عبدالرزاق البصير
أكثر من شعار اقتراح لعام - 1977 - فبعضهم أطلق عليه " عام الطفولة " وبعضهم أطلق عليه " عام الحسم " أو " عام القضية " ، ويقصدون فلسطين ، وبعضهم أطلق عليه " عام اللغة " . لا بأس من أن يطلق أكثر من شعار على عام واحد ، فإن ذلك يعنى تنافسا شريف في أعمال جادة ، تعزز أوجه الخير في عدة جوانب من الحياة الإنسانية ، إذ أن كل شعار يعنى دفع المتخصصين للسعي الحثيث في الوجه الذي يهتمون به .
ولما كنت من المتجهين نحو اللغة ، فإنه يطيب لي أن أتوقف حول ما يعنيه هذا الشعار الأخير الذي اقترح لهذا العام . وأول ما أرجوه أن تأخذ به جميع أقطار أمتنا العربية . فمن المعروف أن اللغة هي أوثق رباط يربط بين أفراد هذه الأمة ، بالإضافة إلى أنها هي الأداة التي يعبر بها كل فرد عما يجول في نفسه من أفكار وعواطف وآمال . فلو أنك أخذت أثرا فكريا أو أدبيا صدر باللغة العربية الفصيحة ، فإنه يصعب عليك أن تعرف ما إذا كان صاحب هذا الأثر من مشرق الوطن العربي أو مغربه . حتى ولو كان ذلك الأثر يعالج واقعة محلية ، لأن الجزائري أو السوري أو العراقي كثيرا ما يعيش أحداث قطر عربي غير قطره ، أو كثيرا ما يدرس في بلد غير بلده الذي نشأ فيه ، وإذا به يتأثر بتلك الأحداث فيصوغ ذلك التأثر شعرا أو قصة أو مقالة تتناول قضية اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو عاطفية أو علمية ، مما يجعل قارئها غير قادر على معرفة البلد الذي ينتمي إليه ذلك الأديب أو المفكر الذي أصدر ذلك الأثر ، وقد انتهى الباحثون إلى القول بأن اللغة هي الميدان الخصب الذي يستطيع شتى الباحثين أن ينطلقوا منه لدراسة الأمة التي تتحدث بها . فمنها يستطيع الباحث الاقتصادي معرفة حالتها الاقتصادية ، وقل مثل ذلك في بقية نواحي الحياة من سياسة واجتماع وعلوم . إذ أن مفردات تلك اللغة توضح لك مستويات أهلها ، فكلما ارتقت الأمة في حياتها ارتقت لغتها ونشأت فيها مفردات تخص ما تمارسه الأمة من نشاط في أي ميدان من ميادين الحضارة ، لأن الذهن لا يستطيع أن يفكر بدون لغة . فقد ذهب العصر الذي يقبل من الكاتب بأن تكون مفرداته أكثر من معانيه .
ولعلنا من أشد الأمم حاجة إلى أن تضع شعار " عام اللغة " موضع العمل الجاد ، فما يزال في هذه الأمة من يعتقد بأن لغتها غير صالحة لا لاستيعاب ما يجد في حضارة هذا العصر ، وأسطع برهان على ذلك هو أن معظم جامعاتنا تدرس العلوم التطبيقية بلغات أجنبية ، في حين أن بعض الأقطار العربية جعلت اللغة العربية لغة الدراسة في جميع فصول جامعاتها . فكان لها ما أرادت من حيث قدرة لغة هذه الأمة على تقبل كل العلوم التطبيقية ، مما يجعل القول بأن قواعد لغتنا تستعصي على الإجابة لما يراد منها قولا غير صحيح .
