجدنا من الأسف, حتى صرنا نخاطب الجمادات, ونعانق كل سارية, ونقبل سواري المسجد وجدرانه).
الثانية: بدأت في أواخر القرن التاسع عشر (وهنا تلاحظ د.نييبس غياباً ملحوظاً للرحلات العربية إلى إسبانيا على مدى قرن كامل تقريباً) في هذه المرحلة أو الوجبة الثانية من الرحالة راحت تتنوع الجنسيات العربية ولم تعد قادمة من المغرب فقط, كما هو الحال في الأولى, كما أنها لم تعد مقتصرة على المبعوثين بمهام دبلوماسية. وجلهم من المواليد الواقعة بين العقدين السادس والسابع من القرن التاسع عشر أمثال: محمد روحي الخالدي (1864 ـ 1913) الذي دون رحلته بكتابه (رحلة إلى الأندلس). وأحمد الكردودي الذي زار إسبانيا سنة 1885, والتونسي علي بن السالم الورداني الذي جاء إلى إسبانيا بصفته باحثاً ودارساً سنة 1887 ودون رحلته في كتابه (الرحلة الأندلسية) مؤكداً فيها على تشابه أزياء الإسبان بالزي العربي وكثرة الكلمات ذات الأصل العربي. وأن عاداتهم تشبه عادات العرب. ثم الأديب والمترجم المصري أحمد زكي (1866 ـ 1934) الذي جاء أصلاً لحضور مؤتمر الاستشراق في لندن, واستغل سفرته بزيارة إسبانيا والبرتغال أواخر سنة 1892 وبدايات سنة 1893 ودامت رحلته ثلاثة أشهر. ضمن شواهد رحلته في كتابه (السفر إلى المؤتمر) حيث خصص الجزء الأخير منه لإسبانيا والبرتغال تحت عنوان (رحلة إلى الأندلس) وهو الآخر قد رأى في الإسبان ورثة للأندلسيين العرب وشبه طباعهم وعادتهم بالطباع والعادات العربية.
الثالثة: رحلات النصف الأول من القرن العشرين, والتي يمكن إجمال مواصفات عامة مشتركة للقائمين بها: رجل, شاب, متوسط العمر 32 سنة, شرقي, مسلم سني, لهم ممارسة متميزة سياسياً أو ثقافياً أو في كليهما, وطنيون أو قوميون عرب من حيث أيديولوجيتهم, عروبيون بصفة عامة, وغالباً ما تكون أيديولوجيتهم ذات صبغة دينية واضحة, إقامتهم, بشكل عام, كانت قصيرة, أطولها إقامة نجاتي صدقي ـ وهو استثناء في مواصفات كثيرة كما سنرى ـ التي بلغت خمسة أشهر. أما أقصرها فكانت رحلات محمد فريد وموسى كريم التي لم تصل إلى خمسة عشر يوماً.
في سنة 1901 قام المصري محمد فريد بسفرة إلى إسبانيا ولم يتجاوز فيما ذكره النظرة التقليدية القائمة على تمجيد الماضي العربي للأندلس وعظمة الآثار التي تركها فيها المسلمون. وعن مظاهر الحياة المعاصرة كان تقليدياً أيضاً وكعادة غيره يتم ذكر مصارعة الثيران دون إلمام بما يتعلق بها.
تلاه في زيارة إسبانيا السوري محمد كرد علي (1876 ـ 1953) وذلك سنة 1922, ومن بين إشاراته التي أبرزها في كتابه (التدهور الثقافي والمعرفي) ثم ما جاء في كتابه (غابر الأندلس وحاضرها) الصادر سنة 1923, وكذلك في (المذكرات) قارن ما بين عرب الأندلس خلال حكمهم لها والإسبان المتخلفين حضارياً, وبين كيف أنهم كانوا يكرهون الاستحمام والاغتسال. أما الإسبان المعاصرون فهم, في رأيه, متهورون وقساة مع الآخرين وحتى مع أنفسهم, وأنهم يكرهون الأجانب. وإذا كان بعضهم يتميز باللطف والكرم, فذلك, في رأيه, إنما هو بفضل التأثير العربي فيهم.