اللغة والوحدة
واللغة ككل الكائنات تضعف حين تترك للإهمال ، وتقوى كلما كثر العمل بها . ولسنا في حاجة إلى القول بأن العلماء والمفكرين والأدباء يقربون أمتهم من الوحدة حين تتضافر جهودهم في تنمية لغتهم وتقويتها ، إذ إن تضافر الجهود يعني إغناء اللغة بمختلف الآثار الأدبية والفكرية واللغوية ، مما يجعل أبناء هذه الأمة يقبلون على تلك الآثار قراءة وتأملا ، الأمر الذي يكون عندهم وحدة في تفكيرهم مما يجعل الوحدة قادرة على الثبات لكل ما تتعرض له من أخطار ومحن . إذ أن الأفراد يكون ارتباطهم بلغتهم أشد مما كان عليه من قبل ، لأنها تعتمد على الفكر بالإضافة إلى المشاعر والمصالح . فكل عامل من هذه العوامل له تأثيره ومكانته في تقوية الوحدة .
ونحن إذا ما تأملنا في تاريخ تنمية لغتنا وتقويتها ، وجدناها ترتكز على أمور كثيرة يمكن أن نجمعها في أمرين اثنين : أحدهما تمكن حبها من النفوس والقلوب ، بحيث دفعهم هذا الحب العظيم إلى تحمل المصاعب والمشاق في سبيل جمعها وترتيبها وتهذيبها . فقد أقام أبو عمرو بن العلاء ، والكسائي ، والأصمعي والخليل بن أحمد وغيرهم من علماء اللغة أعواما كثيرة في البوادي ينتقلون بين قبائل العرب ليستمعوا منهم إلى المفردات العربية على طبيعتها ويدونوها .
وأخبار علماء اللغة كثيرة معروفة في هذا المجال ، وكان كثير من الأعراب يفدون على مدن العراق ، فيأخذ العلماء عنهم اللغة ، ولم يكونوا يقبلون كل ما يسمعونه من الأعراب من مفردات ، شعرا كانت أو نثرا ، وإنما كانوا يمنعون النظر فيها فيقبلون منها ما يلائم الطبع السليم ، ويصفون ما يخالف ذلك " بالحوشي " الذي يستحب تركه .. وقد تفرع عن هذا الحب تألمهم مما كانت تلحن به العامة .
ومن الواضح أن اللحن قد شاع بين الناس بسبب اختلاط العرب بغيرهم من الأمم ، فوضع العلماء للغة قواعد وطرقا تصون الألسنة عن الخطأ في القول سواء كان ذلك في الشعر أو النثر . وقد سميت هذه القواعد بعلم النحو ، وقد اختلف الباحثون فقال الكثير منهم أن هذا العلم عربي خالص ، وقال بعضهم إنه مقتبس من اليونان أو السريان ، وإن أبا الأسود - واضع هذا العلم - كان يعرف السريانية ، وقد اقتبس قواعد علم النحو من قواعد النحو السرياني ، وهذا الرأي أحدث جدلا طويلا بين مؤيد له وشاك فيه . ومهما يكن من أمر ، فإن النحو علم واسع له قواعده ، وما زال المهتمون باللغة العربية يتحدثون عنه ويؤلفون فيه . وسيستمر هذا النشاط في هذا العلم إلى ما شاء الله .
النحو عربي خالص
على أني أود أن أشير إلى أني أميل الرأي القائل بأن علم النحو علم عربي خالص ، وأنا أعتمد في ذلك على القرآن الكريم وعلى الشعر الذي قيل فبل الإسلام ، فإنك تجد قواعد علم النحو مستمدة من هذين المصدرين . فلو لم تكن هذه القواعد موجودة عند العرب منذ أقدم العصور لما روعيت تلك القواعد مثل هذه المراعاة الدقيقة ، كذلك استدل بقصة الإقواء التي تروى عن النابغة الذبياني : فقد روى المرزباني أن محمد بن سلام قال في كتابه طبقات فحول الشعراء : لم يقو أحد من الطبقة الأولى ولا من أشباههم إلا النابغة في بيتين وهما قوله :
من ال مية رائح أو مغتدى
|
عجلان ذا زاد وغير مزود
|
زعم البواح أن رحلتنا غدا
|
وبذاك خبرنا الغراب الأسود
|
حتى نبهته إليه إحدى المغنيات ، فغير البيت مراعيا فيه القواعد النحوية قائلا :
زعم البوارح أن رحلتنا غدا
|
وبذاك تنعاب الغراب الأسود
|
أليس معنى هذا الذي رويناه أن الذين يستمعون الشعر وينظمونه يعرفون بأن هناك قواعد علمية لا بد من مراعاتها ، فأن الشعر يصبح غير مستقيم ، والإقواء هو مخالفة تلك القواعد ؟ بل إنهم يعرفون قواعد جمع القلة وجمع الكثرة . فقد انتقد النابغة الذبياني حسان بن ثابت في قوله :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
|
وبذاك تنعاب الغراب الأسود
|
لأنه استعمل أسيافا وهذا جمع القلة وكان عليه أن يستعمل السيوف كما كان عليه أن يستعمل " الجفان " بدلا من الجفنات . وليس من المعقول أن تكون كل هذه الملاحظات الدقيقة صادرة عن الذوق وحده ، وإنما هناك - فيما اعتقد - قواعد معروفة لديهم في علم قائم بذاته ، لكنه ضاع في جملة ما ضاع من ذخائر وكنوز .
على أن حب العلماء للغة العربية قد دفعهم إلى أن يرتبوا مفردات اللغة في معاجم ، كان أولها معجم العين الذي ينسب إلى الخليل بن أحمد أو غيره من العلماء ، ثم أخذت تلك المعاجم في التطور حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في عصرنا الحاضر ، ويطول بنا الحديث لو أردنا أن نفصل في كيفية تأليف المعاجم وتطورها ، لأنها كثيرة متشبعة ، فمنها ما هو مخصص للغة من حيث مفرداتها ، ومنها ما يخص الجغرافيا الطبيعة كالمعاجم التي ألفت في أسماء الجبال والأنهار ، والكتب التي ألفت في أسماء الإبل والخيل ، والمعاجم والتي ألفت في دلالات الألفاظ وكيفية استعمالها ، كما نراه في المخصص لابن سيده . فهو يحدثك مثلا عما تقول المفردات في : المبتذل من الثياب وفي عيوب الثياب ، وفي تمزيق الثياب ، وما تقوله المفردات في ظلمة الليل حين يشتد أو حين يكون فيه غمام ، وفي طول الليل وقصره ، وفي كيفية غلق مجاري الماء وفتحها وتصريفها ، إلى غير ذلك من جوانب الحضارة .
عندما صارت لغة دولية
ولا بد لنا ، هنا ، أن نتنبه إلى أن العلماء كانوا لا يقبلون من المعجمين إلا الموثوق المتيقن بصحته ، مما أنشأ جانبا ممتعا من النقد اللغوي ، وهذا يدلك على العناية الشديدة من العلماء بهذه اللغة العظيمة . وهناك معاجم أخرى خصصها مؤلفوها في خلق الإنسان ، فهم يحدثونك عما خصصته اللغة من مفردات في نشأة الإنسان ، منذ كان نطفة في رحم أمه حتى مفارقته لهذه الحياة ، بعد أن تكون رحلته في هذه الحياة طويلة . يكون فيها عاجزا إلا من حركة خفيفة لا تترك اللغة العربية حالة من حالاته في حياته ، ولا عرقا أو عصبا أو عظما في جسده إلا وتخصص لها كلمة تدل على ذلك .
وليس من شك أن في هذه المعاجم ما يدل على عظمة هذه اللغة وقوتها ، فليس من الغريب إذا ما رأيناها قد أضحت لغة دولية يوم أن كانت الأمة العربية تشارك في صنع الحضارة الإنسانية بصورة عظيمة . فكل من يريد أن يكون لأثره انتشار واسع بين الناس يصطنعها لغة لذلك الأثر ، إلى جانب ما تتصف به هذه اللغة العظيمة من مرونة بحيث يكون اشتقاقها سهلا ميسورا كما نرى في لفظة " ضرب " فإن أصل هذه الكلمة إيقاع شيء على شيء ، لكن مدلولها يتسع حسب موقعه ، فإذا قلنا : " ضرب مثلا " يكون بمعنى أورد مثلا ، إذا قلنا : " ضرب في الأرض " ، كان المعنى ذهب في الأرض .. وإذا قلنا ( ضربنا على آذانهم ) كان معناه التغطية على الفهم .