وننبه هنا إلى أنه; إذا كان إسباني اليوم لا يحب العربي فهذا لا يعني أنه لا يحب بقية الأجانب, بل على العكس من ذلك, يصل به الإعجاب مثلاً بالأمريكي أو البريطاني أو الألماني, إلى حد يوحي بشعوره بالدونية تجاههم.
ثم جاء بعده السوري موسى كريم سنة 1927 وهو لم يختلف عن سابقيه بالنواح على الماضي العربي لكنه أشار إلى ضرورة التواصل الحاضر مع الإسبان.
أما رحلة الشاعر التونسي سعيد أبو بكر سنة 1929 فقد كتب تفاصيلها في (دليل الأندلس كأنك تراه) الذي صدر الجزء الأول منه سنة 1933 في تونس. وتحدث فيه عن مشاهداته ومفارقات حدثت معه, كمثل أنه كان يلبس الطربوش, فصار هذا سبباً لأكثر من حادث. ومنها قيام أحد المطربين الشعبيين بأداء أغنية عنصرية ضد العرب في مقهى جلس فيه أبو بكر لتناول قهوته.
جاء بعده بعام واحد (سنة 1930) الرسام اللبناني مصطفى فروخ (ت 1957). وبالطبع كانت الحصة الأكبر من وقته لزيارة المتاحف والاطلاع على لوحات الفنانين الكبار لكنه هو الآخر لم يتردد في تذكر الماضي العربي والتغني بأيام ازدهار العلوم والفنون في قرطبة خلال حكم العرب ـ المسلمين لها, وتدهور حالتها في يومنا هذا.
أما أبرز هؤلاء فهو اللبناني ـ السوري الأمير شكيب أرسلان (1871 ـ 1946) الذي قام برحلته المعروفة إلى إسبانيا سنة 1930 الممتدة بين شهري يونيو وأغسطس قام خلالها بزيارة المغرب. نجده في أشهر كتبه (الحلل السندسية في الأخبار الأندلسية) يقوم باستعادة التاريخ العربي الإسلامي كاملاً, يؤرخ له ويعيش فيه حد التقمص, حيث نراه في إحدى صوره الفوتوغرافية ـ وربما الوحيدة ـ في إسبانيا, جالساً على مقعد وثير وسط مسجد قرطبة وبملابس عربية قديمة فارداً ذراعية على هيئة الخلفاء والسلاطين. وأشار إلى أن كتابه هذا سيكون عشرة أجزاء. لم يصدر منه إلا ثلاثة أجزاء عن المطبعة الرحمانية في مصر 1936 ـ 1939 تضم 1379 صفحة. وكان أرسلان أكثر المتباكين على الماضي الأندلسي, وعبر لغة مفخمة ومسجوعة أحياناً, وبالتالي أكثر الرحالة ممن ساهموا في ترسيخ النظرة المسبقة التي ذكرناها.. بل إنه يصر على ربط الأندلس بدمشق في كل شيء وهذا ما سنلاحظ عواقبه على دارسيه وعلى لاحقيه كما سنرى عند نزار قباني مثلاً. فمن نماذج ما يقول:(ولا شك في أن هذا التشابه بين البلدين هو الذي حدا بعرب سورية على انتجاع الأندلس أكثر من أي بلاد سواها. لأن الإنسان يحب إذا تغرب أن يقع في أرض تشبه مسقط رأسه). ومن نهجه في ترسيخ البكائية يقول:( وأما السائح الشرقي فإنه يقضي سياحته في إسبانية متأملاً غائصاً في بحار العبر, هائماً في أودية الفكر. كلما عثر على أثر عربي خفق له قلبه, واهتزت أعصابه, وتأمل في عظمة قومه الخالين, وما كانوا عليه من بعد نظر. وعلو همم, وسلامة ذوق, ورفق يد, ودقة صنعة. وكيف سمت بهم هممهم إلى أن يقوموا بتلك الفتوحات فيما وراء البحر في بحبوحة النصرانية, وملتطم أمواج الأمم الأوربية, وأن يبنوا فيها بناء الخالدين, ويشيدوا فيها ألوفاً من الحصون, وأن يملأوها أساساً وغراساً, كأنهم فيها أبد الآبدين. فلا يزال قلب السائح المسلم في الأندلس مقسماً بين الإعجاب بما صنعه أباؤه فيها, والابتهاج بما يعثر عليه من آثارهم, وبين الحزن على خروجهم من ذلك الفردوس الذي كانوا ملكوه, والوجد على ضياع ذلك الإرث الذي عادوا فتركوه, وأكثر ما يغلب عليه في سياحته هناك هو الشعور بالألم...).