و " جاهد " ، أصل هذه اللفظة يعني بذل الإنسان وسعه في المدافعة والمغالبة غير أن القرآن الكريم نقلها إلى بذل الطاقة في نشر الدعوة الإسلامية والدفاع عنها . وجهاد الشيطان دفع وسوسته وإغوائه ، وجهاد الشيطان دفع وسوسته وإغوائه ، وجهاد النفس مغالبتها ودفعها عن شهواتها .
و " عقد " ، أصل هذه اللفظة الجمع بين أطراف الشيء ، لكنها إذا أضيفت إلى الإيمان أصبحت وثيقة مؤكدة ، وإذا قلنا " افو بالعقود " بمعنى اوفو بالعهود ، وهو أؤكدها ، والفرق ، والفرق بين العقد والعهد أن العهد العهد فيه معنى الاستيثاق والشد ، ولا يكون إلا بين متعاقدين ، والعهد قد ينفرد به الواحد فكل عهد يعد عقدا ولا يكون كل عقد عهدا ، إلى غير ذلك من الأفعال التي تعطيك مصادرها وأسماؤها معاني لا تحصى .
دور القرآن الكريم
لقد اتسع هذا الباب ، بفضل القرآن الكريم كما أشرنا إلى ذلك قبل قليل ، اتساعا عظيما ، لأن القرآن قد أسس علوما إسلامية كانت في الأصل غير موجودة كعلم التفسير وعلم الفقه ، ثم تفرعت إلى شعب لا تحصى كعلم الكلام ، وعلم النحو ، والبيان ، والبديع ، وعلم العروض . وفي كل علم من هذه العلوم مصطلحات كثيرة لا تعد ، كالطهارة ، والصوم ، والزكاة ، والصلاة ، والوضوء ، والتيمم . إلى ما هنالك من المصطلحات الفقهية . أما في علم النحو وعلوم البلاغة فإنها جاءت بمصطلحات كثيرة أثرت اللغة العربية على شاكلة المبتدأ والخبر ، والحال ، والتمييز ، والبدل ، والأفعال الناسخة ، وحروف الجر ، والجزم ، والنصب ، والاستعارة ، والكناية ، والمجاز ، والطباق ، والجناس على اختلاف فروعه ، والتورية ، والالتفات ، إلى غير ذلك من المصطلحات النحوية والبلاغية .
وفي علم العروض فقد جدت مصطلحات كثيرة ، كالطويل ، والبسيط ، والكامل ، والوافر ، والخفيف ، وما شئت من مصطلحات في الموسيقا وعلم الكلام والفلسفة .. فإن هذه المفردات كانت معروفة قبل أن تنشأ هذه العلوم ، لكن مدلولاتها اختلفت عن المعاني التي نقلتها إليها تلك العلوم .
وليس من شك في أن هذه المصطلحات كانت عنصرا من عناصر نمو اللغة العربية . ونلاحظ أن المحافظين الذين كانوا لا يجيزون استعمال أي مدلول " للفظة " إلا إذا كانت واردة عن الشعراء الجاهليين لم يقفوا أمام انتشار المصطلحات التي جاءت في شتى العلوم ، ذلك لأنهم أدركوا بأن كل علم لا بد وأن يأتي بمصطلحات جديدة . فليس من الممكن أن يعترض عليها أحد بحجة إنها غير معروفة عند العرب قبل الإسلام ، وإنما كانوا يعترضون على ما يأتي به الشعراء الأمويون والعباسيون ، لكن كثيرا من الشعراء مضوا يجددون في معاني كثير من الألفاظ غير مبالين باعتراض المعترضين ، فثبت في نفوس الناس حتى أخذوا يستعملونها كما يستعملون غيرها من المفردات .
والأنصاف يفرض علينا أن ننوه ، بأن العلماء الذين كانوا يتشددون في قبول المفردات التي تأتي في شعر الشعراء الأمويين ، معذورون إلى حد كبير ، فقد شاعت اللكنة الأعجمية بين الناس بصورة مخيفة حتى أن بعضهم كان يتكلم دون أن يفهم أحد عنه شيئا ، إلا من اعتاد سماع مثل ذلك الأسلوب في الكلام ، مما أفسد كثيرا من المفردات العربية .
ولقد عرض علينا الجاحظ في كتابه " البيان والتبين " صورا مما كان يجرى على بعض الألسنة من هذه اللكنات ، حتى لتفسد العبارة العربية إفسادا ، فمن ذلك أن الحجاج سأل نخاسا : اتبيع الدواب المعيبة من جند السلطان ؟ فأجابه : " شر يكاننا في هوازها وشر يكاننا في مداينها ، وكما تجيء تكون ". ولم يفهم الحجاج ما يقول ، فقال له : " ويلك ، ما تعنى ؟ " فقال بعض من اعتاد سماع الخطأ وكلام العلوج بالعربية حتى صار يفهم مثل ذلك ، يقول : " شركاؤنا بالأهواز وبالمدائن يبعثون إلينا بهذه الدواب . فنحن نبيعها على وجوهها " .
التشدد تجاوز الحدود
ويقول الدكتور شوقي ضيف في كتابه " تاريخ الأدب العربي " ، الجزء الثاني ، صفحة 172 : إن آثار هذه اللكنات كانت تجري على السنة فصحاء الموالي ممن صعدت بهم ملكاتهم إلى أفق الشعر العربي ، حتى أصبحوا لا يقلون فيه فصاحة وبلاغة عن شعراء العرب الخلص ، كزياد الأعجم وأبي عطاء السندي وغيرهم من الشعراء ، وأخبارهم في ذلك معروفة لو أردنا ذكرها لخرجنا عن القصد ، على أن تشدد بعض علماء اللغة ربما تجاوز الحدود المعقولة ، فليس كل الشعراء المولدين يجرون على مثل هذا النحو من اللكنة ، ثم إن من المعروف لدي الجميع أن تطور اللغة يعتمد على الشعراء والأدباء في جملة ما يعتمد عليه ، كما نشهد ذلك في بعض ما نظمه أبو نواس من استعماله لفظة التولد والفلسفة ، وفي مثل قوله :
رقت عن الماء حتى ما يلائمها
|
لطافة وجفا عن شكلها الماء
|
وهذا التعبير مأخوذ من كلام النظام وغيره من المتكلمين الذين كانوا يتحاورون في كثافة الأجسام ولطافتها ، وفيما بينها من ملاءمة ومباينة . وقد فصل في ذلك المرحوم الدكتور طه حسين ، وأوضح أن الشعر لم يكن قبل أبي نواس يصطنع مثل هذه الألفاظ ، لأن علم الكلام لم يكن منتشرا كانتشاره أيام هذا الشاعر . وسنجد مثل هذه المصطلحات الفلسفية وعلم الكلام وكثيرا غيرهما من العلوم أصبحت معروفة لدي المثقفين ، المر الذي أشاع معاني جديدة لكثير من المفردات ، ثم أن علينا أن نتعرف على الطريقة التي سلكها الذين ترجموا الكتب التي تمس الرياضيات على اختلاف فروعها ، والذين ترجموا عن الهندية والفارسية ، ما يمس ديانات تلك الأمم وعاداتها وتقاليدها وفلسفاتها ، فإن في التعرف على طريقة أولئك العلماء ما ينفعنا في تنمية اللغة العربية . فنحن نواجه سيلا من المفردات التي بها اللغات الحية مما يفرض علينا ملاحقة هذا النمو بالنسبة للغة العربية ، وإلا فسنبقى غير قادرين على التعبير عما نحتاج إليه في حياتنا اليومية .