ومما جاء في حديثه عن مدينة بلنسية: (وفيها من كل نزعة عربية صحيحة, وكل عرق في العرب عريق. ومن مزاياها أنها متصلة بالبحر والجبل, فلا يزال عيشها هنيئاً, ولا يبرح سمكها طريئاً, وجبنها طريئاً, وإن لم يكن فيها سوى بساتينها التي لا يشبهها في الدنيا شيء سوى غوطة دمشق..).. ألا يحق لنا التساؤل هنا عن فرق الجبن والسمك وهذه البساتين عن بساتين الدنيا الأخرى كالإيطالية المتوسطية المجاورة لإسبانيا.. مثلاً?!!
وفي حديثه عن مرسية قال: (ومن الغريب اجتماع الضدين في تلك البقعة كما في دمشق, فإن الجبال فوقها كجبل قاسيون وغيره, جبال جرد وهضاب صلع, لا يكاد يرى فيها الناظر أدنى نبات, وحذاءها غوطة دمشق التي تضرب بها الأمثال. وهنا الحالة بعينها..). بل ويصل الأمر بالتلبس حد طعم الفاكهة: (وأما لذة فواكه مرسية وكثرتها, فهما مما يكل عن وصفه القلم, فهي في ذلك كدمشق, وفيها كدمشق المشمش الذي لا نظير له..)!.
هذا وقد زار أرسلان مدينة الأسكوريال بمكتبتها الشهيرة بالمخطوطات العربية: (ولما زرت إسبانيا سنة 1930, أي من ست سنوات, ذهبت إلى الأسكوريال أنا واثنان من شبان المغرب النجباء, وسرواته الأدباء, وهما السيدان العالمان الفاضلان أحمد بلا فريج, ومحمد الفاسي الفهري.. فطوفنا في الأسكوريال مدة ساعات). كما اتصل أرسلان بالمستعرب الإسباني الكبير آسين بلاثيوس.
وبالإضافة إلى تمجيده الغنائي/ البكائي للماضي العربي الإسلامي في الأندلس فقد أثنى على طابع الاعتزاز بالنفس والفخر وثبات الرأي وقوة العزيمة في شخصية الإسباني وبالطبع فإنه يعزو كل ذلك إلى أنه من موروثات العرب فيهم!!.
المؤسف في الأمر أن صدى هذا النوع من الرحلات وتأثيره ينعكس لاحقاً على قارئيها ودارسيها ليتبنوا النظرة المسبقة ذاتها بل وأحياناً تلبس اللغة ذاتها, وكمثال على ذلك ما نجده في كتاب الدكتور سامي الدهان عن (الأمير شكيب أرسلان.. حياته وآثاره). نقتطف من أقواله التالي, على سبيل المثال, كعينة لأسلوبه:(ولن يمل القارئ من هذه الصحبة الجميلة, لأنه يتعرف فيها إلى بيته وأراضيه ويتخيل من خلالها أسرته وأهله, فيتصور كيف عمروها وأسالوا فيها الحياة على أجمل ما تكون الحياة, وإن الإنسان لا يمل أن يطوف في أملاكه, وأن يطلع على خيراتها, وهذه الربوع قطعة منا لا تنفصل, وعضو من أعضائنا لا يُبتر, وفلذة من أكبادنا, نحن إليها حنين الابن البار لأبيه الفقيد حين يتذكر محاسنه ويتلو مفاخره, فيرفع الرأس تيهاً وفخاراً, ويعد أنه يحافظ عليها بالحب والتذكار, كما يحافظ على ما ورث من سكن يعيش فيه وبيت يأوي إليه سواء بسواء. ومن لنا بدليل أروع من هذا الدليل (يعني أرسلان) يقودنا ببيانه إلى هذا الفردوس الأرضي..)ص285.