والحق ، أن مجامع اللغة العربية قد قطعت شوطا واسعا في هذه المضمار بإضافتها إلى اللغة مصطلحات في مختلف العلوم بلغتن أكثر من مئة ألف ، على وجه التقريب ، ولكن يلاحظ أن بعض المفردات الأجنبية تترجم بألفاظ مختلفة ، مما دفع المخلصين الذين يدركون ما تعنيه التسميات المختلفة لمصطلح واحد من تفرقة للتعبير العربي ، لذلك نجدهم يلحون في دعوتهم إلى توحيد المصطلحات العلمية وغير العلمية لكي لا نتفرق في تعبيرنا ، وليفهم بعضنا بعضا حينما يجتمع كل فريق لغرض من الأغراض . فلتفترض ، مثلا ، أن عسكريين من مختلف الأقطار العربية اجتمعوا لرد مغتصب من المغتصبين . فلنتصور كيف حالهم حين تكون مصطلحاتهم غير موحدة ، فليس من شك أنهم سيرتبكون عندما تصدر الأوامر من القيادات .. أو حينما يتحدثون في شأن من شئون الحرب . وقل مثل ذلك في علماء الكيمياء أو الفيزياء حين يجتمعون في مؤتمر من المؤتمرات ، أو حين يذهب معلم من الجزائر إلى سوريا ليدرس أبناء ذلك البلد ، أو لإلقاء المحاضرات ، فإنها ستكون مفارقات محزنة مضحكة بلا شك .
الطريق لإثراء اللغة
أما كيفية إغناء لغتنا بالمصطلحات ، فإن علمانا قد وضعوا لذلك قواعد منها : الاشتقاق ، والنحت ، والتركيب ، ولهم في ذلك أحاديث مفصلة لا يتسع لها هذا المجال ، ويكفي أن نعرف أنها بدأت منذ أيام الخليل بن أحمد وسيبويه ، وابن فارس ، وابن جني وغيرهم من العلماء ، وما يزال العلماء المتخصصون في اللغة العربية يبحثون في ذلك حتى هذه الأيام . وقد ظفرت اللغة العربية من هذه البحوث المتصلة بفوائد جليلة لا تحصى ، إذ أن علماءنا الأجلاء لا يبدون رأيا أو يقدمون اقتراحا إلا بعد أن يبذلوا كل ما في وسعهم من طاقة في البحث والتمحيص ، لتكون مقترحاتهم وآراؤهم رافد من روافد إغناء اللغة العربية وأثرائها ، ولا سيما علماؤنا المعاصرون الذين يجيدون لغة أجنبية أو أكثر ، فإنهم يتعمقون في كيفية اتساع اللغات الأجنبية ، وفيما يتخذه العلماء من وسائل لترقية لغتهم وإنمائها . فنحن نعلم جميعا أن مشاركة تلك الأمم في صنع الحضارة أقوى بكثير من مشاركتنا ، مما يجعل حاجتهم إلى وضع المصطلحات الجديدة أشد من حاجتنا ، وإن تمسكهم بلغتهم لا يقل عن تمسكنا بلغتنا ، وهذا كله يجعل النظر في الوسائل التي يتخذونها لتنمية لغاتهم يفيدنا في تنمية لغتنا ، ولا يعني هذا أنى أدعو إلى اتباعهم بصورة كاملة ، وإنما الذي أعنيه بأن ننتفع بما يمكن الانتفاع به منها .
ولكل ما أريد قوله ، هنا ، هو أن ننظر إلى هذه البحوث نظرة جدية ولا سيما تلك التي تدعو إلى توحيد المصطلحات العربية ، ونتخذ كل الوسائل ونسلك كل السبل في تعميمها ونشرها لتكون شائعة بين الناس .
المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=92&ID=68