ثم جاء أمين الريحاني (1876 ـ 1940) ليدون مشاهدات رحلته في كتابه (نور الأندلس) والتي يصل فيه الأمر إلى حد يعتبر فيه إسبانيا بلداً عربياً آخر.. ومثل غيره يملأ رحلته بهوامش التاريخ ومعلوماته وتطغى العاطفة وخاصة عند زيارته لإشبيلية وتذكره للملك الشاعر المعتمد بن عباد, وكذلك عند زيارته لقصر الحمراء في غرناطة :(زرت الأندلس فوقفت في (الحمراء) في الغرفة التي كتب فيها واشنطن آرفين كتابه النفيس, فسمعت أصواتاً تناديني باسم القومية ومن أجل الوطن وتدعوني إلى مهبط الوحي والنبوة)!!. وهنا نجد, إضافة إلى تأثير الموروث الكلاسيكي العربي والأدبي عن الأندلس, تأثيرات الكتاب الرومانسيين الغرب عنه. وهذا أمر أشارت إليه بدورها المستعربة نييبس بقولها (هذا الأندلس الذي تمت إعادة بنائه نصياً من خلال قائمة طويلة من الكلاسيكيين العرب ومن الأعمال الاستشراقية الأوربية وأيضاً من قبل الكتاب الرومانسيين الغربيين (....) مما صار يعني مرحلة من المجد التي يفخرون بها بمنزلة عزاء لسوء حاضرهم, فراحوا يظهرون من خلالها متفاخرين أمام أوربا التي تهيمن عليهم, ولسان حالهم يقول: أنتم سادة هذا العصر ونحن كنا سادة عصر آخر).
ربما يكون الفلسطيني نجاتي صدقي (1905 ـ 1979) هو الاستثناء عن القاعدة السابقة ـ أي عدم تبنيه للنظرة المسبقة ـ وقد يكون ذلك بحكم تكوينه الثقافي والسياسي وكذلك الظرف الذي زار فيه إسبانيا أيام الحرب الأهلية الإسبانية في الثلاثينيات, فهو شيوعي أوفدته منظمة (الكومنترن) إبان الحرب الأهلية كي يتوجه إلى الجنود المغاربة للتخلي عن القتال إلى جانب فرانكو ضد الجمهوريين, بل وأسهم في تأسيس الجمعية الإسبانية ـ المغربية في مدريد. وإلى جانب هذا الدافع الحزبي هناك دوافعه الصحفية أيضاً, لذا لا نجد في مذكراته صبغة البكائيات تلك وإنما يتسم أسلوبه بين عرض الأبعاد الفكرية والسياسية والسرد الواقعي الواصف, بحيث نجده يتحدث عن شخصيات بعينها وبأسمائها وحالاتها الاجتماعية الخاصة وظروفها العائلية والحزبية, كما هو واضح في مذكراته, وتحديداً في الفصل الثامن المعنون: (الحرب الأهلية الإسبانية).
الرابعة: النصف الثاني من القرن العشرين, حيث إننا نلاحظ بعض بوادر التغير في التسمية من (الأندلس) إلى (إسبانيا), وهذه الوجبة من الرحلات, بدورها, يمكننا تقسيمها إلى اثنتين: المدونة وغير المدونة. الأولى, المدونة, هي في أغلبها, لباحثين ودارسين. أما الثانية, غير المدونة, فهي لمثقفين ومبدعين معاصرين.
زار السوري عماد الدين التكريتي إسبانيا في أوائل الخمسينيات, وأصدر في ضوء هذه الرحلة كتابه (إسبانيا .. موطن الأحلام). حيث يصف الدكتور الخليفة التكريتي بأنه: (من أكثر الرحالة العرب مبالغة في آرائه وأحكامه, فقد صنف هذا الكاتب الإسبان في عداد الملائكة, واعتقدَ بأن هذا الشعب يعتز بشدة بماضيه العربي.. ولا يعلم التكريتي بأن هناك شريحة مهمة من المجتمع الإسباني لا يرغبون في سماع كل ما له صلة بالتأثير العربي في الحياة الإسبانية, وهناك من يود شطب تلك الحقبة التي وجد العرب فيها على هذه الأرض من تاريخ إسبانيا (..) ويستمر التكريتي في نظرته المتفائلة فيرى بأن كل ما يوجد في إسبانيا هو عربي, وهو يعتقد بأن الدم العربي لم يختلط بالدم الإسباني فحسب, بل إنه انتشر في الأمريكتين عن طريق هؤلاء الرجال الذين رافقوا كريستوفر كولون, والذين كانوا, حسب رأي التكريتي, من أصول عربية. ويسمي غرناطة بشام الأندلس, ويرى أن الموسيقى الشعبية الإسبانية المعاصرة وريثة للموسيقى العربية. وهو يخترع لكلمة (فلامنكو) أصلاً عربية فيقول: ومن الجدير بالذكر أن بعض علماء اللغة (!!!) يجدون أن كلمة فلامنكو هي ذات أصل عربي تعني: فلا: فلاّح.. ومانكو: أغنية, أي أغنية الفلاح. ولا شك في أن الإصغاء إلى هذا النوع من الأغاني ليذكرني ببعض الأغاني العربية الشعبية التي نسمعها في الريف والتي يحييها الأخوان رحباني الآن) مثل يا رايحين مشرق (ص119).
الباحث والكاتب المصري د.حسين مؤنس, زار إسبانيا للمرة الأولى سنة 1940 ولكن ما كتبه يأتي بعد إقامته فيها كمدير للمعهد المصري للدراسات الإسلامية ما بين الأعوام 1905 و1969. فنشر كتابه (رحلة الأندلس .. حديث الفردوس الموعود) سنة 1963. وقد أنجز د. حسين مؤنس الكثير من الدراسات والأبحاث المتعلقة بشأن الثقافة الأندلسية, كما قام بترجمة العديد من الكتب من الإسبانية إلى العربية, وهو الوحيد, تقريباً, من بين الذين ذكرناهم يجيد التحدث باللغة الإسبانية. ولكنه وعلى الرغم من طول المعايشة والنفس الأكاديمي والبحثي عنده, فإنه, هو الآخر, قد غلبته العاطفة والنظرة المسبقة:( هناك ضربت أشجار عربية جذورها في تربة أوربية, فأخرجت ثمراً غربيا طعمه شرقي). وهو بنفسه يشخص ذلك دون أن يسلم منه:(حيثما حللت في أوطان العرب وجدت الأندلس على كل لسان: من رآه يحلم بما رآه, ومن لم يره يحلم بما يمني النفس برؤيته. والأندلس عندهم جميعاً بلد عربي قائم بأهله ومدائنه وعلمائه وشعرائه ومجده الذي كان).
النوع الثاني, وهم الذين قدموا في الربع الأخير من القرن العشرين, وغالبيتهم من المثقفين المعاصرين والدارسين لاختصاصات غير الأندلسية التقليدية ثم المهاجرين والسياح الذين صار عددهم يعد بالآلاف. وهؤلاء بشكل عام لم يقوموا بتدوين رحلاتهم في كتب خاصة ضمن الجنس الأدبي المعروف للرحلات, ونعزو ذلك ربما لمتغيرات العصر وتمكن وسائل الإعلام والصحافة من التغطية وبالتالي ضمور أدب الرحلات بشكل عام, لكننا سنتعرف على طبيعة إقامتهم ورؤيتهم من خلال المقاطع المتناثرة في مذكرات أو مقابلات صحفية أو في نصوصهم الإبداعية, ونعني تحديداً من هؤلاء, كنماذج, المثقفين المعاصرين أمثال: نزار قباني وعبدالوهاب البياتي (أقاما لسنوات طويلة دون أن يعرفا اللغة الإسبانية).. هؤلاء قد كانوا أكثر سعياً نحو التعرف على الثقافة الإسبانية المعاصرة إلا أنهم لم يتخلصوا تماماً من هيمنة النظرة العاطفية المسبقة على ذهنياتهم, فالبياتي قد عرف ببكائياته (في القصائد) عند أسوار غرناطة وتحت خيرالدا إشبيلية وتقمصاته لشخصيات أندلسية.. وغيرها. أذكر أنه عندما قابلته في مدريد سنة 1988 شدد بنصحه لي في أن أقوم بزيارة الآثار الأندلسية, معتبراً أنها ضرورة, ومستخدماً الرؤية العاطفية ذاتها, لكنه حين وجد انعدام الرغبة عندي. قال: على الأقل طليطلة فهي قريبة. قلت له: أعرف كل ذلك من الكتب ولا حاجة بي لملامسة الحجر كي أتأكد من حقيقته.. فضحك عندها ودعاني لمشاهدة فيلم أمريكي يعتمد التقنيات الحديثة في السينما. أمر كهذا يؤشر, بالنسبة لي, نوعا من بداية تحول مازال يحمل في طياته: الثنائية.. أي بين هيمنة النظرة المسبقة والنظرة الواقعية المعاصرة, ويدلل على ذلك ما نجده من تنوع في قصائد البياتي ذاتها, حيث إن بعضها يتعلق بالأندلس والآخر بمعاصرين إسبان كلوركا وألبرتي وسلفادور دالي وبيكاسو.
أما نزار قباني فهو وريث وفيّ للنظرة المسبقة حيث نجد فيما كتبه عن إسبانيا; إعادةً وتمثلاً كاملين لها, وترديداً يكاد يكون نصياً لما كتبه رحالة الشام ـ خصوصاً أرسلان ـ الذين كانوا يربطون كل أندلسي بسوريا ودمشق, وقصيدته (غرناطة) معروفة في هذا الشأن, ثم نجد موجز نظرته في المقطع التالي المفعم بالنظرة المسبقة والمستعارة سلفاً والمحتشدة بالمبالغة واللاواقعية والتهويم العاطفي الذي يمكن توصيفه حتى بالمرضي, وبخاصة عندما يتحدث عن قطة (حتى وإن أردنا تأويلها كرمز لامرأة) تختاره وحده من بين مئات السائحين لتبثه أشجانها وتتغزل به (عربياً)!!!, فهو يقول:( أما التجربة الإسبانية في حياتي (1962 ـ 1966) فقد كانت مرحلة الانفعال القومي والعاطفي. إن إسبانيا ـ بالنسبة للعربي ـ هي وجع تاريخي لا يُحتمل, فتحت كل حجر من حجارتها ينام خليفة, ووراء كل باب خشبي من أبوابها.. عينان سوداوان, وفي غرغرة كل نافورة في منازل قرطبة, صوت امرأة تبكي.. على فارسها الذي لم يعد.. السفر إلى الأندلس, سفر في غابة الدمع. وما من مرة ذهبت فيها إلى غرناطة, ونزلت في فندق (الحمراء) إلا ونامت معي دمشق على وسادتي الأندلسية. روائح الياسمين الدمشقي, وعبير الأضاليا, والنارنج, والورد البلدي, كانت تشاركني غرفتي في الفندق.. حتى مواء القطط في حدائق (جنات العريف) في غرناطة.. كان مواءً دمشقياً.. وأنا لا أزال أذكر حتى الآن قصتي الدراماتيكية مع قطة من قطط غرناطة, تركت مئات السائحين الأجانب يتجولون في حدائق (جنات العريف).. واختارتني وحدي.. لتبثني أشجانها, وتغازلني غزلاً عربياً لا يعرفه تاريخ القطط.. كانت تلتصق بي التصاق امرأة عاشقة, وتمر بلسانها على وجهي ورقبتي.. وتفتح أزرار قميصي الصيفي لتنصت إلى ضربات قلبي. هذه القطة من تكون?. لقد مرت خمس سنين على التقائي بها, ولا أزال مقتنعاً أنها تنحدر من سلالة قطة عربية جميلة, جاءت على نفس المركب الذي حمل طارق بن زياد إلى الساحل الإسباني في القرن السابع (..) تغلغلت إسبانيا في مساماتي, وحروفي, وفواصلي.. وهذه التأثيرات الإسبانية ارتسمت بوضوح في مجموعتي الشعرية (الرسم بالكلمات) 1966 وفي قصيدتي النثرية (مذكرات أندلسية)).
أما خطورة هذه القضية فتكمن في هذه النظرة الجاهزة التي يتواصل اجترارها من قبل مجمل الزائرين العرب العابرين حتى اليوم, بحيث إنه قد صار بإمكان أي عربي أن يكتب رحلته إلى الأندلس, بهذه اللغة والنظرة ذاتها, حتى دون أن يغادر بيته.. حيث يتواصل العزف على النغمة ذاتها في كل ما تتم كتابته من قبل هؤلاء.. سواء أكانوا مثقفين أم غيرهم.. بل إن الأمر يتردد صداه حتى في الأدلة والمجلات السياحية العربية بشكل يدعو للسخرية أحياناً, وسننهي ذلك بمقاطع من مقال كتبه السعودي سعيد عبدالله الغامدي:( حكاية إسبانيا مع زائرها لا تنتهي فكلاهما يبادل الآخر سيلاً من العشق لا تصده حدود ولا تحول دونه حواجز, هكذا وثق العرب الأولون لنا الخيوط بهذه الأرض وها نحن بمشاعرنا نزيد الروابط قوة وإحكاماً (..) بيننا وبينهم شبه كبير. عادات الشعب الإسباني وكيفية ممارسته لطقوس يومه تبدو متشابهة إلى حد كبير مع عاداتنا كعرب ونحسب أن ظلال التأثير العربي قد طالت طبائع هذا الشعب. فالملابس الإسبانية عربية التصاميم وكذا الألوان أيضاً حتى أنك يصعب عليك التعرف على الشخص الإسباني إلا بعد ما يبدأ الحديث معك..)
وهكذا تتوالى المبالغات المجانية وغير الصحيحة, فلا يجمع اللبس الإسباني اليوم بالعربي أي شيء على الإطلاق إلا إذا كانا يتشابهان كلاهما بلبس بنطلون الجينز الأمريكي, أما الألوان فهي الألوان ذاتها وبتنوعها في كل ملابس البشر.
ويتابع:(.. تبدو وجوه الاتفاق أكثر وأكثر حال زيارتك للريف الإسباني لترى بعين المحب الحياة البسيطة كحياتنا تماماً وترى أيضاً كيف يقطع المزارعون, المسافات للوصول إلى مزارعهم إما سيراً على الأقدام أو على ظهر الحمير..)!!..
وهلم جرا من سيل الكلام المجاني الباحث عن أي تهويمات لفرض التشابه والتأثير.. وكأن بقية فلاحي الدنيا وفي دول كالهند وأمريكا اللاتينية وكل العالم لا يذهبون من قراهم إلى حقولهم المجاورة مشياً على الأقدام أو على ظهور الحمير.. وإنما بالطائرات!!!.
هناك من يحاول حتى أن يختلق لأكثر المسائل الإسبانية خصوصية جذراً أو تأثيراً عربياً كمصارعة الثيران مثلاً. وبعضهم يصف وجود الأبناء في بيت الآباء هو من تقاليد الروابط العائلية بينما المشكلة الحقيقية, على الواقع, هي مشكلة اقتصادية تتعلق بالغلاء الفاحش لأثمان الشقق.. وغير ذلك الكثير.. في ضوء هذا, وبحكم معايشتي الطويلة, يمكن الجزم بأن العربي الأمي والمغامر المغربي الذي يعبر المضيق في قوارب الموت ويعيش في الشوارع بشكل غير قانوني, نجده بعد فترة من الزمن يتحدث إسبانية الشارع وأفضل معرفة بعادات الحياة اليومية الإسبانية وقوانينها وتفاصيلها, بشكل أدق وأكثر بكثير من ذلك الذي يأتي إليها زائراً ومثقفاً مشبعاً بالنظرة المسبقة التقليدية المستقاة من الكتب والتصور الشعبي العربي العام. يقول الدكتور الخليفة في معرض حديثه عن كتّاب الرحلات الذين ذكرناهم إن:( معظم الرحّالة العرب الذين زاروا إسبانيا لم يكونوا يعرفون اللغة الإسبانية, الأمر الذي حال بينهم وبين الفهم السليم والإدراك العميق للشعب الإسباني ولعاداته وتقاليده وسلوكه).
وتخلص المستعربة د.نييبس بعد دراستها لمدونات الرحالة العرب إلى إسبانيا بالقول: وجدنا لديهم إعادة الاكتشاف العاطفي المنفعل في مظاهره الأساسية, أرادوا أن يكون (الأندلس) ماضيهم هم وحدهم وحسب. كلهم ـ باستثناء صدقي ـ قد جاءوا إلى إسبانيا يشدهم شيء واحد.. ألا وهو :الماضي الأندلسي. يتحدثون عن تأثيرات ثقافية أو امتزاج, طبعاً, فقط يوافقون عليه إذا ما كان يصب في اتجاه واحد: التأثير العربي في الإسبانيين وليس العكس أبداً.
كما أنهم يأخذون الأندلس ككل واحد, بحيث يصبح هو نفسه سواء أكان أندلس القرن الثالث عشر أو الخامس عشر. إن هؤلاء الرحالة يجعلون من الأندلس حالة أسطورية ومثالية خالية من العيوب لتكون نموذجاً تحتذي به أمتهم.. فكانوا يقدمون ـ في كتاباتهم ـ أندلساً متخيلاً أكثر مما هو واقعي, سهل وأحياناً إلى حد السذاجة.. يقودهم فقط إعجاب لا حدود له بذلك الزمن المثالي. وعليه فإن كتاباتهم المكرسة بكليتها للأندلس, على هذا النحو, تنتهي لتركن في الظل أي اهتمام بما هو إسباني عام أو واقعي, وبما أنهم ليس لديهم معرفة باللغة الإسبانية وآدابها, فإن جل علاقاتهم الثقافية كانت تقتصر على المستعربين. وكان الحل الذي يلجأون إليه في تدوين ما يتعلق بالمعلومات عن الواقع الإسباني الجديد هو المصادر الأجنبية, وغالباً ما تكون فرنسية, والتي عرف عنها نظرتها السلبية(25), يوافقون عليها ويترجمونها ثم يدونونها, وهكذا تمضي لتشكل بدورها مصدراً للصورة العامة للإنسان الإسباني.
الأخيرة: وهي المتمثلة بالذين جاءوا في الأعوام الخمسة الأخيرة من القرن العشرين ومازالت إقامتهم ممتدة في بدايات القرن الحالي من طلاب ومهاجرين ولاجئين ومثقفين يعرفون اللغة الإسبانية ويعيشون حالها اليومي بكل نواحيه الثقافية والاجتماعية والسياسية وبعضهم تزاوج هناك وقرر البقاء نهائياً.. هؤلاء جاءوا محملين بالنظرة المسبقة ذاتها لكنهم, ومع مرور الوقت, راحوا يتخلصون منها ويتعاملون مع الأمر بواقعية حقيقية وتفاعل حي.. ومن بين ممن يكتبون منهم, مثلاً, العراقيون: عبدالهادي سعدون, محسن الرملي, باهرة محمد, خالد كاكي, نرمين إبراهيم وغيرهم.. حيث نجد صدى النظرة الأولى في كتاباتهم الأولى في إسبانيا ومقارنات مدنها بمدن العراق فيما تنتبه الكتابات اللاحقة إلى الأمر.. إلى حد نجد فيه ردة فعل تكاد تكون صريحة ومعاكسة: (هذه ورقة كتبها مهاجر عربي في إسبانيا (moro) كان يشعر دائماً أنه أحد الجنود الذين عبروا مع موسى بن نصير, ونُسي هنا حتى بعد الانسحاب وسقوط غرناطة, لكن الواقع يوقعه في التناقض: حين يتذكر أنه جاء ليصبح سيداً فأصبح خادماً أو لصاً ينام في عُلب الكارتون). (قرفتُ غرناطة وسيل طنين الحنين العربي الزائف إليها (ندعو لأندلس إن حُوصِرَت حلب) وكدتُ تنفيذ قراري بهجرها ودراستي إلى الأبد).
س: إسبانيا (الفردوس المفقود), الأندلس, ما مدى ضغط التاريخ على ذاتك وأنت تجوب شوارعها وتحتك بالمواطنين الإسبان في مغتربك هناك?.
ج: بالنسبة لي, لا أزعم ما يزعمه البعض من العرب تجاه ضياع الأندلس (كفردوس مفقود), صحيح أن الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس كانت حضارة راقية ومازالت معالمها شاخصة حتى الآن ولكنني أرى أن نلتفت إلى إشكاليات قضايانا وواقعنا الحالي ونعمل على معالجته وإنمائه أكثر من الحلم بـ (فردوس مفقود).. إنني أتعامل مع الأماكن بموضوعية وواقعية وحنيني جارف تجاه الأماكن العراقية وليس سواها, لأن العراق هو الذي يهمني وليس الأندلس, فالأندلس الآن إسبانيا, وهي تعيش بخير وبحال أفضل من بلداننا العربية.. لذا لا أفهم كيف ينادي البعض باستعادة الأندلس وإنقاذ) الفردوس المفقود)!!.. فلننقذ فلسطين أولاً أو العراق أو الجزائر.. وغيرها.
المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=951&ID=35